قلب المرأة
قصة تمثيلية في خمسة فصول
القاهرة سنة ١٩١٥
القاهرة سنة ١٩١٥
الفصل الأول
المشهد الأول
(هورتنس – جودياس)
هورتنس
:
أمرتني السيدة أن أطلب منكما التفضُّل بانتظارها، فإنها على وشك أن
تعود.
جودياس
:
سننتظر ربع ساعة فإن لم ترجع عُدْنا للقائها في وقت آخر.
هورتنس
:
لكما الرأي (تخرج).
المشهد الثاني
(جودياس – لورنزو)
جودياس
:
إنها ألحت عليَّ أن أستقدمك، فهي لا تلقاني إلَّا ذاكرة لك طالبة مني أن
أمهِّد لها سبيل لقائك، وما زلت أمنِّيها وألطف بها وأعِدُها وأخلق الأعذار؛ ذلك لما
أعلمه من رغبتك عن النساء وحذرك عشرتهن أيها الفيلسوف، وحدَّثَتْني نفسي أن
أغازلها لا شغفًا بها، وإن كانت ذات مُحَيًّا باهر الوسامة ساحر القسامة، ولكن
لأنجو من لجاجها في طلب فلَايَنْتُها في الحديث فلم أفلح، وكنت أتَّقي مواجهتها
حتى كان أول أمس، فاعترضتني وكادت تأخذ بتلابِيبي ولم تطلقني حتى أقسمتُ لها
أن لا ألقاها بدونك، وها نحن جئنا لهذا الغرض، فإذا هي مشغولة بسوانا وغائبة
عن دارها.
لورنزو
:
وما شأن تلك المرأة؟ كدتَ تشغلني بها على الرغم من عقيدتي في النساء
ونفرتي منهن، بل ماذا تريد مني؟
جودياس
:
ما يطلب النساء من الرجال.
لورنزو
:
دعِ المزْح جانبًا، هل ذكرتْ لك أنها عرفَتْنِي أو رأتني قبل اليوم؟
جودياس
:
كيف لا تذكرها؟ وهي تؤكِّد لقاءكما وقد وصفتك لي وصفًا صادقًا، وحرصت على
مكان اللقاء وزمانه فأمسكت ذكرهما.
لورنزو
:
وهذا الحرص أدعى للريب، ولكن قل لي ما سيماها؟ وما صفتها؟ وهل لها ما تفْضُل
به غيرها من النساء؟
جودياس
:
إن لها جمالًا يشوبه الوَهَن والرقة، وكأن وجهها صفحة من سحر القدماء. وكأن
لها في كلِّ بنان لسانًا ناطقًا. أما صوتها فيسارع إلى القلب ويبقى به. وهي
عدا ذلك ذكية الفؤاد فصيحة القول خلَّابة الحديث رقيقة الشعر. وهي تهمُّك فيما
تشاء من عَبَث ولهو.
لورنزو
:
أراك تصفها بلسان عاشق، ومَن يسمعك تحكي عنها ما حكيتَ لا يرتاب في أنك
ستلقى حتْفَك في حبِّها.
جودياس
:
لو كنتُ عاشقًا ما جلبتُ مزاحِمًا. لعلك أنت ملاقٍ حتفَك في هذا
السبيل.
لورنزو
:
لقد أغلظت عليك وأرغمتك. ولعلك تجمعنا لتُرِيَها معائبي فتزهد في ويخلو لك
الجو.
جودياس
:
أنت إذن سيِّئ الظن بي. إنني أعلم بغضك النساء. وقد ذكرت لها أنك رجل لا
تستخفُّك البيض الحسان، وأن في أغوار نفسك ينفجر ينبوعٌ من الطهر والتقوى، بل
أنت القديس أنطوان.
لورنزو
:
لقد أتيتَ الدار من غير بابها يا صاح، وقلتَ لها ما يزيد تعلُّق المرأة
بالرجل، ولو عرفت قلوبهن لذكرْتَ لها أني زير نساء.
جودياس
:
كانت تكذِّبُني المشاهدة؛ أي زير نساء يطلق لحية كثَّة كلحيتك؟! ويجهل فنون
التجمُّل والتظرُّف مثلك؟
لورنزو
:
وهل لها زوج أو مطلقة وما مصدر رزقها؟
جودياس
:
لم أسألها عن زوجها، ولم أرَ رجلًا يصحبها سوى ابنها وهو هذا الطفل
النائم.
لورنزو
(عند سرير الطفل)
:
ما أجمله! أيشبه أمه؟ هل أقبِّله؟ ما رأيت أدعى إلى الحنان والحب من طفل
نائم. طاب نومُك أيها الصغير.
جودياس
:
إذن اخفض من صوتك لئلا تقطع عليه أحلامه … هل هذا حنان زوج الأم؟
لورنزو
:
دع عنك المزْح. أتعرف مصدر رِزق أمِّ هذا الطفل؟
جودياس
:
أراها في ميسرة ولنفسها كرامةٌ تحرص عليها. وعلمت عَرَضًا أن لها مَن يمدُّها
بالمال ولعله زوجها.
لورنزو
:
إذن بينها وبينه قطيعة. إن ما سمعته عنها يحبِّب إليَّ لقاءها، ولكن لا بدَّ
لأمرها من سرٍّ.
جودياس
(على مقربة من البلكونة)
:
ما قصدك؟ وماذا حلَّ بك؟ ولمَ تغيرت؟
لورنزو
:
إنني لا أتطير، ولكنني أشعر على رغم إرادتي أن حادثًا جليلًا
يدهمني.
جودياس
:
ما تعني بذلك يا لورنزو؟
لورنزو
:
لعل الأقدار هيَّأت لي أمرًا واقعًا.
جودياس
:
لا تجعل للأوهام تأثيرًا في نفسك.
لورنزو
:
إن للنفس إشرافًا على المستقبل ورجوعًا إلى الماضي.
جودياس
:
ما هذا القول الذي لم أتعوَّد مثله منك؟
لورنزو
:
قال لي أبي حين وداعنا إذا شعرت بأن أمرًا خطيرًا سيقع لك ففِرَّ منه فلربما
اتَّقيتَ بالإدبار سهامَ القضاء، ونجوتَ بالفرار من الوقوع في حبائل القدر. فهيَّا
بنا يا جودياس، بل ابقَ وحدك فإن ظفرت بلقاء تلك السيدة فلاطِفْها وتودَّد إليها
ولا تجعل لها من اليوم سبيلًا إلى سؤالك عنِّي، وقُل لها إني سافرت.
جودياس
:
سأفعل.
لورنزو
(عند سرير الطفل)
:
وهنيئًا لك حب الساحرة، ولكن قبل انصرافي سأقبِّل هذا الطفل.
جودياس
:
حذار أن توقظه (تدخل مويلف).
المشهد الثالث
(مويلف – جودياس – لورنزو)
مويلف
:
طابت ليلتك يا سيدي، إن مَن يداعب الطفل بشماله يُمسِك قلب الأم بيمينه.
شكرًا لك يا سيد جودياس لقد برَرْتَ في قسمك. تفضَّلا بالجلوس واعذراني عن طول
غيبتي وانتظاركما، طالما سعيت للقائك. لا تدهشك رغبتي في لقائك، فقد اجتمعنا
قبل اليوم … ألا تذكرني؟ إنني لا أنسى لقاءنا الأول حول خوان دي نافا ثم
التقينا ثانية على باخرة البحيرة بين أوشي وفيفيان وفي هذه المرة أنعمْتَ فيَّ
نظرك وكنتَ حاسر الرأس، ونسيم البحر يعبث بشعرك، وكنت تلقي بنظراتك إلى أقصى
الأفق، وكأنك تبصر سراب حلم لم يُحقَّق أو ترقُب أمنيةً تداعب خيالك.
لورنزو
(عند سرير الطفل)
:
لا أذكر هذا اللقاء يا سيدتي، وددت لو ذَكَرْتِه.
مويلف
:
وللمرة الثالثة التقينا في متنزَّه مونبون عند مدخل جسر شودرون، فثبَّتَّ فيَّ
نظرك وكأني بك كنتَ تسائل نفسك: أين رأيت تلك السِّحْنة؟
لورنزو
:
عفوًا …
جودياس
:
إذن تعارُفكما قديم.
لورنزو
:
ما أوهنَ ذاكرتي! بيْد أنه يُخيَّل إليَّ أنني أذكر لقاء مونبون كرؤيةٍ طال
عليها القِدَم.
جودياس
:
حديثكما طلي ومجلسكما لا يُمَل، ولكن لا يخدع دقَّات ساعتي.
لورنزو
:
سرَّني تعارُفنا يا سيدتي، فشكرًا لك ولصديقي.
مويلف
:
وأنت أيضًا تتركني! ربما كان السيد جودياس نئومًا. أرى في عينك أنه لم
يحِن وقتُ انصرافك. فابقَ قليلًا. ارْجُهُ يا سيد جودياس أن يبقى معي هنيهة. ما
سلَّمت حتى ودَّعت!
جودياس
:
ابقَ يا صديقي. أما أنا فعرضت عذري.
لورنزو
:
لا بأس إلى الملتقى.
جودياس
:
إلى الملتقى إلى الملتقى. لا تترك السوداء تتسلل إلى قلبك (يخرج جودياس).
المشهد الرابع
(مويلف – لورنزو)
مويلف
:
نستطيع الآن أن نتحادث بلا رقيب. ما لك سكتَّ؟ هل ألمَّك انصراف صاحبك؟
لورنزو
:
كلا! قد يظهر بي بعض انفعالٍ وهو نتيجة حوادث الليلة.
مويلف
:
وأنا أشدُّ انفعالًا وتأثُّرًا، وأوشك أبكي وكنت أنتظر هذا عند لقائك.
لورنزو
:
لماذا؟ هل أحزنَك حضوري؟
مويلف
:
كلا! من الناس مَن يحقِّق لقاؤهم أعظمَ الآمال أو يكذِّبها.
لورنزو
:
وما هو أعظم آمالك؟
مويلف
:
أقصى آمالي ظَفَري بنفسٍ تكون شقيقةَ نفسي، ألتمسها منذ شعرتُ بوجودي.
لورنزو
:
وكيف تسعين لتحقيق أمنيتك؟
مويلف
:
ليت تحقيقها طَوْع إرادتي، ولكنني عاهدتُ نفسي أننا إذا التقينا لا
نفترق!
لورنزو
:
رغم عقبات الحياة ومتاعبها؟!
مويلف
:
الإرادة الصادقة فوق كلِّ شيء، وليس للإرادة مظهر أعظم من تطلُّع النفس
للسعادة، وليس للسعادة من وسيلة سوى الحب.
لورنزو
:
أراك تلتمسين السعادة والحب وغيرك يراه مصدر الشقاء.
مويلف
:
الحب حبَّان؛ حبُّ رشْدٍ وحب ضلالة.
لورنزو
:
كيف تَمِييزُهما؟
مويلف
:
قلبك يقودك ولا يخدعك.
لورنزو
:
ألا ترين الصداقة إذا توثَّقت عُراها بين نفسين شقيقتين قامت مقام
الحب؟
مويلف
:
إن الصداقة بين رجل وامرأة وسيلة لا غاية. أتؤمن بحبٍّ ينقضُّ على شخصين
انقضاض الصاعقة؟
لورنزو
:
وما هذا الحب الرائع؟
مويلف
:
ليس رائعًا إنما هو حبٌّ قوي لا يعرف النفاق ولا الحِيلة، ولا يطيق الصبر، فلا
يَخدَع ولا يُخدَع، بل يدفع بالنفسين كما يدفع مُولِّد الكهرباء بتيارينِ
قويَّين.
لورنزو
:
إنما أعرف أن شخصين يلتقيان للمرة الأولى فيشعر أحدهما بأن صلته بالآخر
ترجع للأزل، وأن صوته صاعدٌ من أعماق قلب الزمان لشدَّة اطمئنان السمع وسكون
القلب إليه.
مويلف
:
أيطول مقامك بهذا البلد؟
لورنزو
:
ربما طال أسبوعًا لأنني سأشْتُو بباريس.
