خطة سياسية حربية بين اليابان والدولة العثمانية لسحق روسيا
أسعدني الطالع في أثناء وجودي في بروكسل عاصمة البلجيك، بمصادقة البارون موتونو، سفير اليابان في ذلك العهد، وقد توسمت فيه الذكاء والحنكة السياسية وبُعد النظر، ولو كان أوروبيًّا لكان من أكبر الساسة وأعظم الرجال. بيد أن إقامته في البلجيك لم تطل إذ رقي إلى رتبة سفير في بطرسبورج أهم سفارة لليابان على الرغم من كونه أصغر السفراء اليابانيين سنًّا، ثم عُين وزيرًا للخارجية في طوكيو. وقد شرفني ذلك السياسي الحاذق بصداقته، وكان يُكثر زياراته الولائية لي في القنصلية ومنها نخرج للنزهة سيرًا على الأقدام.
ذرَّ قرنُ الحرب الروسية اليابانية، ودمرت اليابان أسطول روسيا الضخم في خلال ثلاث ساعات، واستولت على ميناء «بورارثور» بعد حصار طويل شديد، وأحرزت الفوز الباهر على عدوتها برًّا بعد معركة موكدن الشهيرة. فلما ذاع نبأ ذلك الظفر توجهت إلى سفارة اليابان، ولما دخلت على البارون موتونو، قلت له: لا يجوز لي تهنئتك بالفوز رسميًّا؛ لأن الدولة العثمانية على الحياد، إلا أنني أقدم لك خالص تهانئي بصفتي الشخصية مثنيًا ثناءً عاطرًا على شجاعة جنودكم وحنكة قوادكم.
فقبض على يدي شاكرًا ثم دعاني إلى الجلوس، وأمر بإحضار الشاي وأوصى الخادم بأن يخبر كل زائر يسأل عنه أنه متغيبٌ عن السفارة. شرعنا نتجاذب أطراف الأحاديث بمواضيع شتى، وأخيرًا قال لي: آسف، إنكم أنتم العثمانيين لا تغتنمون هذه السانحة، سانحة انهماك روسيا، أعدى عدوة لكم، بمحاربتنا وإرسالها معظم جيوشها لمناوأتنا؛ فتهجمون على الولايات الآسيوية التي سلختها عن أملاككم في حربها الأخيرة معكم، وتحتلون باطوم الغنية بالمناجم البترولية. وإنني أؤكد لكم أنكم إذا فعلتم ما أقول فستحتذي بولونيا حذوكم، ثم تتشبه بها فينلاندا في الشمال. وينجم عن ذلك تسعُّر نيران الثورة الأهلية في بطرسبرج، ويسقط ذلك التمثال العظيم (كولوس) سقوطًا هائلًا لا قيام بعده.
فلما سمعت ذلك الكلام أشرق أمامي نورٌ جديد، واستصوبت تلك الخطة الرائعة. وبعد هنيهة قلت: ولكن لا يخفى عليكم، يا حضرة السفير، أنه إذا هاجمنا روسيا تهاجمنا فرنسا؛ لأنها حليفة لها. فأجاب: لا، إن فرنسا لا تبدي حراكًا أولًا، خوفًا من ألمانيا، وثانيًا خوفًا من إنكلترا حليفتنا. فقلت: هل تظن أن حكومتكم تعقد معنا معاهدة؟ إنها لا تعقد مع روسيا سلمًا على حدة إلا بالاتفاق معنا إذا أعلنا الحرب على روسيا؟
فأجاب: لا أستطيع الجزم بذلك والتعهد به، قبل مخابرة حكومتي، إلا أنني أؤكد لك أن ذلك ليس من المستحيلات، ثم أضاف إلى ما تقدم قوله: آسف أنه لا يوجد لنا سفير في الأستانة، ولكن يمكن المخابرة مع سفيرنا بلندن بواسطة سفيركم فيها، وأكرر لك القول: إنه من المؤسف أن تضيعوا هذه الفرصة التي هيهات أن يسمح بها الدهر لكم مرة أخرى.
فقلت: لو كان بيدي حيلة لما تأخرت دقيقة واحدة عن العمل بموجب هذه الخطة المدهشة المصيبة، إنما أخشى أن جلالة السلطان لا يرضى بها؛ لأنه محب للسلم إلى درجة متناهية.
