قنصليتي في الأرجنتين
لا أظن أنه توجد قنصلية في تاريخ الدول جرَّتْ على متوليها متاعب ومشاكل نظير قنصليتي في الأرجنتين. إلا أنها على الرغم من ذلك فقد امتازت عنها جميعًا بكونها كانت القنصلية الأولى والأخيرة للدولة العثمانية.
ويجدر قبل الاستفاضة بذكر الماجريات التي رافقت سير قنصلية الأرجنتين؛ أن أذكر الأسباب التي أهابت بي إلى طلب نقلي بإلحاح من قنصلية باريس العامة التي كانت تُعَد خيرًا من سفارة صغيرة، إلى قنصلية الأرجنتين وهي أقصى قنصلية كانت للدولة العثمانية.
عندما أحرز الظفر حزب تركيا الفتاة، وأعلن الدستور في شهر تموز سنة ١٩٠٨م، كنت متوليًا قنصلية جنرالية البلجيك منذ عشر سنوات. وإذ كنت من مجددي تأسيس حزب تركيا الفتاة في باريس بمعونة المواطن المرحوم خليل غانم — الذي كان عضوًا في مجلس المبعوثان على عهد عبد الحميد، والتجأ إلى باريس بعد إلغائه — وأحمد رضا بك الذي توفي مؤخرًا في الأستانة، كنت طبعًا مطلعًا على خفايا الأمور، وقد كان الاتفاق أنه بعد فوز الحزب على عبد الحميد يخلعه حالًا. فمضت الأيام وتلتها الشهور، ولم يخلع الحزب السلطان، بل اقتصر على سحب حامية قصر يلدز وإبدالها بحامية جديدة جاء بها من سالونيك بقيادة ضباط حزب الاتحاد والترقي، وقد توهم مديرو الحزب أنهم بهذا التبديل يكونون بمأمن من غدر السلطان، ولكن يا له من وهم خاطئ وغرور خاسر!
وعبثًا كنت أكتب لهذا الزعيم أو لذاك من البلجيك مؤكدًا ألا راحة للحزب، ولا سلام ما دام عبد الحميد متسنمًا العرش؛ إذ لم يكن لكلامي سميعًا، وكنت واثقًا أنه سيفعل بنا نظير ما فعل بمدحت باشا مؤسس حزب تركيا الفتاة، فإنه عندما شرط على عبد الحميد إعلان الدستور لقاء توليته العرش، قبل عبد الحميد بذلك وأعلن الدستور، إلا أنه لم يطل العهد حتى نفى مدحت باشا إلى الطائف في الحجاز؛ حيث أعدم بعدئذ خنقًا في إحدى الليالي وألغي الدستور، وأضحى كل من يتجاسر على لفظ كلمة دستور يعذب وينفى.
ولما وجدت أن عاد جميع الرفقاء من منفاهم، استقلت من قنصلية البلجيك وذهبت إلى الأستانة وكنت آخر من عاد، فوجدت الشعب لا يزال ثملًا من خمرة الظفر يطوف ليلًا ونهارًا حاملًا رسمي أنور بك ونيازي بك، ورافعًا رايات كتب عليها «يشاسون حريت»، أي فلتحي الحرية. وبعد أن تعارفت وزعماء الثورة كأنور وطلعت وجاهد وجاويد، ألفيت جلَّهم شبانًا تنقصهم السياسة والعلم. ولا أريد إطالة الشرح بهذا الموضوع؛ لأنه إذا سنحت لي الفرصة، فسأكتب تاريخ إعلان الدستور. وإنما يمكن الجزم أن تلك الثورة الدستورية لم تخلق الزعيم المطلوب شأن جميع الثورات، ولهذا لم يطل العهد حتى بدأت تظهر المنافسات والضغائن والأحقاد وسوء السياسة، فقد أغضب زعماء تركيا الفتاة اليونان التي كانت تابعة للدولة العثمانية؛ لأجل انتخاب عضو في مجلس بلدية الأستانة، وأغضبوا الأرمن من أجل مذابح أطنه، وأغضبوا العرب لإلغائهم اللغة العربية وإبدالها بالتركية.
ويليق بي بهذه المناسبة أن أشير إلى جدال عنيف وقع بيني وبين طلعت وجاهد بك ذات يوم بشأن هذا الإلغاء. وحاولت عبثًا إقناعهما أن من الخطل السياسي اتخاذ هذه الخطة مع العرب، وهم أكثر من نصف سكان المملكة العثمانية قاطبة، وقلت لهما إنه في البلجيك يوجد عنصران، الفلمنكي وله لغة خاصة به شبيهة بالألمانية، والوالوني وهو العنصر الإفرنسي ويتكلم بالفرنسية. والحكومة البلجيكية، إرضاءً للعنصرين، سمحت بكتابة جميع المعاملات الرسمية باللغتين الفلمنكية والفرنسية، وأضفت إلى قولي السابق، أن قرار ملك البلجيك بقبولي قنصلًا في بلاده، مكتوب باللغتين المذكورتين. وهكذا القول في سويسره التي سكانها مؤلفة من ثلاثة عناصر: الفرنسي والإيطالي والألماني؛ إذ لا يحق لدولة دستورية حرمان عنصر من العناصر المتألفة منها استعمال لغته الأصلية في معاملاته الرسمية.
ولما لم يقتنعا وظلا مصرَّين على رأيهما، قلت لهما: إن قرار الحزب يخالف الدستور أية مخالفة. فسألني طلعت بلهفة: وكيف ذلك؟ فأجبته: ألَا تنص المادة الثانية من الدستور على أن الديانة الرسمية للدولة هي الإسلام؟ فأجابني: بلى، تنص. فقلت: إن دعامة الإسلام هي القرآن الشريف، وهو قد أُنزل باللغة العربية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يفهم التركية.
فضحك طلعت وجاهد من هذه الحجة.
والخلاصة، لم تتصرم ستة شهور على إعلان الدستور حتى بدأ العداء يتجلى من كل حدبٍ وصوب. والذي أتى ثالثة الأثافي: انقسام الحزب على نفسه ومنافسة كل فئة الأخرى. وفي منتصف أحد الأيام قُتِل على الجسر الذي يوصل استانبول بغلطة، محرر جريدة «حريت» ولم يُعرف القاتل. وقد تفاقم الشر تفاقمًا عظيمًا حتى تأكد لديَّ أن لا بد من اندلاع ألسنة الثورة عاجلًا أو آجلًا، وأن الطاغية عبد الحميد واقف لنا بالمرصاد يتربص السانحة المناسبة للإيقاع بنا. فعولت عندئذ على الأوبة إلى باريس ومراقبة الماجريات منها. وكنت قد كتبت بكل تفصيل إلى صديقي مورتون فولورتون، مكاتب «التيمس» الثاني في باريس أطلعه على حقيقة الحالة. فأجابني: «إن ما عرفتني عنه قد أثَّر بي تأثيرًا شديدًا، وقد أطلعت عليه وزير خارجية فرنسا المسيو بيشون، فقال إن المعلومات التي تردنا من سفارتنا في الأستانة تؤيد ما يقوله صديقك الأمير، بيد أنها لا تشير إلى قرب اندلاع نيران الثورة.»
ولم يمض أسبوعان حتى انفجرت ثورة عبد الحميد علينا. وحدث في مساء اليوم الذي سلف الثورة أن دعاني ابن عمي الأمير مصطفى المرحوم محمد الذي انتخب مبعوثًا عن بيروت، وقد اختير رئيسًا للجنة وزارة الخارجية، لتناول طعام العشاء مع عادل بك والي الأستانة ومفيد بك مبعوث ألبانيا، وهذا، كما يذكر القراء، كان باشكاتب سفارتنا في البلجيك وصديقًا حميمًا لي. أما عادل بك فكان قبل سنتين قد ذهب إلى بروكسل لمعالجة والده فيها، فوافاه الحِمام. فقدمت للابن كل مساعدة وسهلت أمامه المعاملات اللازمة، وكان يومئذ رجلًا لا شأن له بالسياسة ولا ينضم إلى حزب من الأحزاب. أما والده فكان من أرباب الثورة في سالونيك، وقد اجتمعنا للعشاء في «صالون» خاص بجوكي كلوب. وقبل أن نجلس على المائدة قلت لمحمد: هل تعرف أنني مسافر في الباخرة الألمانية الذاهبة إلى مرسيليا، ومنها سأنطلق إلى باريس؟ فقهقه محمد وقال إلى عادل ومفيد: إن ابن عمي أمين لا ينام ليلة، إلا ويهجس أن عبد الحميد قد علقه على الخشبة، فيجس عنقه صباح كل يوم ليتأكد سلامته، وأنه لا يزال في قيد الحياة.
فضحكنا جميعًا من هذه النكتة، وأجبته: «قل ما تشاء وتريد، وليضحك جيدًا من يضحك أخيرًا.» وهو مثل إفرنسي مغزاه أن سنرى ماذا ستكون العاقبة.
فسألني عادل بك: هل سفرك خوفًا أو قضاء لأشغالك؟ فأجبته: إن سفري هو حذر من أمر لا بد من وقوعه عندي عاجلًا أو آجلًا.
فسألني: وعلى أي شيء تبني هواجسك هذه؟
فقلت: هل ترى دولتك أن الأمور سارية بانتظام وسكينة؟ فأجاب: لا، وإنما ما تراه أمور عادية تقع بعد كل ثورة وعند بدء كل إصلاح، ولكنها لا تشير إلى ثورة. أنت تعلم يا صاح أن الثورات اليوم لا تقوم إلا بسواعد الجيش وهو موالٍ لنا.
قلت: إنني أشك بهذا الأمر. فضحك وضحك معه محمد ومفيد.
وبعد أخذ ورَد قال لي محمد: إذا كنت مصممًا على الذهاب إلى باريس فأرجو أن تنتظر خمسة عشر يومًا، إذ يدخل المجلس عندئذ في عطلته الصيفية، فأرافقك إلى باريس. فقلت له: إنك هازلٌ. فأجاب: أقسم لك برأس والدي. وهذا كان قسمه العظيم. فالتفت عندئذ إلى الوالي ومفيد بك، وقلت لهما: أنتما شاهدان على ما يقول.
وقد أكلنا هنيئًا وشربنا مريئًا، وتجاذبنا الأحاديث المختلفة غير عالمين ما كانت تخبئه لنا تلك الليلة من الويلات، وأن شبح الموت كان يحوم فوق هامنا، وقد انصرف كلٌّ إلى منزله، ولم أستطع النوم إلا بعد مكابدة أرق طويل. وبينا كنت نائمًا سمعت باب غرفتي يدق بعنف وصوت صاحبة البيت العجوز يقول: يا مير لقد عصفت الثورة في استانبول. فظننت لأول وهلة أنني أهجس بالهواجس التي أضحكت محمدًا. فعدت إلى النوم فسمعت الباب يطرق بأشد عنفًا وصوتًا يدعوني، فنهضت مسرعًا فوجدت المرأة تعيد قولها. فتذكرت ما قلته بالأمس قبل ساعات، وأسرعت بلبس ثيابي وخرجت إلى شارع بيرا، فكان أول من التقيت به صديقي روحي بك الخالدي مبعوث القدس، وقد خلفني في قنصلية بوردو. فصحت به: إلى أين ذاهب يا روحي بك؟ فقال: إلى المجلس. فقلت: أرجو أن تعود إلى منزلك ولا تفارقه؛ لأن الثورة مدبَّرة على أعضاء المجلس. قلت له ذلك، وأنا مسرع الخُطى أبحث عن عربة فلم أجد. فهرولت إلى نزل «بيرا بلاس» حيث يقيم محمد، فالتقيت في الطريق بصديقي سليمان أفندي البستاني، فرجوته أن يقفل إلى منزله وأعدت له ما قلته لروحي بك. ولما وصلت النزل سألت عن محمد، فقيل لي: لقد خرج منه منذ هنيهة. فظننت أنه ذهب إلى دار المرحوم ندره بك مطران حيث كنا نجتمع يوميًّا، فلما طرقت الباب وجدت ندره قد هرول ليفتحه فسألته بلهفة: هل رأيتم محمدًا؟ فقال: قد شاء الذهاب إلى المجلس، فمنعه الحرس عبور الجسر فعاد إلى هنا، وقد ألححنا عليه كي يبقى عندنا فأبى، وقال: ربما يمكنه العبور على جسر «سلطانه والده» وهو في آخر قرن الذهب.
فوقع عليَّ هذا النبأ كالصاعقة، ثم قلت لهم: هل تذكرون كيف كنتم تضحكون مني عندما كنت أقول لكم إننا نرقص على بركان لا بد من أن ينفجر يومًا، والله وحده يعلم ما ستكون نهايتنا؟
ثم نهضت أريد اللحاق بمحمد، فحاولوا منعي عبثًا فأسرعت إلى الجسر لعبوره، فألفيت الخفر يحرسه. ولما شئت اجتيازه، قال لي الخفر: «يسق.» فرأيت إفرنجيًّا يعبره، فقلت له: ولماذا يُسمَح لهذا الإفرنجي بالعبور؟ فأجاب: «شبقلي.» أي صاحب قبعة؛ يعني أنه أوروبي، فتذكرت حينئذ أنني تركت في باريس صندوقة برانيطي كلها. ولما رغبت في مشترى واحدة وجدت جميع المخازن مقفلة الأبواب، فعدت بخفي حنين وجلًا حذرًا إلى دار ندره بك مطران؛ حيث شرعنا نضرب أخماسًا بأسداس، وبينا نحن على هذه الحالة سمعنا صوت بائع جرائد، فلم أنتظر خروج الخادم ليشتري جريدة منه، بل أسرعت بنفسي فوجدت البائع يبيع ورقة صغيرة يقول فيها: سقط شهيدًا المرحوم الأمير محمد رسلان بك مبعوث بيروت، فلم أكد أنتهي من قراءة هذا النبأ حتى شعرت بدوار في رأسي ورجفة في رجلي، فاستندت إلى الجدار أستعيد قراءة الخبر المفجع مرارًا، والدموع تنهمر من عيني. وبعد هنيهة عدت إلى منزل ندره بك، وأعطيته الورقة المذكورة، وانطرحت على كرسي ذاهبَ القلب واهي الجلد مستكينًا إلى العبرات ومخلدًا إلى الشجون.
لقد كانت تربطني والمرحوم الأمير محمدًا عُرى صداقة متينة، وكنت أحبه كشقيق عزيز لي، على الرغم من المنافسة الشديدة التي كانت بيني وبين والده. وكان قد جاء إلى بروكسل وحل ضيفًا عندي في القنصلية، فقضينا معًا تلك الأيام التي بقيها بهناء وسرور، وكان طيب الله ثراه شهمًا كريمًا وخِلًّا وفيًّا. ولا أدري لماذا كان قلبي يحدثني بأن النيابة ستكون عليه شؤمًا ووبالًا؛ لأنه عند إعلان الدستور كان مستشار سفارتنا في بلغراد عاصمة السرب. ولما أعلمني أن قد عرض عليه ترشيح نفسه عضوًا في مجلس النواب نائبًا عن بيروت، حررت إليه ناصحًا إياه أن يرفض، وقلت له: إن الحكمة تقضي علينا الابتعاد مؤقتًا عن الأستانة، وأن لا يغرب عن باله أن الثورة كالضبع تأكل أولادها. فأجابني أن سبق السيف العذل، فقد قبل الترشيح وانتخب نائبًا. وإذ ظننت، وبعض الظن إثم، أنه ربما يسعى لوزارة الخارجية كتبت إليه: إنك صرت إلى السفارة أقرب من قاب قوسين؛ إذ لم يبقَ أمامك سوى هذه الدرجة؛ فلِمَ العجلة؟
وبينا كنت لا أزال في منزل ندره بك جاءتنا الأنباء أن قد قُتل أربعة من الوزراء، وستون ضابطًا من ضباط الجيش المنتمين إلى حزب الاتحاد والترقي، وأن الثائرين يبحثون عن زعماء الحزب نظير جاويد وطلعت وجاهد ومحمد رضا وغيرهم للفتك بهم. وكان قد شاع يومئذ أن محمدًا قد اغتيل وهمًا من قاتليه، إنه جاهد بك مع أن الشبه بين الاثنين كان بعيدًا جدًّا.
وكان خوفي الشديد أن يطرحوا جثة محمد ابن عمي مع جثث بقية القتلى. ويطول بي شرح ما لاقيته من العقبات والأهوال؛ بحثًا عن الجثمان، فأبقي ذلك إلى مذكرات «تركيا الفتاة».