مويلف
:
وأنا أشتو بها ولكن لن أبرح لوزان قبل شهر.
لورنزو
:
أيُّ شيء يحملك على طول الإقامة؟
مويلف
:
إن حياتي مرتبطة بأمور شتَّى منذ انفصلت عن زوجي.
لورنزو
:
إذن أنت وحيدة؟
مويلف
:
منذ ثلاث سنين ولا رجاءَ في العودة إلى حياة العيلة.
لورنزو
:
ألم يكن الصلح خيرًا لأجل هذا الطفل؟
مويلف
:
لقد حدث بعد الزواج خلافٌ شديد بيني وبين زوجي؛ وكان سببه الفرق البعيد في
المزاج والطبع وخُلق الزوجين.
لورنزو
:
ألا تؤلمك الوحدة؟
مويلف
:
إن الوحدة ذاتها لا تؤلم، ولكن المؤلم المُوجِع حقًّا هو أن بعض الرجال
يعتقدون باطلًا أن امرأةً في عنفوان شبابها ما دامت بغير رجل يحميها تُمسِي
ملكًا مشاعًا ومتاعًا مباحًا لكلِّ الرجال.
لورنزو
:
خفِّفي عنك إنه لا يَظنُّ هذا الظن إلَّا الأنذال.
مويلف
:
إذن كان أنذالًا معظمُ مَن لَقِيت من الرجال، ويحدث أن الرجل الذي لا نشتهيه
يُلقِي بنفسه على أقدامنا والرجل الذي نميل إليه لا يشعر بهذا المَيْل ولا
يدركه إلَّا بعد فرار الفرصة، وحينئذ يندم! (يسمع
صفير قطار.)
لورنزو
:
آن يا سيدتي أن أودِّعك فقد طال مقامي.
مويلف
:
بل ابقَ. لماذا اخترت الفراق بعد صفير القطار؟ إنه رمز القطيعة والبعد فلا
تفارقني عقيبه. حدِّثني عن نفسك شيئًا فقد حدَّثتُك عن نفسي كلَّ شيء.
لورنزو
:
كل ما أستطيع أن أقول إنني طالبُ طبٍّ، وإن مدينة فيزنرة وطني، وأسرتي وسَطٌ بين
الأُسَر، وأبي كَهْل ضعيف الحَوْل والحِيلة، وأمي تدبِّر شئون أسرة كبيرة، وقد فضَّل
أبي
أن أرضع لِبان العلم مع ما في هذا من الغضاضة عليه على أن أبقى بجانبه يشدُّ
بي أزْرَه في تجارته وإسعاد أخواتي (يبدو عليها
التأثُّر) لماذا تتأثَّرين من هذا الكلام الهيِّن؟ (تبكي) أتبكين أيضًا إذن فرغت من
قصتي.
مويلف
:
كلا … بل استمر. إنك لا تدري مِقدار السرور الذي تُدخِله على نفسي بهذا
الحديث.
لورنزو
:
وقد قضيت عامين في درس الطبِّ، وبقي لي عامان أقضيهما في غربتي.
مويلف
:
ولماذا كان يظهر عليك الحزن حين التقينا ببيت دي نافا؟
لورنزو
:
منذ أن أفقت من غشية الطفولة وتنبَّهت إلى جدِّ الحياة، شعرت باليأس والحزن
فزهدت في الدنيا وتبرَّمت بالناس.
مويلف
:
نعم لما بصرت بك قِيل لي إن وراء جبينك المُكْفهِر عقلًا مُتقِدًا وقلبًا قَلِقًا
ونفسًا لا يقرُّ لها قرار. وقد رأيت فيك من روح الحزن والقلق ما حرَّك كامِنَ
دائي. فقلت في نفسي هذا رجل ينقصه الحب! … أريد أن أبلغك رسالة.
لورنزو
:
أية رسالة تقصدين؟
مويلف
:
رسالة الربيع إلى القلوب. إن الربيع حدَّث نفسي … ونفسي حدثتني أننا
التقينا لأن كلانا يحمل للآخر وديعةً غالية.
لورنزو
:
إن قلبي يجسِّم هذه الوديعة.
مويلف
:
لورنزو! ألا تشعر في قلبك بحياة جديدة؟ ألا تشعر بحرارة في دمك؟ ألا تشعر
بحاجة إلى ما يسمُّونه الحب؟
لورنزو
:
أشعر بالحب وأمجده، ولكن أريد أن أحيا بالعقل لا بالوجدان.
مويلف
:
إن حاربت الوجدان وازدريتَه قضيت على نصف الحياة.
لورنزو
:
إن حياة الفكر والعقل دائمة لا يسبقها ضعف ولا يلحقها ندم، وما عداها
مصحوب بالحسرات قصير الأجل.
مويلف
:
إن حياة العقل جليلة جميلة، وأي رجل يدَّعي العلم وهو لم يذُق سعادة
الحب؟
لورنزو
:
لم يعقني عن الحب إلَّا خوفي من الحب!
مويلف
:
أنت تخدع نفسك. كلُّ عاطفة فيك تطالب بالحب.
لورنزو
:
إنني أنتظر الحب ولا أستقدمه.
مويلف
:
أيها الفتى لا حاجة بك إلى انتظار الحب فهو قريب منك … إنه بين جوانحك
وجوانح إنسان آخر كالنار الكامنة في تيار الكهرباء اسأل تُجَب، واطلب تُمنَح.
كسِّر قيود قلبك الأسير يُقِم له الحب أفراحًا خالدة!
لورنزو
:
واغوثاه! لقد تحوَّل قلبي، ليتني سمعت نصيحة أبي. كانت نفسي قبل لقائك
هادئة قارَّة كأنها المحيط العظيم في سكونه، أما الآن فقد أمست تلك النفس
كالبحر … ذهبت بهدوئه الأنْوَاء ومضت بصَفْوه الرياح، وخلَّفته العاصفة هائجًا
مُضطرِبًا.
مويلف
:
اسمع نصيحة قلبك ماذا يقول لك؟
لورنزو
:
يقول لي قلبي إنني … أحببتك!
مويلف
:
إذن ابقَ بجانبي … وأنا ما وقعتْ عيني لأول مرة عليك حتى عشقتك، وكنت قبل
ذلك لا أعرف ما الهوى، وكنت أحسب الحبَّ لعبة وملهاة، فأصبحتُ في حِباله
أسيرة.
لورنزو
:
ما اسمك؟
مويلف
:
اسمي كاترين.
لورنزو
:
اسمعي يا كاترين، إنني قاسٍ في حبِّي … شديد الغَيْرة مستأثِر لأنني أحب في
العمر مرة واحدة.
مويلف
:
هذا ما يتطلبه قلبي … أريد حبًّا قاهرًا قاتلًا!
لورنزو
:
قد آن أن أذهب. دعيني أفكِّر ليلتي. إنني أخشى أن يستيقظ الطفل أو يفاجئنا
أحد.
مويلف
:
دعِ التفكير للغد ولا بدَّ من خلوتي بك الليلة. هيَّا بنا من هذا المكان الذي
لا يُطمَأن إليه.
لورنزو
:
أين ألقاك؟
مويلف
:
المحطة موعدنا بعد لحظة.
لورنزو
:
إلى الملتقى (يخرج).
المشهد الخامس
(مويلف – الخادم هورتنس)
(تدق مويلف الجرس لاستدعاء الخادم. تدخل هورتنس.)
هورتنس
:
سيدتي!
مويلف
:
إن أمرًا ذا بالٍ يقتضي غيبتي. سأترك كوستا في حراستك.
هورتنس
:
لك الأمر يا سيدتي.
مويلف
:
أين قفَّازي؟ … إذا استيقظ فأخبريه أني بجواره، وحذار أن يبكي أو ينكشف
عنه الغطاء. إلى الملتقى يا هورتنس. اسمعي، إذا جاء أحد فانقلي كوستا في
الغرفة المجاورة.
هورتنس
:
إلى الملتقى يا سيدتي (لنفسها) ما
بالها ملهوفة تتعثَّر بأذيالها وتترك ولدها في هذه الساعة من الليل؟! (يُطرَق الباب.)
هورتنس
:
مَن بالباب؟ ادخل (يدخل الطاهي جوزيف بثياب
الفراغ).
المشهد السادس
(هورتنس – جوزيف)
جوزيف
:
عزيزتي هورتنس أنت وحدك هنا.
هورتنس
:
ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ هل وصل بك إقدامُك الأعمى إلى اقتفاء آثاري
في غرف السكان؟ اخرج.
جوزيف
:
ارحميني لم يقُدْني إليك إقدامي الأعمى، بل قادني حبِّي البصير.
هورتنس
:
خير أن تخرج يا جوزيف، فقد تيقَّظ الطفل بضوضائك وثرثرتك.
جوزيف
:
إذا رضيتِ عني فلا أكترث لشيء.
هورتنس
:
ثِق أنني لا أرضى عنك ما دمت تسْلُك هذا الطريق.
جوزيف
:
أي طريق تقصدين؟
هورتنس
:
معاكسة امرأة ذات بعلٍ وطفل مثلي …
جوزيف
:
بعلك شيخ قليل الكسب سيِّئ الخلق.
هورتنس
:
لا أُطِيق سماع شتْمِ زوجي، وأعدُّ الرجل الذي يغتاب زوجًا في حضرة امرأته
نذلًا يستحق العقاب.
جوزيف
:
هورتنس، ما بالك تشتدين في معاملتي؟ إنني أكفل لك حياةً طيبة وأصون جسمك
عن تعب العمل، وأنقذ نفسك من ذلِّ الخدمة.
هورتنس
:
وأنا أختار الفقر مع الشرف وأُوثِره على الغني مع الابتذال؛ لأن لي طفلًا
صغيرًا هو اليوم حَدَث لا يملك لنفسه خيرًا ولا شرًّا، ولكنه سيكون غدًا فتًى ثم
شابًّا ثم رجلًا، فلا أريد أن أفعل ما يدنِّس شرفه ولا أريد أن يعيش بين الناس
متعثِّرًا في أذيال الخجل والعار، فإن عشتُ نهَرَني وإن متُّ لعنني في قبري.
جوزيف
:
إن سيداتي وسيداتك لا تبلغ بصائرُهن مرمى بصيرتِك، فما أبعد نظرك!
هورتنس
:
لا تسخر مني لأنني فقيرة. إن لسيداتي وسيداتك من وفرة المال وبُعد الحسَب
وسعة الجاه ما يغنيهنَّ عن الشرف.
جوزيف
:
إنني لا ألتمس منك إلَّا …
هورتنس
(مقاطعة)
:
خير لك أن تخرج.
جوزيف
:
إذن إلى الملتقى (يمدُّ لها
يده).
هورتنس
:
إلى الملتقى.
جوزيف
:
حتى يدك تضنِّين بها؟ لا أريد أطراف البنان، ولكن أريد كفَّك الناعمة.
هورتنس
:
أرْسِل يدي وإلَّا استغثت.
جوزيف
:
الوداع يا هورتنس (يخرج
بظهره).
هورتنس
:
اذهب بسلام (يخرج) … (لنفسها) مسكين يا جوزيف.
جوزيف
:
هل دعوتني؟
هورتنس
:
كلا، لم أدعُكَ.
جوزيف
:
يُخيَّل إليَّ أنني سمعتك تذكرين اسمي.
هورتنس
:
كيف أطردك وأدعوك في آن؟
جوزيف
:
قد يحدث هذا لأنني أرجو وأنت قد ترحمين.
هورتنس
:
لا تعد إلى هُزْئك وهذرك. احبس آمالك على ما هو أنفع لك وأقرب منالًا، ودع
رحمتي فإن زوجي وطفلي أولى بها منك.
جوزيف
(يخرج بظهره)
:
الوداع يا هورتنس العزيزة، يا هورتنس الجميلة، يا هورتنس الشريفة،
وسأعاود الكرَّة فلربما … وقد جاء في المثل السائر إن أشد الحصون مناعة … قد
ناله … (يدخل كراشوف فيُصدَم بطنه بظهر جوزيف فيبهت
الأخير ويهرول مُعتذِرًا).
