الاحتمالات الأربعة المُرعبة
ولقد جاء نشر مذكرات وزير الخارجية الأسبق للأحداث والوقائع الداخلية لما دار في كامب
ديفيد، بعدما قرأنا وصفًا لها على لسان جيمي كارتر، وتمهيدًا رهيبًا بالمدفعية الثقيلة
في
مذكرات هنري كيسنجر، جاء هذا النشر وكأنه الضربة التي قصمت ظهر البعير. والبعير الذي
كان
عندي هو بالضبط: ما هذا الذي صنعه السادات بنا، وبالعرب، وبالعالم، وحتى بنفسه؟
ذلك أني كنت قبل هذا دائم التساؤل عن كنه وعلة ما حدث ودار.
• هل كان أنور السادات حسن النية في داخله، غبيًّا أو حتى مُتخلفًا عقليًّا أمام خصوم
هم
القمة في الذكاء والاستدراج واستعمال أذكى ما تفتَّق عنه العقل البشري من وسائل لغسل
أمخاخ
بعض قادة العالم الثالث، وبالذات لغسل مخ رئيس جمهورية مصري جاء عقب احتلال مصر لمكان
الزعامة، في وطن عربي بدأ يتعرَّف على ذاته وينسق ويتحد ويهدد بأن يصبح القوة السادسة
في
العالم؟
• أم هو لم يكن غبيًّا، وإنما كان يعرف حقيقة الدور الذي يقوم به، وكان واعيًا تمامًا
بما
يُراد للأمة العربية على يدَيه من أن تحييد مصر تمامًا — عسكريًّا وسياسيًّا وشعبيًّا
— عن
الحرب القائمة بين إسرائيل والدول العربية مجتمعة، وعن الخلافات الجذرية القائمة بين
كثير
من الدول العربية وأمريكا، باعتبار أن تحييد مصر وعزلها سيُسهل مهمة تفكيك الحلف العربي
المتبقي ثم هدمه تمامًا قطعة قطعة، وابتلاعه على مهل وفي حال من تمام الاطمئنان؟
• وهل كان وعي السادات بدوره هذا وقَبوله القيام به، بل وحماسه الغريب في تنفيذ المهمة،
لأسباب مبدئية؟ أي إنه كان يحب إسرائيل وأمريكا ويكره العرب ويكره حتى الشعب المصري ومصالحه
الحقيقية، كراهية مؤمن بالنظام الرأسمالي الاستعماري الأمريكي والنظام الاستيطاني العنصري
اليهودي، إيمانًا لم يوجد له نظير في تاريخ العالم الحديث كله؛ فحتى عملاء أمريكا الرسميون
من الحكام لم يكونوا بالضرورة مؤمنين بأمريكا، وإنما كانوا يحتمون بها من شعوبهم أو خوفًا
من جارٍ شيوعي أو انقلاب عسكري، أما «الإيمان» وإلى هذه الدرجة، وفوقه إيمان آخر لا يقل
عنه
صلابة بالعنصرية الإسرائيلية الصهيونية، فشيء لا نجده أبدًا لا في ديكتاتوريِّي أمريكا
اللاتينية عملاء اﻟ «سي. آي. إيه»، ولا في حكام بعض بلاد جنوب شرقي آسيا أو أوروبا، أو
حتى
جنوب أفريقيا أو نظام إيان سميث العنصري في روديسيا، أبدًا لا نجد لهذا الإيمان نظيرًا
أو
شبيهًا في العالم كله، فما بالك بإيمان كهذا رسمي من مصر، وعقب حكم أخطر زعيم مصري أعاد
اكتشاف عروبة مصر ودورها التاريخي المحتم، وجعل من القضية المصرية التي ظلت لخمسة وسبعين
عامًا ومنذ أيام عرابي قضية مصرية فقط، جعل منها قضيةً عربية؛ بمعنى أن الدعوة إلى التحرر
الوطني والاشتراكية أُضيفت لها الوحدة في شكل دعوة قومية عربية نقلت المطلب الوطني المصري
من مفهوم القرن التاسع عشر إلى مفهوم القرن العشرين، مثل البحث عن الأصول والجذور، واكتشاف
الترابط وعلاقة العظم والدم بين مصر وبقية أنحاء الوطن العربي.
أن يأتي هذا الإيمان من خليفة من؟ من خليفة عبد الناصر مُفجِّر وقائد هذه الثورة في
المفهوم الوطني والقومي، والذاهب في عدائه لإسرائيل باعتبارها الخنجر المغروس في قلب
هذه
الأمة بالذات من أجل قتل هذه الروح، ومنع قيام الأمة العملاقة العربية، الذاهب في عدائه
لإسرائيل إلى حد عدائه لأوروبا حين كانت تؤيدها وللولايات المتحدة الأمريكية، أقوى قوة
عسكرية في العالم، رجل كهذا يَخلفه أو بالأصح يختاره عبد الناصر ليتكشَّف بعد هذا أنه
جاء
ليس ليهدم فقط كل ما بنته الأمة وعبد الناصر على رأسها في ربع قرن ثائر حاسم مهول، وأن
يؤمن
بأعداء الأمة والفكرة والثورة إلى درجة لم يؤمن بها أحد من قبل أو من بعد؟
هل فعل السادات هذا كله تحقيقًا لمبدأ كان، كأي صاحب مبدأ آخر، يعتنقه؟
• أم إن إيمانًا ما لم يكن هناك بالمرَّة، وإن السادات قام بدوره وهو مُدرِك تمامًا
لقذارة ذلك الدور، ولكن قوة عاتية مُركَّبة هي التي ساقته طائعًا مُختارًا ليفعل ما فعل،
وجشع ذاتي مريض كان كامنًا وموجودًا بل ومعروفًا، بالذات لعبد الناصر، كما سنرى فيما
بعد،
جشع ذاتي رهيب للملذَّات بكل أنواعها، وللغنى بكل أنواعه، وللانحراف بكل فصائله المعروفة
منها وغير المعروفة، وطبع بالسليقة خائن ومتآمر وعميل، وقد وجد أخيرًا القوة الشيطانية
التي
تستغله وتقوده وتركبه وتُحقق به ما تشاء؟