وفي اليوم التالي اتفق سفر باخرة إفرنسية إلى بيروت، فاغتنمت هذه السانحة لأعيد بها إلى لبنان ابن المرحوم سعيد شقيقي الأصغر؛ إذ كنت قد عولت على الفرار من الأستانة بأقرب وقت. فصحبته إلى الباخرة، وهناك وجدت بين الجماهير المحتشدة على متنها، صديقي رحمي بك، وهو من أهم رجال الحزب وأشدهم بأسًا وجرأة، ولهذا كان الثائرون يبحثون عنه بنشاط لاغتياله، فأسرعت إليه وقلت له: ويحك يا بك، ماذا تعمل هنا؟ أتجهل أنهم يبحثون عنك «بالفتيلة والسراج» ليقتلوك؟ فقال: إني عالمٌ ذلك، ولكني أريد الفرار إلى سالونيك، ولهذا أنتظر سانحة لأصير على مقربة من القومسير، فأقطع تذكرة السفر. ولما رأيت الناس مزدحمين أمام نافذة التذاكر، قلت له: اذهب يا بك إلى غرفتك، وأنا أقطع لك التذكرة. فقال: لست وحدي، بل معي قرينتي وهي حُبلى. فأدركت عندئذ ما كان يضطرب في صدر ذلك الرجل الجبار، وأنه كان يخشى أن تُصاب قرينته بأذًى. ثم قال لي: تفضل ورافقني، فتبعته، ونزلت إلى الدرجة الأولى، وفتح باب غرفته فوجدت امرأته وحدها غائصةً في بحر من الهموم، فعرَّفني بها، وكانت قد أرْخَت حجابها، ثم مد يده إلى جيبه وتناول قبضة من الليرات، وأراد أن يعطيني إياها دون أن يعلم مقدارها. فقلت له: عدها. فأجاب: لا والله. فقلت له: لا والله لا أقبل إلا أن تعدها. فرضي أخيرًا، ثم ذهبت إلى حيث القومسير، وانتظرت حتى جاء دوري، فطلبت تذكرتين إلى سالونيك. فقال لي: إن الباخرة لا تمر على سالونيك. فسألته: وأين تمر إذن؟ فأجاب: على أزمير. فحرت بأمري وبدا الاضطراب على وجهي، وأخذ الناس ينظرون إليَّ بعين الارتياب. فهرولت إلى الدرجة الأولى. ولما كنت قد سهوت عن أخذ رقم الغرفة، لم أجدها حالًا، وخفت إن ناديت رحمي بك بصوت عالٍ أن ألفت الأنظار إليه، وخشيت من ضياع الوقت، فصرت أقترب من باب كل غرفة أتنصت، وإذا سمعت صوتًا أدق دقًّا خفيفًا لأعرف من في تلك الغرفة، وهكذا حتى اهتديت إلى غرفة الصديق. ولما أخبرته بما توقع، صمت وأخذ يعضُّ على شاربيه مفكرًا. وعندما طال صمته قلت له بالفرنسية: هل تظن أنك ستكون بمأمن في أزمير؟ فسمعت امرأته تقول من وراء حجابها: ربما تكون الثورة قد تسعَّرت نيرانها في أزمير أيضًا. فقال هو: إن ذلك محتملٌ. وساد الصمت مرة أخرى. فقلت له: هل تريد أن أبدي لك رأيًا يريح بالك؟ اذهب رأسًا إلى بيروت، وسر إلى دارنا في لبنان، فتكون قرينتك بين زوجتي أخوي كشقيقة لهما، وتكون أنت في أمن حريز. ومن حسن الصدف أن ابن أخي مسافر في هذه الباخرة، وسأكتب معه إلى أخوي أخبرهما بذهابكم، فشكرني متأثرًا. ولما ألححت عليه قبل وقال لي: اقطع لي تذكرتين إلى أزمير، فإن وجدت الحالة خطرة أعدك أنني أنطلق إلى عندكم في لبنان، فعدت إلى الظهر، وانتظرت حتى فرغ القومسير فدنوت منه، وطلبت تذكرتي سفر إلى أزمير بالدرجة الأولى، وأن يعطيني غرفة خاصة. فسألني: باسم من؟ فبهت، ولم أتجاسر أن أذكر اسم رحمي بك. وأخيرًا قلت له: باسم أمين أرسلان وقرينته. ولما سلمني التذكرتين عدت حالًا إلى غرفة رحمي بك، وأعطيته إياهما مع ما تبقى من الدراهم، وقلت له: لا تنسَ أن اسمك منذ الآن أمين أرسلان بك، وليس رحمي بك. فأدرك حالًا ما صنعت وضحكنا معًا، ثم تركته يتحادث وابن أخي، وذهبت إلى صالون الباخرة. وحررت مطولًا إلى أخي المرحوم فؤاد أخبره بما توقع وأوصيه؛ كي يهتم برحمي بك اهتمامًا شديدًا، ولا سيما لأن قرينته حُبلى.
أمين أرسلان بك، على ظهر الباخرة الإفرنسية، أزمير.
الأطباء يشيرون بإلحاح بعدم نزولكم إلى البر مع الطفل؛ نظرًا لانتشار داء الجدري. ووقعت البرقية باسم حسن.
وفي اليوم الثاني وصلتني منه برقية يفيدني بها، أن لا يوجد جُدري في المدينة ولا خطر على الطفل، وأنه نزل إلى المدينة بكل ارتياح.
وبعد مضي خمسة عشر يومًا زحف على الأستانة جيش سالونيك بقيادة المشير شوكت باشا وأنور بك ونيازي بك ورحمي بك، وبعد قتالٍ عنيف مع الجيش الذي كان السلطان عبد الحميد قد أغراه على الثورة، وسقوط عدد ليس بقليل من القتلى والجرحى من الفريقين، فاز جيش سالونيك وخُلع السلطان عبد الحميد في اليوم الثاني كما سأذكر ذلك بتفصيل في مذكرات «تركيا الفتاة».
وفي أحد الأيام بينا كنت خارجًا من مطعم طوقليتان بشارع «بيره» شعرت بيدين قد أمسكتاني من ظهري، ثم أدارتاني بعنفٍ، فرأيتني أمام رحمي بك الذي ابتدأ يقبلني مكررًا قوله: «إنني لن أنسى صنيعك معي يوم الثورة.» فقلت له: لا تُغالِ يا بك؛ فإنني لم أفعل معك شيئًا يستحق هذا الشكران. فقال لي ما معناه: عند الضيق يُعرف الصديق، ثم شرع يقصُّ عليَّ ما جرى معه مما لا مجال لذكره هنا.
ولما هدأت الأحوال نوعًا صمَّمت على العودة إلى باريس مغتنمًا انتهاء الرخصة المعطاة لي من الوزارة، إذ كنت قد قضيت عشرة أعوام في خدمة القنصلية دون أن أطلب رخصة ما.
ولم يمضِ زمن طويل على وجودي في باريس، حتى دخل عليَّ صباح يوم الخادم، وبيده جرائد باريس الصباحية. وبما أنني كنت دومًا أرغب في الاطلاع على برقيات الأستانة، شرعت أفتش عنها وأقرؤها، فدهشت عندما قرأت بإحداها خبر تعييني «قنصل جنرال» في باريس، وأعدت قراءة تلك البرقية مثنى وثلاث ورباع، حتى تحقق لي صدقها.
إن قنصلية باريس العامة التي كانت تُعَدُّ أهم من السفارات الصغيرة، كانت عندي من أسوأ القنصليات؛ لأسباب عديدة سيأتي تفصيلها في حينه، وقد زاد بي العجب لجهلي سبب هذا التعيين دون طلب سابق مني، أو على الأقل إعلامي بذلك قبل التعيين، فنهضت حالًا، وبعد أن ارتديت ثيابي توجهت إلى السفارة لمقابلة صديقي فتحي بك الذي كان قد تعين الملحق العسكري، بعد تعيين أنور بك ملحقًا لسفارتنا في باريس. إن فتحي هو عندي أنجب من أنور وأذكى، وقد أظهر توقد ذهن وحنكة في جميع الأمور التي عرضت له، سواء كانت سياسية أو حربية. وهو الذي دافع عن طرابلس الغرب عند هجوم الإيطاليين، وعهد إليه أخذ السلطان عبد الحميد، بعد خلعه، إلى سالونيك والمحافظة عليه، وهو الآن سفير الدولة التركية في لندن. فلما دخلت عليه شرع يقهقه قائلًا: إني عالم بسبب مجيئك باكرًا.
فقلت له: هل قرأت جرائد الصباح؟ فأجاب بالإيجاب. فسألته: وهل تدري سبب هذا التعيين؟ فأجاب: اجلس وهدئ روعك، واشرب معي فنجان قهوة. وبعد أن تناولنا القهوة قال: إن السبب الذي حدانا لتعيينك قنصلًا عامًّا في باريس، أن المستشار الذي تعين لسفارتنا، هو مستشار سفارتنا في واشنطون ومتولي أعمال السفارة فيها؛ لأن السفير الجديد لم يتعين بعد. ومتى تعيَّن فعلى المستشار أن ينتظره حتى يصل، ثم يذهب إلى الأستانة، ومنها يأتي إلى هنا. وهذه الأمور تستغرق شهرين أو ثلاثة. وحيث إن سفيرنا الجديد نعوم باشا قد خيَّب آمالنا التي أنطناها به؛ إذ وجدناه يصلح للوزارة وليس للسفارة، ولا سيما في عاصمة كباريس، وحيث لا يمكن تغييره حالًا، رأينا من المناسب أن نُعيِّن له رجلًا خبيرًا بباريس وشئونها، ولا سيما صحافتها؛ لأن الصحافة هي «بعبع» السفير يرتعش لدى أقل كلمة لها مساس به أو بالدولة. ومن أدرى بباريس وصحافتها منك، بعد أن أقمت فيها ردحًا طويلًا، وعرفت رجالها معرفة شخصية، ولك أصدقاء حميمون من رجال صحافتها؟ وعليه فقد قلنا إنك أنت الرجل المطلوب، وستكون ساعد السفير ريثما يصل المستشار الجديد. وبعدئذ فإذا كانت قنصلية باريس لا تعجبك؛ فيمكنك أن تطلب النقل إلى سواها. ولا إخالك بعد هذا الإيضاح تخيب ثقتنا بك. فصمتُّ ولم أنبس ببنت شفة. فقال لي: تعال لأقدمك إلى السفير. فقلت: إنني أعرفه قبلك بزمن طويل. فسألني وكيف ذلك؟ فأجبته: إن سفيرنا نعوم باشا كان قبلًا متصرفًا على جبل لبنان، وكنت آنئذ في ريعان الشباب، لا أتجاوز الحادية والعشرين من سني، ومديرًا للغرب الأقصى، وهي أهم مديرية في جبل لبنان؛ نظرًا للأموال الأميرية التي تدفعها بسبب صحرائها الحافلة بأشجار الزيتون التي زرعها الرومان على عهد المسيح.
دولة متصرف جبل لبنان: بيروت. إنني أقدم لدولتكم استعفائي من مديرية الغرب الأقصى، ولست منذ هذه الساعة مسئولًا عن الراحة العمومية.
وهكذا، يا عزيزي فتحي بك، كانت فاتحة علاقاتي مع دولة سفيرنا. وتصور كيف شاءت الأيام أن تجمعنا معًا مرة ثانية في باريس، وأن يكون هو رئيسي أيضًا. فضحك فتحي، وقال: ما مضى قد مضى فلنذهب للسلام عليه.
ولما دخلنا عليه أراد فتحي بك أن يقدمني إليه، فقال له: إنني أعرفه منذ زمن بعيد، ثم التفت إليَّ وصافحني قائلًا: أؤمل ألا تفارقني هذه المرة، كما فارقتني قبلًا في لبنان. فأجبته ضاحكًا: أؤمل أن الأسباب لا تعاد. ثم جلسنا وشرعنا نتجاذب أطراف الأحاديث، فأظهر سروره من تعييني، وقال إنه يعتمد عليَّ في جميع الأمور، ولا سيما في الصحافة الباريسية؛ إذ يعرف أنني كنت عضوًا في نقابتها. وكان السفير قد بدت عليه أمائر الكبر وابيضَّ شعره الذي كان يميل إلى الاحمرار، ثم سألني ألا أنتظر وصول الإرادة السنية بتعييني، بل أبدأ حالًا في إنجاز شئون وظيفتي، أو على الأقل أساعده في شئون السفارة. فوعدته أن أعود بعد الظهر، وهكذا فعلت مدة أسبوع، ثم وصلت الإرادة وتسلمت شئون القنصلية. وكانت لسوء الحظ قد نقلت مركزها إلى الطابق الأرضي من السفارة، فكنت عندما أصلها، أرى الجماهير محتشدة لقضاء أشغالهم. فلا تكاد قدماي تطآن عتبتها؛ حتى أسمع الخادم يقول: إن دولة السفير ينتظرك. وكنت كل مرة أدخل عليه أجده يسير ذهابًا وإيابًا في مكتبه الفسيح، ويداه في جيبته ينتظرني، ولا أفرغ من السلام عليه، حتى يشير إلى مكتبه قائلًا: اقرأ هذه، ويدل على أوراق مرصوفة فوق بعضها. فكنت أقرأ كل ورقة على حدة. ولما أفرغ منها أسأله: ماذا تريد دولتكم؟ فيجيب ما قولك؟ وهكذا في كل الأمور كبيرة كانت أو صغيرة، كان يستشيرني بها. ووجدت أن فتحي بك كان مصيبًا بقوله عنه: إنه ينزعج لدى نشر أصغر مقالة ضد تركيا.
فأشرت عليه بأن نسير بموجب طريقة كليمانسو، وهي استعمال حق الجواب، إذ حسب الشريعة الإفرنسية أن كل جريدة تنشر شيئًا يمس بكرامة شخص ما؛ فيحق لذلك الشخص الممسوس الكرامة أن يرسل إلى صاحب الجريدة مقالًا يصحح به الخطأ، وإذا لم ينشره في جريدته يحكم عليه بالنشر الإرغامي ودفع غرامة. ورجوت السفير كي يتركني أجرب هذه الطريقة فسمح لي. وهكذا كنت كلما نشرت صحيفة خبرًا مختلقًا أو غير صحيح، أحرر باسم السفارة طالبًا التصحيح، فكانت الصحف تنشره. ولما رأت أن السفارة لا تصمت عن تصحيح الخطأ، صارت تتحرى الأخبار المتعلقة بتركيا وتدقق بها قبل نشرها، إذ لا يناسب مصلحتها ومركزها أن تنشر كل يوم تقريبًا تصحيحًا لأخبارها؛ لأن ذلك يسقط من مقامها وأهميتها عند القراء.
وكان نعوم باشا يُسَر من ذلك كثيرًا. وكنت عندما أنجز أشغال السفارة أنزل إلى القنصلية، فأسمع تذمر الناس العادل من طول الانتظار، فأضطر اختيارًا إلى البقاء في القنصلية حتى أنجز أشغال الجميع.
والذي زاد في مهام أشغالي، هو السماح بالخروج من الدولة العثمانية لكل من يرغب، فأقبل الناس من كل حدب وصوب إلى باريس من كبراء ووزراء. وهؤلاء كانوا يطلبون مني مرافقتهم في ذهابهم ومجيئهم، فكنت والحالة هذه أقضي كل صباح في مصاحبتهم، وبعد الظهر أقوم بأعباء السفارة والقنصلية معًا، فلا يأتي الليل إلا وقد أنهكني التعب.
وكنت كلما شكوت أمري إلى فتحي بك، يقول ضاحكًا: صبرًا، عن قريب سيصل المستشار، فأجيبه: إن أشغال السفارة لا شيء بالنسبة إلى زيارة الوزراء والسفراء، واصطحابهم إلى كل محل.
ولم يمض شهر ونصف الشهر على هذه الحالة، حتى ضقت ذرعًا وكل غرب نشاطي، وتمنيت لو أتيحت لي الاستقالة.
وفي ذات يوم دخلت على السفير حسب العادة فوجدته مضطربًا. ولم أكد أفرغ من تحيته، حتى بادرني قائلًا: هل يصعب عليك زيارة المسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقًا؟ فبهتُّ وسألته: وما المأرب من هذه الزيارة؟ فأجاب: ذهبت البارحة إلى وزارة الخارجية فأشارت عليَّ بأن يوافق زيارتك موسيو هانوتو، أو على الأقل ترك بطاقتك له. فسألته: ولماذا تريد مني وزارة الخارجية هذا الأمر؟ فأجاب: يظهر أنك عندما كنت صحفيًّا على عهد تركيا الفتاة، حملت على ذلك الرجل حملة شعواء، وانتقدته انتقادًا مرًّا. وتقول الوزارة: إن الحكومات متضامنة متكافلة؛ ولهذا يصعب عليها استحصال رخصة لي من رئيس الجمهورية، قبل أن تجري ترضية للموسيو هانوتو الوزير السابق.
فوجدت حالًا أن هذه المسألة هي خير سانحة لي للاستقالة، فقلت للسفير: إن زيارة المسيو هانوتو هي بمثابة اعتذار له، أليس كذلك؟ فصمَتَ، وبعدئذ قال: إن هذا الأمر لا يحط من قدرك على ما أرى. فأجبته: إن وضع بطاقة زيارتي في منزل رجل كبير كالمسيو هانوتو، لا يحط من قدري، ولكن زيارته للأسباب التي أشرتم إليها؛ بناءً على طلب وزير الخارجية الحالي إنما هي بمثابة اعتذار مني عما كتبته انتقادًا لسياسته. وهذا لا أفعله مطلقًا، ثم أضفت: إنني مغتبط أي اغتباط بهذا الحادث؛ لأنه سهل لي أسباب الاستقالة التي أرغب فيها رغبةً شديدة. فقال: وكيف تريد الاستقالة، ولم يمض على وجودك سوى بضعة أسابيع؟ فأجبته: لأنني لا أشاء أن أُوجِد لدولتكم معضلةً مع وزارة الخارجية.
غدًا ستصدر الإرادة السنية بنقلك إلى بوينس أيرس حسب طلبك، وإنا نأسف أسفًا شديدًا لبعادك عنا بعدًا قصيَّا.
إبعادي عن باريس
المسيو سان رينيه تالانديه يرجو الأمير أمين أرسلان أن يذهب إلى إدارة الأمور الشرقية في الوزارة الخارجية، يوم كذا عند الساعة السادسة بعد الظهر، لأمر يختص به.