المشهد السابع
(كراشوف – هورتنس)
كراشوف
:
هذا مسكن سيدة روسية اسمها مدام مويلف؟
هورتنس
:
نعم يا سيدي؟
كراشوف
:
وأين هي؟
هورتنس
:
خرجت ولا تلبث أن تعود.
كراشوف
:
هذا ولدها … أودُّ لو أقبله وأخشى أن يستيقظ. هل تطول غَيْبتها؟
هورتنس
:
خرجت قبيل الساعة التاسعة.
كراشوف
:
سأبقى في انتظارها، ولكن إلى أين تأخذين هذا الصغير؟
هورتنس
:
أمرتني السيدة أن أنقُلَه إذا طرق زائر.
كراشوف
:
حتى ولو كان الزائر أباه؟
هورتنس
:
سيدي.
كراشوف
:
حسن. افعلي ما أُمِرْتِ به.
هورتنس
:
الطاعة أولى (تخرج وتدخل
مويلف).
المشهد الثامن
(كراشوف – مويلف)
كراشوف
:
لا شك يدهشك قدومي بغير علم سابق، فقد مضى على فراقنا ثلاث سنين. إنما جئت
لأرى الطفل فإذا هو يُنقَل بأمرك من بين يدي. ولكن أرجو أن يكون الزمن قد ضمَّد
الجراح القديمة. أنت طيِّبة القلب سريعة النسيان على أن خطأك كان أعظمَ من
خطئي.
مويلف
:
لم أُدهَش مطلقًا، وحق لك أن ترغب في مشاهدة الطفل. غير أن بعض الجراح لا
تلتئم.
كراشوف
:
ألا تزالين تذكرين صداقك ومصوغك؟
مويلف
:
لا تذكر هذه السفاسف. إن أكثر الأزواج طامعون في مال أزواجهن ليبدِّدوه في
تجارة أو قمار، وكثيرون يفعلون مثلك يبدِّدون أموال أزواجهم وأبنائهم في
الإنفاق على معشوقاتهم، وهذه جريمة لا تقوى المرأة على غفرانها. على أنني
نسِيتُ وعفوت وحاولت أن أعيش في جنبك عيشة راضية، ووقفت قلبي وحياتي على
إسعادك وتربية ولدي.
كراشوف
:
وإذن …!
مويلف
:
كنت تعود إليَّ ثَمِلًا كريه الرائحة بشع المنظر … وكنتَ حينًا تعود مهتاجًا
فتزعج الخدم والطفل، وتطرق بابي طرقًا مرذولًا. وكم مرة حاولت اغتصابي قبيل
الفجر.
كراشوف
:
اغتصابك! كيف يجري هذا اللفظ على لسانك؟
مويلف
:
إن المرأة وإن كانت زوجًا ليست لعبةً للرجل، إنما هي إنسان كالرجل؛ عليها
حقوق ولها حقوق وأعز وأغلى حقوقها أن تُعامَل معاملة الإنسان الحر.
كراشوف
:
وهل لديك تهمة أخرى؟
مويلف
:
أتطلب مني أن أذكر لك ما هو أعظم؟
كراشوف
:
إنك قاسية القلب تذكرين أمورًا تدَّعين أنها ذنوبي وتُعرِضين عن ذنوبك وهي
بالذكر أحرى.
مويلف
:
وما ذنوبي إليك؟
كراشوف
:
تزوجتُ منك وقد ضممتك إلى صدري ليلة زفافنا، ومنَّيت نفسي بالاستئثار بك
والتمتع معك بسعادة الحياة العائلية … فصدقت آمالي عامًا واحدًا حتى دهمنا
ذلك الشرير الخائن هاكيبوش.
مويلف
:
أتوسل إليك أن لا تذكر الماضي.
كراشوف
:
لم أقاطعك فدعيني أتمم حديثي وأندب حياتي التي أوديتِ بها وشيخوختي التي
سوَّدتِ صحيفتها. لقد دخل الشرير هاكيبوش بيننا فصحبته البغضاء والشقاق لأنه
تمكَّن من التغرير بك فتمكَّن من قلبك.
مويلف
:
لا ترفع صوتك إنك تزعج الطفل في الغرفة المجاورة.
كراشوف
:
إن حديثنا هذا لا يقطع عليه أحلامه. اشربي كأس الملام حتى آخر عَكَرها. إنكِ
منذ عرفت هاكيبوش جهلتِني وساء خلقُك؛ فأهملت بيتك وهان عليك هجرُه، وكنت إذا
جرؤتُ على سؤالك أقمت مأتمًا، ونهرتِني حتى كدْتُ أتهم نفسي، وما زلتِ بي حتى
أذللتني وأرغمت أنفي فصرت أخافك وجعلت مني مخلوقًا جبانًا واهن الإرادة،
وقضيت على شهامتي وإبائي وحاولت أن تقضي على شرفي.
مويلف
:
كفى … كفى! لو علمت أنك ستقيم سوق العتاب والشكوى …
كراشوف
(مقاطعًا)
:
دعيني أشرح لك علة استرسالي في المعاقرة والمقامرة … إنني بعد
أن رأيت نفسي ضعيف الحَوْل والحِيلة … بدأت أشرب وأطرق أبوابًا غير بابي، وكنت
أشرب لأغرق همومي في كئوس الخمر المترعة؛ لأنني إذا عدت إليك مبكرًا تحوَّلت
عني وادعيت أنك منهوكة القوى، وإذا عاودتك متأخِّرًا أقمتِ مناحة؛ فأمست شيخوختي
جحيمًا لا يُطاق.
مويلف
:
بوريس كراشوف خفِّض من صوتك. أخشى أن يستيقظ الطفل فينكرك.
كراشوف
:
دعيني أتكلم كما تكلمتِ. أتذكرين ماذا حلَّ بك بعد أن قاطعك هاكيبوش؟ لقد
فقدتِ بفقد حبِّه راحتَك وهدوء نفسك، وحاولت الرجوع إلى طبيعتك الأولى فلم تقنعي
بحبِّ شيخ مثلي، فبماذا تطفئين نار هذا الفراق المحرقة؟ اختلقت بدعةَ السفر إلى
باريس في طلب العلم، فلم أصدق عزيمتك وحاولت منعك فتهددتني بالطلاق وطالبتني
بالصداق؛ فأطعتك مرغمًا وأعددت معدات السفر.
مويلف
:
إنك تشوِّه أعظم الأشياء وأجملها.
كراشوف
:
دعيني أشوِّه ما شئت … لقد أقمت بباريس نصف عامٍ ولم تكتبي إليَّ إلَّا طالبة
مالًا أو مستبطئة ردًّا.
مويلف
:
ويلاه من بهتانك واختلاقك!
كراشوف
:
ويلاه من مكابرتك!
مويلف
:
أعندك بعد هذا شيء؟ … حسبي باعثًا على كراهيتي إياك أن كنت لي
زوجًا!
كراشوف
:
حسبي سببًا لكراهيتي الحياة أن كنت لي أهلًا. لقد عدتِ ولم يمضِ على عودتك
أسبوع حتى وضعت.
مويلف
:
كراشوف! أتوسل إليك لا تزِدْ. إن الطفل نائم وأنت تذكر أية إهانة ألصقت بي
وبه (تبكي) إنك لا تأمن عاقبة تحمُّسك ولربما خانك طبعك.
كراشوف
:
ليس بين الجرائم أفظع من جُرْمك. إن المرأة التي تحمل من غير …
مويلف
(مقاطعة)
:
كراشوف! لا أسمح لك أن تزيد.
كراشوف
:
لا تقدرين لي على مكروه.
مويلف
:
احترم بيتي!
كراشوف
:
لم تراعي لمنزلي حرمةً، ولم تقيمي لشرفي وعرضي وزنًا. إن مَن تحمل وهي بلا
زوج مغفورة الذنب، ولكن الزوجة التي تحمل جنينًا من الطريق، وقد يكون ابنَ مجرمٍ أو مجنون
وتدسُّه على زوجها الغافل ينشأ في حجره ويمرح في نعمته ثم يحمل
اسمه ويرث ثروته …
مويلف
:
كراشوف! إنك تجاوزت الحدَّ.
كراشوف
:
إن هذه المرأة (يُشِير إليها) يقصر في
عقابها حبل المشنقة، وكرسي الكهرباء، وسكين دبلر!
مويلف
:
كراشوف ماذا جاء بك هذه الليلة؟ (لنفسها) في صفو الليالي يحدث الكدر!
كراشوف
:
لقد صبرتُ واحتملت كثيرًا وأشفقت عليك وعلى طفلك، فلم تقنع نفسك بهذا الصبر
وهذا الرضى، وعلَّمتِ الطفل بغضي واحتقاري، وأرضعته مع اللبن كراهتي، واغتررت
بصبري، وأردت أن تجعلي خِدْرَك لكلِّ الناس مضجعًا، حينئذ ثارت العواطف الكامنة في
نفسي وبُعِثت شهامتي من مرقدها، وصغرت أعظم الجرائم في نظري، وحاولت قتلك ولم
ينقذك من يدي إلَّا الخدم ورجال الشرطة.
مويلف
:
وبعدُ يا بوريس كراشوف!
كراشوف
:
وبعد جئتك ناسيًا أو مُتناسيًا غافرًا بعد ثلاث سنين من فراقنا أطلب إليك
أن تعودي إلى خِدْرك، فما قولك؟
مويلف
:
هذا لا يكون أبدًا. أتظنني فقدت صوابي حتى تدعوني إلى عشرتك؟
كراشوف
:
أتقضين حياتك متنقِّلة تتعثَّرين في أذيال الحاجة، وتجرُّين وراءك هذا الطفل
الشقي يتخبَّط في ظل الجهل والفساد؟
مويلف
:
هذا خير من عشرتك. اصنع لنفسك من الجميل ما تريد صنعه لنا.
كراشوف
:
إذن لماذا كنت تبكين الساعة؟
مويلف
:
بكيتُ على الذكرى التي أحييتَها في قلبي لا شفقة عليك ولا حنينًا إلى
عشرتك.
كراشوف
:
احذري عاقبة تهوُّرك، لقد جرحتني جرحًا لا يندمل فلا تهرقي دمًا
جديدًا.
مويلف
:
وما شأني بجروحك الدامية والمُندمِلة؟
كراشوف
:
أيتها المرأة كاترين كراشوف …
مويلف
:
لا تدعني بهذا الاسم الذي دفنته، ولا تبعثه من قبره.
كراشوف
:
هل ذهبت فظاعةُ ذنوبِك بصوابك؟
مويلف
:
ألقاني حظِّي بين براثنك ثم أنقذني.
كراشوف
:
لا تزيدي أيتها الكاذبة الخائنة.
مويلف
:
ماذا تريد من امرأة لا تحبك؟
كراشوف
:
أإلى هذا الحد وصلت بك المجازفة؟
مويلف
:
قلب المرأة لا يُباع ولا يشترى، ولا قيمة للعقد الشرعي إذا لم يربط الحب
قلب الزوجين، وقد أحببتك في بداية زواجنا إذ قيل لي إنك زوجي وفي حلٍّ من جسمي،
فلما فقهت معنى الحياة ضننت عليك بحبي.
كراشوف
:
ما هذا الخلط أيتها المرأة؟ لقد اغتلتِ ثلاث سنين من شبابي! … أعزيك عن
عقلك.
مويلف
:
إن شباب المرأة حياتها وثروتها.
كراشوف
:
سأقطع نفقتك لعل الفاقةَ تردُّ عليك عقلك (يهمُّ
بالخروج فيُطرَق الباب).
مويلف
:
ادخل … ادخل … ادخلوا … ادخلن!
المشهد التاسع
(لورنزو – مويلف)
لورنزو
:
عفوًا إني منصرف.
مويلف
:
بل ابقَ، هذا زوجي القديم. ها هو قد انصرف. إنه لا يتلفت … حبيبي لورنزو، ما
الذي جاء بك في هذه الساعة فقد أنقذتني. إنك ملاكي الحارس. منذ عودتي من
خلوتنا الأولى أخذت أسائل نفسي أوقد مضى؟
لورنزو
:
وددت لو لم أره … جئت لأن قلبي دفع بي إليك، فشئت أن أطمئن عليك قبل
رقادي.
