اختلافي مع السفير
لقد كانت علائقي ولائية مع السفير إلى اليوم الذي وصل فيه إمبراطور ألمانيا إلى حيفا في زيارته الشهيرة. عدت مساء ذات يوم إلى دار القنصلية، فوجدت تحريرًا من السفارة. ولما فتحته وجدت فيه ما يلي: «بناءً على أمر من الباب العالي يجب الانتباه كثيرًا في التعليم على أوراق هوية الأشخاص الذين يقصدون فلسطين مدة سياحة إمبراطور ألمانيا، وأن المسئولية تقع على هامتي إذا حدث ما يعكِّر صفاء راحة الإمبراطور في تلك الرحلة من شخص أعطى أوراق هوية أو علم عليها من قنصليتي.»
عندما عدت في هذه الساعة إلى دار القنصلية؛ وجدت رسالة دولتكم المؤرخة في … نمرو … وبها تبلغونني … وكما لا يغرب عن بصيرتكم أن الأنباء البرقية قد حملت على أجنحتها اليوم خبر وصول جلالة إمبراطور ألمانيا إلى حيفا، وبما أن بلاغكم الذي تلقون به المسئولية على عاتقي، إذا حدث ما يُكدِّر صفاء راحة الإمبراطور، لم يصلني إلا اليوم؛ على الرغم من أن تاريخه منذ عشرين يومًا، فلهذا لا أستطيع قبول تلك المسئولية، وإنني أعيد رسالة دولتكم طيه بكل احترام.
ولا ريب أن حضرة السفير قد استاء استياءً شديدًا من تحريري هذا، وعلى الأخص لإعادتي له رسالته المرسلة لي، وأعترف الآن بخطئي، وأنني قد تجاوزت الحد بإعادتي ذلك التحرير، ولكن هو نزق الشبيبة، وقد كانت يومئذ عادة السفراء والوزراء عدم احترام المأمورين الذين هم تحت أوامرهم، وهذا هو السبب الذي جعلني دائمًا على اختلاف مع رؤسائي؛ لتمردي على تلك العادة الجائرة.
وكنت أتحين الفرص لإعادة مياه العلائق الولائية التي كانت بيني وبين السفير إلى مجاريها؛ نظرًا للاحترام الشديد الذي كان له في قلبي، ولكن لسوء الحظ باغتتنا الإرادة السنية صباح أحد الأيام بعزله، وتعيين منير باشا سفيرنا في باريس يومئذ مكانه كما قلت سابقًا.
ولما كان لا يوجد في سفارتنا بالبلجيك سوى باشكاتب، وهو مفيد بك الذي أشرت إليه سابقًا؛ فقد أصبح هو متولي السفارة. وفي أحد الأيام كتب إليَّ منير باشا يطلب منه كي يرسل له رسالة السلطان الذي يستدعي بها قره تيودوري ويعيِّنه بديلًا عنه، ويتعهد له بتقديم تلك الرسالة إلى الحكومة البلجيكية. ولما وصلته امتطى عربته وسار ميممًا وزارة الخارجية. وعندما حظي بمقابلة الوزير باغته قائلًا: إنني مكلفٌ بتقديم تحرير متبوعي الأعظم باستدعاء قره تيودوري أفندي، وتعيين منير باشا سفيرًا بديلًا عنه.
فأجابه الوزير: لا أستطيع قبول ذلك التحرير إلا برخصة من جلالة مليكي.
فقال له مفيد بك: إذن ترفضه؟ فأجابه: كلا لا أرفضه. ودامت هذه المحاورة هنيهة عاد مفيد بك على أثرها بخفَّي حنين. فدخل مكتبي في القنصلية وهو يرتجف غيظًا وحنقًا وقال: أرجو مساعدتك في إرسال برقية إلى الأستانة لقطع العلائق مع البلجيك؛ لأن وزيرها رفض قبول تحرير السلطان، الأمر الذي أعدَّه إهانةً عظيمةً لا يمكن الإغضاء عنها.