فعجبت من أسلوب تحريره هذا الذي لا أزال أحفظه عندي، ولم أدرِ له سببًا. وفي الساعة المعينة توجهت إلى وزارة الخارجية، وانتظرته هنيهةً لأنه كان مع الوزير هانوتو. ولما دخلت عليه قابلني بوجه عابس، ولم يمد يده لمصافحتي، ودعاني للجلوس أمامه على مكتبه، وقال لي ما حرفيته: كلفني حضرة وزير الخارجية المسيو هانوتو أن أقول لكم: إنه إذا كان القانون يجيز للإفرنسي انتقاد حكومته؛ فلا يجوز للأجنبي الذي ما هو إلا ضيف أن يفعل كذلك. وعليه فإنني مأمور أن أبلغك أنه إذا لم تعدل عن خطتك بانتقاد فرنسا وحكومتها؛ فستضطر عندئذٍ إلى استعمال الوسائل الفعالة إلى أقصى حد.
فلما سمعت منه هذا الكلام ذُهلت، وقلت: أظن بالأمر خطأ، لأنني لم أكتب كلمة ما ضد فرنسا وحكومتها. فأجاب بحدة: ومقالتك ضد مدير البوسطة في بيروت؟
فاعترتني الدهشة، وقلت: تُرى، وهل مدير البوسطة الإفرنسي في بيروت هو فرنسا وحكومتها؟
فأجاب: إن مقالتك هي ثلب. فقلت له بنفور: إذا كان الأمر كما تقول؛ فلماذا لا يطلب محاكمتي أمام محكمة السين (باريس)؟ إنني واثق كل الثقة بعدالة المحكمة، على الرغم من أنه إفرنسي الجنس، ومأمور حكومة وأنا أجنبيٌّ. بيد أنني أؤكد لك إنه لا يتجاسر أن يفعل ما قلت؛ خوفًا من الفضيحة.
فقال: وما برهانك أنه كان يخبر سراي بيروت بأسماء الذين كنت ترسل لهم الجريدة؟ فأجبته: الوسام المجيدي الثالث الذي منحه إياه السلطان. فقال: وأنا أيضًا منحني السلطان وسامًا أعلى؛ فهل تظن أنني خُنت وظيفتي؟ فأجبته: لا أعلم ما فعلت أنت.
فاحتدم غيظًا ووقف؛ إشارةً إلى انتهاء المقابلة. ثم قال: لم يعهد إليَّ مجادلتك، بل إبلاغك أمر الوزير، فقلت له بعد أن وقفت: أخبر وزيرك أنني لست ضيفه، بل ضيف الشعب الفرنسي، وأنا أذعن لقوانينه وشرائعه، وليس لأوامر الوزير ونواهيه، ثم تناولت قبعتي، وخرجت دون أن أودِّعه.
فضحك نعوم باشا، وقال لي: يظهر أنك لا تتغير أين كنت.
فقلت: إن ذلك المدير السيء الطالع كان أطوع لوالي بيروت من بنانه، وقد رفعت أمره إلى مدير البوسطة هنا، وأخبرته أننا قد اضطررنا إلى إرسال جميع تحاريرنا وجريدتنا إلى لندن؛ لترسل من هناك إلى البوسطة الإنكليزية ببيروت. ولا يخفى على حضرتكم ما بذلك من النفقات. فأجابني ذلك المدير بكل قحة بما يلي: «داوموا على إرسال تحاريركم عن طريق لندن.» ولا يزال تحريره هذا محفوظًا بين أوراقي. ولما ضاقت بنا الحيلة، ورأينا أن السلطان قد أنعم على ذلك المدير بوسام، نشرت مقالًا انتقدته به انتقادًا شديدًا بلهجة عنيفة قصدًا؛ لأضطره عندئذٍ إلى إقامة الدعوى عليَّ، فأفضح أمره وتضطر الحكومة هنا إلى عزله أو نقله.
إلا أن الدهشة بلغت مني منتهاها بعد ساعات وجيزة مرت على هذه المقابلة، وإلى القارئ التفصيل:
كنت ساكنًا في بولفار سان جرمين رقم ٤٦، وكان يقطن في الطابق الذي تحت طابقي، أحد أعضاء مجلس النواب، وكنا نذهب معًا كل يوم تقريبًا إلى مجلس النواب فأصعد أنا إلى مقصورة أرباب الصحف، ويذهب هو إلى كرسيه. وفي مساء ذلك اليوم بينا كنت صاعدًا إلى منزلي شاهدت نورًا في منزل النائب، فرغبت في زيارته، ولما دخلت منزله وسلمت عليه، سألني من أين قادم؟ فأجبته: من وزارة الخارجية. وقصصت عليه ما توقع. فقال لي بصوت خافت: آسف جدًّا لما جرى، وإني أنصح لك أن تخرج هذه الليلة من باريس، إذ صباح غد سيحضر إلى منزلك قومسير البوليس يحمل أمرًا بإبعادك إلى الحدود، ولا يمكنك بعدئذ العودة إلى فرنسا؛ وإلا فتكون عقوبتك السجن سنتين.
فسألته: وبأي قانون أو شريعة يتسلحون لإخراجي من باريس؟
فأجاب: لا قانون ولا شريعة تُجيز إبعادك، ولكن ذلك يجري حسب قرار نابوليون الأول الذي لا يزال معمولًا به إلى الآن، وبموجب هذا القرار الجائر، يحق لمدير البوليس أن يبعد من فرنسا كل أجنبي يرغب في إبعاده.
فقلت: وأنتم النواب الذين تناقشون الوزارة؛ لأنها نقلت مثلًا معلمًا من مدرسة إلى أخرى. ما بالكم صامتين وتسمحون بحدوث هذا الجور؟
فقال: أكرر لك ما قلته قبلًا، وهو: ما دام قرار نابوليون معمولًا به ولم يُلغَ بعد؛ فلا بد من السير بموجبه، ولا يستطيع أحد مساعدتك. هذا فضلًا عن أن جواباتك في الوزارة حرجت قضيتك عوضًا عن أن تخففها. ولهذا فإنني أشير عليك بالخروج هذه الليلة ذاتها، حتى متى جاء قومسير البوليس لا يجدك في منزلك وينقضي الأمر. أما أنت فتبقى بعيدًا عن فرنسا مدة بقاء وزارة هانوتو. ومتى سقطت، ولا بد من سقوطها قريبًا، تستطيع أن تعود متى شئت دون معارضة. ومتى سقط هانوتو لن يعود إلى الجلوس على كرسي الوزارة.
فقررت العمل حسب نصيحة النائب، وبعد أن شكرت له عطفه ونصحه، قلت: ولكنني لا أعلم إن كنت أجد قطارًا مسافرًا إلى البلجيك، أو سويسرا؛ لأنهما الأقرب إلى الحدود الفرنسية. فتناول دليل القطارات، وشرع يفتش فيه عن التي تسافر ليلًا. وأخيرًا قال لي: لم يبقَ أمامك سوى الذهاب إلى لندن. فودعته شاكرًا وصعدت إلى منزلي لأهيئ حقيبتي. ولما لم يكن معي دراهم تكفي سفري عن طريق «كاله» وهي الأقرب، اضطررت إلى الذهاب عن طريق «دياب ونيوهفن» فوصلتها نصف الليل، وكان بحر المانش في تلك الليلة مضطربًا، والأمواج ثائرة هائجة، فامتنع كثير من الركاب عن السفر خوفًا. أما أنا فركبت الباخرة مرغمًا؛ إذ كان عليَّ مغادرة الحدود الفرنسية قبل الصباح. وقد قاسيت تلك الليلة أهوالًا جسيمة لأن الأمواج كانت تتلاعب بنا وتتقاذفنا، وبديلًا عن أن نصل ساحل إنكلترا عند الصباح وصلناه عند الظهر.
ولما كان المسيو روشفور، الكاتب الفرنسي المشهور بانتقاداته القارصة، والذي كان أعدى أعداء نابوليون الثالث، هو أيضًا بعيدًا عن فرنسا، فقد ذهبت للتعرف به، فقابلني بمنتهى اللطف والبشاشة، وطلب مني أن أذهب كل يوم إلى منزله لشرب الشاي معه. وكان يقطن بقرب حديقة غناء. وهكذا قضيت بصحبته طيلة إقامتي في لندن.
وفي ذات يوم قال لي: هيئ حقيبتك واستعد للسفر، إذ غدًا ستسقط وزارة هانوتو. وهكذا كان، فسقط هذا الوزير، ولم يعد إلى الوزارة أبدًا.
فضحك نعوم باشا من هذه القصة وقال: حقًّا إنك لا تتحمل «زكزكة» قط. فقلت: إنني أتحمل «زكزكات» كثيرة، إذا كانت صادرة ممن هم دوني مقامًا، ولكنني لا أتحمل «زكزكة» ولو صغيرة، ممن هم أعلى مني مركزًا، ثم ودعته وانصرفت.
معاهدة الدولة العثمانية مع الأرجنتين وأخذ التعليمات من الأستانة
تركت باريس ميممًا الأستانة. ولما وصلتها ذهبت في اليوم الثاني لزيارة صديقي رحمي بك، فأعلمني أن الوزارة لم تُلبِّ سؤلي؛ لاعتقادها أنني عندما أرسلت لها برقيتي كنت متكدرًا مستاءً، إذ لا أحد يصدق أن من كان قنصل جنرال في باريس التي تعد قنصليته أفضل من كثير من السفارات؛ يطلب بملء إرادته الانتقال منها؛ ليتولى مهام قنصلية جديدة للدولة العثمانية في أميركا الجنوبية بأقصى المعمورة. ولما طلب رحمي منها ذلك، أجابته أنها قد عينت لقنصلية بوينس أيرس منير ثريا بك، فألحَّ عليها بنقله إلى البرازيل وإجابة طلبي، فلم ترَ بدًّا لدى إلحاح رحمي بك من إجابة سؤلي، ونقلي إلى قنصلية الأرجنتين.
وذهبت في اليوم الثالث إلى وزارة الخارجية، فلم أتمكن من مقابلة الوزير رفعت باشا يومئذٍ، بل قابلت مدير القناصل، وكنت أعرفه شخصيًّا حين استقالتي من قنصلية البلجيك، فأطلعني على معاهدة الدولة مع الأرجنتين. وبينا كان يهتم بشئون إدارته جلست على حدة، وشرعت أدرس المعاهدة فوجدت في إحدى موادها الرئيسية غموضًا؛ لأن الأرجنتين كانت الدولة الأولى التي تخلت عن امتيازات الأجانب، فألفتُّ نظر المدير إليها، وقلت له: أخشى أن تجرَّ علينا هذه المادة مشاكل في المستقبل. فأجاب: ولماذا تريد إثارة المشاكل قبل وقوعها؟
فقلت: إنني ذاهب إلى أقصى قنصلية للدولة في المعمورة، وإنني مكلف بالاهتمام بالأمور السياسية أيضًا؛ إذ لا سفارة لنا هناك. ولهذا فلا أتمكن من مخابرة الأستانة، والجزم بالمشاكل التي تعرض لي قبل مضي شهرين أو ثلاثة، وأنا وحيد هنالك وبعيد، وجميع المسئوليات ستقع عليَّ وحدي، ولهذا أرغب الآن في تداركها قبل وقوعها. ولا تمكن المخابرة البرقية بمشكلة ما؛ لأن كل كلمة تكلف ما يقارب الريال المجيدي. ومنذ الآن أفيدك أنني لا أرضى أن أعطي شيفرة (المراسلة بالأرقام)؛ إذ قد ذقت الأمرين يوم قُطعت علائقنا مع فرنسا. فأجاب: سأعرض كل ما ذكرت على دولة الوزير. فعلمت عندئذ أنه لم يكن مسرورًا من ملاحظاتي، فلم أُلحَّ عليه.
وذهبت مساءً ذلك اليوم لزيارة الصدر الأعظم حلمي باشا بمنزله في شيشلي، وليس في الصدارة؛ نظرًا للدالة التي كانت له عنده؛ لأنه كان صديق أسرتنا يوم كان مكتوبجي في ولاية سورية، وقد حفظ لنا ودًّا وولاءً. فوجدته في دار الحرم، فأمر بدخولي حالًا. ولما مثلت بين يديه قبض على يدي بعطف وشرع، يقول لي: أوغلم أوغلم! (يا ولدي) ما الذي دعاك حتى ألححت بنقلك إلى الأرجنتين؟ فإذا وُجد مانع خاص يحول دون بقائك في قنصلية باريس التي هي أهم قنصلية لنا، فلماذا لا تطلب قنصلية لندن أو برلين أو رومية أو مدريد أو فينا حتى آثرت الذهاب إلى أقصى المعمورة؟
فأجبته: يا صاحب الفخامة، إن لنا جالية كبيرة العدد في الأرجنتين، وهي منذ سنين تطلب بإلحاحٍ قنصليةً، ولي وطيد الأمل أن أقدِّم خدمة لها وللدولة.
فلم يقتنع فخامته بذلك، وظن غير ذلك. ولما ودعته قال لي مازحًا: متى أرسلت تقريرك الرسمي السنوي عن جاليتنا هنالك؛ فأرسل نسخة خصوصية لي.
ولما قابلت في اليوم الثاني وزير الخارجية رفعت باشا، بقيت مدة عشر دقائق في أثناء تلك الزيارة على أحرِّ من الجمر؛ بسبب الحادث التالي:
عندما دخلت عليه وجدت عنده زائرًا صديقي القديم نابي بك، مستشار سفارتنا في باريس، الذي كان قد رُقِّي إلى سفير في رومية. ولما رغب الوزير في تعريفه بي قال له: إنه صديق قديم لي. وأظن دولتكم لا تعرفون أنه هو بطل قطع العلائق مع فرنسا. فسأله الوزير: وكيف ذلك؟ فأجابه: هو الذي أخذ على نفسه مسئولية نشر المخابرات السياسية. فسألني الوزير: أهذا أنت؟ لقد كنت وقتئذ مستشار سفارتنا في بطرسبرج، وأذكر أن كان لنشرها وقع حسن. وكان رفعت باشا قد اقترن بروسية، وهي ابنة الجنرال راننكنف الذي اشتهر ببدء الحرب العالمية، وزحف على ألمانيا الشمالية.
وقبل أن يبدأ بإعطائي التعليمات التي استدعاني لأجلها؛ أخذ رزمة من الأوراق كانت مرصوفة على الجهة الشمالية من مكتبه، وشرع يقلبها الواحدة تلو الأخرى. وكان على رأس كل طلحية أسماء السفراء والقناصل بحرف كبير، فعرفت أن كل طلحية من هذه الأوراق مكتوبٌ عليها اسم كل منهم وتاريخ ولادته، والوظائف التي أُنيطت به. وفي العمود الأخير مكتوب بحرف كبير: ملاحظات. وكان عمود الملاحظات بأكثر هذه الطلاحي فارغًا. ولما عثر على صحيفتي وجدت أن قد كتب عليها بحرف صغير وبحبر أحمر كلمة، ثم تاريخ على كل سطر، فعرفت حالًا أن توجد ملاحظة على لك وظيفة عهدت إلي، ولكني لم أتمكن من قراءة تلك الكلمة المخطوطة لصغرها، وقد أقلقت أفكاري.
وبعد أن قرأها الوزير وضعها فوق الرزمة، ثم التفت إليَّ، وسألني: متى اعتمدت على السفر لتسلم وظيفتك؟ فأجبت: بعد غدٍ، وإنني أغتنم هذه الفرصة؛ لأطلب من دولتكم رخصة بالذهاب إلى حمامات فيشي؛ لأنني مصاب بالكبد. وقيل لي: إن مناخ بوينس أيرس رطب صيفًا وشتاءً.
فقال لي: لا بأس عندي من تلبية مطلبك، إلا أن جلالة السلطان قد منح رئيس جمهورية الأرجنتين الوسام المجيدي الأول المرصَّع، ويجب أن تقدمه له من قبل جلالته.
فأجبت: إذا أردتم دولتكم فيتسلم هذا الوسام القونشلير، إذ في نيتي ركوب الباخرة من ليشبونه؛ لأنني زرت جميع ممالك أوبا ما عدا روسيا وأسبانيا، وأرغب رغبة شديدة في السياحة بأسبانيا؛ لأن العرب ظلوا فيها طيلة ثمانية أجيال تقريبًا، وأقام فيها أيضًا بعض من أسلافي.
فسألني: في أي عهد من الخلفاء؟ فأجبته في عهد الخليفة المعتضد.
فقال لي: إنها زيارة لازمة، ثم أضاف: لا إخالني محتاجًا إلى إعطائك التعليمات اللازمة لإنشاء القنصلية الجديدة؛ لأنك أنشأت قنصليتنا في بوردو وبروكسل. فأجبته: نعم، لقد كان ذلك من حظِّي. ثم قال: لا أنكر أن في بدء إنشاء القنصليات تقع مشاكل ومعضلات. فقاطعه نابي بك بما معناه: هو على «قد الحملة». فأجاب الوزير: بما أنه لا سفارة لنا في الأرجنتين؛ فستقوم أنت أيضًا بالأمور السياسية، ولا أظن العهد يطول حتى تنشأ لنا سفارة في تلك الجمهورية، تكون أنت منشئها إن شاء الله. فشكرت له عطفه ولطفه.