مويلف
:
وأين تذهب؟ أتتركني؟
لورنزو
:
نعم وسألقاك غداة غد.
مويلف
:
هل تركتْ رؤيةُ هذا الشيخ المجنون في نفسك أثرًا؟
لورنزو
:
لا تصِفيه بالجنون فقد رثيت لحاله!
مويلف
:
أترثي لشيخٍ أسير شهواته ولا ترثي لامرأة تحبك؟! هذا الشيخ فانٍ وقعت له
فتاةٌ تمتَّع بها أمدًا، فلما تفهَّمت معنى الحياة حاولت إطلاق نفسها من رِبْقة هذا
الأسر الشرعي؛ ففرت من سجنها وما زالت تائه حتى ساقت لها الأقدار رَجُلها
المخلوق لها، ولم توشك أن تسعد بلقائه حتى ظهر هذا الشبح المخيف … فهل من
الرحمة أن يتحوَّل قلبك؟ (تبكي.)
لورنزو
:
ولكن لا تبكي.
مويلف
:
أتلومني لأنني أفلت من هذا الأسر؟
لورنزو
:
خفِّفي عليك.
مويلف
:
كيف تهجرني؟ إن جسمي لا يزال كليلًا من أثر ذراعيك، وقد جمعتْ رعشة الحب
بيننا، فجعلتنا روحًا في جسمين، وهذا القلب المسكين الذي لم يخفق قبل الليلة
إلَّا حزنًا ورعبًا ذاق للمرة الأولى لذَّة السعادة التي لا تُدرَك ولا تُنسَى. لقد
فتحتَ لي بيدك الباب الذي لا تعبره المرأة في حياتها إلَّا مرة واحدة، فلم أكن
عروسًا لغيرك.
لورنزو
:
لا تزيدي.
مويلف
:
دعني أتكلَّم. دعني أبُح بالسر الأعظم، وأُصْبح أمام الطبيعة الهادئة المتجلية
في الجبال والبحيرة وضوء القمر. دعني أغرِّد بذكر حبِّك كما تغرد البلابل
بليالي وصالها الأولى (تبكي) …
أتحبني؟
لورنزو
:
نعم.
مويلف
:
وتبقى معي؟
لورنزو
:
وسأبقى معك.
مويلف
:
إلى الأبد؟
لورنزو
:
إلى الأبد.
مويلف
:
أقْسِم.
لورنزو
:
أقسم بالطبيعة والحب … بكل عزيز مُقدَّس لديَّ أنني أبقي على حبك طول
حياتي.
مويلف
:
أقسمُ أنا أيضًا؟
لورنزو
:
أقسمي أو لا تُقسِمي.
مويلف
:
أُقسِم بقبر والدي وبرأس ولدي وأُشْهِد الله ونفسي أنني لن أعرف سواك رجلًا لي
ما دام في نفس يتردَّد. وأقسم أنني أحبك على البعد والقرب على الفقر والغنى في
السراء والضراء (تركع) أقسم أنني أحبك
(تبكي).
لورنزو
:
إنك قَرِينتي مدى الدهر وحليفتي على الأيام، تؤلِّف بيني وبينك الحياة ولا
يفرِّق ذاتَ بينِنا الموتُ، وهذه يمين قد ربطتنا معًا، ولكن لا تبوحي بما أوثقنا
من ذلك الحلف واجعلي أمره سرًّا مكتَّمًا. انهضي (يقبِّلها باكيًا ويتعانقان. يُسمَع صفير القطار ثلاث مرات، وتُسمَع حركة
قطار يتحرَّك).
(ستار)
الفصل الثاني
المشهد الأول
(فندق راسين في جنيف – لورنزو – راسين – مدام راسين)
لورنزو
:
هل تقضون أصيل الأحد بغير لهو وسمر؟ كنت أحسب البيوت في سويسرا شتاءً
حافلة بأنواع المسرات.
راسين
:
لدينا يا سيدي أسباب شتَّى للهو واللعب، وقد ظهر منذ عشر سنين سبعة وخمسون
كتابًا في هذا المبحث الجليل.
مدام راسين
:
بدأ راسين يحصي ويعد!
راسين
(مستمرًّا)
:
إنها أربعة وثلاثون تأليفًا وثلاثة وعشرون نقلًا من اللغات الأجنبية عدا
سبع رسالات صغيرة؛ واحدة منها عن اللغة الصينية وتسع مقالات في المجلات
العلمية ومقالتان في جريدة يومية.
لورنزو
:
وهل تذكر يا سيدي بعض الألعاب الموصوفة في تلك الكتب؟
راسين
:
أجل يا سيدي، وأستطيع شرح مائتي لعبة على الأقل.
لورنزو
:
وكم الساعة الآن يا موسيو راسين؟
راسين
:
بقي على الساعة الثالثة أربع وعشرون دقيقة وثلاث ثوان فتكون الساعة في
باريس الحادية عشرة وربعًا وخمس ثوانٍ، وفي جرينوش التاسعة وخمسًا وعشرين
دقيقة وفي نيويورك السابعة قبل الزوال وفي سان فرانسيسكو الرابعة بعد
الزوال وفي يوكاهاما منتصف الثانية بعد الزوال وفي تمبكتو الثامنة بعد
الزوال.
مدام راسين
:
عزيزي شارل، إن السيد لورنزو يسألك عن الساعة هنا في جنيف، فلا معنى لتحديد
الساعات وتوقيع الأوقات في هوكولوما أو هونولولو اللتين ذكرتهما.
راسين
:
جان! إن لكلِّ ذرة من العلم قيمةً، والعلم بالشيء خير من الجهل به، والشيء
يذكر بالشيء. أليس كذلك يا سيدي لورنزو؟
لورنزو
:
ولكلِّ ما يقوله السيد راسين شأن في نظري.
راسين
:
وفضلًا عن ذلك فإنني حرٌّ في أقوالي وأفعالي، أي معنًى للعلوم الرياضية
والفلكية إذا لم نتمتَّع بها؟ ما قيمة الحياة بدون دِقَّة؟ وكيف الوصول إلى
الدقة بدون إحصاء وقياس؟ وكيف الإحصاء والقياس بدون أرقام وأعداد ومقارنات
ومقابلات؟
مدام راسين
:
إنك تضايق الناس باسترسالك في العد والحصر إلى ما لا نهاية.
لورنزو
:
ألا تنتهين يا جان؟ إنك تخرجين عن حدودك وتخرجينني عن حلمي.
مدام راسين
:
إن خروجي عن حدودي ينبهك إلى أمرٍ ذي بال.
لورنزو
:
هل يُلام أحد على الاهتمام بالعلوم والمعارف؟
راسين
:
إنني أحفظ عن ظهر قلب كلَّ إحصاء نافع للإنسانية والتاريخ؛ ذلك أنني عضو في
جمعية الإحصاء الدولية ومشترك في مجلتها، وحضرت كلَّ مؤتمراتها التي عُقِدَت في
سويسرا، وأستطيع أن أعدَّ لساعتي جميع مَن تولَّوا من باباوات رومة وأباطرة الصين
ورؤساء وقبائل الهنود الحمر وأصنام شعوب أفريقيا الوثنية وملوك المصريين
القدماء ومحطات السكك الحديدية في سائر بقاع الأرض، وأعلم قدرًا وافرًا من
شئون الأمم المعاصرة بفضل الإحصاء. فلْيحيَ الإحصاء!
لورنزو
:
ما شاء الله! مرحى! مرحى! … إذا كنتم عدلتم عن قضاء الوقت بالسمر
فاسمحوا لي أن أقطعه بالمطالعة في غرفتي.
راسين
:
هل لديك كتب كثيرة يا سيدي؟
لورنزو
:
أحمل معي دائمًا مكتبة مُتنقِّلة مؤلفة من أعزِّ كتبي.
راسين
:
حسنًا تفعل، ولو أنك قصدت دار الكتب البلدية وجدتَ بها مائتي ألف وتسعمائة
وثلاثة وسبعين كتابًا بين مخطوط ومطبوع منها مائة وثلاثة وخمسون
ألفًا.
جانيت
:
سيدي، بعضهم يسأل عنك بالتليفون.
راسين
:
ها أنا ذاهب … وثلاثمائة وأربعون بلغاتٍ شتَّى منها اليونانية والعربية
والصينية (يخرج مستطردًا) حقًّا إن
موسيو ديبوا يطلبني (يصافح الجميع)
أصافح في كلِّ يوم من أيام السنة أربعين شخصًا ماعدا أيام الأحد فإنني أصافح
أربعة فقط، فمجموع من أصافح ثلاثة عشر ألفًا وخمسمائة شخص؛ موسيو بانجيون
عشرين مرة، وقد فَقَدَ أصبعه في مصادمة فأصبحت يمينه ذات أربع أصابع فقط على أن
هذه المصادمة لم تكن من المصادمات …
مدام راسين
:
أسرع يا عزيزي شارل، فإن الوقت أَزِف.
راسين
:
ها أنا ذاهب وسأقطع من هنا بواسطة الترام طريقًا طولها مائة وخمسون مترًا
في الساعة، فيقطع المسافة ما بين سان جورج وشارع الكوارتري في سبع عشرة دقيقة
وثانيتين، فأصل لتسع وعشرين دقيقة وثلاث ثوانٍ خَلَوْنَ من الساعة الرابعة …
والآن أستودعكم الله جميعًا (يخرج).
الجميع
:
مع السلامة … مع السلامة!
مدام راسين
:
أف من زوجي … اسمحوا لي قليلًا أن أتفرغ لتدبير نُزُلي … أسعد الله مساءكم
(تخرج).
المشهد الثاني
(مويلف – لورنزو)
مويلف
:
أف لراسين … دعني يا عزيزي لورنزو أقبِّلك أربع قبلات، الأولى في جبينك …
والثانية والثالثة في خديك … والرابعة في فمك … ثم اثنتان في عينيك (تقبِّله).
لورنزو
:
كفى تقبيلًا.
مويلف
:
لو أحصينا القُبَل التي تبادلناها منذ تعارفنا كان الإحصاء هكذا … عرفتك
منذ تسعة شهور فلو كان متوسط القُبَل التي نتبادلها كلَّ يوم خمسين قبلة. وفي
التسعة الشهور سبعون ومائتا يوم …
لورنزو
:
يجب أن تطرحي أيام الخصام.
مويلف
:
دعني أحسب أولًا، سبعون ومائتان في خمسين يحصل خمسمائة قُبْلة وثلاثة عشر
ألف قبلة. وإذا طرحنا أيام الخصام يكون ما فاتنا من القبل خمسمائة وقد
عوضناها عقيب الصلح.
لورنزو
(يضمها)
:
عزيزتي كاترين ما أعظم سعادتي بقربك! وما ألطف روحك وأرق شمائلك! (توقع على البيانو بعض ألحان شوبان)، (مستطردًا) لشد ما يعروني الحزن
كلما أذكر الرجل الذي كان يحبك وأنت لا تحبينه!
مويلف
:
أتوسل إليك أن لا تذكره.
لورنزو
:
أين هو الآن؟
مويلف
:
إنه بعيد عنَّا، وقد رأته زينا في بطرسبرج قبيل سفرها، وهو بلا ريب ينفق
مرتبه في ملاذِّه.
لورنزو
:
ومَن هي زينا التي ذكرتِ لساعتك؟
مويلف
:
فتاة استقدمتها لتتعهد كوستا، وهي من طالبات العلم اللائي قعد بهن الدهر
فلم تُتمم دروسها. دعْ عنَّا هذا كله ولْنعُدْ إلى حديثنا الأول … كيف وقع حبي في
قلبك؟
لورنزو
:
رأيتك فأحببتك؛ لأن نفسك شقيقة نفسي وقد تعارفنا منذ الأزل، وعاقتْهما من
اللقاء حوادثُ الأجيال ثم اجتمعتا!
مويلف
:
كيف يدوم حبُّنا؟
لورنزو
:
كيف تصونين نور المصباح في ليلة ذات ريح عاصفة.
