كيف رأيت المبادرة؟
لقد سمعت وقرأت تخريجات كثيرة لهذا الذي فعله السادات، وبالذات أيام مبادرة القدس، فرغم كل شيء كان السادات حتى ذلك الوقت قد حارَب إسرائيل فعلًا، وإن كان ما أحاط بتلك الحرب المحدودة، والمُتحكَّم سلفًا في حجمها ونتائجها، رغم أن ما أحاط بتلك الحرب من علامات استفهام وتعجُّب وأقاويل كانت كثيرة، إلا أن أحدًا حتى ذلك الوقت لم يكن ليتصوَّر مطلقًا، مهما جمح به الخيال أو حتى فقد العقل وجُن، أن «مبادرة» القدس لم تكن مبادرةً تلقائية كما تصوَّرنا جميعًا.
أنا شخصيًّا حتى ذلك الوقت، وحين فعلها السادات وذهب إلى القدس قدَّرت أن الرجل الخبيث فيه؛ ذلك الذي جعلني أنفر منه بعد تعاملي معه حيث كان عضو مجلس قيادة الثورة المُكلَّف بإصدار جريدة الجمهورية لتُبشِّر بالميادين الثورية الجديدة، وتخلق صحافةً ثوريةً جديدة تحلُّ محل الصحافة التي كان يملك ويُدير سياستها عقليات مُتمصرة تعاونت تمامًا مع الإنجليز، وكانت دائمًا مع الملك ضد الشعب، حتى الصحف المصرية التي أصدرها مصريون — فيما خلا صحف حزب الوفد — كانت تلك الصحف كأخبار اليوم والقاهرة والجريدة المسائية سائرة أيضًا، وبتكتيك أحدث وأرقى وأكثر جاذبية، في نفس خط تأييد وتأليه الملك، والنيل من الوفد، والدعاية لمشاريع المعاهدات التي كان يريد الإنجليز فرضها على مصر، بمعنًى آخر، حين أرادت ثورة ٢٣ يوليو أن تخلق صحافة مصرية الدم واللحم والثورة عهدت لأنور السادات المهمة، وعرفته أنا والكثيرون غيري أثناء عملنا معه في جريدة الجمهورية عام ١٩٥٨م، ولكني آثرت الابتعاد عنه تمامًا بعد عام فقط؛ فقد قبلت أن أعمل معه إيمانًا مني بأعظم أحداث حياتي، قيام ثورة حقيقية في مصر أخيرًا، ثورة وإن بدأت عسكرية كالانقلابات السورية إلا أن الحركة الوطنية المصرية ظلت تُحوِّر فيها وتُغيِّرها حتى جاء الامتحان النهائي في تأميم قناة السويس والعُدوان الثلاثي على مصر. الثورة عام ٥٦، هنا فقط بدأت مصر الشعب والمُثقَّفين تقبل وتتحمَّس وتندفع بقوةٍ واضعةً نفسها تحت تصرف الثورة وقادتها، من خلال هذا المنظار كنت أرى في السادات «بطلًا» من أبطال ثورة يوليو، ولكن التعامل معه كشف لي — كما سنرى — أنه لا بطل ولا يحزنون، بل إن كثيرًا من خِصاله لا تصلح أن تكون لرجلٍ عادي بسيط، فما بالك بعضو مجلس قيادة ثورة وبطل ثورة؟ وهكذا قطعت — منذ ذلك الحين البعيد عام ١٩٥٩م وبعد عامٍ واحد فقط من معرفته — صلتي به.
أعتذر أني أقحمت نفسي على الموضوع، ولكني أريد أن أعود فأقول إنني تصوَّرت حين قام السادات بمبادرة القدس بتلك الطريقة المفاجئة، تصوَّرت مع كثيرين غيري أن المعجزة قد تمَّت، وأن الرجل الذي أخذنا عليه المآخذ في حرب ٧٣ وفي أحداث ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧م، وفي طريقة حكمه كلها، وفي سياسته الداخلية والخارجية بالذات، وتعدِّيه خط الخطر في اقترابه بالسياسة المصرية من الخط الأمريكي، تصوَّرت أن الخبث الكامن في الرجل بدأ يعمل لصالح القضية، وأن مبادرة القدس لا يمكن أن تكون قد حدثت مصادفة، وأن لا بد وراءها اتفاق كامل وصل إليه السادات مع الإسرائيليين باتفاق مع الأمريكيين، وجعلهم يُقرُّون ويعترفون أخيرًا بحق الشعب الفلسطيني في وطنٍ مستقلٍّ كامل على أرض فلسطين، بل وحق الذين طردوا أو هاجروا من فلسطين المحتلة في العودة أو التعويض، وكذلك إعادة كل الأرض العربية التي احتُلَّت عام ٦٧؛ الجولان والضفة وغزة وسيناء والقدس الشرقية.