وبينما كان الوزير يكلمني موجهًا نظره إليَّ تارةً، وإلى نابي بك الذي كان عن يمينه طورًا، كنت أنا أحاول قراءة ما كُتب على صحيفتي بخط أحمر في عمود الملاحظات. ولما لم أتمكن من ذلك اغتنمت فرصة لفت بها الوزير وجهه نحو نابي بك، فأدنيت نظري إلى الصحيفة يدفعني إلى عملي هذا عامل القلق، واتفق أن أدار الوزير بغتةً وجهه نحوي. فلما رآني على تلك الحالة ضحك، وقال: أنا أعلم ما الذي يقلق بالك. ثم تناول الصحيفة ودفعها إليَّ قائلًا: اقرأ أنك قد استعفيت من جميع الوظائف التي عهدت إليك بلا استثناء. ولما قرأت ما كُتب على الصحيفة وجدت حقًّا ما قاله الوزير. فلم أتمالك من الضحك. وسمعت نابي بك يقول: إن حضرة قنصلنا الجنرال معروف عندنا أنه لا يحمل «زكزكة» ولا منا … فأغلق عليَّ الجواب.
وقد شئت اغتنام الفرصة لمفاتحة الوزير بذلك البند المشئوم في المعاهدة، لولا دخول الحاجب معلنًا زيارة سفير إنكلترا. فنهض الوزير مودعًا داعيًا لي بسلامة الوصول والنجاح في مهمتي. فخرجت وقلبي يحدثني أن ذلك الغموض في البند سيسبب لي مشاكل ومتاعب.
السفر إلى الأرجنتين
عندما عدت إلى باريس، كان جلُّ اهتمامي زيارة قنصل الأرجنتين؛ لأستعلم منه عن كيفية المعيشة في بوينس أيرس. فلما ذهبت عنده وسلمت خادمه بطاقتي أسرع بنفسه، واستقبلني على الباب، وبعد أن دخلنا بَهْوَ منزله هنأني بتعييني قنصلًا في بلاده، وأفادني عما سألته عنه بكل تفصيل.
وقد فهمت من تعليماته أن أثمان الأشياء والإيجار والنفقة في بوينس أيرس تزيد ثلاثة أو أربعة أضعاف عنها في باريس، فكان على الوزارة قبل تخصيصها قيمة مصروف قنصليتي أن تفعل نظيري؛ إذ عندما استأجرت دارًا للقنصلية في عاصمة الأرجنتين تليق نوعًا ما، كنت أضطر أن أدفع من جيبي الخاصة ما يقرب من المائة ريالًا شهريًّا.
وقد اخترت أولًا باخرة إنكليزية لسفري إلى الأرجنتين بعد عودتي من «فيشي». غير أنني عدلت عنها عندما علمت من بواب النزل أن قد جاء بعض من مواطني، وسألوه عن ميعاد سفري، وفي أية باخرة سأسافر. فأجابهم بما يعرف، ففهمت عندئذ أن هذين السؤالين موجهان من مواطني في بوينس أيرس ليحتفلوا بوصولي. ولما كنت غير ميالٍ إلى الاحتفالات والتظاهرات وسماع الخطب الرنانة والقصائد الرائعة ترحيبًا ومديحًا، عزمت على تغيير الباخرة سرًّا، فاكتريت مقصورة في الباخرة الفرنسية «شيلي»، ولم أخبر بذلك أحدًا واهمًا أنني سأصل بوينس أيرس دون أن يدري بي أحد.
وقد حدث بأثناء إقامتي في حمامات فيشي حادث أرغب في تدوينه للفائدة، وهو: بينا كنت ذات ليلة جالسًا في بهو النزل الكبير، وكان من عداد الجلاس ليلتئذ اللورد روسيري رئيس وزارة إنكلترا سابقًا، والغراندوق بول عم القيصر الروسي، والجنرال ليوتي العميد السامي الفرنسي في مراكش؛ إذ دخل قنصل جنرال إنكلترا في انفرس بالبلجيك، وكان صديقًا لي. فلما شاهدني اعترته الدهشة والرعشة معًا، فوقف على بضع خطوات مني ينظر إليَّ، غير مصدق نظره، فعرفت سبب ذلك، وقلت له: أنا هو ولا أزال حيًّا. فتقدم مني مترددًا ولم يهدأ روعه إلا بعد هنيهة. وسبب ذلك، أنه عندما قُتل المرحوم محمد ابن عمي مصطفى في خلال الثورة التي نشبت بالأستانة كما تقدمت الإشارة، نقلت الأسلاك البرقية طبعًا ذلك الخبر ناشرة أن الأمير أرسلان أحد زعماء «تركيا الفتاة» قد سقط قتيلًا أمام البرلمان. ولما كانت صحف أوروبا لا تعرف من عيلتي سواي من حزب تركيا الفتاة؛ أيقنت أنني أنا هو القتيل، ونشر أكثرها سيرة حياتي مؤبنًا إياي تأبينًا حسنًا. ومن النادر أن يتسنى لأحد معرفة ما ستقوله الجرائد عنه بعد موته. وكان زميلي قنصل جنرال إنكلترا واثقًا طبعًا أنني أنا القتيل، فعندما دخل صالون النزل، ووجدني جالسًا على مائدة توهمني روحي قد ظهرت بعد الموت، وهذا كان سبب جزعه ودهشته.
وبعد عودتي إلى باريس ركبت القطار إلى إسبانيا، ويمكنني القول إن العرب الذين مدنوا إسبانيا وأوروبا معًا طيلة ملكهم، لا يزالون يغدقون على الأسبان من نعم آثارهم؛ إذ لا شيء في إسبانيا يستحق الزيارة إلا ما خلفه العرب من الآثار والمباني كجامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة، وإشبيلية وطوليدو. فمتحف الرسوم في مدريد مثلًا لا يوازي عظمة وفنًّا متحف لندن أو باريس. وكنائس إسبانيا لا تضاهي عظمتها عظمة الكنائس الإيطالية والفرنسية. وألوف السياح الذين يؤمون إسبانيا كل سنة لا يؤمونها إلا لمشاهدة آثار مدنية العرب. ففي غرناطة مثلًا أن نظام الري الذي يعمل به الآن هو النظام ذاته الذي وضعه العرب.
لا حاجة هنا إلى إطالة البحث في عظمة تلك الآثار الشهيرة وجمالها؛ لأن كثيرين من الكتاب والسياح قد أفاضوا بوصفهم، ولم يبقوا زيادة لمستزيد فلأتابع كلامي في سفرتي إلى الأرجنتين.
كنت قد وضعت خطة لسفري هكذا: الذهاب من مدريد إلى قرطبة، فغرناطة، فأشبيلية. ومنها أذهب رأسًا إلى ليسبون اقتصادًا من الوقت والنفقة، بديلًا عن أن أعود إلى مدريد لأركب القطار إلى ليسبون.
وفي صباح أحد الأيام شرعت أفحص عن مواعيد سفر القُطر من إشبيلية إلى ليسبون؛ فتعذَّر عليَّ فهم مواقيتها، فسألت ترجمان النزل كي يفيدني عن الساعة تمامًا فأجابني بابتسام: لا يوجد قطار إلى ليسبون. فقلت له بغيظ: وكيف لا يوجد قطار، وقد دفعت ثمن التذكرة؟ فأجاب ضاحكًا: ومع ذلك فلا يوجد قطار يسافر إلى ليسبون. فاغتظت من قحة هذا الرجل، ودخلت على مدير النزل شاكيًا، فأجابني بكل لطف: نعم لا يوجد قطار. ولا شك تجهل أن شبَّت نهار أمس ثورةٌ هائلة في ليسبون، فاز بها الثوار قفز الملك ووالدته، وأعلنت الجمهورية، وانقطعت المواصلات القُطرية بين أسبانيا والبرتغال.
فوقع عليَّ ذلك النبأ كالصاعقة، إذ لم يبقَ بإمكاني العودة إلى مدريد لإمتطاء باخرتي إلى الأرجنتين؛ لأنها ستسافر في ذلك اليوم. وكنت قد أرسلت جميع أمتعتي إليها لتوضع في حجرتي، هذا فضلًا عن أنني لم آخذ معي من الدراهم إلا ما قدرت أنه يكفيني لرحلتي في إسبانيا. فأصبحت والحالة هذه في تلك البلاد الغريبة بلا مال ولا أمتعة. ولم يبقَ بوسعي الوصول إلى الأرجنتين لتسلم وظيفتي في الوقت المعين.
وبعد إنعام الفكرة قلت: عليَّ قبل كل شيء أن أحصل على الدراهم اللازمة لكل طارئ، ثم أخبر الوزارة بما حدث، فأبرقت إلى سفيرنا في مدريد سراي بك أطلب منه الإفادة عمَّا يمكن عمله، وهل بالوسع طلب جواز مرور من الثوار لدخول البرتغال؟ فأجابني ناصحًا بالانتظار. وقد خجلت منه؛ لأنه كان من رفقائي في باريس. ولما كنت في مدريد لم أذهب إلى السفارة للسلام عليه؛ هربًا من المجاملات والدعوات، ولأنني كنت مستعجلًا. ثم أبرقت إلى مصرف «كريدي ليونه» في باريس، وكان فاتحًا لي «كريدتو» كي يرسل لي تلغرافيًّا خمسة آلف فرنك لنفقات سفري. وكان المصرف المذكور قد أصحبني بتحرير كريدتو إلى مصرف لانسيون في بوينس أيرس. وبهذه الوسيلة تسنت لي العودة إلى مدريد. وبقيت طيلة نهاري أبحث بواسطة شركة «كوك» عن طريقة أتمكن بها من الوصول إلى ليسبون لركوب الباخرة. وأخيرًا أفادتني الشركة بإمكان ذلك. ولكنني لا أذكر الآن كيف وعن أي طريق، وإنني سأصرف على الطريق أربعًا وعشرين ساعة، فرضيت بذلك وامتطيت القطار. ولما جنَّ الليل وجدت نفسي وحيدًا في القاطرة من الدرجة الأولى، وقد استولى عليَّ الجوع والعطش، وبما أنني كنت أجهل يومئذ اللغة الإسبانية فقد تعذَّر عليَّ الوصول إلى ما أبتغي. والذي أتى ضغثًا على أبالة هو انطفاء نور غرفتي بغتةً، فأمسيت في ظلمة دامسة. والخلاصة أن رحلتي تلك كانت من أشأم الرحلات. وبعد أن قضيت على الطريق يومًا كاملًا؛ وصلت ليسبون فوجدت المحطة خالية من الحمَّالين فاضطررت أن أحمل حقائبي. ولحسن الحظ كان نزل «أفانيدا بلاس» بجوار المحطة، ولما دخلته ألفيت أكثر زجاج النوافذ محطمًا من رصاص الثوار.
ولم أكد أضع حقائبي في الغرفة التي أُعدت لي، حتى هرولت إلى إدارة شركة البواخر الإفرنسية أسأل عن ميعاد وصول الباخرة. وليتصور القارئ عظم استيائي عندما أجابني المدير أن الباخرة لا ترسو في ليسبون بسبب الثورة؛ إذ بعد أن قضيت نهارين وثلاث ليالٍ أنزل من قطار إلى قطار وأترك بلدة للنزول في أخرى؛ سعيًا وراء الوصول إلى الباخرة، فلما وصلت الثغر؛ قيل لي: إنها لا ترسو فيه بسبب الثورة.
فرقدت تلك الليلة في غرفتي بذلك النزل الفخم، والأرياح تخفق فيه بسبب تكسر زجاجه، وقد صممت العودة إلى باريس في قطار الإكسبرس. وكانت صحف باريس قد أرسلت بعض محرريها إلى ليسبون بسبب الثورة للوقوف على حقيقة الحالة ووصفها، ولحسن الحظ نزلوا حيث أنا نازل، وهكذا قضينا ليلتنا بالسمر.
وبعد ظهر اليوم التالي، جاءني مدير الشركة يقول: إن الباخرة قد وصلت وستقف بعيدًا عن الثغر لإنزال بريدها، فعجل بركوب زورق إليها، فهرولت مسرعًا. وهكذا تسنى لي امتطاء الباخرة بعد أن عانيت في هذا السبيل ما عانيت. ولم تلبث أن شرعت تمخر عباب اليم الهائج إلى الأرجنتين. وحينئذ بدأت أسائل نفسي: ماذا يا ترى قدر لي في هذه الرحلة؟ وبينا كنت مستسلمًا لأعِنَّة أفكاري، وقد آذنت الشمس بالمغيب، وإذ شاهدت يختًا يمر بالقرب منا قاصدًا ثغر ليسبون، فأخذني العجب إذ لم أجد فيه راكبًا حتى، ولا علمًا يدل على هويته حسب القوانين. ولما صوبت إليه نظارتي، قرأت على جانبه «الملكة أماليا» ففهمت أن ذلك اليخت هو يخت الملك الفار، وهو باسم والدته الملكة أماليا، وعليه قد تمكَّن الملك ووالدته من الهرب. ولما كان القبطان يجهل ألوان العلم الجمهوري، اضطر إلى دخول الثغر دون علم.
وقد تفضل قبطان الباخرة ودعاني للأكل على مائدته، وقد شاهدت بين الركب قنصل فرنسا في سان باولو، وكولونيلًا في الجيش الفرنسي، ورئيس البعثة العسكرية. واتفق أن ذلك القبطان كان من الكتبة، وقد ألَّف روايات عدة، الأمر الذي أدى إلى توطيد العلائق بيني وبينه، وكان يدعوني مرارًا إلى غرفته لتبادل الآراء.
ولما وصلنا ميناء ريو دي جانيرو باكرًا بعث من يوقظني لمشاهدة جماله وعظمته. وعندما نزلنا إلى اليابسة اكتريت سيارة، واستصحبت معي قوتشلير الباخرة للنزهة. ولما عدنا من التنزه سألت السائق عن الأجرة، فطلب مني ألف ريس، فقلت له: أنا لا أسألك عن ثمن السيارة، بل عن أجرتها، فضحك القومسير قائلًا: هنا يحسبون دائمًا بالألوف والقيمة التي طلبها هي ثلاثون فرنكًا.
ولما آذنت ساعة السفر كان قد عرف بوجودي بعض المواطنين، فتلطفوا وزاروني مبدين أسفهم؛ لجهلهم وجودي في الباخرة إلا متأخرًا، مما دلَّني على أن الكرم العربي لا يفارق أبناء وطني أين وجدوا.
وشد ما كنت دهشتي عند وصول الباخرة ثغر سانطوس، إذ وجدت كثيرين من مواطني في سان باولو وبمقدمتهم الأديب شكري أفندي الخوري صاحب جريدة «أبو الهول»، وقد عانوا مشقة السفر لتحيتي. وألقى شكري أفندي خطابًا وجيزًا مفعمًا بالعواطف الكريمة، ثم دعوني للنزول إلى اليابسة، فذهبت مع رهط وافر من المواطنين نشاهد المدينة وضواحيها، وتناولنا الطعام معًا في أحد المتنزهات. وخلاصة القول: لقد قضيت ذلك النهار مسرورًا جذلًا برفقة مواطني الكرام، خصوصًا؛ لأن تلك النزهة كانت خلوًا من الرسميات.
وكنت قد تعرفت طبعًا بأكثر الركاب، من عدادهم عم وزير الزراعة في الأرجنتين، فاغتنمت الفرصة واستعلمت منه عن قوانين الزراعة والمهاجرة وغير ذلك.
وعندما وصلت مونتفيدايو دهشت دهشًا عظيمًا؛ إذ وجدت أن قد جاء وفد من أبناء الجالية في بوينس أيرس لملاقاتي من قِبل لجنة انتخبها مواطني؛ للاحتفال بالقنصل الأول.
ولما أقبلت الباخرة على ميناء بوينس أيرس أمر ربان الباخرة برفع العلم العثماني على الساري الأعلى. وقد وجدت على المرفأ جمعًا غفيرًا من المواطنين يزيد عددهم على عشرة آلاف نسمة، ومعه جوقتان من الموسيقى. والأغرب أن رئيس البلدية قد سمح بذهاب موسيقى العاصمة إلى الميناء أيضًا.
وبعد أن اضطررت إلى ارتجال عدة خطب جوابًا على خطب الخطباء وقصائد الشعراء، نزلت إلى اليابسة، فحصل تزاحم شديد عسَّرَ على رجال البوليس حفظ النظام وتفرقة الجماهير. فقلت في نفسي: لقد بذلت ما بوسعي ليكون مجيئي إلى بوينس أيرس سرًّا دون أن يدري بي أحد؛ كيلا تقام لي احتفالات وتجري تظاهرات، فانظري الآن إلى وقوع ما حاذرت منه، وتأملي فيما أسفرت عنه تحوطاتك.
وإثر وصولي إلى عاصمة الأرجنتين أبرقت إلى وزارتنا علمًا بوصولي، وكتبت إلى وزير الخارجية الأرجنتينية أخبره بذلك، وأفيده أن جلالة السلطان قد كلفني أن أقدم لحضرة رئيس الجمهورية الوسام المجيدي الأول المرصع، وأطلب تعيين ميعاد تقديمه. فوردني منه جواب يفيدني أن الرئيس يستقبلني الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم التالي.