مويلف
:
أحوط الشعلة بيدي فلا يطفئها الهواء.
لورنزو
:
كذلك الإخلاص والوفاء يحفظان الود. فحُوطي بهما حبنا المقدس.
مويلف
:
أعاهدك وأقسم لك إنني سأحوط حبَّنا بالإخلاص والوفاء ما دمت حية (تدخل جانيت تحمل خوان الشاي).
مويلف
:
شكرًا لك يا جانيت … اتركي الشاي فسأتولَّى الخدمة بنفسي (تطعم لورنزو وتسقيه الشاي) يا طفلي
المعزز.
لورنزو
:
شكرًا لك يا حبيبتي (تدق الساعة
الخامسة).
مويلف
:
الساعة الخامسة، آن عودة كوستا من نزهة الجبل، سأذهب للقائه.
لورنزو
:
هل أصحبك؟
مويلف
:
كلا، أفضِّل أن أعود لألقاك؛ لأنني أشعر عقيب كلِّ فراق ولقاء بلذَّة لا تُوصَف
إلى الملتقى.
لورنزو
:
سأبقى.
المشهد الثالث
(تدخل أنطونيا)
أنطونيا
:
جئت أبحث عن مدام راسين لأمر ذي شأن.
لورنزو
:
تفضلي فاجلسي.
أنطونيا
:
ليس هذا وقت السمر.
لورنزو
:
وهل للسمر وقت معين؟ إننا في الحياة كالسفن الماخرة عباب المحيط، لا توشك
سفينة أن تلتقي بأخرى حتى تفرق بينهما عاليات الأمواج وعاصفات
الرياح.
أنطونيا
:
كلامك عذب ولكنه يترك في نفسي حسرة لا تزول.
لورنزو
:
لم يفتني أنني في حضرة آنسة من أرقِّ الأوانس وأعرقهن تهذيبًا.
أنطونيا
:
شكرًا لك. لست على شيء مما وصفت إنما أنا فتاة ساذجة، لا أعرف شيئًا من
ألغاز الحياة، غير أنني سمعت إحدى رفيقاتي تقول لا يخرج الإنسان من دائرة
الجهل الضيقة ويريه الأمور على حقيقتها إلَّا شيء واحد.
لورنزو
:
ما هذا الشيء العجيب؟
أنطونيا
:
قالت تلك الرفيقة لي إنه الحب.
لورنزو
:
أمر عجيب وهل صدقَّت هذا القول؟
أنطونيا
:
كلا.
لورنزو
:
ولمَ ذلك؟
أنطونيا
:
منذ نعومة أظافري أعرف الحب وأعيش فيه، فأنا أحب أبي وأمي وجدي وبنت عمي،
وكنت في طفولتي أحب عرائسي التي تُهدَى إليَّ حبًّا جمًّا، ومع هذا كلِّه فلا
أزال ساذجة لا أعرف شيئًا من أسرار الحياة.
لورنزو
:
أيتها الآنسة الجميلة، اعلمي أن صاحبتك لم تكذبك قط، بل وقفتْكِ على الحقيقة
بعينها ولم تخدعك، بل أرشدتك إلى مصدر العلم والسعادة في هذه الحياة.
أنطونيا
:
كيف ذلك؟
لورنزو
:
إن الحب أيتها الآنسة … (يدنو منها. تدخل
مويلف).
مويلف
:
موسيو لورنزو أريد أن أقول لك كلمة.
لورنزو
:
إيذني لي أيتها الآنسة.
مويلف
:
أظنك تستطيع أن تسارِع إليَّ فيما أريده، فلعلَّ بي حاجة إليك.
أنطونيا
:
عفوًا يا سيدتي، عفوًا يا سيدي (تخرج).
مويلف
:
آن لك أن تخْبُر خُلقي، وترعى وجداني، وعارٌ على مثلك أن يكون له قَلْبان.
لورنزو
:
ماذا تقولين يا كاترين؟!
مويلف
:
كيف تجرؤ على مغازلة تلك البنت في غيبة المرأة التي أحبتك وبذلت حياتها
وسعادتها في سبيل رضاك؟
لورنزو
:
لم أكن أغازل تلك الآنسة؛ لأنني لا ألتمس حبي من غير المرأة التي اختارَها
قلبي، فضلًا عن أنها لا تدرك الغزل وما هي إلا فتاة حسنة الظن بالدنيا، آخذة
بأوفر نصيب من حرية الفكر والقول.
مويلف
:
بدأتَ تدافع عنها! إنني لا أريد أن أراك في صحبة غيري.
لورنزو
:
إنك تخطئين لو ظننت الحب حَجْرًا على حرية العاشقين … متى كان الحب — وهو
أشرف العواطف وأسماها — قفصًا تُسجَن فيه الإرادة والوجدان؟ بل متى كان الحب
كمامة تُوضَع على أفواه المحبين تمنع عنهم الهواء الذي يستنشقونه؟ متى كان
الحب غشاوة تُلقَى على أبصار أهل الغرام تعوقهم عن التمتُّع بالنور الذي به
يبصرون؟
مويلف
:
ألم تقل إنك ملكي؟
لورنزو
:
نعم ملكك بقلبي وإرادتي لا على الرغم منهما.
مويلف
:
إذن تريد أن أكون لك وحدك وأنت تكون لكلِّ النساء!
لورنزو
:
إن الحب قوة من قوى الطبيعة لا يظهر جماله وجلاله إلَّا إذا كان حرًّا
طليقًا.
مويلف
:
إنك تكاد تقتلني غيظًا. إنني لا أدرك الحب بدون استئثار مُتبادَل.
لورنزو
:
وأنا لا أدرك الحب بدون حرية. وإذا كان حبك يحرمني أعظم نعم الحياة وهي
الحرية، فأنا أفضل الحرية على الحب بل على الحياة (يعرض عنها).
مويلف
:
لورنزو، لورنزو أنت تعرض عني!
لورنزو
:
حينئذ أستودعك الله (يهم
بالخروج).
مويلف
:
موسيو لورنزو … لورنزو ألا تجيبني؟
لورنزو
:
تريدين أمرًا يا سيدتي؟
مويلف
:
ما هذا الجنون؟ أغضبان أنت؟
لورنزو
:
كلا، ولكنني مبهوت.
مويلف
:
من أي شيء؟
لورنزو
:
ممَّا نعانيه في سبيل الحب.
مويلف
:
أتريدُني أن أحبك وأحتمل خلوتك بامرأة أخرى.
لورنزو
:
وأي شر في ذلك؟
مويلف
:
وإذا أدت الخلوة إلى الصداقة؟
لورنزو
:
لا بأس!
مويلف
:
وإذا أدَّت الصداقة إلى الحب؟ ألم تكن خلوتنا منشأ صداقتنا بداية
الحب؟
لورنزو
:
نعم، ولكن ليس كلُّ حبٍّ ناشئًا عن صداقة، ولا كل صداقة ناشئة عن خلوة.
مويلف
:
اعلم يا لورنزو أن الحب الصادق حقود وغيور، إن كنت تحبني حبًّا عريقًا فلا
تستطيع أن تصادق امرأة غيري؛ لأن الصداقة المجردة خيانة للحب الصادق.
لورنزو
:
إن للرجل وحده حق التمسك بهذا المبدأ.
مويلف
:
لماذا؟
لورنزو
:
لأنه حي بعقله ثم بقلبه، أما المرأة فحيَّة بقلبها ثم بقلبها.
مويلف
:
وعقلها؟
لورنزو
:
لا دخل له في الموضوع، فإن خلوتُ بألف امرأة فلا أُتهَم بحبهن، ولكنكِ إن خلوتِ
برجل واحد فإن الشك ينفذ إلى قلبي.
مويلف
:
الحق معك. اعف عني ولكن لي إليك أمنية.
لورنزو
:
ما هي؟
مويلف
:
إن شئت أن تحادث النساء فلا تحادِثْهن على مرأًى ومسمع منِّي.
لورنزو
:
لك ذلك.
مويلف
:
إذن لا تزال تنوي محادثة النساء؟
لورنزو
:
أنا مازح، إن حديثي مع تلك الآنسة لم يتعدَّ التحية.
مويلف
:
شكرًا لك فقد هدَّأت روعي.
لورنزو
:
ليتك سألتِني قبل الحدَّة في رفق ولطف (يهم
بالخروج).
مويلف
:
إلى أين؟
لورنزو
:
لحظة ريثما أحضر رباعيات الخيَّام.
مويلف
:
حسن سأنتظرك وسأعد لحنًا أوقعه لك عند عودتك (يخرج وتوقع مويلف بعض الألحان. تدخل جانيت).
جانيت
:
هذا كتاب للسيد لورنزو. ظننته هنا.
مويلف
:
كلا إنه في غرفته.
جانيت
:
إذن أصعد إليه.
مويلف
:
لا بأس، وإن شئت أعطني الخطاب فيتسلمه عند عودته.
جانيت
:
هو كذلك يا سيدتي.
مويلف
(تنعم النظر في الخطاب وتشمُّه وتقول لنفسها)
:
هذا الكتاب إلى لورنزو. إن ورقه مُطيَّب وهذا الخط خط امرأة. أيُخفِي عني
أمرًا يتعلَّق بامرأة سواي؟ إذن لأقرأنه (تهم بفض
الغلاف) … كلا فلربما أغضبه ذلك، ولا ينبغي إغضاب رجل في نهار
واحد مرتين. سأصعد إليه وأفاجئه لأقف على الحقيقة … كلا إن الرصانة في هذا
الموقف أَوْلى (تمزق منديلها غيظًا). أين
أنت يا آشعة روتنجن الخارقة؟ بئست الاختراعات والاكتشافات إذا لم تستطع
المرأة أن تقف على أسرار الرجال (يدخل لورنزو
وبيده كتاب).
لورنزو
:
هل أعددت اللحن؟
مويلف
(تخفي الكتاب)
:
نعم ووقعته.
لورنزو
(يلحظ عليها أنها ساهمة)
:
ما لك؟ هل طال عنك غيابي؟
مويلف
:
كلا، اسمع.
لورنزو
:
ماذا؟
مويلف
:
إن لك عندي كتابًا.
لورنزو
:
أين هو؟
مويلف
(تظهره وتقلِّبه)
:
هاكَه، ولعله من امرأة تعرفك لأنه مُطيَّب، وقد تسلمته من جانيت في
غيبتك.
لورنزو
:
مستحيل أن يكون باسمي، وأن يكون من امرأة كما تزعمين. أريني.
مويلف
(تتردَّد)
:
ها هو، ولكن ما بيننا يسمح لي أن أقرأ رسائلك.
لورنزو
:
وهل استبحت لنفسي هذا الحق فيما يتعلق برسائلك؟
مويلف
:
وما الذي يمنعك؟
لورنزو
:
لا أريد أن أكون رقيبًا عليك لأن التضييق يقتل الحب.
مويلف
:
ولكن هذا الخطاب من امرأة.
لورنزو
:
من أين لك ذلك؟
مويلف
:
من خط العنوان.
لورنزو
:
إن بعض خط النساء يشبه خط الرجال والضد صحيح. هاتي الكتاب أنبئك بما
فيه.
مويلف
:
لا أريد أن أعلم ما تكتبه إليك امرأة أخرى. إن نفسي تحدثني أن يومي
سينتهي بحزن شديد.
لورنزو
:
إذا كنت تتطيَّرين منه فها هو بين يديك فأحرقيه.
مويلف
:
ألا تحقد عليَّ إذا أحرقته؟
لورنزو
:
كلا! ليس في الأمر ما يدعو إلى الحقد.
مويلف
:
سأفعل (تشعل عود ثقاب وتُدنِيه من
الغلاف).
لورنزو
:
ولكن مهلًا.
مويلف
:
هل تقرع سنك ندمًا؟
لورنزو
:
لعل امرأة تطلب المعونة والنجدة.
مويلف
:
ولعلها تطلب ميعاد غرام!
لورنزو
:
احرقي … احرقي فأنت الساعة أدعى إلى الشفقة من أيَّة امرأة سواك.
