وماذا عن جانبنا نحن؟
ألقينا نظرةً عاجلة على قُطبَي المعسكر الآخر، أو بالأصح على إسرائيل في مرحلة البيجينية — مرحلة تثبيت الاحتلال والاستيطان وابتلاع كل ما تقدر المعدة الإسرائيلية على ابتلاعه — بالأصح مرحلة التوسع الإسرائيلي وانتقالها من دولة إلى إمبراطورية.
وألقينا نظرةً على كيسنجر أو بالأصح الولايات المتحدة في المرحلة الكيسنجرية، أعلى مراحل الرأسمالية بعد مرحلة الرأسمالية الاستعمارية «التي وقف عندها التحليل المادي الجدلي الماركسي للتاريخ، ولم يكن ليتصور حدوثها أبدًا، مرحلة انتقال أمريكا الرأسمالية من عصر الاستفادة من وقائع التاريخ إلى عصر صنع وقائع التاريخ لتلوي عنقه تمامًا للسيطرة على العالم جغرافيًّا، وتاريخيًّا أيضًا».
إن مسألة التحالف بين الكيسنجرية والبيجينية أصبحت قضيةً صبيانية في رأيي، وهذا الحديث الكثير عن أوجُه التناقض بين أمريكا وإسرائيل وأوجُه الاتفاق، والضغط الأمريكي على إسرائيل، والضغط الإسرائيلي اليهودي على أمريكا، كل هذا أصبح في رأيي عبثًا.
فلا تحالف، ولا تناقض.
إن المسألة تخطيطٌ عميق هائل لأن تحكم الصهيونية أقوى دولة في العالم تحكم بواسطتها العالم.
فاللوبي هو الذي يحكم أمريكا، وكيسنجر ليس إلا جزءًا من ذلك اللوبي الذي اكتشفه وضخَّمه وصنعه واتخذ منه «ميكيافيلِّي» أمريكا، بأحدث ما وصل إليه العقل البشري من تكنيك صناعة التاريخ.
كل ما في الأمر أنه ما دام العرب والعالم يريدون لعبة يتسلَّون بها فلنُقدِّم لهم تلك اللعبة؛ لعبة المتناقضات والتناطحات القائمة بين هذه وتلك، إنها تسلية لا تضرُّ أبدًا، بل هي في الحقيقة تنفع جدًّا؛ فهي لينحدر العرب، ومعهم العالم الطيِّب كله، عن الخطة الجهنمية الخرافية، التي لو تكشَّفت لوقف شعر العرب والعالم رعبًا لمرآها، ولربما اندفع هذا أو ذاك في أعمال «شريرة» غير محسوبة؛ فلينحدر العرب، ولتنحدر الدنيا، وليتفرَّجوا على مسرح فيه بيجن الشرير وشارون الجزَّار وكاهان الصادق الطيِّب، ونافون المعقول، وريجان ذو الشعر المصفوف بعناية، الممثل بالسليقة، ليمثِّل دور الرئيس «الغاضب» من أعمال شارون وإيتان، والصديق صاحب المبادرة المُنقِذ للعرب المُعتدِلين، والمُخوِّف للعرب المُتمرِّدين الرافضين، وليَكن للدبِّ الأبيض دور المُتفرِّج القابع — ما دام الأمر لا يُهدِّد حدوده — يمز بأفغانستانه ونُشرِّع في وجهه كلما أراد أن يزوم شوكة بولندا أو زرع الصواريخ.
دعوهم يعتقدون.
ولنُوزِّع الأدوار جيدًا.
ولكن لأن هناك دورًا أساسيًّا ثالثًا كان لا بد أن يقوم به عربي أو على الأقل شخص يرتدي الجلابية ويتكلم العربية، فلنعهد به إلى مُمثِّل «عربي» من الدرجة الثالثة، نصنعه أيضًا ونُلمِّعه ونُضفي عليه آيات العبقرية بحيث نجعل استفتاءً تقوم به مؤسستنا (على الطريقة الأمريكية في البكش) يقول: لو رشَّح السادات نفسه رئيسًا لأمريكا أمام كارتر لنجح باكتساح.