ولما رأيته على هذه الحالة من الغضب، وجدت من الحكمة عدم معارضته وانتقاد صنيعه؛ إذ بذلك يزداد غيظًا وحنقًا وتسوء الحالة، بل الأفضل الانتظار إلى أن يخبو ضرام غيظه ويثوب إلى حلمه. فقلت له: اجلس أمامي، واكتب أولًا البرقية قبل ترقيمها، فأخذ قلمًا وشرع يكتبها بالفرنسية. فقلت له: أرى من المناسب كتابتها بالتركية — وكان قصدي من كتابتها بالتركية إطالة الوقت؛ لأن ترقيمها يحتاج وقتًا أطول منه بالفرنسية — فلما أتمها سألته إعادة النظر فيها وتحوير بعض عباراتها. وعندما فرغ منها قلت له: إنني أفضِّل الكتابة فأملئ عليَّ.
فوضع الشفرة أمامه وشرع يملي عليَّ وأنا أكتب ما أشاء؛ فإذا قال مثلًا: ٤٥٦٨ أكتب ٤٥٦٧. وبما أن لكل كلمة أربعة أرقام، يتعذَّر والحالة هذه فهم المراد، إذا وقع خطأ في رقم ما. وكنت أكتب بعد كل كلمتين عكس ما يقول. وبعد مضي ساعة على ترقيم البرقية، قلت له: أظن مناسبًا إعادة حل الأرقام خوفًا من وقوع خطأ فيها، فيتعذر عندئذ فهم المقصود. ولما كنت قد كتبت كثيرًا من الأرقام مغلوطة، فلم يفهم منها شيء مطلقًا. فابتدأ يعاتبني، فقلت له: إن الخطأ لم يصدر مني بل منك؛ لأن الانفعال كان آخذًا منك مأخذه. والأفضل أن نرتاح قليلًا، ونشرب فنجانًا من القهوة؛ فقبل.
ولما رأيته قد عادت إليه سكينته وهدوءه، قلت له: هل تسمح أن أكلمك بصراحة وإخلاص؟
– نعم وإني أرغب في ذلك رغبةً شديدة.
فقلت: قبل كل شيء أرجو أن تتخلى قليلًا عن طبعك الأرناءوطي وأنك متولي السفارة، وهيَّا بنا نبحث في القضية بكل إخلاص. قل لي يا رعاك الله: ألا تعتقد أن حكومتنا أساءت فعلًا بصنيعها ومخالفتها القاعدة المتبعة، إذ سحبت سفيرها وعيَّنت بديلًا عنه دون إخبار حكومة البلجيك بذلك؟
فأجاب: بلى أعتقد أنها مخطئة.
قلت: هل تظن أن حكومتنا كانت تتجاسر أن تسير مع دولة كبيرة كفرنسا أو روسيا أو إنكلترا مثلًا سيرها مع البلجيك؟
فلم ينطق ببنت شفة. فقلت له: أرجوك أن تجيب على سؤالي بكل صراحة. فقال: لا أظن.
فسألته: ألا تعتقد أن حكومتنا فعلت مع البلجيك ما فعلت استصغارًا لشأنها؛ لأنها دولة صغيرة لا حول لها ولا طول؟ وهبك أنك أنت وزير خارجية البلجيك؛ ألا تفعل نظير ما فعل؟ وعليه فطالما نحن على ثقةٍ وطيدة أن حكومتنا هي المخطئة؛ فهل ترى من الشرف أن نزيد الطين بلة ونطلب قطع العلائق السياسية، عوضًا من أن نسعى لإطفاء تلك الجذوة قبل تسعرها وامتداد لهيبها؟ ثم إذا قطعنا العلائق مع البلجيك فسيعرف أهل الأرض طرًّا السبب الذي أدى إلى قطعها، وستكون النتيجة من غير بد تأليب الرأي العام علينا لمخالفتنا القاعدة المتبعة. وبعدئذ يبحثون في الأستانة عمن سبَّب قطع هذه العلائق ويلقون المسئولية عليك وحدك، فتكون بعملك هذا كالباحث عن حتفه بظلفه.
وبما أن مفيد بك كان شريف المبدأ حر الوجدان، فقد أذعن للحق لكنه قال لي: ولماذا لم تقل لي كل هذا حين وصولي، بل أشغلتني ساعتين عبثًا؟ فأجبته ضاحكًا: لأنك عندما دخلت عليَّ كان الغضب آخذًا منك كل مأخذ، فلو عارضتك ساعتئذ لتصلبت برأيك وزاد غضبك زيادة عظيمة، فعوَّلت على إطالة الوقت كي يهدأ روعك، ثقةً منِّي أنك ستذعن للحق.