مويلف
:
كلا … خذ كتابك وافعل به ما تشاء. اقرأه واحتفظ به أو احرقه أو مزِّقه وغض
الطرف عن تعرُّضي لشئونك.
لورنزو
:
هذا كلام الغضب وغضب العاشقين غَيرة، ولكن لا بأس (يُنعِم النظر في الكتاب) حقًّا خطٌّ أنثوي (يفض الغلاف ويقرأ).
مويلف
:
هلا قرأتَ لي كما وعدت؟
لورنزو
:
كلا.
مويلف
:
لماذا؟
لورنزو
:
لأنه من امرأة.
مويلف
:
وهل تحبك؟
لورنزو
:
نعم.
مويلف
:
وهل تحبها؟ (تدخل زينا بلهفة.)
زينا
:
طاب يومك يا سيدي.
لورنزو
:
لك المثل أيتها الآنسة.
مويلف
:
هذه هي الآنسة زينا أندريوفسكي مربِّية كوستا. السيد لورنزو صديقنا (يُطرِقان تحيةً) … ما وراءك يا زينا؟
زينا
:
أسرعي فقد أرسلتني مدام جاي.
مويلف
:
هل لحق ولدي سوء؟
زينا
:
إنه لم يعُدْ، وتحسبه ضلَّ الطريق، وقد غابت الشمس أو كادت، والذي أقلقها أنه
يعبر غابة باسي بين الأوف والرون.
مويلف
:
إذن هيا بنا.
لورنزو
:
ألا أصحبك لأكون في خدمتك؟
مويلف
:
الأمر لك، ولكن ابقَ فإذا احتجتُ إليك — لا قدر الله — أرسلت زينا في طلبك
(تخرجان. تدخل أنطونيا).
المشهد الرابع
(أنطونيا – لورنزو)
أنطونيا
:
هل تسلَّمت كتابي؟
لورنزو
:
أي كتاب تقصدين؟
أنطونيا
:
بعثت إليك بكتاب أوَلم تتناوله؟
لورنزو
:
وماذا أودعتِه؟ إن لم يكن وصل إليَّ الساعة فعما قليل يصل.
أنطونيا
:
لا أستطيع أن أقول أكثر مما كتبت. إنني أخجل لدى الكلامِ ولكن جرأتي
تعاونِّي عند الكتابة. ظننتك قرأته.
لورنزو
:
وهل تجعلين لهذا الكتاب شأنًا؟
أنطونيا
:
نعم إنما أنت تريد تعذيبي ومماطلتي، وأنت تعلم قصدي.
لورنزو
:
أي قصد؟ (لنفسه): قد يعتري الرجال من
الحمق والخَرَق ما لا يصدقونه إذا عاودهم رُشْدهم.
أنطونيا
:
اسمع يا سيد لورنزو، إنني لم أقل هذا لأحد سواك لأنني فتاة ساذجة، وأقسم لك
أنني طاهرة لم تُدنَّس حياتي ولم يضل قلبي.
لورنزو
:
لم أَرْتَبْ في ذلك لحظة عين أيتها الآنسة.
أنطونيا
:
لا تقُل أيتها الآنسة، بل ادعني باسمي إذا شئت.
لورنزو
:
عفوًا كيف أستبيح لنفسي حرية القول مع آنسة كاملة الخلق لا يربطني بها
إلَّا التعارف المحض؟
أنطونيا
:
ولكنني لبلاهتي أظن أن بيننا ما هو أشد من رابطة التعارُف المحض. فهل أنت
أيضًا تشعر بذلك؟
لورنزو
:
أيتها الآنسة العزيزة، إنني أجلُّك وأحب لقاءك.
أنطونيا
:
إنك تجلني وتحب لقائي … إنك تحرجني وتؤلمني بهذه الألفاظ المتكلِّفة. أنا
منذ عرفتك وحادثتك أشعر بأن أمرًا جديدًا عظيمًا حدث لي، وأن نورًا ساطعًا
يضيء ظلمات قلبي، وإنني أخشى أن يكون هذا التغيُّر نتيجة الأمر الذي تحادثنا
بشأنه منذ هنيهة.
لورنزو
:
تقصدين الحب؟
أنطونيا
:
نعم. يكاد قلبي يتمزق من الانفعال والقنوط.
لورنزو
:
لا قدر الله.
أنطونيا
:
قُلْ لي كلمة واحدة تعد الحياة والأمل إليَّ.
لورنزو
:
أيتها الآنسة، لقد أحرجتِ موقفي وأنت لا تدركين معنى ما تقولين وتفعلين،
وليس لي معك حِيلة. أين أمك وأختك مدام كاميل؟
أنطونيا
:
خرجتا منذ الصباح. لا تُدخِل بيننا أحدًا. ألستُ عاقلةً حرة أتصرف في حياتي
وقلبي كيف أشاء. إنني فتاة ساذجة القلب ولكنني أعلم أن لي حقوقًا قبل
الحياة والسعادة. غير أنني لا أعرف الطريق ويُخيَّل إليَّ أنني وجدتها منذ
لَقِيتك.
لورنزو
:
أي طريق أيتها الآنسة؟
أنطونيا
:
ألم تحادثني عن الحب! ألم تكن تقول لي أشياء عذبة لا أنساها؟
لورنزو
:
اعلمي يا أنطونيا أنني لا أستطيع أن أقابل حبَّك بمثله.
أنطونيا
:
لماذا؟
لورنزو
:
لأنني أحب امرأة سواك، فقد كنت أحبك لو لقيتك قبلها أمَّا الآن فلا أستطيع
أن أُدخِل قلبي عليها أحدًا.
أنطونيا
(تركع وتبكي)
:
أنت تحب امرأةً أخرى، ومَن هي قُلْ لي مَن هي وارحمني؟
لورنزو
(يحاول إنهاضها)
:
ولكن لماذا تركعين وتبكين؟ انهضي.
أنطونيا
:
لورنزو! إذن لا وسيلة إلى حبك أكاد أُجَن، أعطني قبلة واحدة.
لورنزو
(يبتعد وهي تتعلق بأهدابه)
:
وماذا يبقى بعد القبلة يا أنطونيا؟
أنطونيا
:
لا تريد أن تقبلني قبلة عشق فقبلني قُبلة إخاء.
لورنزو
:
عدي أن تعتصمي بالحكمة، وأن تُخفِّفي عن قلبك سورة الاندفاع
والانفعال.
أنطونيا
:
أعدك (يقبلها في جبينها ويحاول
إنهاضها) ولكنني لا أنهض حتى تخبرني من هي المرأة التي
تحب.
لورنزو
:
هي مدام مويلف.
أنطونيا
(تنهض)
:
أنت تحب تلك المرأة؟!
لورنزو
:
صه … لا تقولي امرأة. إنها سيدة شريفة.
أنطونيا
:
لا أملَ لي فيك فلا تحجر على حريتي.
لورنزو
:
ليس هذا مبررًا لاغتيابها في حضرتي وأنت لا تعرفينها.
أنطونيا
:
أعرفها أتم معرفة، ولا ينبئك مثل خبير. فإنني أرى خُلقها في زيِّها، أرى
خبثها ومكرها في تدلُّلها حتى على النساء وهنَّ من جنسها.
لورنزو
:
ولكنني لا أرى شيئًا لما تذكرين من المساوئ، ولا أريد أن تنبهيني
إليها.
أنطونيا
:
أنت لا ترى لأن العاشق أعمى.
لورنزو
:
ما عهدتُك حادَّة المزاج شديدة الانفعال إلى هذه الغاية، ولم أحسبك قادرة على
إدراك ما ظهر لي منك.
أنطونيا
:
إنني تعلمت في يوم واحد ما لم أعلم طول حياتي، وستبقى ذكرى هذه الواقعة في
نفسي إلى آخر يوم من عمري … وها أنا أخرج من تلك الغرفة وقد بلغت نفسي
أشدَّها. أودعك الآن الوداع الأخير لأنني سأرحل عن جنيف الليلة، وكأنني حظيت
فيها بالسعادة (تبصر فجأة بقصاصة الغلاف
فتلتقطها) لقد كَذَبْتَنِي أيضًا، ها هو أثر من كتابي، أين هو؟ هل
أعطيته مدام مويلف تقرُّبًا إليها؟ هل أهرقت ماء وجهي لتغسل به قدميها؟
لورنزو
:
حُسْن ظنِّك بي أفضل.
أنطونيا
:
أتوسل إليك أن تردَّ كتابي إليَّ.
لورنزو
:
كلا! إن المكتوب مِلْك مَن يتسلَّمه، اعلمي أنه بين يدي ولم يره أحد
سواي.
أنطونيا
:
أتوسل إليك أن لا تطلعها عليه.
لورنزو
:
أعدك. عِديني أن تغفري لي إساءتي إليك، وأن تنسي ما أصابك في سبيلي.
أنطونيا
:
غفر الله لك! … الوداع يا لورنزو.
لورنزو
:
الوداع.
المشهد الخامس
(تدخل مويلف)
لورنزو
:
لقد أسرعت بالعودة فلم أتمكن من اللحاق بك.
مويلف
(لاحظت أنطونيا تنصرف)
:
ماذا كانت تفعل هنا هذه المرأة؟
لورنزو
:
هذه الآنسة كانت تسألني عن أمر يعنيها.
مويلف
:
وهل تُخفِي عليَّ هذا الأمر كما أخفيت اسم مُرسِلة الكتاب؟ إنك خائن.
لورنزو
:
ما تقولين؟
مويلف
:
إنك خائن تعبث بحبي وتظهر لي الوفاء، وأنت على موعد من امرأة.
لورنزو
:
أنت مخطئة ولا أبيحُك أن تصميني بالخيانة.
مويلف
:
أينا مخطئ مُذنِب؟ … أنا التي بذلت في سبيل حبِّك حبَّ زوجي وأسرتي، أم أنت الذي
تنتهز فرصة غيابي لتغازل النساء، وتحمل بين جوانحك كتب الغرام التي يبعثْنَ
بها إليك، وأنت تعلم أن بجوارك امرأة ترى الدنيا هيِّنة في جنب رضاك.
لورنزو
:
هل تسيئين الظن بي؟
مويلف
:
وأي مجال للشك في حبِّك ووفائك أرحب من هذا المجال؟ وأي دليل على خيانتك
أظهر من هذا الدليل؟
لورنزو
:
لا تذكري الخيانة كأنك لا تعرفين قدر الألفاظ (يلمس زر الكهرباء) إن دوام هذه الحال محال … أنت تعلمين أني
أشد الرجال عنادًا وأكثرهم تصميمًا، فكلما زدتني إنكارًا زدت نفورًا
وإصرارًا (تدخل جانيت).
جانيت
:
سيدي.
لورنزو
:
أعدِّي حقائبي واحملي إليَّ جريدة الحساب.
جانيت
:
هل يسافر سيدي؟
لورنزو
:
هذا لا يعنيك.
جانيت
:
هذا يوم مشئوم على مدام راسين، فإن مدام كاميل وأختها الآنسة أنطونيا
وأمها يسافران اليوم أيضًا، وقد اعترت الآنسة نوبة فلا تنفك عن البكاء تطلب
الرحيل.
مويلف
(لنفسها)
:
إذن هما على ميعاد (إلى لورنزو)
لورنزو لماذا طلبت حقائبك؟
لورنزو
:
هذا أمر يعنيني.
مويلف
:
أمسافر أنت؟
لورنزو
:
هذا شأني.
مويلف
:
إنني أقتل نفسي … انظر (تبرز قارورة ذات سائل
أزرق).
لورنزو
:
أنت حرة كلٌّ له حق التصرف في حياته (تفضَّ فِدَام
القارورة وتهمُّ بالشراب فينهض ويخطف منها القارورة ويقبض على
يدها).
مويلف
:
أنت لا تريد موتي … أنت إذن تحبني.
لورنزو
:
يشق على الرجل أن يرى امرأة تنتحر!
مويلف
:
اعف عني، اعف عمن تحب؛ لأنني لم أستطع أن أُخفِي عنك الآلام التي تحركها
الغَيْرة في قلبي … لقد قضى حبك على كلِّ أمل فلا أستطيع أن أحيا بدونك ولا أن
أحب سواك.