فقاطعني قائلًا: وحربكم مع اليونان؟
فأجبته: لقد أرغمه الجيش على خوض غمارها، إذ جل اعتماده في سياسته على الجيش.
فقال: اجتهدوا إذن بأن يعيد الجيش حملته عليه مرة أخرى مذكرًا إياه بأن قيصر روسيا بمداخلته، قد حال دون دخوله أثينا ظافرًا فائزًا.
فكررت أمامه القول: إنه من الأسف عدم اغتنام تلك الفرصة التي يندر أن يجود الزمان بمثلها.
وبعد أن لبثنا برهةً نتحادث بهذا الموضوع الخطير، أُبْتُ إلي منزلي معجبًا بتلك الخطة الصائبة. ولم أشأ أن أبلغ تلك الخطة إلا إلى السلطان نفسه دون وساطة أحد. وكان يومئذٍ وطنينا المرحوم نجيب باشا ملحمه حائزًا على ثقة عبد الحميد، فحررت له تحريرًا خاصًّا مع تقرير ضافٍ، وقلت له إنني أخشى أن بعضًا من ذوي الدسائس عديمي الوطنية يقدم إلى السلطان تقارير تسفه تلك الخطة لكونها مقدمة منكم؛ إذ لا همَّ لهؤلاء الدساسين الخونة إلا التشفي والانتقام. وعليه فالأفضل مفاتحة المشير أدهم باشا بالأمر (كان قائد الجيوش العثمانية في حرب اليونان)؛ لأن نفوذ الجيش أعظم من كيد الكائدين ومفاسد المفسدين. وختمت تحريري قائلًا: إذا تمكنت من إقناع السلطان باغتنام هذه السانحة؛ فسيخلد تاريخنا اسمك محاطًا بالشرف والوطنية.
مضت الأيام وتلتها الأسابيع والشهور، وانتهت الحرب الروسية اليابانية دون أن نبدي حركة أو أسمع على الأقل شيئًا عن تلك الخطة الصائبة. وبعد مدة اجتمعت بنجيب باشا فسألته عن مآل تقريري فقال لي: لقد أفسدوا عليَّ العمل، ووشوا بي إلى جلالة السلطان.
وبعد سنة من انتهاء تلك الحرب، كان جزاء روسيا لنا، لالتزامنا جانب الحياد الإهانة التالية:
مقتل قنصل روسيا في مناستير
إن مقتل قنصل روسيا في مناستير، ليس بحادثٍ خطير مفجع، ولا هو بناجم عن ثورة إسلامية على ممثل دولة مسيحية. ومن يطلع على ماجريات السياسة الروسية في تركيا؛ يدرك حالًا مغبتها وأخطارها.
لقد دققت كثيرًا في استقاء الأخبار من ثلاثة مصادر ثقة، وقد أجمعت على أن ما أكتبه بهذا الشأن لم ينشره أحد حتى الآن، ولا يتجاسر كاتب على نشره.
إن المسيو روسكوفسكي قنصل روسيا في مناستير يشغل مركزًا خاصًّا. وبما أنه غنيٌّ وذو نفوذ فقد أراد أن يدير أشغال قنصليته، ومهام الولاية معًا. وهذه العادة جرى عليها ممثلو روسيا في تركيا، وتعودها الولاة الأتراك وصاروا يتحملون بصبر ليس فقط ما يقوم به القناصل من مخالفات وظائفهم؛ بل ما يقوم به أيضًا القونشليرية. وعليه فقد كان للموسيو روسكوفسكي نفوذٌ خاص عند الوالي. بيد أنه لم يكتفِ بذلك، بل شاء توسيع نطاق نفوذه وإيصاله إلى الشعب، راغبًا في أن يكون زعيمًا له، ولكن ليس بصفة رسمية سياسية. وكان المحور الذي تدور عليه سياسته؛ تهييج الأرثوذكسية على الإسلامية.
والموسيو روسكوفسكي لم يتكلم بإظهار عطفه على الثوار البلغاريين، فإن كل سكان مناستير يعلمون أنه كان يحضر اجتماعات الثوار السرية، وكانوا يأتون إلى القنصلية جهارًا دون خشية، الأمر الذي أساء هيئة القناصل في تلك المدينة.
