خاتمة
بدأت سؤالي بموقف السادات، وهل كان خيانة أم تفريطًا لحد أقصى درجات الخيانة.
وها نحن ذا نصل سويًّا لأن نُدرِك أن ليس السادات وحده وإنما كل من ارتكز بوجوده على وجود السادات، وزيَّن بمعسول كلامه وصمت شيطانه الأخرس طريق الموافقة والانزلاق.
ويا لكارثة الهول حين تصبح الخيانة مرتبةً أعلى مما كان وما جرى من وقائع عشر سنوات من حكم مصر، ستُكلِّف شعبنا مائة عام لإصلاح ما عن عمد وسبق إصرار وترصُّد خرَّبته.
ذلك لأننا لن نُصلِّح فقط أخطاءً أو نُحاكِم جرائم ومُجرِمين، وإنما لا بد أن نُغيِّر «عصرًا» بأكمله لعصرٍ آخر؛ فبالأمس حين كان الاستعمار لا يزال في مراحله العسكرية البدائية الأولى، كنا نعرف أننا انتقلنا من عصرٍ كنَّا فيه مُستقلِّين إلى عصرٍ أصبحنا فيه مُحتلين، كنا نعرف هذا برؤيتنا لجنود ومواقع ومعسكرات جيش الاحتلال.
أما ما حدث لنا خلال السنوات العشرة الماضية، وانتقالنا إلى العصر الذي نحن فيه الآن، فليس هناك دليل على الهاوية التي نحن فيها يُمكننا أن نلمسه أو نراه رأيَ العين، وما حدث ويحدث في لبنان الآن ممكن أن تُطمَس معالمه، وقد طُمست أو بدأ طمسها بلجنة كاهان وخروج إسرائيل «ديمقراطية» تمامًا من مذبحة لم يجرؤ هولاكو أو هتلر على القيام بمثلها، ومشكلة لبنان الوطن لها ألف حل في الظاهر، وكذلك الكِيان الفلسطيني المرتبط مع الأردن، أو بالأصح، المقيد مع الأردن في قيد لا يعرف فيه أحد مَن المسجون ومن السجَّان، ومصر مقاطعة عربيًّا، وقد تزول المقاطعة. باختصار، كل «آثار العُدوان» الظاهرية ممكن أن تُزال.
ويا للكارثة حين تزول؛ ذلك أنها سوف تزول من أمام الأعيُن فقط، أما في الحقيقة فإن تمكُّن مَن أسميناهم الأعداء في مستهلِّ هذا البحث، تمكُّنهم منا سيصل إلى النخاع، وهناك ألف سادات جاهز، وألف كامب ديفيد مطروحة. وأكاد لولا الحياء أن أقول إننا في واقع أمرنا في حالة «انفتاح» كامل أمام الشريك الكامل والجار الكامل وكل كامل، ومنفتحون وسوف ننفتح أكثر دون أن ندري، والأصابع تعبث بنا دون أن ندري.
أوَحَسِبتم أن الانهيار في سوق الكويت من صنعِ الصدفة، أو أن الحرب الإيرانية العراقية نفسها تحدَّدت في لحظة مزاجية إرادية من هذا الطرف أو ذاك، أو أن نهايتها لا تبدو في الأفق لأنها مستحيلة النهاية؛ أم إن هذه الحرب نفسها لها أوثق العلاقات بانهيار سوق المال في الكويت، وأوثق العلاقات بانهيار أسعار البترول، وغرق الأوابك في الأوبك؟
ليس ما ألقيناه سوى خيط ضوء واحد على أصبع رهيبة واحدة، اندكَّت في صدورنا وخرجت من ظهرنا ولكن جسدنا كله مُخترَق، والخناجر تعمل فيه من كل اتجاه.
ولا نستطيع أن نصرخ ونقول: النجدة.
فلمن نقول؟
لن ينجدنا أحد — في هذا العالم المُخيف — إلا أنفُسنا كعرب.
فنحن غريقٌ يستغيث بغريق.
فهل يستطيع غريق أن ينجد غريقًا؟
نعم يستطيع.
واستطاعته تبدأ بأن يُدرك — حتى لو كان واقفًا على ما يتصوَّر أنه الشاطئ — أنه هو الآخر غريق يغرق.
أقول ربما لو أدركنا، أول ما نُدرك، أننا كلنا نغرق، وأن لا أحد، حتى صاحب الملايين المُودَعة في مصارف سويسرا أو أمريكا، أو العقار في الريفييرا، لا أحد حتى هؤلاء «الأغنياء» الذين يتصورون أنهم أغنياء، بينما ثرواتهم كلها في قبضة من باستطاعته أن يحرمهم منها بقرار، مجرد قرار.
أم تقولون مستحيل؛ فقوانين تلك البلاد لا تسمح؛ نفس البلاد التي جمَّدت بقوانينها أموال إيران وقبلها مصر.
لا قوانين أيها السادة الغَرقى.
هو قانونٌ واحد فقط، قانون البحر العاصف الذي لا يرحم.
وهكذا لو أدركنا أننا كلنا — مرةً أخرى كلنا — غرقى ونغرق أو حتمًا سنغرق، إذا بقينا على هذا الحال، ربما، مرةً أخرى أقول ربما، لو أدركنا هذا أمكننا لو تشابكت أيدينا، مُجرَّد تتشابك أيدينا، أن نصنع بأجسادنا المتحدة كتلةً تطفو، وحتمًا تطفو إذا تشابكت، فسيعمل حينذاك قانون العلم وليس قانون العاصفة والبحر الأعوج.
العلم الذي يقول: كلما كبر الحجم زادت القدرة على الطفو.
فلنكبر حجمًا لنعيش.
فلنتشابك لنكبر حجمًا.
فلنكفَّ أن نستغيث؛ فالمُغيث هو نحن أيضًا.
يا مُغيث أغِثنا.