حسن جدًّا.
ولأن هدف هذه الدراسة ليس البحث في المعسكر الآخر، ولا استعراض آيات الصراع في بقية أنحاء العالم، حتى العالم الإسلامي؛ لأن بحثنا الرئيسي هو الكشف عن حقيقة مُمثلنا هذا، المحور الثالث في المسرح الذي — كما رأينا — أُعدَّ لكي يُغيِّر في مجرى تاريخ العرب وينقلهم من المرحلة الثورية الوحدوية الناصرية الصارخة بالقومية العربية إلى المرحلة الساداتية التي تُطفئ نيران الثورة على الاستعمار، وتقول: يا أمريكا كوني بردًا وسلامًا على شرقنا العربي، ويا إسرائيل تُبنا عن الحرب معك، فاقبلي توبتنا.
لأن هذا هو موضوعنا فيُستحسن أن ننتقل إليه فورًا.
وقد كان من الممكن أن أُنحِّي كل الوقائع والأحداث وما كُتِب عن الموضوع جانبًا، وأُورِد مباشرةً رأيي فيه.
وقد كان من الممكن أن أستعين بالمقتطفات وبالوقائع من مذكرات كارتر أو كيسنجر أو الشاذلي أو غيرهم.
ولكني أختار شاهدًا من أهلها لأتفحَّص شهادته وأُورِد أقواله.
شاهد من قلب المعسكر الساداتي نفسه، الرجل الذي اختاره السادات من بين المصريين جميعًا ليَخلف وزير خارجيته «إسماعيل فهمي» الذي استقال احتجاجًا ورفضًا لمبادرة القدس. ومعنى اختياره هذا أنه كان يثق تمامًا أن وزير الخارجية الذي اختاره «محمد إبراهيم كامل» متفِق معه تمامًا، ومُتحمِّس جدًّا لمبادرته وللصلح مع إسرائيل، ولكل السياسة الساداتية في الداخل والخارج.
واختاره وعيَّنه على معاهدة صلح تتمُّ بعد لقاء لم يكن يعرف أحد أنه سيكون في كامب ديفيد.
رجل إذَن لا تشكُّ في «ساداتيَّته»؛ بمعنى أنه ليس «مُحايدًا» أو «عدوًّا أو مُختلفًا» في المبادئ مع السادات.
إنه — حين جاء — معه تمامًا.
فلماذا يستقيل رجل كهذا ويُنفِّض يده من كامب ديفيد وكل ما حدث بعدها؟
إن الإجابة على هذا السؤال الذي يبدو بسيطًا جدًّا، هي المِفتاح الذي سنُحاول معه أن نفتح الباب الذي ظل مُغلَقًا طويلًا، فبقينا نكيل الاتهامات للسادات ولكامب ديفيد من الخارج دون أن ندري شيئًا أبدًا عمَّا دار في الداخل.
وحتى حين نشر كارتر مذكراته، ومن قبله كيسنجر، لم نعرف أيضًا شيئًا كثيرًا عمَّا دار داخل الوفد المصري وعن موقف السادات إلا من الخارج أيضًا وإن كان خارج الداخل؛ داخل كامب ديفيد. مذكرات محمد إبراهيم كامل إذَن هي مذكرات شاهد من أهلها؛ أهل كامب ديفيد.
وعليها وحدها ومنها سنستقي مادة الشهادة لهذه الدراسة.
