مقامرة المفلس
وجاءت كامب ديفيد، آخر قشَّة يتعلق بها السادات ليُنقذ المبادرة التي بادَر بها وبادرت هي به كي يدخل الكامب، ولم يعد في جعبته سهمٌ واحد يُناور به.
لم يكن هناك أمامه ليُغري إسرائيل بمفاوضته سوى التلويح بتنازلات أكثر، مثل التطبيع الكامل بين مصر وإسرائيل، واحتمال موافقة مصر على حل مشكلة الفلسطينيين حلًّا أحسن قليلًا من حل مشكلتهم كلاجئين، وعلى وعد بالقطيعة التامة مع العرب.
يعني دخل السادات كامب ديفيد — هكذا بمنتهى البساطة — ليُقدِّم تنازلات في مقابل الجلاء عن سيناء ونزع سلاحها، مقابل بلايين المعونات والأسلحة الأمريكية تتدفَّق على إسرائيل، وترفعها من دولة في عشرة أيام سُحِقت إلى دولة مستحيل أن تُهزم.
وهو طريق ذو اتجاهٍ واحد وحيد.
فقد ذكر السادات لمحمد إبراهيم كامل وهم في الطائرة المتجهة لكامب ديفيد: نحن لن نخسر شيئًا، إذا أعجبتنا الشروط ورضينا عن إطار السلام واتفقنا كان بها، وإن لم تعجبنا قطعنا المفاوضات وعُدنا، وقد بيَّنَّا للعالم وكسبنا رأيه العام بأن ذهبنا مع إسرائيل إلى آخر المدى، ولكن التعنُّت الإسرائيلي هو المسئول عن الفشل.
قال هذا.
ولكني — ومع الحقائق التي لا تقبل الشك — أشكُّ كثيرًا إن كان باستطاعة المُفاوِض المصري أن يحزم حقائبه ويرفض ويعود دون اتفاق.
السؤال هو: ماذا يتلو موقفًا كهذا؟
حلٌّ عسكري؟ نكتة مُضحِكة تمامًا هنا.
أم مزيد من التحايل على أمريكا ورجائها؟
ولكن أمريكا في كامب ديفيد موجودة، رئيسها وسياستها وأقصى ما تستطيعه هناك، ولا يوجد خارج كامب ديفيد أو بعدها أي أمل في استجابة أكثر، أو أي قدرة على ضغط أكثر.
أيكون البديل أن يعود السادات إلى القاهرة ويُعلن عن فشل جهوده السلمية، ويرى الدول العربية أنه أخطأ باللجوء إلى المبادرات والمفاوضات، وأنه مستعدٌّ للذهاب إلى أي عاصمة عربية والاعتذار عمَّا كان وبدر، وإبداء الاستعداد لعودة مُتكتلة جديدة تخضع لأقصى شروط دول التصدي والمواجهة تطرفًا؟
أيفعل السادات هذا باعتبار أنه البديل الوحيد في حالة فشل المفاوضات؟ بالطبع مُستحيل أن يعود هكذا ويتصور شماتة دمشق وطرابلس، ناهيك عن الجزائر واليمن، حتى تونس والمغرب، مُجرَّد تصور المشهد مستحيل، الانتحار ولو سياسيًّا أهون منه.
أبدًا، مستحيل.
بيجن قبل أي إنسان آخر كان يعرف أن دخول السادات كامب ديفيد معناه الواضح أنه، شاء أم أبى، قَبِل فعلًا ومسبقًا أيَّ شروط أو تحفظات تُلحُّ إسرائيل أو تُعاند في فرضها. إنه طريق الاتجاه الواحد الذي لا عودة معه ولا محيص.
المسائل ليست لعبة.
حتى لو كانت لعبة فأنت أيها الرئيس محمد أنور السادات تلعب مع أناس تدرَّبوا على اللعبة مئات السنين، وليس عمرهم في الملاعب عامَين مثلك.
ليس تعنُّت بيجن ولا مثالية كارتر، ولا شريك كامل أو غير كامل، هذه كلمات لا معنى لها بالمرة، منذ الكيلو ١٠١، أنت أخذت الحل الثنائي حلًّا تفضُّ به اشتباكًا مصريًّا إسرائيليًّا لتدخل في اشتباكٍ حادٍّ مصري-عربي، منذ مبادرة القدس وأنت مزَّقت كل أوراق لعبتك العربية، وما تبقَّى منه أهديته طائعًا مختارًا لكيسنجر وكارتر، بل منذها لم يعد لديك أية أوراق لعب بالمرَّة، وليس أمامك سوى أن «تسحب» وأنت مُغمِض العينين، وتسحب وأنت مُتأكد أنك تسحب أوراقًا قيمتها في انخفاضٍ مستمر، أو هي أوراق الذي ترك «العزومة» ومضى «يشحذ» ويقترض.
إن الحياة كالمآسي التراجيدية التي لا ترحم، والبطل في المأساة الإغريقية إذا اختار طريق الندامة يصبح مجنونًا لو تصوَّر للحظةٍ أن ضربة حظ مُفاجئة ممكن أن تُسفِر عن علامة أو ورقة أو درب سلامة، كالبطل التراجيدي ليس أمامك سوى أن — بقدمَيك — تظل تمضي في الطريق، حتى تنتهي إلى النهاية المحكومة والمعروفة سلفًا، ومنذ لحظات اختيارك الأولى.
