(هذا الفصل تقع حوادثه في عيادة الطبيب عبد الحكيم. المنظر يستمر في غرفة العيادة
نفسها وبها الأدوات التي تكون عادة في قاعة الفحص؛ وهي مكتب ومضجع لرقاد المرضى لدى
فحصهم ودولاب أسلحة العمليات، ومكتبة بها كتب وسجلات، وتليفون وميزان صغير للأطفال،
وكرسيان كبيران وموقد ومروحة كهرباء، والدكتور عبد الحكيم جالس بثوب العمل الطبي وأمامه
مريض يخاطبه.)
المنظر الأول
الطبيب
:
أمامي هنا … تفضل بالجلوس (يجلس المريض
بارتباك).
المريض
:
أشكرك يا جناب الدكتور، إنني منذ رأيتك في غاية الانشراح.
الطبيب
:
مم تشكو؟ وهل أنت مريض من زمن طويل؟
المريض
:
عند النوم عادة يذهب النوم عني، ولكن عند الصحو أنام.
الطبيب
:
تقصد أنك مصاب بالأرق ليلًا وبالخمول نهارًا. إذن لا تنام!
المريض
:
أبدًا … ولا أذوق للنوم طعمًا.
الطبيب
(بشيء من العجب)
:
وبعد!
المريض
:
الأحلام يا دكتور … الأحلام الفظيعة! دائمًا أغرق في بحر عميق أو أهلك في
حريق أو يدهمني قطار سريع فأذهب مذعورًا جزعًا.
الطبيب
:
أحلام! … في أي وقت تراها وأنت كما قلت لا تذوق للنوم طعمًا؟
المريض
:
طبعًا أرى هذه الرؤى في النوم.
الطبيب
:
إذن تنام أحيانًا.
المريض
:
طبعًا … سبحان مَن لا ينام … أحيانًا أنام نومًا عميقًا جدًّا …
الطبيب
:
ولكن متى نهارًا أو ليلًا؟
المريض
:
كلا … لا ليلًا ولا نهارًا، ولكن عندما يأتي النوم …
الطبيب
(ضاحكًا)
:
ما عمرك الآن؟
المريض
:
هذه مسألة لم أعرفها بالدقة، على الرغم من أنني حاولت كثيرًا أن أهتدي إلى
حقيقة سني من المرحومين والدي فلم أنَلْ مرامي! وليس لديَّ شهادة ميلاد!
الطبيب
:
من أربعين إلى خمسين؛ أي منتصف العقد الخامس.
المريض
:
يجوز وربما كنت أصغر من ذلك بقليل أو كثير!
الطبيب
:
ثم ماذا تشكو بعد ما ذكرت؟
المريض
:
عصفورة قلبي يا دكتور ترفرف.
الطبيب
(مستسلمًا)
:
هل شهية الطعام لديك حسنة؟
المريض
:
آكل كل شيء وفي أي وقت لأن البَطَر حرام. وربما أفطرت أو تغديت مرتين، ولكن
عشائي نادر جدًّا.
الطبيب
:
هل سبق لك أن مرضت في صغرك بإحدى الحميات الحادة؟
المريض
:
كثيرًا جدًّا يا دكتور، كل أنواع الحميات وخصوصًا الزكام الشديد في أوائل
الشتاء.
الطبيب
:
الزكام ليس حمَّى! أقصد الحمي القرمزية أو الحصبة أو التيفوس أو التفوئيد
(يدق التليفون) نعم … ألو … أنا …
متى يمكنك أن تحضري … فورًا بالعيادة.
المريض
:
لا بدَّ … لا يخلو الأمر في الصغر … لكن الزكام …
الطبيب
:
هل وراثتك نظيفة أو ملوثة؟
المريض
:
الحمد لله على كل شيء. مات المرحوم والدي ولم يترك لي شيئًا؛ لأنهم قالوا
أن لا تركة إلا بعد وفاة الدين وفعلًا سدَّدناه.
الطبيب
:
لا أقصد هذا … ولكن أسأل إن كنت ورثْتَ مرضًا معديًا مثل الزهري أو
السل؟
المريض
:
لا … لا يا دكتور الحمد لله … أظن والدي كان أُصِيب بشيء من هذا القبيل،
ولكنني لم أرث منه شيئًا.
الطبيب
:
هل أنت متزوج وعندك أولاد؟
المريض
:
عندي أولاد ولكنني لم أتزوج.
الطبيب
:
عندك أولاد ولم تتزوج! … فمن أين رُزِقَت بهم؟
المريض
:
من الزوجة الأولى ولم أتزوج بعد أن طلقتها.
الطبيب
:
هل تعيش الآن حياة عائلة أو بمفردك؟
المريض
:
طبعًا كل إنسان له بيت.