وحدث في الثالث من شهر آب، بينا كان ذلك القنصل ممتطيًا عربته مع معلم أولاده البلغاري مينريلوف، مجتازًا طريق المحطة؛ وجد أحد الجندرمة جالسًا على كرسي وبندقيته على ركبته يلاحظ المارة بهدوء. ولما مر القنصل من أمامه ولم يكن القواس جالسًا بجانب الحوذي، لم يعرف ذلك الجندرمة، ولم يحيِّه التحية الرسمية، فأوقف القنصل عربته ونزل منها، فلم يحفل له الجندي، فما كان من القنصل إلا أن تناول سوط العربة، وشرع يضرب به الجندي ضربًا مبرحًا على وجهه وظهره. فنهض الجندي وتناول بندقيته وحشاها برصاصة واحدة. فطلب القنصل من مينريلوف مسدسًا فناوله إياه، ولما أطلقه على الجندي أخطأه. فأطلق عندئذ الجندي بندقيته على القنصل فلم يصبه؛ لأنه كان محتميًا بشجرة ضخمة، ثم عاد الجندي وحَشَا بندقيته مرة ثانية، وأطلقها على القنصل، فسقط يتخبط بدمائه.
فأرسلت سفارة روسيا لجنة من لدنها للتحقيق بالقضية، فقررت أن القنصل لم يكن معه سوط، ولكنها لم تذكر أن السوط كان للحوذي، وأنه لم يكن معه مسدس دون أن تشير إلى أن معلم أولاده هو الذي سلَّمه ذلك المسدس.
وعلى الرغم من أن الحادثة وقعت كما ذكرت ويعرفها أهل مناستير كبارها وصغارها، فقد أسرع السلطان وعزل الوالي علي رضا باشا وقاصَّ الجندرمة الذي كان متغيبًا عن مناستير يوم وقوع الحادثة، وأمر بسجن الجندرمة الذي كان مدافعًا عن نفسه. وغادر أسطول روسيا إثر هذه الحادثة مرفأه في سيباستوبول ميممًا البسفور فهلع السلطان هلعًا عظيمًا. وأبى سفير روسيا إلا إعدام الجندرمة فأُعدم وذهب ضحية قيامه بالواجب.
لا حاجة إلى القول إن وقع هذه الحادثة علينا كان وقعًا سيئًا جدًّا، ولا سيما لأن الرأي العام لم يكن قد نسي بعدُ قضية دين لورندو وتوبيني. وفي مساء اليوم ذاته الذي أذاعت الأسلاك البرقية فيه نبأ إعدام ذلك الجندرمة، كنت أتعشى مع مفيد بك الأرناءوطي الجنس والجنرال توفيق باشا والملحق العسكري، فلما اطلعنا على ذلك النبأ المشين انقطعنا عن الطعام وبدت أمائر الغضب الشديد على محيا مفيد بك، وترك الجنرال توفيق باشا المائدة دون أن ينبس ببنت شفة غيظًا وحنقًا، وسمعته هو خارج يقول بصوت منخفض: «قد طفح الكيل.»
واجتمعنا في اليوم التالي عندي في القنصلية للبحث في القضية، إذ كنت في مأمن من المراقبة والتجسس؛ لأنه لم يكن في القنصلية، عدا ساعات الشغل، سوى خادمة عجوز فلمنكيَّة الجنس على جانب عظيم من البساطة، لا تفهم شيئًا من السياسة وغيرها، سوى القيام بما يُطلب منها من الخدمة، لهذا كنَّا بمأمن من المراقبة. وبعد الأخذ والعطاء قررنا بادئ بدء؛ انتقامًا للعار الذي لحق بالعثمانية، أن نهين سفير روسيا علنًا أين وجدناه، ولو في بلاط الملك. وفيما نحن نتباحث، دخلت علينا الخادمة، تعلن زيارة صديقي البارون موتونو سفير اليابان، فلما جلس قال إنه جاء يزورني مؤاساةً لنا على ما ألحقته بنا روسيا من المعرَّة والإهانة، فأخبرته بما عزمنا عليه. فقال: إذا سمحتم لي بإبداء رأيي الخاص كصديقٍ مخلص لكم؛ فإني أرى الأنسب ألا تفعلوا ما صممتم عليه، إذ بذلك تعرضون حكومتكم إلى عار أكبر؛ لأن روسيا ستطلب بعدئذ من غير بُدٍّ أمرًا ثقيلًا عليكم؛ تعويضًا على إهانة سفيرها، فلا تزيدوا الطين بلة، وتحملوا دولتكم بصنيعكم معرَّة أعظم من التي احتملتها.
