كامب ديفيد بداية وليست نهاية
قال: وصل السادات إلى كامب ديفيد وقد سلَّم آخر قطعة من ملابسه لدى أول خطوة خطاها داخل المعسكر، بتعبيره الصريح. وصل عاريًا ومفتوح العينَين ومُدرِكًا، كان يعلم وهو جالس إلى مائدة المفاوضات وأمامه بيجن في كاملِ زيِّه حتى ربطة العنق، وبجواره خلاصة مُستشاريه ومئات الردود الجاهزة المُجهَّزة المُفحِمة على أي وكل اعتراض أو مطلب أو محاولة تبرير، حتى بزوجته، وقد حفر لها خندقًا بجواره تحشو له أحزمة الرصاص، بكارتر، وقد استدرجه إلى حدٍّ جعل رئيس أمريكا يُقامر بالرئاسة وبمستقبله السياسي، ويُمسِك هو «بيجن» بيده جوكر الكسب أو الخسارة وبحنكة مُحترف قمار وتهويش يلعب بأعصاب «الشريك الكامل»، الذي راهَن بكل ملابسه وإن بقيت على جسده، والشريك الآخر الذي باع ملابسه قبل أن يجلس إلى المائدة؛ ولهذا فهو يلعب من جيب الشريك الكامل بحيث إذا كسب فالمكسب كله للشريك الكامل، وإذا خسر فماذا يأخذون من الصيني الذي أصبح بعد غسيله؟!
بتصوير وتصور الوزير السابق كامل أن الإستربتيز السياسي بدأ بالقدس وزيارتها.
وبتصوير وتصور الكاتب الكبير الأستاذ هيكل أنه بدأ من مظاهرات ١٨، ١٩ (انتفاضة الحرامية كما يُسمِّيها الحرامية، وانتفاضة الشعب كما يُسمِّيها الشعب).
وليس السيد محمد إبراهيم كامل ولا الأستاذ محمد حسنين هيكل ولا كل من لا أعرف وأعرف من مُفكِّري المرحلة وكتَّابها الكبار هم فقط من حاورت وحاولت العثور معهم على البداية؛ فبعضهم يذكر أن البداية كانت بالضبط مع كيسنجر وقُبَيل مفاوضات فض الاشتباك الأول أو المشهورة بمفاوضات الكيلو ١٠١، وآخرون يؤكِّدون أن البداية الحقيقية كانت في عصر عبد الناصر نفسه وأثناء حياته، وأن السادات سرًّا كان وطَّن نفسه على رفض السياسة الناصرية كلها وعلى رأسها التطبيق الاشتراكي في الداخل، والتحالف الاستراتيجي مع السوفييت، والعداء الاستراتيجي مع أمريكا، والارتباط الكامل بعدم الانحياز، والإيمان المطلق بالقومية العربية سياسةً ثابتة للتحرر الوطني، وأهم من هذا وذاك إيمانٌ دفين أن النموذج الأمريكي في الحياة وفي السياسة هو أروع ما يمكن أن يعيشه الإنسان، السادات، ومصر إذا وليَ أمرَها السادات.
وأستطيع أنا شخصيًّا أن أُضيف باعتباري من أوائل الكتَّاب المصريين الذين عرفوا السادات وعرفهم السادات في أوائل الثورة عن قرب، بالنسبة لي بالتحديد التقيت به في جريدة الجمهورية أيام كان رئيس مجلس إدارتها، وأُعجب بي ككاتب إلى درجة أن عهد لي بكتابة عموده اليومي الذي كان يُشكِّل افتتاحية الجمهورية مُوقَّعًا باسمه ومكتوبًا بكليشيه بخط يده. أيامها كنا قد بدأنا نُغيِّر رأينا تمامًا في «الثورة»، وبعدما كنا قد اصطدمنا معها باعتبارها ديكتاتورية عسكرية جاءت لتصفية الحركة الوطنية المُتصاعدة ضد الإنجليز ولمصلحة الاستعمار الجديد؛ مما أدَّى إلى صدامٍ عنيف تمامًا مع الثورة، أُغلقت بسببه جريدة المصري العظيمة التي كنت أحد كتَّابها، وحدثت مظاهرات مارس، وكادت الحركة الوطنية تنجح في إقامة حياة دستورية نيابية حزبية، وإعادة الجيش إلى ثُكناته بتأليف وزارة خالد محيي الدين الشهيرة ورئاسة محمد نجيب الشديد الحماس للحكم بالنظام الديمقراطي الغربي. كادت تنجح لولا خطة عبد الناصر الشهيرة التي نفَّذها الصاوي، والمفاوضات التخديرية مع قيادات الإخوان والشيوعيين، والاتفاق على إشراكهم في الحكم ليؤيدوا استمرار الجيش والثورة، ثم ضربهم بعد هذا جميعًا ضرب غرائب الإبل، وضربِنا؛ عدد من الكتَّاب الأحرار في ذلك الوقت معهم.