كان ممكنًا أن يتراجع السادات بعد القدس مباشرة، وبالتحديد في اجتماع الإسماعيلية. كان ممكنًا أن يتراجع بعد مفاوضات ليدز في إنجلترا.
كان ممكنًا أن يتراجع وهو لا يزال يُفاوض ويتكلم مع الأمريكان، مع الوسيط. أما وقد قرَّرت أن تدخل مباشرةً معسكر نجمة داود، وتستدعي وزير الدفاع الإسرائيلي فايسمان لسالزبورج، وتلعب بورقة بيريز لتناور بيجن، وتصاعد من حملاتك على البلاد العربية إلى درجة تحترق معها كل كباريك معها، وتلعن الاتحاد السوفييتي وقادته، بل وحتى شعوبه بمثل ما لم يلعنه أحد من قبل أو من بعد، ويصبح الموقف بينك وبين منظمة التحرير صراع موت أو حياة.
حين يكون هذا كله قد حدث، فلا يعود باقيًّا ليس أن تُغلق حقائبك وتقطع، وإنما أن تُكمل الرواية ولم يبقَ على نهايتها إلا مشهد واحد، تعلن فيه أمام الناس ما قبلته فعلًا ووطَّنت نفسك عليه، وحتى الحل الشامل والقضية الفلسطينية يكفيها ورقة خطاب — أقصد ورقة توت — تنفصل عن المعاهدة، وتذكرها تحت بند البرنامج الإذاعي الشهير كي لا ننسى.
أجل، كامب ديفيد وقعت وتمَّت قبل أن يفتح أيٌّ من الأطراف الثلاثة فمه، فلم يكن أحد في حاجة لأن يفتح فمه؛ فالحقائق معروفة للأعمى، ولا يمكن لعاملٍ آخر، عامل الحقائق، أن يتدخَّل أو يُغيِّر من الأمر شيئًا.
ولهذا أنا أعجب أن المفاوضات استغرقت ثلاثة عشر يومًا، في ماذا؟ وفيمَ كان الخلاف؟ الخلاف حول مستعمرات سيناء كان خلافًا مسرحيًّا؛ فلو كان رأي بيجن والإسرائيليين أن ياميت وغيرها مبادئ غير قابلة للمساومة، لما تنازل عنها وفدهم وبعدها برلمانهم، ولما استغرقت المفاوضات ثلاثة عشر يومًا.
وحتى الخطابات المتبادلة بشأن مفاوضات الحكم الذاتي، لو كانت إسرائيل رحَّبت بتبادل تلك الخطابات فمعنى هذا أن يد مصر كانت ستظل طليقة فيما يختصُّ بهذه النقطة، وأيهما أصوب بالنسبة لإسرائيل؛ أن يُغلَّ رأي مصر وينحصر في دائرة مفاوضات من أجل الاستقلال الذاتي، أو أن يُترَك حرًّا باستطاعة مصر أن تُنادي وتُطالب بما هو أكثر.
في كامب ديفيد أخذت إسرائيل كل ما كان يمكنها أخذه.
وفيها أعطى السادات كل ما كان بإمكانه إعطاؤه.
كامب ديفيد التي يُهلِّل لها الساداتيون يقولون إننا بها حقَّقنا إجلاء الإسرائيليين عن سيناء، وهذا مكسبٌ ضخم باستطاعة أي مُحايد أن يؤكد لهم أن سيناء المنزوعة السلاح، المبقاة رهينة تحت تهديد مدافع الجيش الإسرائيلي الملاصق في النقب، سيناء هكذا أحسن لإسرائيل ألف مرة من سيناء جرح وطني دام يؤجج لدى المصريين قضية تحرير لا يعلم سوى الله آثار تأجُّجها وما يمكن أن يؤدي إليه، سيناء عبء مالي ومسطحات أرض بلا جيش حدود يحرسها، وفاصل جغرافي يجعل من أي تهديد مصري للجبهة الجنوبية للإسرائيليين وهمًا وأكاذيب وأضغاث أحلام.
أنا لا أُقلِّل من شأن استرداد سيناء.
ولكني أفتح عيون الغافلين الذين يقولون إننا استرددناها بالسلام. إننا استرددناها على هيئة حرب. إن حرب ٧٣ هي التي حرَّرت سيناء، أو على وجه الدقَّة البطولة المُذهِلة في حرب ٧٣ رغم طعنة السادات للبطولة من الخلف. سيناء لم تُحرِّرها مبادرة القدس أبدًا، وأيضًا لا بد أن أُنبِّه إلى حقيقة نكون ساذجين لو تغافلنا عنها، حقيقة أن سيناء بهذا الوضع تُشكِّل الحُلم الذي طالما راوَد إسرائيل أن تصبح سيناء عليه، منزوعة السلاح في معظمها، حافلة بمحطات الإنذار المُبكِّر ضد أي تحرُّك مصري، لا تُنفِق عليها إسرائيل مليمًا، وإنما تُوفِّر على نفسها مصاريف الإدارة والصيانة والدفاع العسكري لمنشآت إنذارية مجانيَّة تعمل لخدمة العسكرية الإسرائيلية فقط، ولا تستفيد منها مصر أية معلومات عن الوضع العسكري الإسرائيلي في الجانب الإسرائيلي، بينما هي تكشف تمامًا موقعنا العسكري حتى في غرب القناة والدلتا، وتُزوِّد الجانب الإسرائيلي بحركة كل عربة أو طائرة أو طلقة مدفع.