الموقف يخلق الشخصية، والشخصية تُشوِّه الموقف
وبالضبط مثلما وصل السادات كامب ديفيد وقد سلَّم جميع أوراقه — وكأنما هذا دأبه — فلقد وصل السادات إلى يوم ٢٣ يوليو وقد استنفد تمامًا كل طموحاته الثورية، ولم تعد تربطه بحركة الضباط الأحرار إلا صلته الشخصية بجمال عبد الناصر. كانت إعادته للجيش عن طريق يوسف رشاد قد ألقت ظلالًا كثيفة على ماهية موقفه وميوله، بحيث إن كثيرين اتهموه فعلًا أنه انضمَّ للحرس الحديدي وأصبح من رجال الملك بعد أن بدأ ثائرًا مُتمردًا على الرأي والأحزاب المُتهاونة.
وهو نفسه ذكر أن الثورة قامت وهو غائب في دار للسينما، ومعه «كعب» التذكرة التي من الممكن أن تصلح دليلًا على وجوده بعيدًا عن «المؤامرة» لو انكشفت الثورة وقُبِض على الجميع، بل إن البعض فسَّر أن عبد الناصر اختاره ليُلقي بيان الثورة الأول لكي يذرَّ الرماد في عين الملك ورجاله ويُطمئنهم إلى أن رجُلهم هناك، ومعظم الذين عرفوا أنور السادات في ذلك الوقت سمعوا منه قولته المشهورة: إن الثورة جاءته بعدما كفَّ عن الثورة، أو أصبح هدفه بعيدًا تمامًا عن مشاكل ومخاطر الثورة وحكم الثورة والسياسة كلها لو أمكن. وهكذا يُفسِّرون سبب بقائه مجرد البقاء بلا فاعلية في «الصورة»، حتى عيَّنه عبد الناصر نائبه وآل إليه الحكم؛ فلو كانت لديه ذرة طموح لدور غير دور المُتفرِّج لالتقطها عبد الناصر على الفور، ولأصبح مصيره كزكريا محيي الدين والبغدادي وغيرهما؛ النفي التام من الحياة السياسية.
وقد تبدو هذه المسألة لا محل لإيرادها بالتفصيل هنا، ولكن العكس هو الصحيح؛ فهذه النقطة تُمثِّل في رأيي حجر الزاوية في كل ما قام به السادات وما اتبعه من سياسات بعد تولِّيه رئاسة الجمهورية؛ فهي لم تكن سياسات قائمة على مبادئ نابعة من إيمان وعقيدة ثابتَين لدى السادات، كانت كلها ومنذ اللحظة الأولى وسائل تُتيح للسادات كل مزايا ومغانم الحكم دون مشاكله ومغارمه؛ الاستراحات والأزياء والاستمتاع إلى أقصى الدرجات بأطايب الحياة وإرضاء نزواته جميعًا، وعلى رأسها ميوله التمثيلية والاستعراضية وكثرة ظهوره في التليفزيون المصري، ثم بعد هذا شاشات العالم وصفحات جرائده ومجلاته الأولى. وقد أدرك الغرب هذا كله، ولعب عليه بمهارةٍ مُذهِلة. إن الرغبة في الشهرة والظهور تدفع أناسًا من أمثال ذلك الشاب الذي حاول قتل ريجان إلى ارتكاب أبشع الجرائم فقط من أجل أن يطفو فوق سطح الدنيا، وتتداول الملايين اسمه؛ فإذا وصل تفريط السادات بمصير الشعب والبلاد إلى درجة الجريمة، فسوف يكون من أوائل دوافعها الوجود الإعلامي العالمي المُخلُّ بالعقول المحبة للظهور وللدعاوي ولو كانت كاذبة.