لورنزو
:
ما أعجب قولك يكاد مَن لا يعرفك يصدقك.
مويلف
:
إن نفسي تحدثني بأنك تشتهي امرأةً أصبى وأجمل مني، ولكن سوف يؤنِّبك ضميرك
لأنني وهبتك نفسي بلا شروط ولا قيد، فأنت لا ترى وسيلة للخلاص مني إلَّا بأن
تتهمني بشدة الغَيْرة عليك تارة وطورًا بأنني أوقظ الغيرة في قلبك لأستولي
عليه.
لورنزو
:
ما أعظم الفرق بينك و… بينها. فإنني وجدت لديها دونك كلَّ ما أتمنَّى من
حاشية لينة وجانب رقيق وفؤاد رحيم وقلب رقيق وشمائل في عذوبة الماء ورقة
النسيم.
مويلف
:
إنك تكاد تقتلني بما تسقيني من كئوس الملام وعسى أن أموت قريبًا (تبكي) اعلم أنني لن أستطيع — ما حييت — أن أسعد
بقرُب رجلٍ سواك، ولن ألقى هناءً في عشرة غيرك … إنك إن تركتني أو هجرتني خفت
أن أُجَن لساعتي أو أنتحر … فتمهَّل وتأمل! (تبكي.)
لورنزو
:
كفى بكاء (يدخل راسين).
راسين
:
أسعد الله وقتك يا سيدي وسيدتي (يطرق
تحية).
لورنزو
:
لك المثل يا موسيو راسين.
راسين
:
السيد أمر بإعداد حقائبه، أتنوي السفر؟ أظنك تقصد مدينة ليون الزاهرة
لتقضي فيها ليلتك. ستُعجَب بها كثيرًا لأنها مدينة قديمة يرجع عهد تأسيسها
إلى الرومان وكانوا يسمونها جدونوم.
مويلف
:
موسيو لورنزو لا يسافر اليوم، إنما أعدَّ حقائبه لينتقل إلى غرفة أخرى
(تنظر إليه).
لورنزو
:
الأمر ما ذكرت السيدة يا موسيو راسين.
راسين
:
إذا كان الأمر كذلك فسأبعث إليك فورًا بزوجتي تعرض عليك الغُرَف الخالية،
لتختار منها ما يلائم ذوقك، فقط مسافة المسيرة بين قاعة الجلوس والمطبخ
دقيقتان وأربع وثلاثون ثانية (يخرج).
مويلف
:
أكنت تنوي السفر حقًّا؟
لورنزو
:
كنت عقدت النية على الرحيل.
مويلف
:
لماذا تتمادي في تعذيبي؟
لورنزو
:
أنت التي تتمادين في تعذيبنا معًا بهذا الشِّقاق.
مويلف
:
هل يغضبك الشِّقاق؟ أتظن في العالم عشقًا بغير شحناء؟ إن الحب القوي كالريح
العاصفة.
لورنزو
:
إن هذا الحب الهائج يقتل السعادة.
مويلف
:
إذن أنت لا تحبني.
لورنزو
:
وكيف ذلك؟
مويلف
:
لو أحببتني لاحتملت غَيْرتي واغتبطت بها.
لورنزو
:
عجبًا! أتعودين إلى أوهامك؟
مويلف
:
هل عدلْتَ عن السفر؟
لورنزو
:
نعم رحمة بك وتخفيفًا عنك.
مويلف
:
إذن أنا مسافرة.
لورنزو
:
يا لك من شقية! ارحلي إن شئت أما أنا فباقٍ.
مويلف
:
لا تغضب. الوداع يا لورنزو (تخرج).
لورنزو
(لنفسه)
:
ما أعجب سلوك هذه المرأة! (يلهو بالقراءة حينًا. تدخل زينا.)
زينا
:
هل رأيت مدام مويلف؟
لورنزو
:
نعم منذ هنيهة.
زينا
:
أتعلم ما حدث لها؟
لورنزو
:
ماذا جرى لها؟
زينا
:
تقتل نفسها.
لورنزو
:
كيف؟
زينا
:
حزنًا.
لورنزو
:
عفا الله عنها وخفَّف آلامها.
زينا
:
لقد مَلَكَها اليأس، وهي تنوي الانتحار؛ لأنك أعرضت عنها وقلت لها ارحلي إلى
حيث ألقت، وأرسلتْنِي أعتذر لك عما فرط منها وأطلب إليك أن تجاملها.
لورنزو
:
قبلت اعتذارك، وها أنا أذهب إليها.
زينا
:
بل ابقَ، فأنت لا تعرف مقرَّها وسأعود بها فورًا (تخرج ثم تعود بها).
مويلف
:
عزيزي لورنزو.
لورنزو
:
حبيبتي كاترين.
مويلف
:
ما أشدَّ حماقتنا!
لورنزو
:
لا عيبَ فيك إلَّا غيرتك.
زينا
:
والآن أستودعكما الله (تخرج).
(ستار)
الفصل الثالث
المشهد الأول
(غرفة الطعام في بيت راسين.)
مويلف
:
ما أشد ضجري في غيبته (تتمشَّى ذهابًا وإيابًا ثم
تلمس زر الكهرباء. تدخل جانيت).
جانيت
:
هل للسيدة حاجة أقضيها؟
مويلف
:
السيد لورنزو أين هو؟
جانيت
:
خرج منذ ساعة.
مويلف
:
هل خرج منفردًا؟
جانيت
:
رأيته وحيدًا.
مويلف
:
ألم يترك لي خبرًا؟ وهلا علمت متى يعود؟
جانيت
:
كلا، ولم أسأله.
مويلف
:
أخبريه حين عودته أنني أنتظره (تقصد
الخروج).
جانيت
:
لك ذلك يا سيدتي (تخرج جانيت ثم تعود فورًا
فتدرك مويلف قبل خروجها) سيدتي ها هو السيد لورنزو.
مويلف
:
لا تخبريه بشيء (يدخل لورنزو).
المشهد الثاني
لورنزو
:
ألم تفاوضك زينا في أمر معيشتنا في هذا النُّزُل؟
مويلف
:
فاوضتني، ولكن رأيك لم يرقني.
لورنزو
:
لماذا؟
مويلف
:
لأننا إذا عشنا في بيت على حدة لا نستطيع تدبيره بما تحتاج إليه المنازل
من الخَدَم والنفقات.
لورنزو
:
إن الطير يبني عشَّه سالكًا سبيل الترقي بالتدريج، وأحرى بالإنسان أن يكون
قدوةَ الطيرِ لا الطير قدوة الإنسان.
مويلف
:
أفهم ما تريد ولكنني لا أستطيع مطلقًا.
لورنزو
:
ما هو المنزل يا عزيزتي؟ أهو الجدران الشاهقة والأركان المشيدة، أم تلك
البسط الفاخرة والوسائد المبثوثة والحوائط المزخرفة والمقاعد الوثيرة
المصففة. إن المنزل هو القلوب المُتحِدة والنفوس المتآلفة والأرواح المتفقة
والأفئدة الخافقة والأعين القريرة والأيدي المتصافحة. إنما المنزل يا
عزيزتي بناء؛ دعائمه الحب، وأساسه الإخلاص، وأثاثه المودة المتبادلة، وها نحن
لا ينقصنا الحب ولا يعوزنا الوفاء.
مويلف
:
ولكن ينقصنا المال والوقت.
لورنزو
:
إن ما ننفقه في تلك الحياة المفلوكة كثير، وهو مُضيَّع ويربو على ما نحتاج لو
حاولنا القرار في بيت صغير.
مويلف
:
إنني لا أستطيع أن أعود إلى النظام القديم ولا أقدر أن أحمل وقر الحياة
المنزلية (تدخل زينا).
لورنزو
:
زينا … قولي لمدام مويلف أن تصغي إليَّ في الشأن الذي فاوضتك فيه.
مويلف
:
ما رأيك يا زينا؟
زينا
:
رأي السيد لورنزو.
لورنزو
:
إننا نبكِّر كلَّ يوم إلى السوق فنحمل إلى منزلنا العزيز الثمار الشهية
والأزهار الغضة ذات الألوان البهيجة وننتقي صنوف الطعام بأنفسنا.
زينا
(تتحمَّس)
:
وأنا أبقى في البيت أغسل الصحون والأطباق وأنظف السمك وأملح اللحم وأغلي
الماء للحساء.
لورنزو
:
وأنا أكتب ألوان الغداء في جريدة بتصاوير البط والأوز.
زينا
:
وأنا أعدُّ المائدة وأصفف الأواني والقناني وأضع الأزهار في مزهرياتها
ونأكل كل يوم الأحد حساء بورش ونذبح دجاجة ونفلفل أرزًا ونشرب كأسًا من
الفودكا.
لورنزو
:
وأنا أصف لكما كيف تُصنَع الشعرية والباذنجان المحشو على الطريقة
الإيطالية.
زينا
:
ثم نشرب الشاي في بيتنا ونضع في الطاس ما نشاء من قطع السكر دون أن نخشى
مراقبة صاحبة المنزل أو خادمتها التي تتجسَّس على الأضياف، وتزن بعينها كلَّ ما
يخرج من الأطباق.
لورنزو
:
وأنا …
مويلف
(مقاطعة)
:
كلُّ هذا جميل في الخيال، ولكن إذا شرعنا في تحقيق هذا الحلم عرضت لنا مصاعب
وعقباتٌ شتَّى؛ من ذلك أننا إذا عشنا في بيت خاص بنا لَفَتْنا أنظار الناس
فتَتَناولنا ألسنتُهم بالسؤال، ومنها أننا إذا انفردنا في عيشتنا انقطعنا
لتدبيره وتخلَّينا عن كلِّ ما عداه. أما في المنزل فحِمْلنا على كاهل
غيرنا.
لورنزو
:
لقد كنت أحب جنيف قبل عشرتنا لقِلَّة الصحب والصديق قفرًا بلقعًا، والآن
أجدها بيتًا بغير أثاث وروضًا بغير زهر.
مويلف
:
هل فاتكم أننا من الأقدار على كفِّ عفريت؟ فمن يضمن لنا أن يقرَّ في جنيف
قرارُنا؟
لورنزو
:
كل شيء جائز وممكن الوقوع.
مويلف
:
إذا كان هذا رأيك فاعلم أنه من السهل علينا إذا دَهَمَنا أمر أو حلَّت بنا
مشكلة ونحن في نُزُل أن نشدَّ رحلنا غير آسفين. وقد فاتكما أيضًا أمرٌ ذو شأن
وهو أن حياة النُّزُل مملوءة بأسباب المسرَّات ووسائل اللهو وتفريج الهم، ففي كلِّ
يوم صادرات وواردات جديدة عدا ما نشاهد من أخلاق الأضياف القادمين والجيران
الراحلين.
لورنزو
:
فصل في الغيبة والنميمة!
مويلف
:
أنا لا أغتاب ولكنني أعدُّ لك أصناف بني آدم من هؤلاء النُّزَلاء.
زينا
(إلى لورنزو)
:
لعلها تضمُّ ابنها إلى الأصناف التي عددتها.
المشهد الثالث
(يدخل كوستيا)
مويلف
(بغضب)
:
كوستيا! كوستيا يا ولد (يُسمَع صوت صفير ودبدبة
ثم يدخل الصبي مُمزَّق الثياب وبعُنُقه محفظة كتب مُعلَّقة وبيديه طوق
وعصا).
كوستيا
:
ماما ماما ماموسيا.
مويلف
(تنظر في الساعة)
:
كيف خرجت من المدرسة قبل ميعاد الانصراف؟
كوستيا
:
المعلم ضربني.
مويلف
:
لماذا؟
كوستيا
:
لأنني لم أحفظ جدول الضرب، وقال لي إنه وثق بأني لا أحفظ الضربَ إلَّا
بمثله.