الطبيب
(بيأس مع إظهار الحلم)
:
ما صناعتك؟ ما عملك اليومي؟
المريض
:
أنا إيرادجي.
الطبيب
:
ماذا؟
المريض
:
إيرادجي؛ أي أعيش من إيرادي الخاص الذي تركه لي المرحوم والدي.
الطبيب
(يضحك)
:
حسن … اخلع ثيابك العليا (يفعل ذلك فيفحصه
الطبيب فحصًا عاديًّا، وفي هذا الوقت يكون المريض قد أخرج لسانه وأغمض
عينيه ومد ذراعه الأيمن بغير طلب من الطبيب) أدخل لسانك وافتح
عينيك واقصر ذراعك فلا لزوم لهذا الآن (يجلس
ويكتب له تذكرة الدواء) تأخذ ملعقة من هذا السفوف ثلاث مرات
في اليوم، وتشرب جرعة من الشراب قبل النوم.
المريض
(بعد سكوت)
:
وما العمل الآن؟ إنني لم أشعر بالشفاء!
الطبيب
:
طبعًا ستشعر به بعد أخذ الدواء.
المريض
(بتردُّد)
:
هل انتهت العيادة؟
الطبيب
:
طبعًا (ينظر في ساعته قلقًا) لقد مضى
أكثر من ربع ساعة على نبأ حضورها ولم تحضر!
المريض
(يمد يده بنقود قليلة)
:
تفضل يا دكتور.
الطبيب
:
ما هذا؟
المريض
:
أنا لا أقصد أن هذا قيمة الفيزيتة، ولكن أجر مركبة لانتقال
سعادتك.
الطبيب
:
مركبة لي أو لك! أنا لم أنتقل بل أنت في حاجة للانتقال فأبقِها
معك.
المريض
:
أبقاك الله يا دكتور (يحيي ويخرج فيشيعه الطبيب
بأدب وابتسام، ويعود فيدوِّن في سجله، وعند اشتغاله بذلك يدق التليفون
فيتناول السماعة).
الطبيب
:
ألو … ألو ٧٧٧٧ نعم أنا الدكتور نفسه … نعم متذكِّر … متى الحرارة هبطت؟ …
عظيم يستمر على الدواء نفسه والغذاء شوربة خضروات مع مغلي الشعير اللؤلؤي …
أربعة أيام أخرى … نهارك سعيد (لنفسه)
ظننتها هي التي تتكلم لتخبرني بعدولها … إن حديثها الأول يدل على شدة
انفعالها! (يفتح باب الغرفة وتدخل ملكة بحالة
انفعال شديدة فينهض للقائها) ما بك؟ … لقد شغلتِني عليك. ماذا
جرى؟ أين عبد الحكيم؟ هل يشكو شيئًا؟ منذ تكلَّمت بالتليفون لعشرين دقيقة خلت،
وأنا انتظرك على الجمر، وقلبي شديد الخفوق كأنني أتوقع أمرًا خطيرًا.
المنظر الثاني
ملكة
(تجلس)
:
كلا … اطمئن على عبد الحكيم فإنه بخير. أما أنا فقد تمزَّق قلبي إربًا من
شدة الانفعال والألم. إنني أشعر بدنوِّ أجلي … لا بدَّ أن أموت قريبًا جدًّا
لأنني لم أعد أستطيع تحمُّل هذه الحال.
الدكتور
:
أية حال؟
ملكة
:
حياتي المنزلية في كَنَف هذا الوحش المستتِر بشكل إنسان.
الدكتور
:
هل جدَّ شيء منذ زيارتي في يوم الجمعة الماضي؟
ملكة
:
نعم جدَّت أشياء وأشياء (تدنو منه وتحادثه بصوت
منخفض).
الدكتور
(مشمئزًّا)
:
مهما يكن ما حدث فظيعًا فخفِّفي عنك، فإن بِنْيَتَك ومزاجك لا يتحملان هذا
الانفعال الشديد المستمر.
ملكة
:
ولكن ماذا أفعل؟ أغثني … فكِّر معي … دبِّر لي حيلة … ابحث لي عن مخرج من
حياتي مع هذا المخلوق الفظيع الجشع الأناني.
الدكتور
:
ماذا تريدين أن أفعل؟ اطلبي منه الطلاق بإلحاح … اجعلي بينك وبينه
وسطاء.
ملكة
:
هذا حلم لا يتحقَّق؛ لأنه لا يريد كما قلت لك في يوم الجمعة … إنه ليس
متعلِّقًا بي بل بدخلي ومالي. فهو لا يريد أن يطلِّق الأطيان ولا أرى فائدة في
المقاضاة؛ لأنها طويلة الأجل مملَّة مبدِّدة للمال والأمل. وربما متُّ قبل الوصول
إلى الأحكام النهائية التي تُعِيد إليَّ حريتي ومالي.
