ثغرة الدفرسوار
لقد زرت من عامَين المكان الذي عبَر منه الجيش الشاروني الإسرائيلي القناة من شرقها إلى غربها ليصنع ما سمَّاه السادات «الثغرة التليفزيونية»، وهالني الأمر تمامًا؛ فالقناة عند ذلك المكان الذي أُقيمَ فيه جسرٌ بَريٌّ مُسفلَت في ٢٤ ساعة فقط، ذلك المكان أوسع كثيرًا من عرض النيل الذي أُقيمَ عنده السدُّ العالي؛ ذلك السدُّ الذي استغرقت إقامته سنوات، كيف يتسنَّى لمجاميع قليلة من جيش مُتسلِّل محصور بين جيشنا الرهيب الثاني وجيشنا الثالث، كيف يتسنَّى لتلك المجاميع أن تسدَّ القناة الأعمق من نيل أسوان، والأعرض من مكان السد العالي، في ظرف أيام معدودة؟ إنها كذبةٌ كُبرى، إني أطلب وأُلحُّ أن تتشكَّل لجنةٌ عسكرية هندسية من الجيش المصري لتُقدِّر كمَّ العمل اللازم لإقامة طريق بَري مُسفلَت طوله كيلومتر على الأقل، وبقاعدة لا يمكن أن تقلَّ عن خمسين مترًا، وارتفاع لا يقلُّ ابتداءً من قاع القناة إلى مستوى الطريق المُسفلَت على ضفتها، ارتفاع لا يقلُّ بأي حال عن عمق القناة زائد عشرة أمتار بأقل تقدير من سطح الماء إلى سطح الأرض؛ أي حوالَي ثلاثين مترًا ارتفاعًا.
أما إذا لم يكن قد استجلبها، وأنها كانت طوال الوقت هناك، فإن هذه تكون قمة المأساة الضاحكة؛ إذ معناها أن شارون، أو الجيش الإسرائيلي، كان يعرف أن حرب ٧٣ كانت ستقوم، وأن الجيشَين المصريَّين الثاني والثالث سيَعبران القناة بنجاح، وأن الردَّ على هذا العبور يكون من خلال هذا السد.
لقد أطلتُ في تأمُّلي لحكاية الثغرة، أو بالأدق لحكاية عمل الجسر البرِّي عبر القناة؛ لأنني لست عسكريًّا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى لأن أي زائر للمكان وأي عابر سبيل وأي صبي في مدرسة ثانوية يرى منطقة الدفرسوار، ويتصوَّر إقامة سد عليها طوله كيلومتر في ظرف ٤٨ ساعة، لن يتمالك نفسه، وسيُقسِم بأغلظ الأيمان إن هذا مُستحيل تمامًا، وإن ثَمة مؤامرةً كبرى — مؤامرة ضد الجيش وانتصاره تمهيدًا لفرض الاستسلام عليه — وراء سد الدفرسوار، إن كنَّا لا نعرف عنها الكثير اليوم، فسنعرف وحتمًا كل شيء غدًا.
أقول أطلتُ لأن سد الدفرسوار يُشكِّل بالنسبة لعلامات الاستفهام التي طرحتها مُتسائلًا أو مُراجعًا للأحداث التي دارت في منطقتنا منذ سبتمبر ١٩٧٠م إلى الآن، يُشكِّل دليلًا من الممكن أن تراه (أي العين) دليل إثبات واضح لا يمكن دحضه، يُشكِّل شيئًا كجسد الجريمة في لغة القانون، وهو هناك قائمٌ وموجود، وباستطاعتك أنت نفسك، لو شئت، أن تراه، وأن تبني حكمك دون أي حاجة لإعمال ذكاء كثير.
أما أن تكون الحسابات التي أوردتها هنا لحجم العمل في الثغرة والوقت الذي أُقيمت فيه ليست هي بالضبط التواريخ أو مكعبات الأمتار المضبوطة، فلا يمكن للتجاوز في بضعة أمتار أو ساعات أن يُقلل من حجم العمل الضخم الذي تم في وقت قصير لا يمكن أن يُصدَّق.
بل إن السيد حافظ إسماعيل قد ذكر أن حدوث الثغرة كان مسألةً معروفة سلفًا لقُوَّاد الجيش المصري، وأن اللواء ٢٥ المدرع قد دُرِّب على إبادة أي رأس جسر يضعه الإسرائيليون تمهيدًا لعبور القناة من الشرق إلى الغرب، وأن هذا اللواء المدرع نفسه قد أدَّى مناورات وصلت إلى أن تكون بالذخيرة الحيَّة، ودُرِّبت تمامًا على عملية تصفية أي جسر للثغرة. ولكن التآمر واضح في أن هذه الفِرقة نفسها المفروض أن تُدافِع عن الجانب الغربي للقناة، والمفروض أن تُشكِّل الاحتياطي الاستراتيجي للدفاع عن الأرض المصرية الأم نفسها في حالة وقوع هجوم مُضاد، قد أمرها السادات بالعبور شرقًا. وحين بدأ الإسرائيليون في عمل رأس جسر طلبَ الفريق الشاذلي من السادات إعادة الفِرقة لتؤدِّي واجبها المقدس في إبادة الثغرة، ولكن السادات اعتذر بأنه يريد معاونة سوريا، ورفض عودة الفرقة؛ فكانت النتيجة أن الدبَّابات الأربع أو الست الأولى التي عبرت أصبحت بعد ٤٨ ساعة فقط أربعمائة دبَّابة، وأيضًا دون أن يُوافق السادات على عودة الفِرقة للتصدي للهجمة على الأرض المصرية الأم. وكانت النتيجة ما هو معروف من انتشار الثغرة «التليفزيونية من فضلك» جنوبًا حتى مدينة السويس، وحصار الجيش الثالث تمامًا وشله ومنع المؤن والذخيرة والماء عن أخطر جيوش مصر وحصاره في سيناء، بينما العدو يحتل منطقة القناة بأسرها، لولا إيقاف القتال.
والمسألة لا تزال محل تساؤل كبير، وها أنا ذا في المقالات «البحث عن السادات» أُطالب جيشنا المصري البطل بتكوين لجنة تقصِّي حقائق منه حول الثغرة، وكيف حدثت، وكم العمل اللازم لإقامتها، وكيف أقيمت، وكيف تمَّت ونجحت؟