إن الرأي العام عالم أن ما فرضته روسيا على حكومتكم هو على غاية من العنف والاعتداد. وبعد أن صمت هنيهة قال: لقد أضعتم الفرصة الوحيدة التي سنحت لكم، ولم تغتنموها للتملص من نير روسيا الثقيل، وهيهات أن يأتي الزمان بمثلها (أشار بكلامه إلى الخطة الحربية التي نوهت عنها في الفصل الفائت).
ويجدر بي أن أقول تعليقًا على ما تقدم: إن الثورة على عبد الحميد اندلعت ألسنتها من مناستير، وظهور أنور بك ونيازي بك الشهيرين كانا من مناستير نفسها، وسأذكر تفصيل ذلك في مذكراتي عن تركيا الفتاة.
قصة مهاجر
لم ينصرم أسبوعان على وصولي «بروكسل» إلا وصلني تحرير من وزارة عدلية البلجيك فحواه: أن يوجد رجل في مستشفى كذا، وجد في محطة انفرس، وبما أن ليس لديه أوراق تُثبت هويته؛ فقد طاف به البوليس على قنصليات الدول الأجنبية كلها، وكلموه بجميع اللغات، فلم يُجِبْ على إحداها. وهذا الرجل المجهول نزل من القطار الآتي من هولندا، وجيء به إلى هنا، وحيث إنه مصابٌ بنوع من الخمول والخبل؛ فقد وُضع في المستشفى. أخبرنا سفيركم هنا أنكم تتكلمون اللغات الشرقية، وعليه نرجو أن تتكرموا بزيارة الرجل المذكور لعله يتسنى لكم معرفة جنسيته، وإفادتنا عنه، فنكون لكم من الشاكرين.
فذهبت في اليوم التالي إلى المستشفى المذكور، ولما شاهدت الرجل عرفته من هيئته أنه سوري، وأنه مصاب بطرف من الخبل؛ إذ كان ينسل أطراف ثيابه. فكلمته بالعربية قائلًا: من أين أنت؟
فحملق الرجل بي وقال بصوت خافت: إنه يعرف لغتي.
فأدركت من لهجته أنه من جهات حاصبيا، فقلت له: أنت من جهات حاصبيا.
فأجابني وأمائر الدهشة والعجب بادية عليه: إنك تعرف بلادي.
فهدَّأت روعه وطيبت خاطره، وجلست على مقربة منه أحدثه وأسأل عما ألمَّ به. فقال: أنا فلان بن فلان من العائلة الفلانية (وهي عائلة معروفة في الوطن) وقد رهنت بيتي والقطعة الوحيدة التي لي من الأراضي؛ للذهاب إلى نيويورك. وليبقى معي المال المفروض على كل مهاجر يرغب في الدخول إلى الولايات المتحدة، وفي غضون ركوبي القطار من مرسيليا إلى الهافر سُرقت مني القيمة المفروضة. فلم أشأ العدول عن السفر، بل ظللت مواصلًا إياه مكررًا القول: ربنا يفرجها. وعندما وصلت نيويورك لم يرضَ ربنا إفراجها إذ أركبت «بابورًا وأرجعوني إلى جوا»، فوصلت مدينة ملآنة «بوابير»، وهناك أنزلوني إلى اليابسة وتركوني. وكانت العربات والسيارات والتراموايات والحافلات تتزاحم حولي حتى «طاش راسي»، فاصطدمت بي عربة وداستني فحُملت إلى المستشفى، وبقيت فيه حتى شُفيت، ثم أركبت قطارًا آخر وأرسلوني إلى «جوا»، وصار لي على هذه الحالة ستة شهور، وهم يتقاذفونني من بلاد إلى بلاد، ومن ثغر إلى آخر.
