المذكرات كثيرًا ما تُضلِّل
ولكن … ما علينا … إنها ظواهر من مستلزمات العصر الذي لا بد أن نشهد عليه، وما نوردها هنا إلا لنُذكِّر القرَّاء، وأولهم قرَّاء هذا الكلام، إن كتابات الكتَّاب والصحفيين في وطننا العربي، وربما في كل مكان، بل حتى مذكرات الرؤساء والوزراء والمسئولين، لا بد ألا يأخذها أحدٌ قضية مُسلَّمًا بها، لا بد أن يتفحصها بدقة ويعرف تاريخ قائلها وكاتبها، ويعي بمواقفه وكمِّ الصدق في تصرُّفاته وتاريخه وكمِّ الكذب، وأنا شخصيًّا بدأت أعتقد أنني يجب أن أنظر إلى كل مذكرات خاصة تُنشَر على أنها نوع من الدفاع المسبق عن النفس أمام الحاضر والقادم؛ بمعنى أنها شهادة زور إلى أن يثبت من تمحيصها وتدقيقها وقراءة مراجع كثيرة غيرها بأنها شهادة حق، بل كثيرًا ما أكتشف أنها شهادات وإن كانت حقيقية إلا أنها يُراد بها في النهاية باطل، والاستثناء نادر، ولكنه بالقطع موجود، وبالذات في مذكرات محمد إبراهيم كامل، إنها شهادة حق تأكيدًا لموقف حق، ولا يُراد بها سوى إزجاء الحيثيات لموقف تمَّ بلا شرح أو تبرير أو حيثيات.
وهكذا حدَّثت نفسي وأنا لم يَبقَ أمامي في مقابلتي لمحمد إبراهيم كامل سوى سؤال، ذلك السؤال المُلِح: متى بالضبط أحسَّ بضرورة أن ينفض يده من اللعبة ولماذا؟ هل السبب أنه أحسَّ أنها في النهاية عملية خيانة؟!
وفعلًا ألقيت السؤال، وبمنتهى الوضوح والتحديد على محمد إبراهيم كامل بعد أن كنت قد عرفت تمامًا أرض الشخصية التي قرأت لها وأُحاورها، وأدركت أنه يملك كمًّا من الشجاعة يستطيع أن يُجيب به وفي الحال على صراحة السؤال بجوابٍ أكثر جرأة وصراحة.
سجَّل محمد إبراهيم كامل على الملأ، فيما خلا آراء ومواقف الدكتور أسامة الباز، رغم أنه كان أصغر عضو في المجلس سنًّا ومجرد وكيل وزارة ومدير مكتب نائب رئيس الجمهورية بين العتاولة الكبار، فيما خلا هذا لم يكن أحد من أعضاء المجلس يجرؤ على تفنيد رأي واحد من آراء السادات، بل كانوا يتولَّون في السر تحذير كامل ونصحه بالصمت مثلهم؛ مخافةَ أن يغضب السادات من الآراء التي يُعارِضه بها.
وهكذا مأساتنا الكبرى كعرب، نظلُّ نقول للرئيس أو للطاغية نعم ونعم ونعم ونهزُّ الرءوس، ونحن مُوقِنون تمامًا أن ما يقوله خطأ جسيم وجريمة قد تؤثِّر في شعبنا ويمتدُّ أثرها المُدمِّر إلى أحقاب وأجيال، نظل نفعل هذا دون ارتعاشة ضمير تُذكِّرنا أن الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس، وأن الطاغي يطغى لسكوتهم أكثر مما يطغى بنوازعه هو وخصاله الطاغية، وأنه إذا كان في الأمر جريمة تبدأ بهم أولًا وتنتهي بهم أخيرًا.
ولأن أحدًا من أعضاء مجلس الأمن القومي السابق لم يفتح فمه بكلمة يُعلِّق على ما رواه محمد إبراهيم كامل، عمَّا دار في جلسات ذلك المجلس من مؤامرةِ صمتٍ فاجعة على مصير السياسة المصرية وهو يتحدَّد أمام أقطاب تلك الفترة، فمعنى هذا أن ما ذكره صحيح، وأنهم فعلًا مدانون.
بربك، يا إلهي، ما هي المصيبة التي كانت ستحدث لأيٍّ منهم لو قال رأيه الصريح، أو أيَّدتم الحق الصريح إذا قاله الغير، وأخذتم الموقف الجدير بالرجال؟ هل كانت ستُعلَّق لكم المشانق؟ إن أقصى ما كان يمكن أن يحدث هو أن يُقال إياكم أو يستقيل ويُبعَد عن «الصورة»؛ تلك الصورة التي استعبدتكم إلى درجة بيع الذات والضمير والرأي مُقابل الظهور، مجرد الظهور في الصورة، وكأنكم طلبة الشهادة الابتدائية يفرحون بالصورة، يجلسون فيها لأول مرة بجوار الناظر.
كارثة حقًّا، كارثة أُصادفها يوميًّا، وأنا ألقى بين كل حين وحين واحدًا أو أكثر من عتاولة هذا الزمان أو ذاك، أولئك الذين كانوا يومًا في الصورة، وكانت ترتعد لذِكراهم الأبدان، يا لكمِّ الهيافة والتهافت الذي أجده في أشخاصهم، إلى درجة أن أقول لنفسي: يا للهول!
أهؤلاء كانوا حكامنا فعلًا؟ ألهذا اختيروا واستمرُّوا؟ ألهذا كانت خيباتنا العربية والمحلية أغرب وأشهر خيبات جميع الشعوب في جميع العصور وجميع أنحاء العالم.
ألقيت السؤال على الرجل: متى أدرك أنه يجب أن يرحل، وأن رائحة الطبخة قد بدأت تفوح؟
وأجاب محمد إبراهيم كامل، والغريب أنه لم يقل كلامًا جديدًا؛ فقد تذكَّرت أني قرأته في إحدى حلقات مذكراته التي رغم دقَّتها الشديدة، بل ربما لحرصه على هذه الدقَّة، عذَّبتني قراءتها؛ فالأحداث عنده مُتساوية الأهمية بحيث من الممكن أن يضيع الموقف الجوهري حين يتوه وسط حشود التفاصيل؛ التفاصيل التي كثيرًا ما يُضفي عليها أهميةً تقفز بها إلى مصافِّ مزاحمة الحوادث الأخطر. وهكذا، حين أجاب بدَت الحقيقة واضحةً وضوح الشمس، أو بمعنًى أصحَّ مدَّ يده داخل حانوته المزدحم بالتفاصيل والجزئيات واستخرج جوهرة الموقف كله، ووحدها أضاءت داخل وخارج الدكان، وامتدَّ ضوءها من القدس إلى معسكر داود، إلى اللحظة الحرجة التي نحياها الآن.