الدكتور
:
إذن اتركي المنزل واذهبي إلى مكان آخر. فلعله يطلقك إذا غبتِ عن نظره وفقد
الأمل في استرجاعك.
ملكة
:
أغضب كما يفعل نساءٌ من الطبقات النازلة من الشعب! أنا لا أعرف الغضب على
هذه الصورة. وافترض أنني فعلت ذلك، فأين أذهب؟ إن أبي مات وبيته مغلق وليس
لي صديق أو حبيب من أهلٍ أقربين أو غير أقربين.
الدكتور
:
هنا في بيتي، فإنه مفتوح على مصراعيه للترحيب بك وبولدنا.
ملكة
:
هنا في العيادة! كيف ألجأ إلى العيادة؟ إنه مكان عامٌّ ومحل مطروق يغشاه
القاصي والداني! فالحياة فيه لي ولطفلي غير ميسرة.
الدكتور
:
إذن (ينهض ويسير في الغرفة ذهابًا وإيابًا
بانفعال).
ملكة
:
إذن ماذا؟
الدكتور
:
انتظري قليلًا (يدق الجرس فيدخل صالح خادم
العيادة، وهو نوبيٌّ في ثوب أبيض ومُتمنطِق بحزام من قماش أحمر)
اعتذِرْ إلى حضرات الزائرين، وأخبرهم أنني مشغول ومتعب، ولن أستطيع للأسف أن
أقابل أحدًا. ومَن شاء منهم فليتفضل بالحضور غدًا قبل الظهر.
صالح
(ينحني)
:
سأفعل يا سعادة البيك (يخرج).
ملكة
:
ألأجلي فعلت هذا وضحيت بعيادتك الليلة؟
الدكتور
:
كلا … لأجلهم … لأجل هؤلاء المرضى، فإنني لا أستطيع أن أفحصهم وأنا مشغول
البال، ولا يمكنني إرجاء المناقشة معك فيما حضرت بسببه. إنني أمدك بما
تطلبين من المال. أعطيك ما تشائين من دخلي. خذي كل شيء وأنا يكفيني
القليل.
ملكة
(تقف)
:
عبد الحكيم … عبد الحكيم … ماذا تقول؟ تفعل بي حسنة وهي التضحية بوقتك
وعملك … وتتبعها بسيئة فتعرض عليَّ العطاء. هل جئتك مستنجدة للمال؟! … كلا …
هذا قول شديد يجرح حاسة العفَّة والإباء. ولم أعهدك قاسيًا تهرق دماء الكرامة
لمن يحبك مخلصًا.
الدكتور
(مرتبكًا ويدنو منها مطيِّبًا خاطرها)
:
عفوًا … عفوًا يا عزيزتي … لم أقصد أن أجرح عاطفتك، ولكنني في مجال
الاقتراح واستعراض الحلول الملائمة لما نحن فيه. تكلَّمي أنت … قدِّمي رأيك …
ماذا تريدين أن أفعل؟ (تجلس
راضية).
ملكة
:
انظر أنت في نفسك، كيف تستطيع أن تساعدني للخروج من هذا المأزق
الحَرَج؟
الدكتور
:
إذن افترضي أننا لم نلتقِ وأنا أنسحب من حياتك، فلعل تجديد معرفتنا هو الذي
أقلق راحتك واهتاج عواطفك الكامنة؟ لعلك كنت قبل لقائنا راضية بقسمتك كما
كنتُ أنا راضيًا؟
ملكة
(بحدَّة)
:
ما شاء الله! طبعًا أنت تفكر الآن في قطيعتي! فربما سئمت لقائي ومشاركتي
في الرأي. فأنا بلا ريب أضيِّع وقتك الثمين وأشغل فكرك بعد أن كان خاليًا.
فقد أعدتُ إليك ذكرى الماضي وهو أليم، وشغلتك بالمستقبل وهو خفي مظلم. وربما
ظننتَ أيضًا أنني أريد أن أضع على كاهلك ولدًا كنتَ بوجوده جاهلًا، وعن أمه
منصرفًا.
الدكتور
:
ملكة … ملكة ماذا تقولين؟ ما هذا؟ أنت محمومة يا حبيبتي (بتأثُّر جدًّا) أنا أريد التخلُّص منك ومن
ولدك! ولدي … كبدي … قلبي … أملي في الحياة. صورتي في طفولتي … ثمرة حبي
الأول والأخير … إنه جنون … مري … تكلمي … ماذا تطلبين؟ لقد عرضت عليك كل
شيء … إني متأهِّب لأنفِّذ لك كل ما ترغبين.