ولما كان الحضور في الأجل المضروب واجبًا في المقابلات الرسمية والسياسية، والتأخر يُعد إثمًا لا يغتفر، عوَّلت أن أكون هنالك في الوقت المعين. وعندما كادت ساعة المقابلة تأزف وجدت أن القوتشلير الذي عليه مرافقتي وحمل الوسام لم يأتِ بعد. فاستأت أي استياء، واضطررت إلى انتظاره على أحرَّ من الجمر. وأدركت «قلة حظي» في تعيين ذلك المساعد الذي لم أعرفه إلا بعد وصوله. إن جميع موظفي الأتراك الذين عرفتهم كانوا من ذوي الفهم وأرباب الذكاء. أما هذا الموظف فكان خاليًا منهما، وزد على ذلك أنه لم يكن يحسن الكتابة لا بالتركية ولا بالإفرنسية اللغتين الرسميتين. فكنت أضطر أن أملي عليه ما تحتاج إليه القنصلية من الرسائل، وهكذا بديلًا عن أن يكون مساعدًا لي أصبح عالة علي.
ولما طال انتظاري للقوتشلير، ولم يحضر عزمت على الذهاب وحدي، بيدَ أنني لم أكَدْ أتهيأ لركوب العربة إلا حضر حضرته، فأركبته معي. ووصلنا لحسن الحظ وزارة الخارجية بالوقت المعين. فصعدنا إلى مكتب رئيس الجمهورية الدكتور «ساينس بينيا» يتقدمنا مقدم السفراء. ولما فتح الباب وجدت الرئيس ينتظرني في نصف القاعة، فقدمني إليه رئيس التشريفات، وبعد أن صافحني قدمت له القوتشلير. وكنت قد هيأت بالإفرنسية خطابًا وجيزًا استظهرته مآله: أن مولاي السلطان الأعظم، بمناسبة معاهدة الصداقة والتجارة مع الجمهورية الأرجنتينية التي وقعتموها فخامتكم مدة سفارتكم في رومية، قد شرفني أن أكون أول ممثل له أمام حكومتكم، وأن أقدم لفخامتكم وسام المجيدي من الدرجة الأولى مرصعًا، عربونًا على فاتحة عهد الصداقة بين الحكومتين، ولي الثقة التامة أن حكومتكم تسهل لي القيام بمهام وظيفتي، إلى غير ذلك. وقدمت له الوسام فأخذه شاكرًا، وشرع يجيب على خطابي، وسرعان ما استحوذت عليَّ الدهشة عندما سمعته يتكلم بالإسبانية، ولم أكن يومئذٍ أفهم شيئًا منها. وجل ما فهمت كلمات شبيهة بالفرنسية أدركت منها أنه ذكر اسم عيلتي، وأنها عريقة بالنسب، وكرر مرارًا اسم تركيا الفتاة. والعجب أن مقدِّم السفراء بعد أن قدمني للرئيس انسحب بلباقة، ولم يكن حاضرًا تلك المقابلة إلا نحن الثلاثة. وبما أنه كان يطلب مني أن أقدم تقريرًا إلى وزراتنا أصف به بتفصيل تلك المقابلة، شرعت أسائل نفسي كيف يمكنني فعل ذلك، وأنا لم أفهم خطاب الرئيس الطويل.
وبعد أن فرغ من كلامه قدمت له تحرير السلطان الذي كان مكتوبًا باللغة التركية طبعًا، واحتفظت بترجمته في جيبتي.
وبعد أن خرجت من هذه المقابلة، كنت موقنًا أن الرئيس سيطلب مني ترجمة تحرير السلطان؛ ليتسنى له الجواب عليه.
وقد تحقق يقيني؛ إذ لم يمض يومان حتى جاء سكرتير الرئيس الخاص يطلب ترجمة التحرير؛ لأنه لم يوجد في الوزارة من يعرف التركية. فسحبت أحد أدراج مكتبي وناولته الترجمة قائلًا له: لقد كانت في جيبتي ساعة المقابلة، ولم أشأ تقديمها، لأنه من أخبر حضرة الرئيس أنني أفهم الإسبانية حتى خاطبني بها؟ إنني لم أدرك ما فاه به حضرته لأبعثه إلى وزارتي.
فضحك السكرتير قائلًا: إذًا لقد كان عملك انتقامًا. فصمتُّ وضحك. فقلت: أرجو أن تلتمس من حضرة الرئيس كي يملي عليك صفوة ما قاله، فوعدني خيرًا. وعاد بعد يومين مع الخطاب، وقال لي: إن حضرة الرئيس قد سُرَّ كثيرًا من كيفية انتقامي منه.
وقد أدت هذه الحادثة إلى عطف الرئيس عليَّ، مما يدل على أنه كان كبير النفس شريف الأخلاق.
ثم شرعت برد الزيارات الرسمية للوزراء وكبار متوظفي الحكومة. وحدثت بيني وبين وزير الزراعة يومئذ الدكتور لوبوس مناظرة عنيفة، وإلى القارئ صفوتها:
رافقني في هذه الزيارة الدكتور غلياردو حاكم الريو نيغرو وقتئذٍ؛ إذ تفضل أن يكون الترجمان بينه وبيني. وبعد مبادلة التحيات المألوفة قال الوزير: أغتنم هذه الفرصة كي أصرح لحضرتك أن المهاجرين الذين يأتون من بلاد الدولة العثمانية ليسوا من المرغوب فيهم؛ لأننا نريد عمالًا يفلحون ويغرسون، وليسوا بائعي «كشه» يملئون الأزقة بسلعهم. فكان هذا الانتقاد الجارح الصدمة الثانية لمهمتي؛ إذ كانت الأولى مناقشة مجلس الشيوخ بشأن الجالية التي كنت أول ممثل لها. وقد احمرَّ وجه الدكتور غلياردو خجلًا وأحجم عن الترجمة. أما أنا فقد كنت فهمت الكثير من كلامه. وبعد أن زالت دهشتي من هذه المفاتحة؛ قلت: قد فهمت ما فاه به حضرة الوزير؛ ولهذا أرجو أن تنقل له جوابي بالحرف: نعم من الأسف أن يكون القسم الأوفر من مواطني بائعي سلع، ولكن ذلك ليس ذنبهم، بل ذنب قانون الاستعمار الذي سنته حكومتكم.
فسأل الوزير بدهشة: وكيف ذلك؟ فأجبته: إن القانون ينص على أن من يريد أن يحصل على قطعة أرض لاستعمارها؛ فعليه أن يبني فيها بيتًا، ويزرع عشر هكتاريات، ويشتري أدوات زراعة وحيوانات وحبوبًا؛ بما لا تقل قيمته عن عشرة آلاف ريال. هذا فضلًا عن معاملات عديدة شاقة طويلة الأمد كثيرة الأكلاف، وعن الوسطاء والسماسرة الذين يسلبونه آخر درهم معه. فالعثماني الذي يملك في بلاده هذه القيمة المطلوبة، أو أقل منها لا يهاجر. فإذا شاءت الحكومة استثمار العمال وتعمير الأراضي البور؛ فعليها بالتفتيش عن العمال العثمانيين واستخدامهم؛ لأن العامل الأوربي لا يضاهي العامل العثماني قوةً ونشاطًا. هذا فضلًا على أنه ندر جدًا وجود سكيرين وسلابين ومجرمين بين العمال العثمانيين، وهم لا يضربون عن العمل كما يضرب الأوربيون. ويتصفون بصفات حميدة وفضائل حسنة لا تجتمع بأيٍّ كان من المهاجرين الأوربيين.
فبهت الوزير من هذا الجواب، وبعد أن تفكر قليلًا قال: وما هي الوسيلة التي تجعلهم يرغبون في استعمار الأراضي؟ فأجبته: إن خير وسيلة بنظري هي إعطاؤهم الأرض مجانًا، وتسهيل مشترى أدوات الزراعة على وعدات طويلة، والاتفاق مع أحد المخازن ليسلفهم ما يحتاجون إليه من الطعام والثياب، ثم استبقاء ما له عندهم من ثمرة أتعابهم على سنين معدودة. إنكم إذا سهلتم أمامهم هذه الأمور؛ فأنا الكفيل أنهم سيتحولون إلى الزراعة، وتستفيد البلاد منهم فائدة جُلَّى.
فأحجم الوزير عن الجواب، ثم قال لي بعد هنيهة: أراك مصيبًا بعض الإصابة برأيك هذا. وبعد أن اعتذر عن ملاحظته التي أبداها لي بشأن الهجرة العثمانية، انتهت المقابلة على صداقة.
وقد عوَّلت على القضاء على تلك «الكشة» التي كانت سبب حملة الحكومة والصحافة والرأي العام على المهاجرين العثمانيين. ولهذا عندما قابلت الدكتور خواكيم انشورينا رئيس البلدية، رجوته أن يساعدني بمنع البيع «بالكشة»، فقال لي: إن الدستور يحول في سبيل بغيتي هذه؛ لأنه يقول صراحةً بحرية التجارة. فقلت: لكل قانون «برمة ولفتة» كما يقولون؛ فلماذا لا تقتدي بالرسوم الجمركية؟ فإن الحكومات بديلًا عن أن تصرِّح بعدم رضاها عن دخول بضاعة ما إلى بلادها، تفرض عليها رسمًا باهظًا يحول دون دخولها.
فقال: لا بأس إذًا؛ فسنضاعف إجازة البيع «باطنطا». فقلت ولماذا لا تجعلونها أربعة أضعاف مثلًا؟ قال: يصعب زيادتها هذه الزيادة الكبيرة دفعة واحدة. إلا أننا سنضاعفها هذه السنة، ثم نضاعفها السنة القادمة؛ فتصبح باهظة كما ترغبون، وهكذا كان. وعلى الرغم من أنني لم أبُحْ لأحد بعملي هذا؛ فقد عرف التجار الذين كانوا يستفيدون من بائعي «الكشة»، واغتاظوا غيظًا شديدًا.
وبعدئذ رغبت في الوقوف على حالة أبناء الجالية التجارية، فحررت إلى المصارف الكبيرة أسألها؛ كي تفيدني بتحفظ وتكتم عن حالتها التجارية، فأجابتني جميعها، وقد علمت أن بنك لانسيون وحده كان يرسل شهريًّا تحاويل إلى الدولة العثمانية، أي إلى سورية ولبنان، بما يقارب المليون من الفرنكات. ثم كتبت إلى رئيس الشرطة أطلب منه كي يخبرني عن درجة الإجرام التي يرتكبها العثمانيون بالنسبة إلى سائر المهاجرين، فوردني منه جواب يقول: إنها كانت أقلها. مما أثبت قولي السابق لوزير الزراعة، ثم سألت الشركات التي لها علاقة بهم، فأجابتني جوابات حسنة. كل هذه الاستعلامات كانت واجبة للاطلاع على أحوال الجالية؛ كي أتمكن من الدفاع عنها عند كل تحامل أو انتقاد.
الدكتور خواكيم غونسالس
إن هذا الرجل العظيم الذي فقدته الأمة الأرجنتينية، وقال عنه مؤبِّنوه: إنه سيكون بمنزلة «سرمينتو» في المستقبل، والذي تولى وزارة الداخلية على عهد رئيسين للجمهورية، ووزارة الخارجية في إبَّان الأزمة السياسية مع تشيلي. إن هذا المتشرع الكبير كان الصديق الوحيد للجالية العثمانية، وهو وحده الذي دافع عنها في مجلس الشيوخ دفاعًا مجيدًا. ومع ذلك فهو الوحيد الذي غمطت الجالية حقه، ولم تقدر صداقته وخدماته لها. لا بل فإن مواطنينا في لاريوخا، حيث ولد الفقيد، كانوا يعاكسونه في الانتخابات. وبينا نرى الجالية تكرم هذا وتحتفل بذاك، وتضع الصفائح النحاسية والأكاليل على قبر ذلك، لا نراها اهتمت بإحياء ذكرى صديقها الحقيقي الذي ناضل عنها في ساعة الضيق، عندما لم تكن شيئًا يذكر، ولم يكن لها مقام ينظر. والأغرب أن بعض المُحتفَى بهم قد وافق على منع الهجرة السورية، ومع ذلك فهو بنظر الجالية جدير بكل حفاوة.
لقد قلت سابقًا: إنني عندما عرفت في الباخرة عن دفاع الدكتور غونسالس عن الجالية، صممت على زيارته شكرًا له. وهكذا كان؛ فقد قصدته في منزله الخاص، فوجدت أن ذلك الرجل العظيم لم يكن عنده بهو خاص بالاستقبال، بل ثلاث غرف كبيرة حافلة بالكتب. وكان لحسن الحظ يحسن الإفرنسية، فلم أحتج إلى مترجم، وقد أكرم وفادتي وأظهر نحوي كل عطف ومودة. ولم تمضِ بضع دقائق على زيارتي، حتى أصبحنا كأننا صديقان منذ عهد طويل. ولما أخبرته بمأرب الزيارة، قال: إنني لم أعمل إلا ما أوحاه ضميري ومعتقدي. إن الرأي العام الأرجنتيني مخطئ باعتقاده أن العثمانيين لا يصلحون إلا لبيع السلع في الأزقة. فقصصت عليه ما دار بيني وبين وزير الزراعة، فاستصوب رأيي وقال: أؤمل ألا يطول العهد على وجودك بيننا، حتى تتبدل الأفكار بشأن الجالية العثمانية.
وبعدئذ شرعنا نتجاذب أطراف الأحاديث بمواضيع أخرى فقال لي: لقد قرأت أنك كنت قنصلًا جنرالًا في بروكسل العاصمة البلجيكية؟ فأجبته: نعم، وقد لبثت فيها عشر سنوات تمامًا. فقال: يوجد فيها عالم قانوني متشرع شهير، هو بنظري أعظم متشرعي أوروبا الآن. وبما أنني أستاذ علم حقوق الدول في جامعة «لا بلانا» التي أنا رئيسها، وألقي على تلامذتي دروس ذلك العالم؛ فهل يسعدني الحظ يا ترى بالتعرف عليه؟
فأجبته: يوجد في البلجيك ثلاثة من علماء الشرع الشهيرين؛ فإلى أي منهم تشير، يا حضرة الدكتور؟ فقال: إلى العلامة أرنست نيس.
فضحكت، وقلت له: إنه أعزُّ صديق لي في البلجيك، وكنت أتناول الطعام معه على مائدة واحدة ظهر كل يوم تقريبًا.
فأبرقت أسرَّته، وأخذ يسألني بتلهف عما أعلمه عنه. وبعد أن كلمته عنه طويلًا، قال: إذًا لي عندك ملتمسٌ أرجو أن تنيلني إيَّاه، وهو أن تكتب له ليحضر إلى هذه البلاد كي يلقي على تلامذتي بعض محاضرات يختار هو مواضيعها. وإني قابل سلفًا بكل ما يطلب ويشترط. فقلت له: آسف، يا حضرة الدكتور، أن أفيدك أن الرجل غريب الأطوار، لا يهمه مال ولا جاه. وهو لا يخرج من مكتبته إلا لإلقاء دروسه، ثم إلى رئاسة المحكمة الحقوقية. حتى إن ملك البلجيك نفسه لم يتمكن من أن يجعله يقبل دعوته على الأكل معه. ولم تطأ رجلاه أبدًا عتبة قصر الملك في الاحتفالات الرسمية، مع أن الملك كان يستدعيه مرارًا؛ لاستشارته في أمر خلافه مع إنكلترا بخصوص الكونغو.
إلا أن الدكتور غونسالس ألحَّ عليَّ بإرسال تحرير له، فوعدته بذلك، وحررت لصديقي العلامة فوردتني منه رسالة يعتذر فيها عن عدم قبوله الدعوة بدروسه وتأليفه. وكان صداقتي للعلامة نيس سببًا لتوطيد العلاقة مع الدكتور غنوسالس.
وبعد برهة نشرت جريدة لا برنسا مقالًا من العلامة كلارتي الكاتب الفرنسي الشهير، وأحد أعضاء المجمع العلمي، ورد فيه كثير من الثناء عليَّ. فتفضل الدكتور غونسالس بإرسال ذلك المقال لي مترجمًا بيده. فكانت صداقتي لهذين العلامتين بمثابة شهادة امتياز لي عند الدكتور غونسالس. وقد توطدت أواصر الصداقة بيننا فكنا نذهب مرتين كل أسبوع للتنزه معًا في العربة. وفي ذات يوم قال لي: قد رأيت ليلة أمس منامًا جميلًا، وهو أنك جئت إلى جامعة لا بلانا وألقيت محاضرة على تلامذتي عن صديقك العلامة نيس، فضحكت من براعة مطلبه، وأجبته أن منامك أيها الصديق سهل تحقيقه، ولكنك تعلم أنه لا يمكنني الخطابة بالإسبانية. فأجاب: إن جميع تلامذتي يفهمون الإفرنسية. فلم أر بدًّا من الامتثال وتلبية الطلب.
المتاعب والمشاكل
مضى على وصولي عشرون يومًا ولم تصلني من الأستانة الأوراق الرسمية كالباسبورتات والسجلات وأوراق «التمغة» وغيرها. أما الجالية فقد ملَّت الانتظار وضاق ذرعها؛ فإنها وقد انتظرت ثلاثين سنة حتى أنشئت لها قنصلية لم تُطِق الصبر ثلاثة أسابيع ريثما تصل تلك الأوراق. فلما وصلت وبدأنا بالعمل وجدت صعوبة جديدة لا مثيل لها في القنصليات الأوربية، وهي تغيير الأسماء، والإفرنج يعيرون أهمية عظيمة على كتابة الأسماء؛ إذ تغيير حرف واحد يستلزم تقديم عرض طويل عريض لتصحيحه.