وأنا شخصيًّا قُبِض عليَّ في أغسطس ٥٤، وحُقِّق معي بتهمة تكوين جبهة وطنية مع الوفد مُمثَّلًا في الأستاذ أحمد أبو الفتح الذي كان قد هاجَر إلى لبنان، جبهة «لقلب نظام الحكم» بكل التهم المحفوظة لمثل هذا النوع من «الجرائم السياسية»، ولكن حين حُقِّق معي ولم يتمكَّنوا من ضبط الوثيقة الخطيرة التي كنت قد كتبت فيها بخط يدي خطةً ومشروعًا كاملًا لجبهة وطنية تُسقِط النظام العسكري آنذاك، لعدم توافر أو العثور على أدلة، أودعت المُعتقَل في القلعة وسجن مصر وليمان أبي زعبل و«الأردي»، ورحلت مع الإخوان إلى السجن الحربي، وعدت إلى سجن مصر.
ولكن تلك قصة أخرى ربما يجيء وقتٌ نحكيها؛ فلا مجال للفخر أو التفاخر بها، وأنا شخصيًّا لا أحترم كثيرًا أولئك الذين لم يعد لهم ثَمة عمل إلا أن يذكروا لك أيام المعتقَل ودولة الاستخبارات والتعذيب، مع أني والكل يعرف أن هؤلاء الجعجاعين، واحد منهم عالي الصوت تمامًا في هذا المجال كل ما دفعه من ضريبة الحرية هو أربع وعشرون ساعةً قضاها بالقبض الخطأ في سجن الاستئناف الذي كان يُعتبر «هيلتون» السجون في ذلك الوقت.
بتأميم القناة وباندونج وصفقة السلاح ذات الطابع العسكري لحركة الجيش، اتخذت الثورة طريقها لقلب الشعب وقيادته وأُفرج عنا بالتالي، ورأينا التغير الهائل الذي حدث وغيَّرنا موقفنا، ووصلنا إلى حالة صلح، بل وجبهة متفِقة تمامًا وإلى حدِّ التضحية بالروح مع الثورة. وحينذاك عرفت، كما قلت، السادات؛ ذلك العضو المعروف المهاب في مجلس قيادة الثورة، والثورة يومها فعلًا أصبحت ثورةً عظيمةً جليلة، ويفخر الإنسان بالانتماء مجرد الانتماء لها، فما بالك وهذا عضو في مجلس قيادتها المحدود وأحد أبطالها؟
ولكن … ولأن الحيِّز المتاح ضيِّق ولا مجال عندي للإطالة، ورغم أني ظَلِلت أعمل مع السادات حتى نقلني تمامًا من وزارة الصحة إلى المؤتمر الإسلامي لأتفرَّغ لكتابة ثلاثة كتب تحمل اسمه، واعتبرتها أنا مهمة وطنية عليا؛ إذ إن أحدها كان عن حرب السويس الوطنية والعُدوان الثلاثي، وقع في خمسمائة صفحة وتُرجِم ونُشر باسم أنور السادات في دار نشر هندية وزَّعته بالإنجليزية على العالم أجمع، بعد أن رفضت دار النشر البريطانية إدراجه في قائمة مطبوعاتها لأسبابٍ خاصة بدور بريطانيا وإيدن في مؤامرة السويس، رغم هذا ورغم انبهاري كشابٍّ بشخصية السادات التي كنت أُتابعها منذ اغتيال أمين عثمان، واغتيال عبد القادر طه الذي استقبلته كطبيبِ استقبال في قصر العيني مُصابًا بخمس رَصاصات من خلف وأمام قوَّضت بُنيانه المتين، واعترف لي قُبَيل وفاته وحين أعلمته أنه مقدم عليه أن شخصًا اسمه «علي حسنين» يعمل في الحرس الملكي الحديدي هو الذي استدرجه، وذكر أسماء مصطفى كمال صدقي وأنور السادات وطلب استدعاءهم، وجاء الأول، ولم أكن أعرف شيئًا عن الحرس الحديدي ولا دور يوسف رشاد، ونكوص عبد القادر طه عن الانضمام بتأثير أخيه أحمد طه الزعيم العمالي الذي كنت قد تعرَّفت به في لجنة الطلبة والعمال التي كنت مُنضمًّا لها. قصة طويلة طويلة، فتَّحت وعيي لأول مرة على دور الجيش في الحركة الوطنية الذي لم أكن أعرفه، وعن مؤامرات الملك ضد الضباط الوطنيين، وكما ترَون، فرغم اتساع الحركة الوطنية قبل الثورة وبعدها فمن الواضح أنه عالمٌ صغير، وإنني رغمًا عني وأنا في صدد الحكم على كامب ديفيد والسادات أن أجد نفسي وجيلي غارقين إلى آذاننا في قلب ثورة ٢٣ يوليو وما قبلها وما تمَّ بعدها وإلى الآن.