ملكة
:
كل ما أرغب … لا أرغب شيئًا سوى الخلاص … الخلاص من هذه الحياة. أيهون
عليك ولدنا عبد الحكيم، تتركه مع ذاك الرجل يتربَّى في منزله، وهو ليس له
والدًا ولا قريبًا حتى ولا في حكم الصديق؟
الدكتور
:
أترك عبد الحكيم كيف؟ وأين أنت إذن؟ هل عبد الحكيم في بيت ذاك الرجل
بمفرده؟
ملكة
:
أنا! … أنا … لا تذكرني بعد اليوم فليس لي وجود … بل إن حياتي أفضل منها
العدم. وإما أخلص من عِشرة هذا الرجل ونعيش معًا وابننا العزيز الوحيد،
فيعرفك ويتأكد أنك أنت والده، ويتمتع بحنان الأبوة الصادقة التي عاش منها
حتى الآن محرومًا في كنف ذاك العُتُل البغيض ذي القلب الخالي من الرأفة
والحنان. وبهذا نكون قد التمسنا وسيلة لإصلاح الخطأ الذي قضت علينا الأقدار
به فاقترفناه. ونحن في غرور الصبى وطيش الشباب. إما هذا الحل وإلَّا فإني
باخعة نفسي. حقًّا إن قتل النفس مجبنة، ولكن في حالتي هذه الموت أفضل ما
يريحني.
الدكتور
:
الانتحار … تقضين على نفسك بيدك! إنك لا تدركين معنى ما تقولين! أتقضين
على ثلاثة نفوس؟ أنت وولدك وأنا!
ملكة
:
أنت تعيِّرني بفكرة الانتحار مع أنك أوجدْتَها في نفسي مذ كنا في حوار حول
موضوع سعادتنا. فهدَّدتني به إذا لم تنجح في إقناع والدي بالموافقة على
زواجنا.
الدكتور
:
حقًّا لقد كانت الحياة هيِّنة في نظري إذا حُرِمْت السعادة بقربك.
ملكة
:
والآن صارت هذه الحياة بذاتها غالية؛ لأنك صرت ذات مكانة سامية.
الدكتور
:
أبدًا … أبدًا ولكني ربما كبر شأن الحياة في نظري؛ لأن صناعة الطب تعلِّمنا
احترام الحياة الإنسانية، ولأنني الآن أخدم الكثيرين وأخفِّف من آلامهم ما
استطعت. وليس هذا بالأمر الهيِّن. وأيضًا كبر شأن الحياة في نظري من أجلك
وأجل ولدنا، فقد لقيتكما بعد الفراق الطويل وبعد اليأس من الهناء
بقربك.
ملكة
(بعد تفكير ونظرٍ حولها في عدد الجراحة ودولاب
الأدوية)
:
إذن لا توجد سوى طريقة واحدة.
الدكتور
(بفرح)
:
ما هي؟
ملكة
:
طريقة العلم الحديث.
الدكتور
(بدهشة)
:
أية طريقة للعلم الحديث؟!
ملكة
:
ألم يخترع العلم الحديث طريقة؟
الدكتور
:
العلم الحديث! أية علاقة بينه وبين الزواج والطلاق؟
ملكة
:
ليس في استطاعتي أن أعبِّر عما في ضميري بأوضح من هذا.
الدكتور
:
ولكنني لم أفهم حتى الآن مقصدك!
ملكة
(بتململ)
:
سأفصح لك … ألمانيا التي اخترع علماؤها دواء لكل داء … ألم يخترعوا وسيلة
لخلاص امرأة ضعيفة مثلي من براثن وحش كاسر كذاك الرجل؟
الدكتور
(بوجل وذعر)
:
ماذا تقصدين؟
ملكة
:
هل حياة مثل ذاك الرجل تستحق الاحترام؟ ماذا علينا لو …
الدكتور
:
لو! … لو ماذا؟
ملكة
:
لا أدري ماذا أقول لك بعد ذلك؟
الدكتور
(محدِّقًا فيها ومأخوذًا من هول الاقتراح وفظاعته)
:
يا لطيف! يا ملكة … هل بلغت بك الحال النزول إلى هذا الدرك الأسفل من
الخلق؟ أتطلبين مني أنا هذا الطلب؟! ارجعي إلى رشدك، ولا تجعلي للبغض
سلطانًا على نفسك.
ملكة
:
هذا ليس بغضًا يُعمي ويصم، ولكنه الحب الأعظم لك ولولدنا. أنا مسكينة أنا
معذبة أنا محرومة من الحنان حولي ومن العطف عليَّ وعلى ولدي. انظر إلى جسمي
ووجهي! لقد أمسيت من فرط الهم والنحول في دور الفناء … وأنا لا أزال في
مقتبل العمر.