فوجدت مثلًا أن من كان اسمه عبد الله سمي نفسه سلفادور، ومن كان يُدعى نجيبًا صار يدعى خوانًا، والذي يدعى أحمد أسمَى ذاته ترسيسو، وهلمَّ جرا. وكان إذا وقع لأحد هؤلاء المواطنين مشكل شرعي، يرسله متوظفو المحكمة ليأخذ شهادة من القنصلية فيأتي يطلبها. وبما أنه لا يجوز إعطاء الشهادة المطلوبة دون إبراز وثائق رسمية أو شهادات، كنا نطلب منه ذلك. فإذا تعذر عليه إبراز الوثائق الرسمية، كان يقول لنا «ابعثوا اسألوا عني. وعبثًا كنا نحاول إفهامه أن على الطالب أن يحضر شهوده إلى القنصلية، وليس على القنصلية أن تذهب لتسأل شهوده في منازلهم.
ولما كان يحضر إلى القنصلية لا أقل من خمسين شخصًا كل يوم للمعاملات العادية، وكنا نبذل الجهد لإنجازها في اليوم نفسه، على الرغم من الوقت الطويل التي تحتاجه، فليتصور القارئ إذًا مقدار المتاعب التي كنا نتحملها لإنجازها وإنجاز إعطاء الشهادات لطلابها، مع ما تقتضيه كل شهادة من الوقت والمعاملة.
وقد بذلت جهدي لتسهيل معاملات المواطنين، حسب الإمكان. وتوفيرًا للنفقات أشرت بالعمل بموجب مادة قديمة في قانون القنصليات، وهي إعطاء شهادة التابعية كي يسهل على حاملها إتمام أشغاله، سواءً في المصارف أو في الدوائر الرسمية أو في إدارات البرق والبريد. إلا أن البعض، نكايةً في الترجمان الأول الذي عينته للقنصلية؛ شرع يناهض هاته الفكرة؛ متذرعًا بالقول إن لبنان مستقلٌّ، وإن على اللبنانيين الرفض أن يكونوا من التبعة العثمانية. وإن مسألة التابعية هي من مخترعات حكومة تركيا الفتاة الجديدة. وعبثًا كنت أقنع هؤلاء المتعنتين، وأطلعهم على قانون القنصلية الذي كان مطبوعًا منذ خمس وعشرين سنة، وأقول لهم إن سائر القناصل يعطون شهادة التابعية، ولم يعترض أحد من اللبنانيين على ذلك؛ فإنهم أظهروا عدم الاقتناع؛ لأن معارضتهم كانت حبًّا للنكاية ليس إلا. ولسوء الحظ إن معظمنا لا يقدم على القيام بعمل ما عن إخلاص ونزاهة، بل إما عن غاية ونكاية، وإما مسايرة وتحزبًا.
والذي أتى ضغثًا على ابالة، ورود أمر من الوزارة العثمانية مآله: إن جميع المعاملات القنصلية يجب أن تكون إما باللغة التركية وإما باللغة الفرنسية. ولا يخفى ما بذلك من الصعوبة والنفقات؛ لأن كل ورقة يجب أن تترجم إلى إحدى هاتين اللغتين. ولما كنت أعلم أن هذا الأمر سيقع وقعًا سيئًا على الجالية، كتمته عن الجميع، وحررت إلى وزير الخارجية تحريرًا خصوصيًّا أعرض له أن يصعب تنفيذ أمر الوزارة بهذا الصدد؛ لأن التسعة والتسعين في المائة من المهاجرين العثمانيين هم من السوريين واللبنانيين، وهم لا يعرفون إلا الأسبانية والعربية. وإنني مستعد لإجراء المعاملات بأربع اللغات المذكورة؛ تسهيلًا على مواطنينا وتوفيرًا للنفقات الباهظة التي تتطلبها. وسأعمل بذلك ريثما يرد أمر من دولته يحظر عليَّ ذلك. فلم يجبني حضرة الوزير على تحريري هذا، وهكذا ظللت أجري المعاملات باللغات الأربع.
قانون المهاجرة ومعاهدات الإرث وتسليم المجرمين
إن أهم أمر وجدته حين تسلمي قنصلية الأرجنتين، هو وجوب وضع نظام للمهاجرة أسوة بالدول الأوربية. فحررت بذلك إلى وزير الخارجية مبينًا لها أهمية ذلك القانون، إذ يوجد نصف مليون من العثمانيين المهاجرين في أمريكا الشمالية والجنوبية وأفريقية. وشد ما كانت دهشتي عندما وصلني جواب من الوزير، يقول فيه: حيث إنكم أعلم الجميع في هذه المسألة، فضعوا قانونًا بهذا الصدد لعرضه على مجلس النواب.
وقد جاء أمر الوزير هذا بليةً على بلية، إذ لم يكفني تراكم أشغال القنصلية السياسية والإدارية عليَّ حتى جاءني هذا الشغل فوق حملي الثقيل، فاضطررت أن أزور زميلي قنصلي إسبانيا وإيطاليا؛ طالبًا من كل منهما نظام المهاجرة عند حكومته ومبادلة الآراء معهما بهذا الشأن. وبعد أن درست الموضوع درسًا دقيقًا من جميع وجوهه، مستنيرًا بنور قانوني المهاجرة الإسبانية والإيطالية؛ وضعت قانونًا خلته مناسبًا لأبناء وطني. بَيْد أنني قبل أن أرسله إلى الوزارة؛ أحببت أن أستشير أبناء الجالية بشأنه؛ ليكون أقرب إلى الكمال المنشود، ولكي لا يتهمني أحد بالاستبداد في الرأي، فعربته ونشرته في الصحف العربية التي تصدر في عاصمة الأرجنتين، طالبًا من القراء أن يرسلوا لي ما يبدو لهم من الملاحظات عليه لأدرسها، فلم يتفضل أحد من المائة ألف مهاجر عثماني في الأرجنتين بكتابة ملاحظة لي عنه. فقلت في نفسي: إذا عمل بموجب هذا القانون وظهر فيه خلل أو نقص، تنهال عليَّ عندئذٍ الانتقادات والملاحظات والتهكمات.
ثم شرعت أدرس مع مستشار وزارة الخارجية الأرجنتينية مشروع معاهدة تسليم المجرمين، فطلبت منه منع المهاجرين من تغيير أسمائهم؛ إذ يصعب حينئذ عليَّ وعلى الحكومة البحث عن مجرم من بلاد الدولة العثمانية يلتجئ إلى الأرجنتين، ويتستر باسم آخر. وبهذه المناسبة أذكر الحادثة التالية للتفكهة:
جاء القنصلية في صباح أحد الأيام مواطن تبدو على محيَّاه سيماء الغضب والتهيج، وطلب مقابلتي رأسًا دون ترجمان ولا قونشلير، فأذنت له. وكنت تعودت منذ عهد قنصليتي في بلجيكا أن أقابل الناس وجهًا لوجه؛ إذ قد اتفق أن نوتيًّا يوناني الجنس عثماني التبعة أراد اغتيال قنصلنا في انفرس، بينا كان يوقع إمضاءه على ورقة، وقد أدار ظهره إلى النوتي. وفي الوقت نفسه اغتال أحد عملة الإيطاليين قنصله في مرسيليا. وبما أن القناصل مضطرون لاستماع شكاوى جميع تابعيهم من أية طبقة كانوا ولو معتوهين؛ كنت كما قلت سابقًا أقابل من يرغب من مقابلتي وجهًا لوجه، واضعًا فوق مكتبي مسدسًا من جنس «سميث ووطس» محشوًّا، فإذا وجدته متهيجًا ثائرًا كنت أفرغ أمامه المسدس، ثم أعيد حشوه وأكرر تلك العملية ريثما يهدأ ثائره، وتعود إليه سكينته. وهكذا فعلت مع ذلك الرجل. فلما سألته ما يريد، قال: إن فلانًا من قريتي قد سرق لي امرأتي واسمي. فقلت في نفسي: إن الرجل فاقد رشده، ثم أعدت السؤال عليه: وكيف يمكن ذلك؟ فامرأتك ليست سلعة لتسرق، فلا شك أنها قد ذهبت معه بملء اختيارها. أما اسمك فلا يستطيع أحد سلبه منك، لا هي ولا هو. فقال: بلى، إن امرأتي كلما أرادت مساكنة أحد تطلب منه أن يتسمى باسمي، وهي في كل شهر تقريبًا تساكن رجلًا، وكل من تساكنهم يحمل اسمي. فلم أتمالك من الضحك من دهاء المرأة والحيلة التي التجأت إليها. فقلت له: ما اسمك هنا؟ فأجاب: عندما وصلت هذه البلاد سميت نفسي سلفادور. فسألته: وما اسمك الحقيقي؟ فقال: فلان. فقلت: إذًا قد استعرت لك اسمًا أرجنتينيًّا؟ أجاب: نعم. فسألته: وهل اتخذت باسمك الجديد براءة من الحكومة لتمنع أيًّا كان من التسمي به؟ فأجاب سلبًا. فقلت له: إن جلَّ ما يمكنني عمله هو الطلب من الحكومة؛ كي تعيد لك امرأتك المسروقة. فأجاب ساخطًا: لا، لا. إنني لا أشاء في إرجاعها إلى بيتي؛ لأنها كيت وكيت. وخرج غاضبًا لأنني لم أعد له اسمه المسروق.
وبينما كنت أواجه كل يوم مشكلة من المشاكل الجمة التي وقعت في أثناء قنصليتي في الأرجنتين؛ تسعرت نيران الحرب بين إيطاليا وطرابلس الغرب. وكنت أتسلم كل يوم تقريبًا عدة برقيات تفيد نشوب قتال وخصام بين العملة العثمانيين والإيطاليين في الأرجنتين. وكان يتفق مرارًا أن ألتقي بسفير إيطاليا في وزارة الخارجية، فكان كل منا يشكو الآخر بأن شعبه هو المعتدي.
ولم يكفنا هذا، بل جاءنا النائب الإيطالي السنيور رومولو موري من إيطاليا؛ ليلقي محاضرات بشأن هذه الحرب، وعقبه الصحافي الإفرنسي المشهور «جان كارير».
وحبًّا للإيجاز أكتفي بترجمة التحارير التي تُبُودلت في هذا العهد بيني وبين رئيس الشرطة يومئذ الجنرال «دلا بياني»، والتقرير الذي أرسلته إلى عاصم بك وزير خارجيتنا:
٤ تموز ١٩١٢م
حضرة الجنرال دلا بياني، رئيس بوليس بونس
أيرس
أعلنت جرائد اليوم أن النائب الإيطالي رومولو موري سيلقي يوم السبت القادم محاضرة في البوليتيامه عن الحرب في طرابلس الغرب.
أسأل سعادتكم عما إذا كنت رخصتم له بإلقائها، وأرجو أن تكون اتخذتم الاحتياجات من أنه لا يمس عواطف العثمانيين.
اقبل يا حضرة الجنرال فائق الاحترام.
جواب
تموز ١٩١٢/٨م
حضرة قنصل الدولة العثمانية العام، بونس
أيرس
سرني تلقي تذكرتكم الكريمة رقم «٤» الجاري، التي بها تستدعون اهتمامي لمحاضرة النائب الإيطالي رومولو موري المتعلقة «بإيطاليا والحرب». ويسرني أيضًا أن أذكر لسعادتكم كون الخطيب قد تداركته البوليسية، وأبلغته مقدمًا ألا يتفوه قط بكلمة تمس شعائر الأمة التي تمثلونها سعادتكم بكل لباقة، والتي تحافظ الأرجنتين على ولائها وحسن العلاقات معها.
وبناءً على تصريح السنيور موري بأنه لا يتعرَّض قط لشعائر الجالية العثمانية سُمح له بإلقاء المحاضرة، وقد حافظ فيها تمام المحافظة على تعهده، ولم يجد البوليس وجهًا لمنعه.
أغتنم هذه الفرصة لأحيي سعادتكم بكل احترام.
رسالة شكر
عدد ٢٥٠
بونس أيرس ١٠ تموز ١٩١٢م
حضرة الجنرال
أتشرف بأن أعلن لكم كوني تلقيت مذكرة سعادتكم رقيم «٨» الجاري المتعلقة بمحاضرة السنيور رومولو موري.
أرجو من حضرتكم أن تتقبلوا خالص تشكراتي للتحوطات التي اتخذتموها؛ لكي لا تمسَّ عواطف العثمانيين المقيمين في هذه الجمهورية.
اقبل يا حضرة الجنرال فائق احترامي الداعي.
تقرير للوزارة الخارجية
بونس أيرس ١ تموز ١٩١٢م
صاحب العطوفة عاصم بك، وزير الخارجية،
أستانة
عطوفة الوزير
أتشرف بأن أعرض لعطوفتكم أن النائب الإيطالي رمولولو موري قدم هذه العاصمة لإلقاء محاضرة في مرسح كبير موضوعها «الحرب العثمانية الإيطالية»، فتحوطت للأمر وبذلت المساعي مع مدير البوليس حضرة الجنرال دلا بياني، مبينًا له ما يمكن حدوثه من جرَّاء محاضرة كهذه بين الجاليتين العثمانية والإيطالية المنتشرتين في هذه الجمهورية، وعدد الأولى منها ١٠٠.٠٠٠، والثانية خمسمائة ألف.
للحال أعلمني حضرة الجنرال أنه أخذ كل التدابير اللازمة لمنع الخطيب من مساس الشعائر الوطنية العثمانية، وأنه عهد إلى قومسير بحضور المحاضرة وتوقيفها إذا بدت فيها مخالفة.
وفي الواقع أن المحاضرة أُلقيت دون أن يذكر الخطيب كلمة تركيا، وقد أيد لي هذا أيضًا بعض من بعثت بهم لحضورها وإبلاغي ما يجري.
مع هذه العريضة قصاصة من جريدة «الأرجنتينا» فيها إيضاح للأمر، ونسخة من صك جواب رئيس البوليس مترجمة.
يعلنون قرب وصول جان كارير الصحافي الفرنسوي المعروف بمعاداته لنا، وفي عزمه إلقاء محاضرات عن الحرب.
بما أني صديق لحضرة وزير فرنسا في بونس أيرس الموسيو فوك ده بارك، رجوت منه أن يُفهم الموسيو كارير الخفة التي ارتكبها بعمله، والنتيجة السيئة التي قد تناله إذا تابع بكلامه خطته العدائية التي اختطها بقلمه، وسأوقف عطوفتكم على ما يكون من هذا الشأن.
تقبل يا عطوفة الوزير … إلخ
بشأن جان كارير
لعطوفة عاصم بك، وزير خارجية
الأستانة
عدد ٢٦٤
آب ١٩١٢م
حضرة الوزير
أتشرف بأن أعرض لعطوفتكم أن الصحافي الفرنسوي جان كارير الذي ذكرت لكم عنه في تقريري رقم ١١ تموز الفائت، عدد ٢٤٩ قد وصل هذه العاصمة منذ يومين، وسيباشر قريبًا إلقاء محاضراته.
كنت في مستشفى كاريدين أستشفي من عملية جراحية مؤلمة عُملت لي في هذا المستشفى، وذات صباح بدأت بمطالعة الصحف، فقرأت عزم جان كارير على المجيء لإلقاء محاضرات في «الحرب الإيطالية في طرابلس»، ولم يفتني أنه مأجور للإيطاليين ليتغنى بمجدهم وشجاعة جنودهم، فعزمت على بذل المساعي مع وزارة الخارجية. ولكن قبل أن أحرر لحضرة الوزير قدم لعيادتي المسيو فوك ده بارك سفير فرنسا، وهو ممن لي شرف صداقته فاغتنمت الفرصة لمفاوضته أولًا، وحمله على إقناع كارير بالعدول عن عزمه، فصرفت من كان في غرفتي واختليت بالسفير، وأطلعته على برقية من باريس معلنة خروج كارير منها إلى هذه العاصمة، وصرَّحت له بأن مهمته قد تكون خطرًا عليه، إذا كان ينوي أن يردد خطابة ما تحامل به في رسائله على العثمانيين والجيش العثماني، يوم كان يكاتب السلطان من طرابلس. فإن العثمانيين هنا لا يصبرون قط على مس عواطفهم الوطنية ولا يرضون بأن يتهجم عليهم رجل يعتبرونه مأجورًا من عدوهم. وإن كارير الذي لم يستطع حمايته في طرابلس نفسها أربعون ألف جندي إيطالي من خنجر أحد الأهالي المتحمسين لشرفهم الوطني؛ فمن الصعب أن يكون هنا محميًّا أفضل من حمايته هناك. وغير بعيد أن يتم أحد العثمانيين هنا ما بدأ به الطرابلسي، فتكون العاقبة وخيمة عليه. ورجوت من المسيو فوك ده بارك أن يفاوض سفير إيطاليا في هذا الشأن؛ لأني لا أستطيع مفاوضته بسبب انقطاع العلاقات بين الدولتين. وقد صدق السفير على قولي، ووعدني بمفاوضة السفير الإيطالي.
مضت الأيام ونحن بانتظار كارير؛ لنعلم ما يكون من أمره. وفي هذه الأثناء جعلت أبحث مع أكبر مشترعي البلاد علنًا، نجد مادة من القانون تُخول القوة الإجرائية حق منعه من إلقاء المحاضرات. وبعد التدقيق وجدنا أن منعه غير ممكن لمخالفته قانون البلاد الأساسي، ولكن هذا لم يثنني على طلب ترضية أدبية.