تصوَّرت هذا كله، وعلى أسوأ الفروض تصوَّرت شيئًا آخر؛ أن تكون هذه المبادرة قد تمَّت بالاتفاق مع سوريا والأردن والسعودية وبقية دول المواجهة بهدف تغيير صورة القضية في نظر الرأي العام العالمي، تغيير الصورة من دولةٍ مسكينة قليلة العدد اسمها إسرائيل تعيش كالجزيرة المُسالِمة المُحاطة بكراهية شعب عربي يريد تمزيقها إربًا وإغراقها وطمس وجودها تمامًا، تغيير الصورة بحيث يرى العالم عيانًا جهارًا أن مصر، أكبر وأقوى الدول العربية، يذهب رئيسها بنفسه ليعرض على الإسرائيليين السلام الدائم والاعتراف بهم وبدولتهم وبحدودهم مُقابل رد الحقوق والأرض العربية والفلسطينية المغتصَبة؛ وبهذا تسقط حجة إسرائيل التي تتذرَّع بها دائمًا في شنِّ حروبها على العرب بحيث تعتدي على الأرض والجيوش والناس الأبرياء، وفي نفس الوقت يؤيِّدها الرأي العالمي في عُدوانها ذاك ويجد لها المُبرِّر والعذر.
تصوَّرت أن مبادرة كتلك حركةٌ جِدُّ خبيثة مُحصِّلتها في النهاية، إذا صح التحليل، ستكون واحدةً من أعظم الخطوات الوطنية في تاريخنا الحديث؛ فإذا كان السادات والقادة العرب الآخرون قد رأوا أن قرارات مجلس الأمن لم تُفلِح في ثني إسرائيل عن خطها التوسعي الاستيطاني الرافض تمامًا لأي حق عربي أو فلسطيني، فإن الوسيلة الوحيدة الباقية أمام العرب هي الحرب مرةً أخرى، وعلى نسق ما حدث في ٧٣ من تعاون سوري مصري مدعومًا من السعودية والعراق والجزائر وليبيا، ومُتجنِّبة كل أخطاء حرب ٧٣ بحيث لا تحدث هذه المرة ثغرة أو تتوقف الحرب عند خط هو المثالي لإعطاء إسرائيل الفرصة لردِّ الضربة الأولى، ليس فقط باسترداد ما فقدته من أرض (أرضنا)، وإنما باجتياح مناطق شاسعة أخرى جديدة.
وسألت صحفيًّا من عُمَد مؤيدي السادات، عشيةَ عودتهم من القدس، عما دار خلف الستار هناك، وبُهرت فعلًا وهو يؤكد لي أن كل شيء قد تمَّ وفق ما نريد تمامًا، وأن ما تحقَّق من اتفاقات تعدَّى كل ما كنا نحلم به من نهايةٍ مُنتصرة لصراعنا المرير مع إسرائيل، وعلى رأسه عودة فلسطين الدولة والعلم والاعتراف.
وهكذا، مثل كثيرين غيري، كتبت أؤيد المبادرة في مقالٍ قصير نشرته بالأهرام، ولكني بحذرٍ شديد فعلت حتى أحفظ لنفسي خط الرجعة؛ فشيءٌ ما كان يُوسوس إليَّ أن الإسرائيليين، بالذات بيجن، لا يمكن أن يكونوا بمثل ذلك الحسن للنية، وأن هكذا ببساطة يُسلِّمون كل ما في أيديهم من أوراق، ولكني أعود وأردُّ على الوساوس وأقول لنفسي: إنه الأثر المُباغِت للمبادرة؛ ذلك الذي على مستوى الشعب الإسرائيلي قد حظي بقَبول وحماس جعل الشعب هناك، ذلك الذي يموت شبابه وتدفع أمهاته ضريبة سياسات حكوماته المُتتالية التوسعية، حماس الشعب هناك للسلام، فرض إرادة السلام، وأرغم بيجن على التخلِّي عن طبيعته ذاتها وليس فقط عن أحلامه وطموحاته.