الدكتور
:
ولكن أنتِ التي تحبيني وتحبين ولدك، كيف يخطر ببالك ويدخل في روعك أمر كهذا
الذي ذكرت؟!
ملكة
:
ولكن هل فهمت مقصودي؟
الدكتور
:
فهمت ما فهمت ولا حاجة بنا إلى التفسير.
ملكة
:
لقد تكلم معي منذ أيام عن صحته وهو في حاجة إلى العلاج بحقن للتقوية …
وطبعًا هذه الحقن تُوجَد في أنابيب … وهي إن زادت عن مقدارها المُعيَّن لكل حالة
فقد تُورِد المحقونَ بها موارد حتْفِه. وأنا التي أقوم له بتفريغ هذه الحقن بين
جلده ولحمه. فإذا ما سلَّم إليَّ ذراعه الضخم آمنًا أفرغت فيه سمًّا زُعافًا
مهلكًا لا يظهر له أثر كغيره من السموم.
الدكتور
:
أنت مجنونة! … لقد فقدتِ عقلك … إن فقر الدم وتحمل الهم فَعَلَا بك فعلهما؛
فأورثاك هذه الحال التي هي أشبه بالاستهواء الذاتي أو بُحْران الحمى منها بأي
شيء آخر. فقومي إلى الهواء الطلق وانزعي من فكرك هذه الهواجس المزعجة
(يسرع إلى النافذة فيفتحها فيدخل الهواء
باردًا؛ فتهتز ملكة كمن أصابه قشعريرة البرد، فيلمس عبد الحكيم زر
الكهرباء فيدخل صالح) أحضر فورًا قدحًا من شراب الليمون
المثلوج (يخرج صالح).
ملكة
(ناهضة)
:
أستودعك الله الآن يا دكتور … فقد عرفت ما كنت أريد الوقوف على
حقيقته.
الدكتور
:
إلى أين تذهبين؟
ملكة
:
لأرى عبد الحكيم فقد طال عليه الانتظار.
الدكتور
:
أين هو؟
ملكة
(تتردد)
:
في السيارة مع نعيمة أمام الباب.
الدكتور
:
في السيارة كل هذا الزمن؟ لا بدَّ أن أراه (يدخل
صالح حاملًا شراب الليمون المثلوج) يا صالح ادْعُ المربية التي
في السيارة إلى هنا ومعها السيد الصغير الذي تحرسه (يخرج صالح بعد أن يضع الشراب على
المائدة).
ملكة
:
لماذا تحضره؟ هل بلغ بك حبه درجةً يهمك معها أمره؟!
الدكتور
:
يا ملكة … اجلسي … اسمعي وتعقلي … أنا رجل شريف ورأس مالي شرفي في
صنعتي.
ملكة
:
وهل مسسْتُ بسوءٍ ذلك الشرف؟
الدكتور
:
فلنضرب صفحًا عما إذا كنتِ مسسْتِ أو لم تمسسي … إنني منذ تقابلنا بعد
فراقنا الطويل محافظ على شرفك بوصف كونك زوجة لرجل آخر، ولم أحاول يومًا أن
أحط من كرامتك.
ملكة
:
لا فائدة تُرجَى من الكلام عن الكرامة وعن الرجل الآخر؛ لأن الفرق بيننا في
هذه المسألة شاسع، ومسافة الخُلْف لا حدَّ لها. إن كرامة المرأة هي الحب
والسعادة، وليس في قلبي متسع لغيرهما. وها أنا قد خاب رجائي للمرة الأخيرة
في الحب والسعادة.
الدكتور
:
ولكنني نسيت نفسي في سبيلك، ومحوت اسم السعادة من صفحة حياتي لأجلك، ولم
أرد قط أن أعرف امرأة سواك فلم أتزوج.
ملكة
:
وماذا يعوقك عن الزواج؟ أما وقد فكرت فيه فأنت تطلبه!
الدكتور
:
إن قلبي لا يتسع للحبِّ مرتين. فلما اختبرت حظي في المرة الأولى، عولت على
أن لا أعيد الاختيار مرة ثانية.
ملكة
:
ولكن هذا القلب الذي أحبك ولا يزال مشغوفًا بك (تبكي بكاءً مرًّا) فارحمني ودع هذا الحب القوي يعيد سيرته
الأولى.
الدكتور
(يدنو منها متأثِّرًا)
:
ولكنني يا ملكة لا أستطيع أن أستعيد عهد الحب الطاهر النقي الشريف بجريمة
ممقوتة شنعاء، تلوِّث أيدينا وتقتل ضمائرنا وتنغص عيشتنا … فابحثي عن حل آخر …
انظري في وسيلة أخرى، فإني قابل بها مهما تكلِّفني من الوقت والتضحية بالمال.