- (١)
عدم السماح له بالخطابة في مرسح البلدية الرسمي.
- (٢)
أن يمنع البوليس الإيطاليين من التظاهر في الأسواق.
- (٣)
أن يحظر على الخطيب التفوه بما يمسُّ العثمانيين، وشرف الجيش العثماني.
وبعد مفاوضات مع حضرة وزير الخارجية وناظر الشرطة ورئيس البلدية، تمكنت من الحصول على المطالب الثلاثة بتمامها.
مع هذا التقرير قصاصات من الجرائد توضح كيفية استقبال المسيو كارير، وكيف أن البوليس حظره قبل نزوله من الباخرة إلى لزوم الاحتشام في كل ما يقول عن العثمانيين، وكيف أن مفوضًا مخصوصًا من قبل ناظر الشرطة نبَّهه إلى ألا يمس شرف الجيش العثماني في محاضراته، وأن المسيو كارير بعد هذا صرح لجميع من قابله من الصحافيين بإعجابه بشجاعة جنودنا … إلخ
تقبل يا حضرة الوزير … إلخ
تعريب قطعة مما نشرته جريدة «لانسيون» بعد مشافهة مع كارير:
عزم الحكومة الأرجنتينية على قطع علائقها مع الدولة العثمانية
قنصلاتو الدولة العثمانية العامة
بوينس أيرس ٢٦ تموز سنة ١٩١٢م
سري
إلى عطوفة عاصم بك وزير خارجية
الأستانة
حضرة الوزير
لي الشرف أن أحيط عطوفتكم علمًا بأنني توجهت صباح هذا النهار إلى وزارة الخارجية الأرجنتينية؛ للتداول مع مستشار العدلية فيها بشأن معاهدة الإرث؛ إذ لا يخفى على عطوفتكم أننا لم نتمكن إلى الآن من الاتفاق على نصها، لأنني أرى بها غبنًا على الورثة العثمانيين، إذ جلُّ ما يرثونه يذهب بهذه المعاهدة إلى مجلس إدارة التعليم هنا. وقد كنت آمل الوصول إلى اتفاق يرضي الفريقين، بعد أن تمَّ الاتفاق على معاهدة «تسليم المجرمين» التي يهمنا أمرها أكثر من الأرجنتين.
لقد أنهيت أيضًا مشروع المهاجرة لعرضه على مجلس النواب، وسأستصحب هذه المعاهدات حين عودتي إلى الأستانة بالرخصة؛ إذ أرغب في عرض بعض الأمور على عطوفتكم قبل تقديمها. وفي البحث مع عطوفتكم في أمر تعيين القناصل الفخريين في عواصم الولايات هنا؛ إذ وجدت صوبات جمة أريد عرضها على عطوفتكم قبل تعيينهم.
عندما دخلت على سكرتير الوزارة بدهني بقوله: إن الوزير قد وقع أمرًا يلغي به المعاهدة الودادية التي أمضيت منذ سنتين في رومية، ويترتب عليه إلغاء قنصلية الأرجنتين في الأستانة وقنصليتي في بوينس أيرس. فذهلت لدى سماعي هذا الخبر وطلبت مقابلة الوزير فأذن لي، فعرضت عليه ما أخبرنيه السكرتير فأيده، وقال: منذ زمن طويل تصلني شكاوى من قنصلنا العام في الأستانة، مآلها أن حكومتكم لا تهتم به، وأنه كلما طلب مقابلة الوزارة يجد صعوبات جمة، وأن وزارتكم رفضت الاعتراف بولاية قنصليته على جميع أقطار الدولة. وعليه فبناءً على هذه الشكاوى المتكررة، قد قررنا وضع حد لها بإلغاء المعاهدة الولائية.
وبما أنني لم أكن مطلعًا على شيء من ذلك اكتفيت بالجواب التالي:
«إنني أستغرب جدًّا يا حضرة الوزير ما تفضلتم بإبلاغه لي، إذ تسلمت منذ يومين بريد الأستانة، ووصلني من وزيري تعليمات عدة ليس فيها أدنى إشارة إلى القضية التي عرضتموها. وعليه فلا أستطيع الإجابة عنها رسميًّا. وجميع ما أقوله هو منِّي شخصيًّا دون أن أربط حكومتي بشيءٍ في المستقبل. إنني أظن لا بل أثق كل الثقة أن حضرة ممثلكم في الأستانة الدكتور بوزر قد سها عن باله أننا لا نتمكن من الاعتراف بولاية قنصليته على جميع أقطار الدولة؛ لأن ذلك يضطرنا إلى الاعتراف بذلك لسائر الدول كبيرة كانت أو صغيرة. فلفرنسا وإنكلترا مثلًا قناصل جنرالية في الأستانة وأزمير وسورية والقدس وبغداد … إلخ. فإذا منحنا هذا الامتياز لقنصلكم؛ فعلينا أن نمنحه لبقية الدول.»
فأجابني الوزير: ولكنا نحن قد وقَّعنا معاهدة خاصة لم توقعها بقية الدول التي تذكرونها. ونحن أول دولة تنازلت عن الامتيازات الدولية، ويبرهن لكم على ذلك أن براءتكم تقول بأنكم قد عينتم قنصلًا جنرالًا على بوينس أيرس، ومع ذلك فقد سمحنا لكم أن تكون ولاية قنصليتكم على جميع الأرجنتين، ونعاملكم معاملة سفير، لا بل إن السفراء هنا يسمونكم الولد المدلل في الوزارة.
فشكرت دولة الوزير شكرًا جمًّا على الالتفات الخاص؛ معترفًا بأنني لم ألقَ منذ وصولي إلى الأرجنتين إلا كل احتفاء وإكرام، ثم أضفت قائلًا: إذًا بناءً على هذه الدالة أستميح دولتكم أن تصطبروا قليلًا، ريثما أراجع وزيري بهذه القضية. وإنني على أمل وطيد أنكم ستنالون الترضية التي ترومونها. أما إذا كنتم دولتكم معجلين بخروجي من هذه البلاد؛ فإنني مستعدٌّ لتلبية الأمر. فضحك الوزير، ثم طلب السكرتير وقال له: استبق الأمر إلى فرصة أخرى. فقلت: لي رجاء آخر وهو: تعرفون أن العثمانيين في هذه الجمهورية يبلغون مائة وعشرين ألفًا، منهم نحو خمسة عشر ألفًا في العاصمة، ومن تبقى ففي الداخلية منتشرون. فإذا رفعتم ولايتي عن هؤلاء؛ فمن يهتم بشئونهم يا ترى، وليس لهم قناصل في الولايات؟
فأجابني: يمنكم الاتفاق مع سكرتير الوزارة على هذه القضية. فشكرته. ولما نهضت لوداعه قلت: أظن أن دولتكم تتفقون معي على بقاء أمر الخلاف مكتومًا عن الجميع ولا سيما عن الصحافة؛ لأن معظم الصحفيين يجهل الأمور السياسية والمعاهدات الدولية. وبما أن لكل حكومة أخصامًا وأعداءً؛ فسيغتنم هؤلاء الفرصة لانتقادها. فقال: صدقتم. وأمر السكرتير كي يكتم أمر الخلاف عن الجميع.
وأرجو من دولتكم الاحتفاظ بهذا التقرير السري.
أحرر هذا التحرير عاجلًا؛ إذ في هذا المساء سيسافر بريد أوروبا.
وبالختام أرجو من عطوفتكم قبول احترامي، وإني الخادم المطيع.
وبعد خروجي من لدن الوزير دخلت على سكرتير الوزارة، وبما أنه كان صديقًا حميمًا لي تمكنَّا من الاتفاق على أنه منذ الآن يحل كل خلاف يتعلق بشئون العثمانيين المقيمين في الولايات بعرضه بواسطة ما يسمى في السياسة «ميموراندوم»، أي تقرير بصفة الغائب. وهكذا لم يتضرر بسبب هذا الخلاف عثماني ما، ولم يَدْرِ به أحد.
مضت الأيام وتلتها الأسابيع، وأنا على أحر من الجمر أستنظر جواب الوزير. وبعد شهرين ونصف الشهر وصلني من مستشار عدليتنا تقرير مطول من ثماني صفحات كبيرة، حاول به ذلك المستشار تفنيد أقوال وزير خارجية الأرجنتين. ولم أكد أفرغ من تلاوته حتى عرتني الدهشة؛ لأن حضرة المستشار تخيَّل نفسه محاميًا عليه الدفاع ولو عن المجرمين. وقد بنى جميع براهينه على أساس واهٍ دون أن يخطر بباله أن للأرجنتين حقًّا بامتيازات خاصة؛ نظرًا للمعاهدة الولائية التي وقعتها معنا. وقد تنازلت بها عن المطالبة بالامتيازات الدولية لقناصلها. وعليه فقد كنت على ثقة بأنني إذا سلمت هذا التقرير لوزارة الخارجية الأرجنتينية؛ فسيكون الجواب عليه إلغاء المعاهدة وقطع العلاقات حالًا.
عزيزي صاحب السمو
لقد تشرفت بمرسوم سموكم الرسمي تاريخ … رقم … وعن طيه تقرير مستشار عدليتنا الذي أراد به تفنيد مطالب حكومة الأرجنتين بشأن قنصلها في الأستانة.
إنني أستمحيكم عفوًا لتحريري لسموكم شخصيًّا هذه الأسطر؛ كي أخبركم بها أنني قد اتخذت لنفسي الحرية بعدم تقديم هذا التقرير لوزير الخارجية الأرجنتينية؛ لأنني على ثقة أن النتيجة تكون إصدار الأمر بإلغاء المعاهدة الودادية، وإلغاء قنصليتنا معها في الحال. ولا يخفى على سمُوِّكم ما سيكون وقع ذلك في أوروبا عمومًا، وعلى أبناء الجالية هنا خصوصًا. ولا ريب أن أعداء الدولة سيغتنمون هذه السانحة للتهويل، قائلين إن الدولة الأولى التي رضيت بالتخلي عن الامتيازات الدولية قد اضطرت بعد سنتين إلى إلغاء المعاهدة. ولما كانت حكومتنا الدستورية ساعيةً لإلغاء هذه الامتيازات؛ فسيكون قطع العلائق الولائية بيننا وبين الأرجنتين حجة علينا.
هذه من جهة، ومن جهة أخرى؛ فإن حضرة المستشار قد نسي كل النسيان القضية الأساسية، وهي كما صرح لي وزير الخارجية هنا، ألا شأن للأرجنتين مع بقية الدول، ولا يخفى على سموكم ما في هذا القول من الإصابة.
وقد شرحت في تقريري السنوي الرسمي الأول الذي رفعته إلى وزارة الخارجية حالة العثمانيين هنا، وأن سمعتهم الأدبية قد تحسَّنت كثيرًا عنها في اليوم الأول الذي وصلت فيه هذه البلاد. وتبين لي من جوابات المصارف السرية أن العثمانيين يرسلون ما يقارب المليون فرنكًا شهريًّا إلى ذويهم وأقاربهم. وعليه؛ فإن إلغاء القنصلية بعد سرور العثمانيين المهاجرين من الحصول عليها؛ لأنهم كانوا يسعون لنيلها منذ زمن، سينجم عنه كدرهم كدرًا شديدًا، وعودتهم إلى حالتهم الأولى؛ أي دون ممثل يقضي لهم مصالحهم ومعاملاتهم سواء في دوائر الحكومة هنا، أو في حلهم وترحالهم.
وبما أنني مطَّلع على عقلية ذوي الحل والعقد هنا، بعد أن درستها وخبرتها هاتين السنتين، وعرفت أن المرء إذا لم يمسَّ شواعرهم الوطنية ينال منهم ما يريد ضمن المنطق والعدل طبعًا، فإنني على تمام الثقة أنكم إذا حررتم لي جوابًا تقولون فيه: نعترف للحكومة الأرجنتينية بحقها؛ بيد أننا نرجو من صداقتها ألا تلح بالعمل به؛ كي لا تثير على الحكومة مشاكل مع الدول الأخرى، يزول كل الخلاف. أما إذا كنتم سموكم على غير هذا الرأي، وألغيت المعاهدة، وأقفلت قنصليتي؛ فأرجو إفادتي إلى من تأمرون بتسليم أوراقها وسجلاتها؛ لأنني سأغادر البلاد حالًا في أول باخرة. وأرجو من سموكم قبول فائق احترامي.
فبعد تصرم شهرين وصلني جواب من الصدر الأعظم؛ طبقًا لما رجوته، وحدث ما كنت أتوقع؛ إذ قبل وزير الخارجية هنا بذلك الجواب، لكنه أشار بوجوب ارتقاء القنصلية العامة إلى درجة سفارة، تأخذ على عاتقها في الوقت نفسه الاهتمام بشئون القنصلية؛ وذلك منعًا لتكرار حدوث ما حدث. فرفعت ذلك الرأي إلى الأستانة، لكن قبل بروزه إلى حيز الوجود قدمت استقالتي من القنصلية، بعد أن دخلت الدولة العثمانية في الحرب العالمية، ودارت الدائرة عليها، وسلخ عنها جزيرة العرب والعراق وفلسطين وسورية ولبنان، وألغيت قنصليتها في الأرجنتين، فكنت والحالة هذه الممثل الأول والآخر للدولة العثمانية في هذه الجمهورية.
ومتى سنحت لي الفرصة سأتابع مذكرات أخرى، أشرح بها أسباب استقالتي والمشادة التي حدثت بيني وبين قنصل جنرال ألمانيا، وغير ذلك من الحوادث الطلية المهمة.
وما المأرب من نشر هذه المذكرات؛ إلا أن تكون عبرة وذكرى لأبناء وطني الكرام والسلام.
انتخاب القناصل
منذ اليوم الأول الذي باشرت به مهام القنصلية في الأرجنتين، انهالت عليَّ مطاليب العثمانيين المقيمين في الداخلية. وهذه كانت طبعًا أشد صعوبة وأكثر نفقة من مطاليب إخوانهم قُطَّان العاصمة؛ لأن القانون يفرض مثلًا على من يريد المصادقة على إمضاء أن يكون صاحب الإمضاء نفسه أمام القنصل، حسبما يجري لدى محرر المقاولات، ويقول زيادةً على ذلك بوجوب إحضار شاهدين. ولما كان يتعذر على عثمانيي الداخلية السير حسبما تقدم؛ فكان عليهم، والحالة هذه، أن يفعلوا ذلك أمام محكمة العدل إذا وجدت حيث يقطنون، أو أمام قومسير البلدة. وبعدئذ يصادق على إمضاء القومسير نفسه رئيس المحكمة الذي ينتمي إليها ثم تصادق على الجميع وزارة الخارجية. هذا هو القانون المعمول به عند جميع الشعوب المتحضرة.
أما العثمانيون المهاجرون؛ فكانوا يجهلون ذلك، ولهذا ألقوا عليَّ تبعة هذه المعاملات الشاقة الوافرة النفقات، دون أن يخطر ببال أحد منهم أنني لست بواضع هذه القوانين لألغيها حين أشاء، وأن من واجبي السير بموجبها؛ وإلا فأكون مسئولًا عن كل مخالفة. وبعد إنعام الفكرة رأيت أن الوسيلة الفعالة لوضع حد لهذه الصعوبات، هي إنشاء قناصل فخرية في عواصم ولايات الأرجنتين. فحررت بذلك إلى الوزارات فوردني جواب منها يقول: أنتم أعلم بما يناسب، فاختاروا من تجدون بهم الجدارة لهذا المنصب، واسعوا لمصادقة وزارة الخارجية الأرجنتينية على تعيينهم، ثم أرسلوا لي أسماءهم للحصول على الإرادة السنية بتعيينهم.
وهنا بدأت الصعوبات التي لم تكن تخطر لي ببال؛ إذ بما أنني كنت أجهل البلاد عمومًا، ورجال الجالية خصوصًا في ذلك العهد؛ أخذت أستشير من كنت أعتقد بهم الإخلاص والاستقامة، فبرزت حالًا الأخلاق الشرقية بأجلى مظاهرها واختلط الحابل بالنابل، وصار كلٌّ يغني على ليلاه. فهذا يشير بتعيين زبون له في تلك الحاضرة، وذاك يقول بوجوب تعيين فلان من أبناء طائفته، وذلك ينصح بتعيين تاجر يرجو أن يكسب صداقته، فيصير من زبائن محله وهكذا دواليك. ثم أشيع أن لا بد للحصول على التعيين من دفع بضعة آلاف من الريالات عدًّا ونقدًا، فحسبت أن القيمة التي سيدفعها الأربعة عشر قنصلًا الذين عزمت على تعيينهم ستربو على الستين ألفًا من الريالات … فقط لا غير. وطبعًا إن هذه القيمة قد طلبت باسمي، مع أنني كنت جاهلًا ما يجري كل الجهل.
وصفوة القول أنني لم أتمكن من أن أضم رأيين إلى رأي، وقد فهمت أشياءً كثيرة عن سوابق كل مرشح من المرشحين الذين لم يخلُ أحدهم من سابقة غير مستحبة.
هذه هي العقدة الأولى التي واجهتها. أما العقدة الثانية فكانت اختيار مرشحين جديرين؛ إذ بما أن الوظيفة كان فخرية؛ فيجب أن يكون المرشح لها مثريًا ذا مركز حسن؛ ليصلح أن يمثل الدولة. وصدف أن معظم أرباب الثروة من المهاجرين العثمانيين لم يكونوا على جانب من العلم والثقافة يؤهلهم لتولي الوظيفة. أما المتعلمون الراقون فلم يكونوا من ذوي الثروة.