فحررت جوابًا إلى وزارة العدلية أن الرجل سوري المسقط عثماني الجنس، وأن القنصلية ستهتم بتسفيره إلى بلاده. وأرسلت إلى قنصلنا في انفرس كي يسأل عن تاريخ سفر إحدى البواخر إلى الشرق لإرسال المهاجر إليه؛ ليهتم بإعادته إلى بلاده.
ولما كانت الجرائد المحلية قد تكلمت كثيرًا عن ذلك المهاجر المجهول؛ فقد بلغت وزارة العدلية الصحافة أن القنصل العثماني الجديد قد تمكَّن من معرفة هوية الرجل.
وبينا كنا ننتظر سفر الباخرة إلى الشرق؛ لنرسل فيها ذلك المهاجر وردني تحرير آخر من وزير العدلية البلجيكية مآله: إن جامعة المستشرقين المشهورة في ليدن ترغب في معرفة اللغة المكتوب فيها السطر الواصل طيه؛ لأنها لم تتمكن من معرفته. فلما اطَّلعت على السطر المذكور ضحكت كثيرًا؛ لأن الحروف التي كتب بها ذلك الرجل ليست حروف لغة، بل هي صور مختلفة، وبعضها يشبه الحروف السريانية أو العربية.
فحملت السطر وذهبت إلى المهاجر المذكور، وسألته أن يقصَّ عليَّ قصته فقال: كنت مريضًا في المستشفى، فجاءني بعضهم بكتاب كبيرٍ وشرع يقلب فيه صفحة صفحة، وأنا أميٌّ لا أعرف القراءة ولا الكتابة. ولما تملكتني السآمة أعطيت ورقًا وقلمًا «فخرطشت ما طلع ببالي»، حينئذ تركت وشأني، واسترحت من ثقالتهم.
فلم أتمالك من القهقهة عندما تفكرت باجتماع أولئك العلماء الجهابذة؛ لحل رموز اللغة الشرقية الجديدة التي خرطشها المهاجر المذكور، وقد عرفت الحكومة البلجيكية من هذا السطر أن الرجل كان في روتردام، وأن هولندا قد أركبته القطار وتخلصت منه بإرساله إلى البلجيك. قرب سفر الباخرة إلى الشرق، فقطعت «الباسبورت» للمهاجر، وكان قنصلنا في انفرس قد قطع له تذكرة السفر، وهيأت له كمية من الدراهم لنفقة الطريق. ولما ذهبت لأبلغه الخبر بقرب سفره حلت بي الدهشة عندما عاينته قد سقط على قدمي ضارعًا بألا أرجعه إلى بلاده؛ لأنه يخجل من العودة إليها، بل أهتم بإرساله إلى نيويورك.
فقلت له: يا هذا أما كفاك عذابًا وشقاءً طيلة سنة تقريبًا حتى تريد مرة أخرى المهاجرة؟
فأجاب: بل أوثر ذلك على العار. فعجبت من مجالدة الشرقيين ونشاطهم، وأفهمته أن لا يجوز لنا مساعدة أحد على المهاجرة، بل على إعادة المنكوبين إلى الوطن.
ولما أرسلت في اليوم الثاني أحد مستخدمي القنصلية لمرافقة المهاجر المذكور إلى انفرس وتسليمه إلى القنصل، عاد فأخبرني أن الحكومة البلجيكية تمانع بتسليمه، فعجبت وذهبت حالًا إلى وزارة العدلية لأعرف السبب، فعلمت أن الحكومة البلجيكية مستاءة من حكومة روتردام؛ إذ أرسلت ذلك المهاجر بالطريقة الآنفة الذكر تخلصًا منه، وأن البلجيك قد عولت على المقابلة بالمثل.
فاعترضت قائلًا: إذا كانت حكومة هولندا قد أساءت عمدًا إلى هذا الرجل؛ فلأنه لم يكن له قنصل يدافع عنه. أما الآن وقد ثبتت هويته وعُرفت جنسيته العثمانية؛ فإني لا أسمح به كي يُتقاذَف كالكرة. إلا أن ذلك لا يمنع الحكومة البلجيكية من الاعتراض على الحكومة الهولندية مع تسليم الرجل لإعادة إلى مسقط رأسه.
وبعد المخابرة مع وزارة الخارجية قررت الحكومة إجابة طلبي. وهكذا تسنى لي إعادة المهاجر المذكور إلى وطنه.