قال: ولكن كيف تمكن ملافاة الأمر؟
فأجبته: دعني أذهب إلى وزارة الخارجية؛ إذ تعلم أن لي دالة لديها.
أما قصة الدالة التي كانت لي عند الحكومة البلجيكية فهي:
في أحد الأيام أخبرني سكرتير وزارة العدلية، أن الوزير يرغب في مفاوضتي بأمر يتعلق بأشغال القنصلية، فقلت له: سأكون في الوزارة بعد قفل أبواب قونشليريتي.
وعندما أنهيت مهام أعمالي توجهت إلى الوزارة ماشيًا. ولما وصلتها ألفيت الجند مطوقًا قصر الوزارات من جراء اعتصاب كبير، وخوفًا من دخول المعتصبين الوزارات. فواصلت سيري راغبًا في الدخول مخترقًا الجند، فأسرع إليَّ أحد الضباط، وقال: ممنوع المرور. فقلت له: اسمح لي أولًا أن أعرفك بنفسي. فأجابني حانقًا: لا يهمني من تكون. فحاولت أن أخرج من جيبي بطاقة الزيارة. فازداد حنقًا وصاح بي: إن لم ترجع يا هذا على عقبيك؛ فإني ألقي القبض عليك حالًا. وتقدم نحوي غاضبًا وقد تشنجت أعصابه. فشممت رائحة الخمرة تنبعث منه، وأدركت حينئذ أنه ثمل.
وقد شئت بادئ بدءَة أن يلقي القبض عليَّ، ويزجني في السجن لتكون عقوبته شديدة؛ لقاء ما يرتكبه، إلا أنني أدركت بعدئذٍ حرج مركز الحكومة أمام الرأي العام، ولا سيما أمام الاشتراكيين الذين سيسلقون الجيش بألسنة حداد؛ لتكليفه ضباطًا سكيرين بالمحافظة على النظام، وأن وزير الخارجية سيضطر إلى الذهاب ببزته الرسمية في اليوم التالي للاعتذار من سفيرنا. فعدت إلى القنصلية وكلمت بالتليفون سكرتير وزارة العدل، وأخبرته بما توقع. فعظم عنده الخبر وقال لي: أرجو أن تنتظرني؛ لأنني قادمٌ إليك بعربة الوزير لأحضرك معي. وهكذا كان.
ولما دخلت مكتب الوزير خف لاستقبالي ووضع يدي بيده شاكرًا ممتنًا لتداركي وقوع تلك الفضيحة، وقال لي: إن الحكومة تحسبني، لصنيعي هذا، صديقًا مخلصًا لها أغار على شرفها وأحافظ على كرامتها.
وهكذا كانت لي بعد ذلك الحادث الطفيف دالة عظيمة عند الحكومة.
أذكر مرة أن أربعة من الطلبة العثمانيين الأولى كانوا يتلقنون دروسهم في مدرسة الزراعة في جامبلو، رسبوا في فحصهم السنوي فجاءوا إليَّ يشكون ما سيلحق بهم من الخسائر المادية إذا كانوا سيعيدون سنتهم المدرسية، ويرجونني كي أسترحم لهم مدير المدرسة ليسمح لهم بتقديم فحصهم مرة أخرى في آخر العطلة الصيفية. فأخذتني الشفقة عليهم وذهبت إلى وزارة الخارجية، ورجوت الوزير كي يتوسط بالأمر لدى وزير الزراعة. وعلى الرغم مما كان بذلك من الصعوبة فقد تسنى لي الحصول على طلبي، ومساعدة أولئك الدارسين.