وصل السادات كامب ديفيد وقد أدرك، أو بمعنًى أدق جعلوه يُدرك، أن وجوده السياسي الرئاسي والزعامي قد ارتبط بمبادرة القدس بحيث لو فشلت لانتهى هو نفسه معها وفشل؛ فهي — هكذا أفهموه وغسلوا له عقله، وعزفوا على نقطة ضعفه تلك ببراعة إجرامية، وجعلوه يؤمن أنها قد تحوَّلت من محاولة حل أو خطوة قد تنجح وقد تفشل إلى الطريقة الوحيدة الأخيرة — ليس لحل مشكلة الشرق الأوسط أو استرداد سيناء أو الحل الشامل العادل للقضية، وإنما — هو الأهم تمامًا — إلى وضعٍ ارتبط به كل مصيره ومصير حكمه، بحيث لو فشلت فمن المحتَّم أن يفشل هو معها ويسقط. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يلتحم مصيره هذا الالتحام الكامل بطريقة حل؛ فمنذ أن وُلي الرئاسة وهو يُحاول أن يفكَّ الاشتباك القائم بين بقائه في الحكم وخوض الحرب — أي حرب — بلا جدوى. وحين تأكَّد له، خلال الهبَّة الوطنية الرهيبة في أوائل عام ٧٢ أنه ما لم يُحارب فإنه سيسقط، بدأ لأول مرة يُجهِّز جديًّا للحرب، حرب الدفاع عن الحكم والذات أولًا، ويُحيطها بأقصى درجات الأمن والأمان له، فأي خطأ يعني النهاية، بحيث إن المُتأمِّل لسلوكه منذ نجاح الجيش المصري في عبور القناة والانتصارات الأولى، يجد أنه كان يفعل المستحيل ليتخلَّص وبأسرع ما يستطيع من حالة الحرب، وكأنه الطالب المرعوب من امتحان، ما إن يُجيب على السؤال الأول فيه حتى يبلغ به جنون الفرحة حد أن يقف يعلن للعالم أن الامتحان انتهى وأنه نجح، ويعلن لكيسنجر أنه راضٍ بأقل القليل مُقابل أن تُفرِج أمريكا وبالتالي إسرائيل عن مصيره المربوط بإحلال السلام، أي سلام وبأي كم أو كيف، وكأنها حربٌ نجح فيها بضربةِ حظٍّ لن تتكرَّر، وليس بأداء عظيم لقوات وطنية مُسلَّحة أذهلت ببسالتها العدوَّ والصديق.
وهكذا دخل الخيمة ١٠١، وكان عليه ليخرج منها بنتائج تتناسب مع حجم الانتصار المصري المنقوص والهزيمة الإسرائيلية غير الكاملة، كان عليه أن يعتمد على مؤتمر جنيف، وعلى إدخال الاتحاد السوفييتي كطرف، وعلى ربط سيناء بالقضية الفلسطينية، وعلى عودة لتلاحمٍ أقوى مع العرب، وهي كلها، كما هكذا رأى، مُعوِّقات تُعيقه عن الجري من حالة الحرب بأقصى ما يستطيع ليُحافِظ على العصفورة الوحيدة التي وجدها في حوزته.
وهذه اللهفة المرعوبة نفسها هي التي دفعته لكي «يخلع» من السعودية وسوريا ومعظم الدولة العربية بحيث انقصم العمود الفقري للكائن العربي المُذهِل العملاق الذي تفتَّقت عنه الحرب، هي اللهفة التي التقطها — بذكاء الشياطين — كيسنجر حين جاء إلى المسرح الشرق أوسطي في أعقاب الحرب، وبلا مجهودٍ كبير أدرك سبب انتصار العرب في حرب العبور العسكري والبترولي المجيدة تلك، السبب كان ذلك التحالف الهائل الذي تم بين مصر والسعودية وسوريا، والذي به تشكَّل، ولأول مرة منذ نشأت القضية العربية، تشكل عملاق عربي حقيقي يملك الجند والطاقة والدم والدولار، تحالفًا غيَّر في أسابيع قليلة من خريطة المنطقة والعالم السياسية والاقتصادية، وبه تأكَّد وللمرة الأولى أيضًا رُجوح كفة العرب على كفة إسرائيل رغم أي مساعدة أمريكية أو غربية، ورغم أي تشرذم عربي قائم.