ولكن بعدًا وسحقًا لذلك الخاطر الذي طرأ على قلبك (تجلس كمن تقبل عذرًا مؤقتًا، ويدخل صالح ومعه نعيمة تحمل الطفل،
فيقصد إلى والدته ثم يرى الدكتور فجأة؛ فيلقي بنفسه بين يديه، فينسحب
صالح، وتشير ملكة على نعيمة بالانسحاب).
الولد
:
هذا منزلك يا عمي؟
الدكتور
:
نعم يا حبيبي.
الولد
:
أريد أن ألعب هنا في منزلك وآخذ هذا وهذه وذا وهذه (يمد يده إلى المكتب ويأخذ تمثالًا صغيرًا وقلمًا
ومقصًّا وصورة ويجمعها في يديه، ويصعد على كرسي ويُحدِث انقلابًا في
الأشياء الموجودة على المكتب، وفي أثناء ذلك تنزل دموع صامتة من عيون
الأم والدكتور يطرق برهة وينظر برهة إلى الطفل وهو يلعب
لاهيًا).
ملكة
:
ولكن أنت أخطأت قصدي … وأريد أن تفهم غايتي جيدًا.
الدكتور
:
تكلمي … أفصحي … أريد أن أفهم أكثر مما فهمت.
ملكة
:
نحن لا نريد أن نرثه في أطيانه وماله … فإن تركته لأهله وقومه الذين
يحبهم ويحبونه … أما نحن فلا نريد إلا الخلاص منه.
الدكتور
:
كيف تكون لأهله وقومه؟! ألست زوجته وهذا الطفل البريء منسوب إليه؟
ملكة
:
سأبوح لك فيما بعد بسرٍّ تُدهَش له، ويكفي الآن أن تعلم أننا لن نرثه، وأنني
لا أريد إلا الخلاص.
الدكتور
:
هذا هو ما فهمت ولم يخطر ببالي أنك تريدين أن ترثيه؛ لأنك قنوعة وقد عرفت
ذلك فيك منذ الصغر.
ملكة
:
إنني لست متمتعة بنفسي ولا بولدي. وأعيش كل يوم عيشة الرهبة والإرهاق.
خمس سنين قضيتها على هذه الحال.
الدكتور
:
لقد خطر ببالي فورًا حلٌّ لهذه المعضلة.
ملكة
(بانفعال)
:
ما هو؟
الدكتور
:
ندبِّر طريقة لخطف الولد.
الولد
(متنبِّهًا فجأة)
:
ولد من يا عمي؟ لماذا تخطفه؟ وممَّن تخطفه؟
الدكتور
:
الولد الذي رأيت صورته في المرآة يا عبد الحكيم (نحو ملكة) ونضعه في منزل خاصٍّ مع خدم مخلصين لنا. وأتولى أنا
جميع شئونه ولك أن تزوريه في أي وقت شئت.
ملكة
:
إذن أنت تريد تخليص الولد لا تخليصنا معًا. ففكرت في طريقة إنقاذه وضربت
صفحًا عني أنا، كأنني عقبة كئود في سبيل تربيته. مع أنني لم أشكُ لك عجزي عن
القيام بشئونه، ولكن أريد الحياة سعيدة معه في قربك.
الدكتور
:
هذا آخر ما فكرت فيه، وليس لدي طريقة غيرها.
ملكة
:
فلنفرض أننا نفَّذنا هذه الفكرة بحذافيرها، فمَن يدرينا أن ذاك الرجل لا
يحاول أن يظهر بمظهر الشهم البطل فيأخذ في البحث حتى يهتدي إلى مقره فيلحقك
بسببنا أذًى وتكون عند ذلك فضيحة مزعجة.
الدكتور
:
هذا صحيح، ولكن الفضيحة مهما كانت مزعجة فإنها أخف من الجريمة. فإن خطف
الطفل أهون من قتل رجل. على أن الطفل سوف يكون مكرَّمًا معزَّزًا ثم نترقب
الحوادث وننتهز الفرص، فلعل الله يهدي صاحبنا فيطلقك من تلقاء نفسه.
ملكة
:
لقد فكرت في هذا، بل في أكثر من هذا، وقلت صبرًا لعله يُصاب بداء
وبيل.
الدكتور
:
وهل تمنَّيت له الأمراض كلها، أو تمنَّيت له مرضًا معينًا.
ملكة
:
ومع ذلك فلو مرض فإنك بلا ريب ستكفل علاجه.