•••
ولكن قبل أن ندخل في صميم المذكرات لنعرف الكثير جدًّا عن ثالثة الأثافي في مثلثنا الرهيب (كيسنجر – بيجن – السادات)، فإن هناك تساؤلًا لا بد أن يُساور أي مُواطن شريف يقرأ هذه المذكرات: إذا كان الأمر بهذه الخطورة التي وضحت لعينَي الرجل تمام الوضوح، فلماذا لم يُعقِّب استقالته بنشر هذه المذكرات في حينها؟ فهناك فارقٌ كبير بين نشرها آنذاك وبين نشرها الآن؛ في ذلك الوقت كانت ستصبح ذات فائدة وفاعلية عظمى، بل ربما كانت تُغيِّر من تداعي الحوادث، أو ربما نجحت في خلق رأي عام يوقف المؤامرة.
أن نُخفي حقائق وجودنا الحاضر التي من الممكن أن تستخدم في تغيير هذا الوجود، أو أن نكتمها إشفاقًا على الآخرين أو على أنفسنا ونقولها بعد أن يكون وقت الاستفادة منها قد فات، مسألةٌ يرفضها الكثيرون، ولكن نشرها حتى الآن لا يخلو من شجاعة؛ فالحزب الساداتي لا يزال قائمًا وموجودًا داخل مصر وفي وطننا العربي وفي أمريكا وإسرائيل، وهناك أناس كان من الممكن أن يكونوا أكثر شجاعة أو ربما مُتهوِّرين فدائيين ويُغامِروا بنشر هذه المذكرات إبَّان حكم السادات، أو حتى إبَّان مفاوضات معاهدتَي السلام نفسها، ولكن الرجل ليس مُتهورًا إلى هذه الدرجة، وأيضًا ليس من الوجل بحيث يخاف أن يقول الحقيقة والحزب الساداتي الرهيب والحزب الواضع للخطة «العقل السيد» والإسرائيليون والأمريكان هم باقون شديدو التوحش والسعار.
وكان من الممكن العبور والمرور مرور الكرام على هذه التفصيلة، ولكني أقولها جريًا وراء أفكار ثوري رومانسي يحلم — لا يزال — بالبطولة والأبطال، بينما نحن بإزاء حروب أصبحت كلها لا بطولة فيها إلا للشهيد الذي يسقط، وبإزاء السياسة، وقد أصبحت علمًا عميقًا لا يُبحِر فيه إلا ذوو عقليات خارقة القدرة والذكاء، ولم يعد الصراع السياسي أو العسكري ساذجًا، لقد أصبح يحتوي كل علوم الدنيا مجتمعة، بما فيها علوم النفس وعلوم الاجتماع وعلوم اللغات والرموز وقوانين الذرة والإلكترون، واشتعل الصراع على كافة المستويات، ووضع في حسابه كل التقديرات وعلى كل المستويات، من الضعف الفردي إلى الضعف الشعبي، وأدخل حتى أقصى اليسار في لعبة اليمين وأقصى اليمين في لعبة اليسار، نحن في الحقيقة بإزاء ظاهرةٍ خارقةٍ جديدة كان لا يمكن إلى عهد قريب جدًّا أن نؤمن مجرد نؤمن بإمكان حدوثها.
ولا بد أن نراها الآن على عجَل، وبكل ما يملك المرعوب من يقظة، وبكل ما يملك اليقظ من وعيٍ وفطنة، وإلا ضِعنا؛ فالمؤامرة ما زالت قائمة، بل هي في أعلى أطوارها.
ولبنان يوشك أن يُبتلع.
وسوريا متهَمة مُهانة، دورها قادم.
والمقاومة في عصر الشتات.
والأردن على وشك.
وسيناء رهينة.
والمؤامرة مُرعِبة.
ونحن لا نزال على تمام الجهل بأبعادها.
نحن بهم جهلاء تمامًا.
وهم بنا يعتقدون أنهم العالمون تمامًا.
ولكننا سننتصر. كيف؟
لا بد أن نتعلم أولًا كيف نتعرَّف، وكيف نكتشف، وكيف نُشعل كل شموع ذكائنا، ونعرف ولنمضِ نعرف؛ لنعرف بالضبط ماذا وكيف حدث ما حدث.