هكذا رأى الحاذق كيسنجر الموقف، وأيضًا رأى الحل، ولكسر العمود الفقري وجد السادات يُقدِّم له الطريقة بلا أي تحفُّظ. والطريقة هي خلع مصر أولًا من هذا التحالف، ثم خلعها من المعسكر العربي نفسه. وقد كان؛ فلقد بدأ يدقُّ إسفينًا رهيبًا بين مصر والسعودية ودول الخليج بأن ضخَّم للسادات انتقاداتهم المُرَّة لفض الاشتباك، مؤكدًا أنهم — السعودية والدول الأخرى — تريد أن تُفوِّت على مصر انتصارها، و«تُفرمل» الصعود الهائل لدور مصر القيادي الذي تنامى بسرعة بمجرد خوضها للحرب. ولقد ساعدت الخطة الكيسنجرية عوامل عربية، صوَّرها السادات على أنها رغبةٌ دفينة في إذلال مصر عن طريق صندوق الدعم الخليجي وشروطه، وعودة لقصة صندوق الدين الاستعماري على يد «العرب» هذه المرة. وأوقعوا بين سوريا ومصر عن طريق إذكاء التناحر والخلافات حول دور كلٍّ من مصر وسوريا في الحرب. باختصار واستغلالًا للهفة السادات وخوفه أن يطير عصفوره، خلعوا مصر من الجبهة وأدخلوها الخيمة، وهكذا اشتعلت حربٌ أخرى عربية-عربية أو عربية-مصرية، وبعد شهور قليلة لم يعد قائمًا من بقايا العمود الفقري إلا ذكرى لشيء يُثير الحلم، حدث وكان، وإلا نزاع حول حجم المعونات وذمة القائمين عليها.
ألا يبتلع السادات الطُّعم إلى آخره، طعم المفاوضات؟ أجل، في سنة ٧٣ اكتشف العرب أنه بالحد الأدنى من التنسيق يصبحون قوةً مُرعِبة، واكتشف أعداؤهم أيضًا الوسيلة لمنع هذا التحالف، وسيلة المفاوضات المباشرة الثنائية بين إسرائيل وكل طرف من أطراف القضية على حدة.
المفاوضات الثنائية التي تصبح فيها إسرائيل — باتفاقٍ تامٍّ مع أمريكا — اليد العليا، وتصبح الدولة العربية الداخلة فيها ليست الطرف الأضعف فقط، وإنما الطرف «الخائن» أيضًا، الطرف المرفوض المتعاون مع العدو الذي يجب أن نقف منه جميعًا موقف العداء، وهكذا دولة إثر دولة، وخيمة إثر خيمة، والإسماعيلية إثر قلعة ليدز، إثر خالدة إثر كريات شمونة، يتفكَّك الوجود العربي المُتكتِّل، ومن معسكرين؛ صمود وتصدٍّ في ناحية، ومُعتدلين حلفاء لأمريكا من ناحيةٍ أخرى، إلى صمود انقسم، وعراق عُيِّنت لها إيران مسئولة عن شلها وشل فاعليَّتها، ومُعتدلين سحبوا واحدة أو أكثر من الصمود، وأحداث لبنان تجيء لينتهي حفل الختام بالشعب العربي، وقد فقد تمامًا الثقة في التصدي والاعتدال، العقد انفرط ليبدأ الاكتشاف العظيم — المفاوضات المباشرة الثنائية لو أمكن — يأخذ دوره، حتى لتصبح منظمة التحرير بجلالة قدرها هي التي تنتظر دورها على باب الخيمة، المار بكامب ديفيد وكريات شمونة، المؤدي حتمًا، من يدري؟ ربما إلى اتهام المنظمة بالتهاون والتحالف مع العدو الإسرائيلي.