وعندما أوشك معرض لياج الدولي يقفل أبوابه، طلبت حكومة البلجيك من بقية الحكومات أن تعيِّن ممثلين عنها لتأليف مجلس «الجوري» ليعطي جوائز على عارضي بضائعهم ومنتوجاتهم، فعينت فرنسا اثنين من وزرائها القدماء. وأعلمت وزارة البلجيك متولي سفارتنا أنها لا تقبل ممثلًا للدولة العثمانية سواي. فتعينت ممثلًا عنها، ثم أُسند إليَّ تمثيل حكومات اليونان والعجم ومراكش فكان لي أربعة أصوات. وحدث في الاجتماع الأول أنني عندما دخلت قاعة الاجتماع وجدت أنهم وضعوا ممثل بلغاريا فوقي. فقلت في نفسي: إذا رفضت الجلوس بجانبه واعترضت على هذا الصنيع، حدث تشويش في الجلسة ونشزت معضلة أخرى، فتظاهرت حالًا أنني نسيت أمرًا مهمًّا، وخرجت للإتيان به. ولما ختمت الجلسة انطلقت نحو وزير الأشغال العمومية الذي كان رئيس اجتماعاتنا. فسألني عن سبب تغيبي عن حضور الجلسة الافتتاحية، فقلت له: يا حضرة الوزير، لقد نسي مرتب المقاعد أن بلغاريا هي تابعة لتركيا سياسيًّا، ولهذا لم أشأ أن أحدث تشويشًا ومعضلة باحتجاجي، فآثرت الخروج متذرعًا بنسيان حاجة. وقصدت إخباركم بالواقع كي تتدبروا الأمر كما ترونه موافقًا. فشكرني شكرًا جزيلًا على صنيعي هذا. ووجدت في الجلسة الثانية أن مقعدي كان بالقرب من ممثل إنكلترا. ولا ريب أن هذا الوزير قد أخبر زميله وزير الخارجية بعملي.
وعندما انتهى المعرض أنعم عليَّ ملك البلجيك بوسام ليوبولد من درجة أوفسيه. وعلقه على صدري البرنس أكبر الذي تسنم بعدئذٍ العرش، وتوفي في الآونة الأخيرة كما هو معلومٌ.
وقد قصدت من سرد هاتين الحادثتين أن أبيِّن كيف أنه من السهل على ممثل إحدى الدول، تمكين عُرَى الولاء بين دولته والدولة التي يقوم بمهام وظيفته فيها، إذا أخلص النية وكان صادقًا صريحًا. وهكذا لمَّا أراد صديقي وزميلي متولي سفارتنا، قطع العلائق السياسية بين دولتنا والبلجيك للأسباب الآنفة الذكر؛ عملت جهدي للحيلولة دون هذا القطع؛ لأننا كنا نحن الملومين. ونظرًا للدالة التي لي على الحكومة البلجيكية؛ فقد كنت على ثقة أننا سنتوصل إلى إيجاد حل مُرضٍ لذلك الخلاف. فلما وصلت قصر الوزارة هرول السكرتير لمقابلتي قائلًا: هل تدري ما فعل زميلك متولي السفارة؟ فأجبته: هو عندي الآن في القنصلية وقد جاءها إثر خروجه من لدن الوزير وأطلعني على ما جرى. ثم أخبرته بكل ما حدث. فتنهد قائلًا: يا لك من صديق مخلص نزيه! وحبذا لو احتذى حذوك كل ممثلي الدول. والآن كيف العمل لتلافي عاقبة تلك السياسة الهوجاء؟
فقلت: إن قطع العلائق السياسية تضر بمصالحكم ضررًا فاحشًا دون أن تؤثر بنا؛ إذ كما لا يخفى عليكم أن لا يوجد تاجر عثماني عندكم سوى ذلك الأرمني بائع السجادات.
قال: إني أعرف ذلك جيدًا، ولكن كيف العمل؟
فأجبت: ماذا تقول إذا كان متولِّي سفارتنا يحرر إلى الوزير أنه مكلف بتقديم أوراق اعتماد سفيرنا الجديد. فقاطعني قائلًا: ولكن الوزارة لا تستطيع مجاوبته. قلت: لا أظن أن جواب الوزارة ضروريٌّ.
فسألني: وهل تظن أن متولي السفارة يكتفي بذلك؟
فأجبته: أظنه يكتفي، ومن السهل تحقيق ذلك إذا كنت تسمح لي بمكالمته بالتلفون. فقدم لي التلفون وخرج من مكتبه كياسةً وأدبًا.
فكلمت مفيد بك وألححت عليه بقبول ذلك الحل السلمي، فقبل. ولما أخبرت السكرتير بذلك دخل حالًا على الوزير وعرض عليه جميع ما توقع. فوافق على ما ارتأيت. وهكذا حلت تلك المعضلة وطُوِي أمرها. إلا أن المشادة بين السلطان وملك البلجيك بقيت حتى إعلان الدستور العثماني؛ إذ استقال منير باشا من سفارتي باريس والبلجيك، واستقلت أنا أيضًا من القنصلية بعد أن توليتها طيلة عشر سنوات، أعدها أحسن أيام حياتي وأهنأَها.