الدكتور
:
كلا … سوف أنسحب؛ لأنني إذا تقدَّمت لعلاجه فلا بدَّ أن أنصحه وأُخلِص له في
العمل، وعسى أن يُشفَى من دائه.
ملكة
:
هذا حلٌّ جميل هادئ. ولكنه يحتاج إلى الصبر العميق والعمر الطويل. وصبري قد
نَفِد وعمري قصُر.
الدكتور
:
أنت متوهمة.
ملكة
:
هل هذا آخر رأي عندك … خطف الولد والقيام بخدمته؟!
الدكتور
:
نعم … هذا أقصى ما أستطيع. وقد عوَّلت قبل إبدائه على أن أقف حياتي على
راحته وخدمته والصبر مِفتاح الفرج.
ملكة
:
اسمع … أنا حضرت إلى هذا المكان لغاية واحدة؛ هي أن أعرِّف هذا الولد بأبيه
وأجعله يحبه، وقد كشفت عن قصدي لذاك الرجل. فقد قلت له لا بدَّ أن أعرِّف هذا
الطفل بأبيه ليتمتَّع بحبه.
الدكتور
:
أقلتِ له هذا القول؟
ملكة
:
نعم.
الدكتور
:
فماذا قال لك؟
ملكة
:
ماذا تظن أنه قال؟ لقد حسب أنني سأعلِّم الطفل محبَّته هو، ولم يمر بفكره خاطرٌ
غيره.
الدكتور
:
ما أشد تهوُّرك! العقل بركة يا ملكة.
ملكة
:
إن كان العقل بركة واحدة فالحب بركتان. والآن أدركت حقيقة مركزي، فإنني
وإن كنت امرأة، فقد وجدت في نفسي شجاعةً كافية، فاحتفظت بشرف أمومتي. صحيح
أنني أخطأت إذ قبلت الزواج في تلك الحالة التي أنت عالم بها، ولكنني كنت في
مأزق حرج، محصورة بين أمرين كلاهما شديد الخطر؛ الأول: قتل الجنين وتعريض
حياتي للضياع وفقد الشرف، والثانية: دخول منزل الزوج بحالتي. وهذا أمر شنيع
لا أزال أقشعر منه كلما ذكرته. ولكن ما حيلتي لقد اعترفتُ لوالدتي وأشرت
لأبي من طرف خفي بل هددتهما بالانتحار. وفعلًا حصلت على سمٍّ ونويت أن أشربه
لأخرج من الحياة بأسرها، ولكنني لم أستفد شيئًا من هذا كله، وذهبت متاعبي
أدراج الرياح. فلما غلبتني الحوادث وناءت عليَّ بثقلها، استسلمت لحكم
القضاء والقدر، وعملت برأي والدتي الصالحة اليائسة.
الدكتور
:
وهل كان رأيها؟
ملكة
:
نعم لقد كان رأيها، وعملت به فعشت هذه السنين الخمس في حلم مزعج (تبكي).
الولد
(يسرع إليها ويطوقها بذراعيه)
:
ماما … ماما … ماذا يبكيك؟
الدكتور
(يتأثُّر وينهض ويسير في الغرفة ذهابًا وإيابًا)
:
أنا المسبب لهذه المصائب كلها. جنيت عليك في سبيل حبي، وهوَّنت عليك علاقةً
أنتجت كلَّ هذه الآلام! ولكن يا حبيبتي إذا افترضنا أن العلاقة الأولى جريمة
في سبيل الحب، فكيف نمحو أثرها بجريمة أخرى؟
ملكة
:
حاشا لله أن تظن أنني أريد أن أحمِلَك على إتيان أمر يخالف ضميرك وشرف
صناعتك. إنما أقصد أن أتقي جرائم عدة ومصائب متتابعة. فلا بدَّ أن أقتل نفسي
بعد الخروج من هنا؛ إذ ما قيمة الحياة بعد الذي جرى (يتكئ على النافذة ثم يفيق لدى سماع كلامها
الأخير).
الدكتور
:
حذار من هذا التفكير فيما تقولين! فقد ظننتك مازحة!
ملكة
:
مازحة … أنا! تقول هذا وأنت الذي عرفتني منذ الصغر. نعم إنني كنت أحب
المرح وأميل للهو، الحياة البريئة، فأروِّح عن نفسي بالدعابة والممازحة، ولكن
الآن من أية الطرق يأتي قلبي الفرحُ وأنا أقضي معظم أيامي في همٍّ وغمٍّ لا
يفارقني الأسى إلَّا إذا نظرت إلى ولدي واهتممت بشئونه. فأنا إذن غير هازلة
ولا مازحة فيما اعتزمت تنفيذه (ملتفتة إلى ولدها
فجأة) عبد الحكيم، حبيبي هل أنت مدرك كل ما تعانيه أمك في
سبيل راحتك؟
الولد
:
ماما …
ملكة
:
هيا بنا إلى منزلنا فقد دخل الليل علينا.