العقدة الثالثة: أن المعاملات الرسمية نظير المصادقة على الإمضاءات والباسبورتات وشهادات التابعية وغيرها، يجب أن تتم باللغتين التركية والفرنسية، وكان الكل يجهل هاتين اللغتين؛ ولهذا لم أجد مرشحين مناسبين لتولي مهام القنصليات. فإزاء هذه الصعوبات؛ فضلت تأجيل تعيين القناصل إلى يوم أذهب فيه بالرخصة إلى الأستانة، وأعرض ذلك على وزير الخارجية وأعمل بما يقرره؛ لأن دولته أراد إلقاء المسئولية على عاتقي وحدي، فأردت أن يشاركني فيها، وفضلت احتمال أشغال المائة ألف عثماني على تعريض اسم الحكومة العثمانية الدستورية إلى الانتقاد أو العار.
إنشاء نادٍ
القنصل العام يدعوكم لتناول الشاي عند الساعة التاسعة بعد ظهر اليوم … في «كونفتيريا الآغيلا»، ولمفاوضتكم في شئون تعود بالفائدة على الجالية، وتفضلوا بالجواب ودمتم سالمين.
فأجاب خطًّا على دعوتي ما يناهز المائة، أما الباقون فلم يحضروا ولم يجيبوا، مما يدل على جهلهم حتى قواعد الأدب الابتدائية؛ لأن الجواب على أية دعوة كان هو من أول الواجبات، وقد حضر في الجلسة الأولى ما يقارب المائة، وفي الثانية نحو خمسين شخصًا، وفي الثالثة نحو الثلاثين. وقد تسنَّى لنا إنشاء ذلك النادي وانتُخب من بين أعضائه شخص لم يحضر ولا جلسة من الجلسات التمهيدية، لكنه كان من ذوي الثراء وعلى جانب عظيم من البخل. ولكيلا يتملص أحد من دفع خمسة ريالات شهريًّا؛ طلبت من الأعضاء التوقيع على تعهد مكتوب على ورقة رسمية مع التمغة. ولكن لسوء الحظ لم يكد يتم انتخاب عمدة عاملة لذلك النادي، حتى انحلَّ وأمسى في خبر كان. وذهبت جميع أتعابي أدراج الرياح؛ لأن التعصبات الطائفية مدت أصابعها، وعملت على هدم ما بنيت.
لم أعتبر بما حدث لي، بل نزولًا عند رغبة قسم وافر من التجار، سعيت لتأليف غرفة تجارية، واهتممت بوضع قوانينها غير عابئ بوفرة أشغالي، إلا أن هذه كان نصيبها نصيب النادي وماتت وهي جنين. وهكذا كلما رغبت الجالية في عمل شيء أراه مفيدًا لها، كنت أسعى لإنجازه ولكن:
لأن جميع مساعيَّ ذهبت سُدًى دون أن تثمر الثمرة المطلوبة، ولم أربح سوى الانتقادات الجارحة والتهم الباطلة.
كيف نقدر رجالنا؟
إن من يرغب في خير أمة ينتسب إليها؛ فعليه أن ينبهها إلى خطئها لتتحاشاه، لا أن يحبذ جهلها، فتعمه في دياجيه على غير هداية. لكننا نحن نلذ بإيهام أنفسنا بغير ما نحن عليه، ثم نستاء عندما نرى من يرفع عن أعيننا غشاء الوهم، ونقاب الضلالة.
نحن عنصر هُضم حقه، وأمة مُسَّت كرامتها، لكننا نجهل كيف نطلب هذا الحق، أو نستعيد تلك الكرامة.
نحن في مسيس الحاجة إلى رجال أعلام أكفاء يخلصون لنا الخدمة ويصدقون النصح، ويضحُّون بشخصياتهم على مذبح العموميات. أحيانًا نظفر بأحد هؤلاء الرجال، وهم فينا القليل، فنكون عليهم أشد وطأة وتجاههم أكثر عداءً وبإسقاطهم أعظم تشفيًا.
نحن نطلب الاشتراك في الحكم، لكن عندما تعدل فينا الأستانة بأن تقلد فينا سوريًّا وظيفة كبيرة يستطيع بها أن يخدم مصلحتنا، ويعزز جانبنا، ويذب عن حقوقنا، نكون عنه أقل رضًا من المتوظف الآخر نفسه. وإليكم ما وعدت بالتمثيل به:
إننا في هذه البلاد نحو المائة وثلاثين ألف عثماني، منا نحو الثمانين ألفًا من السوريين العرب، وقد أنصفتنا الأستانة بأن وجهت إلينا قنصلًا عربيًّا سوريًّا، ومن خيار شبابنا الأحرار النوابغ. القنصل العام هو الأمير أمين أرسلان، المعروف بحملاته العنيفة على الحكومة القاتمة التاريخ، وفي خدماته الجُلى في سبيل الأحرار والدستور، رغم ما لقيه في سبيل ذلك من المصاعب ومن الاضطهادات.
ولكي أعرف إلى القراء الكرام الأمير أرسلان، لا أعيد تاريخ حياته البعيد، لكنني أكتفي أن أجيء على ذكر أعماله كقنصل في هذه الجمهورية على عهد الدستور، وهو في وسط جالية جلها عربي سوري، كما سبقت إشارتي.
قبل مجيء القنصل العثماني العام إلى هذه الأقطار، كان اسمنا كناية عن كلمة إهانة وتحقير وازدراء. فتمكن سعادة القنصل بعد أن ناظر وكتب وخاطب وخطب السنة والسنتين والثلاثة من تغيير الرأي العام، فأصبحنا يجاهر واحدنا بجنسيته غير خافت الصوت وغير ندي الجبين.
أما المصاعب التي لقيها الأمير أرسلان في تأسيس القنصلية العثمانية في هذه الديار؛ فقد تخور لديها الهمم الشمَّاء. يدرك ذلك من عرف اختلاف اللغات والأجناس، والمشارب في الجالية العثمانية، وأن الأمير هو الممثل الوحيد لهذه الجالية الضخمة، بينما الجوالي الأخرى الصغيرة الأوربية لا يبلغ عدد بعضها العشرة آلاف، لكل منها سفير وقنصل عام، ونواب قناصل في كافة ولايات الجمهورية. فكان يشتغل في اليوم العشر ساعات متوالية، فلا يؤجل عملًا إلى الغد ولا يرد ذا مصلحة إلى يومٍ ثانٍ.
المعيشة في هذه البلاد هي أغلى معيشة في الدنيا، فما يستطيع الإنسان أن يبذخ به في باريز لا يكفي لسد رمق الحياة في عاصمة الأرجنتين. ما يدخل للقنصل من الراتب لا يكاد يكفي لمصاريفه الضرورية، ومع ذلك فلكي يحافظ على مكانته الأدبية، ولكي يستطيع أن يعزز مكانة الجالية لا يجد بدًّا من إقامة الولائم لكبار الرجال، ومعاشرة علية القوم، فينفق في سبيل ذلك من جيبه الخاص حبًّا بمصلحة الجالية قبل مصلحته.
تأثير القنصل في الدوائر السياسية
جاء بونس أيرس «جون كارير» مراسل جريدة الطان الباريسية، الذي جرح في الحرب الطرابلسية مأجورًا من الطليان في هذه الجمهورية ليتغنى بشجاعة عساكر إيطاليا، وليتحامل على عساكرنا العربية التركية، إلى غير ذلك مما يمس كرامة العثمانيين.
وجد الأمير القنصل أن شريعة البلاد تقضي بحرية الاجتماع ولا يمكن منع إلقاء المحاضرة، فطلب إلى الحكومة ثلاثة أمور، وفاز بها كلها. أولًا: عدم السماح للإيطاليين بأقل مظاهرة احتفاءً به. ثانيًا: أن يصرح هو علنًا على صفحات الجرائد ألا يمس عاطفة العثمانيين. ثالثًا: ألا تسمح البلدية له أن يلقي محاضراته في مسرحها.
بقي أن أعرف أهمية الإيطاليين في هذه البلاد. يفوق عدد هؤلاء المليون نسمة، ومكانتها الأدبية والاقتصادية تفوق أية الجوالي الأخرى، لا بل إن مصلحة هذه البلاد هي إلى جانب المتمول الإيطالي والتاجر والمزارع والعامل والعالم، ولا تكاد تخلو دوائر الحكم العليا من إيطالي أو ابن إيطالي؛ حتى إن رئيس البوليس العام كان في ذلك الوقت إيطاليًّا.
وللطليان في هذه البلاد سفير وقناصل في كافة ولايات الجمهورية. لم يكن على القنصلية أن تقاوم السفارة الإيطالية فقط في هذه المشكلة، وأن تقاوم جالية ضخمة على جانب عظيم من الرقي والغنى والتأثير في دوائر البلاد؛ فقد كان عليها أيضًا مقاومة السفارة الإفرنسية التي كانت مضطرة إلى مساعدة مراسل صحيفة فرنسا الكبرى. تغلب القنصل العثماني على كل هذه مجموعةً، كل ذلك بتأثيره الشخصي في دوائر السياسة والحكم.
ولأزيدكم إيضاحًا عن منزلة القنصل في الدوائر العليا؛ أورد لكم حقيقة ثانية.
يوجد في هذه الجمهورية نحو الثلاثين سفيرًا وقنصل عام، لا يعرف اسم واحد منهم، وذلك رغمًا عما يمثله بعضهم من صولة دولهم وبطشها ومدنيتها. ثم إن وزير الخارجية لا يقابل أحدًا من هؤلاء السفراء إلا بأوقات المقابلات الرسمية، بينما أنه يقابل القنصل العثماني متى طلب وأي وقت شاء، وبينما اسم قنصل العثمانية يخفق في كل مجتمع وكل مقام سامٍ.
مرض قنصلنا الأمير مرة، وأجريت له عملية جراحية، ثم قبيل أن يغادر غرفة الجراحة كان رئيس الجمهورية سان سبانيا قد أنفذ مقدم السفراء يتفقده، ويسأل عن حاله. وفي كل يوم كان يخاطب الممرضة بالتلفون، ويسأل شخصيًّا عن صحته.
تلك مكانته في دوائر السياسة، فلنرَ مركزه في دوائر العلم.
بعدما اشتهر الأمير بعلمه وأدبه وفضله، أرسلت جامعة «لا بلاتا» الكبرى تطلب إليه أن يلقي محاضرة في ناديها للصفوف العليا. لبَّى الأمير الطلب وكان محط إعجاب الأساتذة والطلبة والزائرين. ومذ ذاك العهد جعلت عليه المدرسة فرضًا واجبًا بأن يخدم رجال المستقبل بمحاضرة يلقيها عليهم على الأقل مرة في العام، وقد ألقى إلى الآن ثلاث محاضرات، درجت كلها في مجلة العلوم السياسية، أهم مجلة في أميركا الجنوبية، ويحرر فيها نخبة العلماء. أمامي الآن محاضرته الأخيرة وموضوعها: تاريخ السياسة في البلقان، وقد استغرقت من صفحات المجلة اثنتين وثلاثين صفحة، لم ينسج كاتب غربي أو شرقي على منوالها.
إن كافة المجلات والصحف الكبرى في هذه البلاد تتسابق إلى نشر مقالاته وآرائه، وقد طلبت إحدى المجلات احتكار قلمه، بدل ذلك خمسين ريالًا لقاء كل صفحة. رفض الكاتب المجيد الطلب مفضلًا أن يترك قلمه حرًّا للدفاع عن مصالح قومه ودولته.
إليكم حكاية أخرى:
الدكتور غونسالس رئيس جامعة لا بلاتا الشهيرة، والنائب في مجلس الشيوخ عن ولاية الريوخا وعن الأرجنتين في مؤتمر السلم في لاهاي حاليًّا، ووزير الزراعة فالمعارف فالداخلية فالخارجية سابقًا، وهو أكبر ثقات أهل العلم والأدب في هذه البلاد، دُعي منذ أمد غير بعيد إلى مأدبة شائقة أدبها له الدكتور جورج صوايا في مدينة تشيلسيتو مسقط رأس العالم المومأ إليه، حضرها أكابر رجال الولاية وهيئة الحكومة الرسمية، وجمع غفير من السوريين والأرجنتينيين، فوقف الدكتور غونسالس في القوم خطيبًا، وبعدما أباح بما هو مشهور عنه من الميل إلى العثمانية عمومًا والعنصر العربي خصوصًا، نظرًا لما يعرفه من النسب بين الشعب الأرجنتيني والعربي عن طريق الدم الإسباني الذي امتزج به دم العرب في الأندلس ثمانية قرون متوالية، قال:
«كنت أجهل أن في الأمة العربية اليوم رجالًا يدرسون فينبغون فيلقون علينا دروسًا في السياسية وفي العلم وفي الأدب، ألقاها علينا أجدادهم في الزمن الفائت، إلى أن أسعدني الطالع فتعرفت إلى القنصل العثماني العربي الأمير أمين أرسلان. عرفته على المنبر وفي المجلة العلمية والجريدة السيارة، ثم تطرقت إلى معرفته كصديق وكرفيق، فوجدت به الرجل الذي أبيح لديه إعجابي وأرفع له قبعتي. أصدقكم أني عاشرت كثيرًا من السفراء والقناصل والوزراء والكتبة والصحافيين، فلم أجد من يصارع الأمير أرسلان بصفاته مجموعة. عندما أكلمه أحسبني أخاطب أحد أعضاء «الأكاديمية» الإفرنسية، لكنما أرسلان أفندي جامع بين شهامة العربي ودماثة الباريسي …»
ليس الدكتور غونسالس الذي انفرد من بين أهل العلم بمدح القنصل العام، فإن أعظم متشرع في عصرنا العلامة أرنست نيس، والعلامة جول كلارتي من المجمع العلمي الفرنسوي ينشران به التقاريظ، وأطيب الثناء في أعظم جريدة أوروبية هي الطان.
وفي هذه المناسبة إليكم الفكاهة التالية:
«وصلتنا مقالة سعادة القنصل في الموضوع الفلاني، فنرجو لها الانتشار.» فتأملوا.
القنصل العثماني أرسلان أفندي يخدم اليوم المهاجرة العثمانية على الإطلاق، بما سيخلد اسمه ما بقي عثماني يقدر الخدمة، ويقدر الأعمال. هو سن قانونًا جديدًا للمهاجرة يضارع أرقى القوانين من هذا النوع في الدنيا. قد طلب إلى الأستانة ووالى الطلب يدعو إلى إصلاح هذا النقص الذي يئن تحته المهاجر العثماني منذ زمن طال. أخيرًا أجابت الأستانة، وأوكلت إليه أن يسن هذا القانون ويوجه به إليها، وقد فعل فقرأنا على صفحات الجرائد القانون تامًّا كامل الشروط، يكفل راحة المهاجر المسكين؛ مذ ترْكِه مرفأ بلاده إلى حين استلامه زمام أشغاله، حينما أَمَّ وأينما توجه.
لا تجمعني مع القنصل العثماني جامعة لا تجمعه مع أفراد النزالة السورية في هذه البلاد. وأنا بعيد عن العاصمة مقر القنصلية نحو الثلاثة أيام في السكة الحديدية، فأنا لا أرجو إلى القنصلية تقربًا، ولا آمل منها خيرًا أو أرهب منها شرًّا. إنني أوردت هذه الحكاية مستشهدًا لا مقرظًا. اشتهر أننا فئة من البشر لا تقدر قدر رجالها، مهما اتصفوا به من الفضيلة ومن المقدرة ومن الإخلاص. إذا رأينا أحدنا يتسنم المراكز السامية بعلمه ومعارفه ونشاطه؛ فعوضًا عن أن نساعده على بلوغ الشأو الذي يصبو إليه، نقف في وجهه حاجزًا، بل نتعلق بأذياله، فإما أن يتملص منا فيفوز، وإما أن نظفر فنعود وإياه إلى الحضيض دفعةً واحدة.
السوريون الذين ينتقدون القنصل يفعلون ذلك فقط؛ لأنه سوري ولأنه يخاطبهم بلغتهم العربية. لا أجد لذلك سببًا آخر.
يوجد في هذه البلاد نحو الخمسين ألف عثماني لا يتكلمون اللغة العربية، وهؤلاء على أتم الرضى مع قنصل يفاخرون به في كل مقام. أما إخواننا السوريون فهؤلاء هم الوحيدون الذين يقلقون القنصل السوري العربي في الأرجنتين، وأستحيي النفس أن أقول في مراجع الأستانة أيضًا …
ماذا يقول إخواننا في الأستانة متي بلغهم تذمرنا؛ نحن الجالية الوحيدة التي لها قنصل عربي، والجالية الوحيدة التي تشكو من قنصلها العربي هذا. ما رأيكم دام فضلكم.
الجوالي العربية الأخرى التي يكلمها قناصلها بواسطة الترجمان، والتي لا يقضون لها سوى أشغال القنصليات الرسمية، التعليم على التذاكر، والمصادقة على التحاويل والوكالات، هؤلاء على أتم رضًى وسلام مع قناصلهم يقفون أمامهم مكتوفي الأيدي مكشوفي الرءوس.
أأمة تلك تطلب حقوقها! أشعب ذلك يقدِّر رجاله؟! أقوم أولئك يعرفون واجبهم! هكذا يا إخوان تعزز الجنسيات؟!