لماذا كفرت بها؟
ورغم أن إيماني بالمبادرة لم يستغرق إلا شهرًا واحدًا، ذلك الذي مضى بين المبادرة وبين اجتماعات مينا هاوس المشهورة التي، ويا للعَجب، دُعيت لحضورها منظمة التحرير كمُمثِّل وحيد شرعي للشعب الفلسطيني، مُعترَف به من قِبل إسرائيل وأمريكا بحكم قبولها توجيه الدعوة لها والجلوس مع وفدها الرسمي على مائدة مفاوضات واحدة، ودُعيت إليها سوريا، ولا أذكر إن كانت الأردن قد وُجهت إليها دعوة هي الأخرى.
شهر واحد فقط أو أكثر قليلًا بين تصوراتي المتفائلة تمامًا للمبادرة ونتيجتها، وبين خطبة «بن أليسار» مدير مكتب بيجن، خطبته الافتتاحية التي كشفت، ومنذ كلماته الأولى، وكما يغمر الضوء الباهر ليلًا بأكمله من الظلام، تلك الكلمات التي ذكر فيها أنه سعيد جدًّا بالحضور إلى القاهرة باعتبار أنها حقَّقت له شخصيًّا أمنية (وهي رؤية الأهرام التي كان دارجًا في أحاديث بيجن وتصريحات كثير من كتلة ليكود والأحزاب الدينية الأخرى، كان دارجًا قولهم إن أجدادهم اليهود هم الذين بنَوها؛ ولذلك فهي تُعتبر أثرًا للحضارة اليهودية القديمة يجب أن يُزار)، حقَّقت له هدفًا شخصيًّا، وحقَّقت للشعب الإسرائيلي حُلمًا باعتبار أننا جيران (أي مصر وإسرائيل أو اليهود) لأكثر من ثلاثة آلاف عام.
لم أسمع بقية خطابه؛ فقد توقَّفت عن السمع، بل وعن رؤيا ما تنقله كاميرات التليفزيون التي كنت أُتابع الاجتماع من خلالها.
توقَّفَت حواسي كلها كأنني أُصبت بضربةٍ مُباغِتة على أم رأسي.
فقد اكتشفت أن مبادرة القدس، وهذا الاجتماع المعقود بجوار الأهرام، وأن ما سوف ينتج عنه ويتلوه، ليست مبادرات مصرية في اتجاه الحق العربي أو حتى المصري، وإنما هي في الحقيقة مبادرات لمصلحة إسرائيل وحدها، هي مبادراتٌ إسرائيلية بدأت بها إسرائيل، وليس السادات، عصرًا جديدًا في صراعها مع العرب، ألا وهو عصر التوغُّل واللعب داخل المعسكر العربي ذاته.
وكان الاكتشاف من البشاعة بحيث إني وجدت أن حماسي للمبادرة — أنا الذي وهبت زهرة شبابي أُعادي الصهيونية التوسعية الإسرائيلية — يدل على خطورة العقول التي دبَّرتها ونفَّذتها، يدل على أننا استهنَّا كثيرًا بتفكير أعدائنا، وأننا كمجموعة أطفال يُحاربون أُناسًا جاءوا إلى الأرض — كما تقول أفلام الخرافات العلمية — من عوالم فلكية مُتقدمة.