الولد
:
اتركيني هنا يا ماما أنام عند عمي.
الدكتور
(بانفعال واضطراب)
:
طيب يا حبيبي ابقَ هنا، ونم عندي ودع ماما تذهب وحدها.
الولد
:
ماما تذهب وحدها عند نعيمة والدب!
ملكة
(بدهشة)
:
أي دبٍّ تعني يا حبيبي؟
الولد
:
الدب الذي ألعب به … الذي لا يتكلم ولا يضحك.
ملكة
:
كان هذا قصدي وقد سعيت له … أن نبقى هنا أنت وأنا.
الدكتور
:
ملكة … إن كان هذا قصدك حقًّا فلا بدَّ أن أنفِّذه مهما يكن في الأمر من خطر.
أعطيتني حياتك وأغلى ما عندك. وأنا إذ ذاك شاب صغير بائس وأنت سعيدة وغنية.
لقد استهنت بكلِّ شيء في سبيلي، فهذا دَيْن لك عليَّ فلا بدَّ أن أسدِّده.
ملكة
(تُدرِك معنى قوله وتلمَح التصميم على مطاوعتها في عينيه
فتدنو منه وتأخذ بيده فيتخلَّص منها بلطف)
:
لا … أنا لا أريد أن يكون عزمي وليد فكرتك، بل أقصد تكوين عقيدتي بعيدًا
عن المؤثِّرات الخارجة عن إرادتي.
أحقًّا عزمت على خلاصنا من الحال التي نئنُّ من حملها؟
الدكتور
:
أنا عزمت ولكن الخلاص ليس بيدي.
ملكة
(تفتح حقيبتها الصغيرة باضطراب، وتخرج منها طردًا صغيرًا،
وتمدُّ به يدها إلى عبد الحكيم)
:
أنت وحدك صاحب الحق في هذا الطرد الصغير بما يحتوي!
الدكتور
(يتناول الطرد ويفضُّه بانفعال فيجد به قنِّينتين صغيرتين
وخطابين مغلقَيْن فيفحص القنِّينتين)
:
سلماني مُركَّز وسيانور البوتاس! مَن أعطاك هذا السم الزعاف؟ خطابان أحدهما
باسمي والآخر باسم زوجك (يفض الخطاب
الأول) هذه شهادة ميلاد عبد الحكيم. ماذا أقرأ؟ اسم الوالد
عبد الحكيم … صناعته طبيب. اسمي أنا … لقد نسبت الولد إليَّ بدون عقد زواج
بيننا! … كيف تسنَّى ذلك لك؟
ملكة
:
هذا سري الذي لن أبوح لك أو لسواك به … فقد أقسمت على كتمانه
للأبد.
الدكتور
(يستمر في قراءة الخطابين)
:
هكذا كل شيء أوضحته بالتدوين في الورق! إن الخطاب المرسَل إليَّ معلوم
غايتك منه. ولكن زوجك لماذا تُطلِعينه على تاريخ المسألة فيعرف فجأة أنني أبو
الولد؟
ملكة
:
لأجل أن لا يحتفظ به ويسلمه إليك بغير منازعة، فيرتاح ضميري وأرقد هادئة
تحت الثرى، وليعلم أيضًا أنني كنت زوجته بالاسم فقط، وأنه كان مكروهًا طول
مدة قِرانه.
الدكتور
(يقلِّب نظره في الخطابين ويضع القنِّينتين في دولاب
الأدوية ويغلقه بالمفتاح)
:
هذه أعمال لا تصدر حقًّا إلَّا عن نفس يائسة (يغلق النافذة ويطرق مليًّا، ثم يرفع رأسه كمَن أدرك حقيقة يريد التصريح
بها).
ملكة
:
ما لك مُعرِض عني؟! هل ندمتَ على إخلاصك لي؟ هل عدلت عن معونتي؟
الدكتور
(كأنه يخاطب شخصًا أمامه)
:
كل شيء يأتيه المرء في مَيْعَة الصبا لا بدَّ أن يدفع ثمنه في الكِبَر باهظًا؛
لذا سأدفع عن خطئي في الصغر أعظم ما يستطيع المرء دفعه من ثمن. حياتي كلها
ومستقبلي. فاعلمي أنني اليوم أحبك مثلما أحببتك فيما مضى، وقد وهبتك نفسي،
وروحي وقلبي جعلتهما لك فِدًى … (يأخذ الولد بين
ذراعيه ويقبله ويبكي).
(ستار)