مويلف
(مُبتسِمة)
:
يا لك من طفل مُحبَّب! لماذا لم تحفظ ما أمر الأستاذ بحفظه؟
كوستيا
(إلى لورنزو)
:
موسيو لورنزو كيف تكون تسعة في تسعة بواحد وثمانين؟ وكيف تضع تسعة في
تسعة؟
لورنزو
:
يا عزيزي كوستيا إذا أكلت في كلِّ يوم تسع تفاحات أثناء تسعة أيام
متوالية.
كوستيا
(مقاطعًا)
:
إن أمي لا تعطيني أكثر من تفاحتين في اليوم الواحد. اسألها.
مويلف
:
اسمع يا ولدي، اسمع كلام موسيو لورنزو إلى النهاية.
كوستيا
:
ألا تريدين يا أماه أن أقول الحقيقة؟
مويلف
(تنهض)
:
هيا بنا يا زينا نسأل ناظر المدرسة عن سبب خروج هذا الشقي، فإنني أراه
مضطربًا وأخاف أن يكون فعل سوءًا يخشى التصريح به.
كوستيا
:
ماما … ماما ثقي أنني لم أفعل شيئًا سوى أنني كسرتُ قلم بوريس أنيكين،
وقطعت مطاط دراجة حضرة الناظر، ورششت الحبر على ثياب أستاذ الجغرافيا؛ لأنه
أعطاني صفرًا في الامتحان، فأردت أن أرسم على ثوبه صورة المحيط وبعض الجزائر،
أما تمزيق قبعة لوسيان الفرَّاش، فإن لي فيه شركاء وهم …
مويلف
:
أيها التعس الشقي، أتفعل كلَّ ذلك في يوم واحد وتنتظر أن تُبقِي عليك المدرسة،
تعال معي حتى أنظر في أمرك.
كوستيا
:
موسيو لورنزو، أتوسل إليك أنقذني من أمي، في عرضك إنها تريد أن تضربني
(إلى أمه ولكن بهيئة المتحفِّز
للتعدي) ولكن إذا ضربتني فإنني أضربك وأرفسك أيضًا وأكسر
الزجاج كما كان يفعل أبي.
لورنزو
:
كوستيا ما هذا القول؟ أهذا ما وصيناك به من احترام أمِّك؟
مويلف
(إلى لورنزو)
:
إن هذا الولد هو سبب شقائي.
لورنزو
:
اتركيه في حراستي ولا تثيري هياجه (تخرج مسرعة
ومعها زينا) كوستيا لماذا هذا الجفاء وأنت غلام ذكي؟
كوستيا
:
لأغيظ أمي.
لورنزو
:
وهل جزاء أمِّك على حبها إياك أن تغيظها؟
كوستيا
:
كما كان يفعل أبي.
لورنزو
:
وهل تحب أباك حتى تقلِّده؟
كوستيا
:
كلا لأن أمي تقول لي دائمًا أبغض أباك؛ لأنه ليس أباك وأنا أمك
وأبوك.
لورنزو
:
فهل أحببت أمك؟
كوستيا
:
نعم أحبها لأنني قرأت في الإنجيل أحبوا أعداءكم!
لورنزو
(ضاحكًا ومندهشًا)
:
كوستيا ما هذا القول أيها الأحمق؟! هل أمك عدوة لك؟
كوستيا
:
نعم، ألست تريد الحق؟
لورنزو
:
وما وجه عدائها لك؟
كوستيا
:
أولًا لأنها تمنعني زيارة مارتا بنت الفلاحين المجاورين لمنزل مدام جاي،
وقد ذهبت إلى أم مارتا وأخبرتها بحقيقة اسمي، وكنت ذكرت للبنت وأمِّها أمورًا
ذات شأن؛ منها أن عندي حصانًا وأن أبي غنيٌّ جدًّا، وأن عندنا نقودًا كثيرة،
وأستطيع أن أحضر لمارتا كثيرًا من الفواكه المسكرة.
لورنزو
:
تعني أن أمك أضرَّت بسمعتك عند الفتاة المختارة؟ ولكن ما قيمة السمعة
المبنية على الأكاذيب؟
كوستيا
:
ثم إن أمي ترغمني على الذهاب إلى المدرسة، مع أن هذا أمر غير ضروري لأنك
أنت مثلًا لا تذهب إلى المدرسة، وكذلك مدام جاي لا تذهب إلى المدرسة.
لورنزو
:
لا تخلط يا كوستيا، إنني لا أذهب إلى المدرسة لأنني رجل، وقد ذهبت إلى
المدرسة لما كنت صبيًّا مثلك، كذلك كانت تفعل مدام جاي إلى أن صارت امرأة
ولها بيت وأولاد فلا معنى لذهابها إلى المدرسة.
كوستيا
:
لنفرض صحة ذلك كما يقول معلم الجغرافيا في إثبات دوران الأرض فأي فائدة
في المدرسة؟ هل استفدت أنت شيئًا (لورنزو
يبتسم) إنني أريد أن أعرف هل أهل الإسكيمو قصار أم طوال؟ وهل
أهل أمريكا سود أم بِيض؟ ولماذا لا تطلع الشمس في الليل؟ وأهم من هذا كله ما
هي فائدة جدول الضرب؟ ولماذا ناظر المدرسة طرد تلميذين لأنهما لم يدفعا
أجور التعليم؟ ولماذا لوسيان فرَّاش مع أنه أصغر سنًّا من الموسيو لاروش معلم
التاريخ ووجهه أصبح من وجهه؟ ولمَ والد مارتا يعلف فرسه في كلِّ يوم مع أن
لوسيان لا يعلف دراجته مطلقًا (يسمع من الخارج
صوت نداء مُصطَلح عليه بين الأولاد فيجري كوستيا في الغرفة كالمجنون
ويقْلِب في طريقه الكراسي والأدوات المختلفة وتقع منه الكتب
ويغني) ماربيت مابتتيت مابنيت مارييت (يخرج).
المشهد الرابع
(مويلف وجانيت ثم مويلف ولورنزو)
مويلف
(إلى جانيت)
:
وأحضري أيضًا قليلًا من أعواد البسكويت في غرفتي.
جانيت
:
ماذا فعلت في المدرسة إن كوستيا لم يلبث بعد خروجك أن لحق بأقرانٍ له دعَوْه
للَّعب واللهو؟
مويلف
:
وجدت المدرسة على وشك الانصراف وأبقيت الأمر إلى غداة غد.
لورنزو
:
حسن. ولمَن تُعِدِّين هذه الوليمة؟
مويلف
:
ستزورني آنسة بولونية غريبة الأطوار … تستطيع قراءة الطوالع وتعرف علم
الكفِّ وتستقرئ الورق.
لورنزو
:
وهل أحضرتِها لتقرأ لك طالعك؟
مويلف
:
كنت عرفتها منذ عدة أعوام في براج ولقيتها أمس مصادفةً فدعوتها لزيارتي …
هل تريد أن تقرأ طالعك؟
لورنزو
:
إنني كثير الخوف من المستقبل؛ لذلك لا أحب أن أكشف بيدي ما يستره
الدهر.
مويلف
:
ليس لدي شيء أشهى من معرفة المستقبل!
لورنزو
:
ما ينفعنا علمنا بالنبوءات إن كانت بلا ريب واقعة، وما يضرُّنا جهلنا بها إن
كانت غير واقعة؟ على أنني … (تدخل
جانيت).
جانيت
(إلى مويلف)
:
الآنسة فراير تريد لقاء السيدة.
مويلف
(إلى جانيت)
:
فلتتفضل بالدخول واحضري الشاي فورًا (تخرج
جانيت وتدخل فراير فينهض لورنزو لاستقبالها).
فراير
:
أسعد الله وقتك يا سيدتي.
مويلف
(تنهض وتصافحها)
:
أقدم لك موسيو لورنزو صديقنا (يتقدم إليها
لورنزو بالتحية).
فراير
(في حياء)
:
سعدت بلقائك يا سيدي (تدخل جانيت بالشاي. يُشرَب
الشاي بين حديث مهموس وإشارات ترحيب).
مويلف
:
ألا تزالين مُتعلِّقة بعلوم الغيب؟
فراير
:
قليلًا.
مويلف
:
انظري في كفِّ موسيو لورنزو ونبِّئينا بما يدلُّك عليه علم الطوالع.
لورنزو
:
أراك تستعجلين الحوادث وتحرجين صدْر الأقدار.
فراير
:
هل تأذن يا سيدي أن ترى المنجِّمة صحيفةَ سعدِك؟
لورنزو
:
لم أتعوَّد تصديق التنجيم ولا أستطيع أن أردَّك. فهاك يدي.
فراير
(بعد تأمُّل طويل في كفِّه ثم تفتح كتابها وتقرأ)
:
يظهر لنا من علم النجوم أن السائل ناري المزاج، ذو طبيعة قلقة لا تثبت ولا
تستقر، فهو أبدًا مُتحوِّل متقلِّب متعدِّد الرغبات غريب الأطوار أسير
الخيال.
لورنزو
:
شكرًا لك هذا التنجيم يسر.
فراير
(مُستطرِدة)
:
وفي خُلقه عيوب شتَّى.
لورنزو
:
الآن نسمع جدَّ الحديث.
فراير
:
السائل محبٌّ للشجار وقد يبحث عنه ثم يلوم خَصْمه … وهو مقتصد إلى درجة الشحِّ
في بعض الأحيان … وهو مخلص وفيٌّ في صداقته.
مويلف
(إلى لورنزو بابتسام)
:
إن شاء الله، إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا مَن كان يألفهم في الموطن
الخَشِن.
فراير
(مستطردة)
:
ويقضي النصيب الأوفر من عمره مُغترِبًا.
لورنزو
(بابتسام)
:
أولو الفضل في أوطانهم غرباء! … نبِّئينا عن تأثير الحب في قلب موسيو
لورنزو.
لورنزو
:
دعِي عنك هذه السفاسف.
مويلف
:
قولي أيتها الآنسة.
فراير
(بتردُّد)
:
ليس للنساء في قلب السائل مكانٌ عظيم، وهو يحب بعقله وخياله أكثر ممَّا يحب
بقلبه، وإن ما فُطِرَت عليه نفس السائل من الضجر من كلِّ قديم وسرعة التعلُّق بكلِّ
جديد يجعله يملُّ عِشْرتهن ويأبَى التفرُّغ لهن.
مويلف
(إلى لورنزو)
:
ألم أقل لك؟ أليس الحق بيدي؟ صدق المنجِّمون ولو كذبوا!
فراير
:
ولكنه يحب امرأة واحدة حبًّا شديدًا قاسيًا محفوفًا بالأكدار والمخاوف،
منفِّرًا للسعادة والاطمئنان، وسيكون هذا الحب قصير الأجل.
مويلف
(باضطراب)
:
كفى! كفى أيتها الآنسة، كَذَب المنجمون ولو صدقوا!
لورنزو
:
استمرِّي أيتها الآنسة.
فراير
(بهدوء بسكون)
:
وستترك هذه المرأة الوحيدة في حياة السائل أثرًا عميقًا وفي قلبه جرحًا
لا يندمل، وسيكون هذا الحب آخر حب يدخل قلب هذا الرجل.
مويلف
(تنهض باضطراب)
:
القدر خَيْر من فأْلِك أيتها الآنسة. كفى فإنني شديدة التطيُّر!
فراير
(بسكون)
:
لقد فرغت من قراءة طالعك.
لورنزو
(بسكون)
:
شكرًا لك أيتها الآنسة … هل تستقرِئين الورق؟
فراير
:
أجل، ولكن هذا مطلب النساء لأنه يدل على الحوادث القريبة (تشرع في استقراء الورق)، (فراير إلى مويلف) أرى حبًّا شديدًا بينك وبين شابٍّ، وأنكما في فراش واحد وتدخلان من باب واحد،
ولكنكما ستفترقان قريبًا لأن شيخًا مريضًا يرغب في لقاء الشاب قبل سفر طويل،
وهيهات أن يدركه … وأرى امرأة شقراء تبكي ثم تفرح وامرأة عاشقة تفرح ثم
تبكي!
مويلف
:
لم أفهم شيئًا ممَّا تقولين.
فراير
:
إن المرأة الشقراء تبكي رَجُلَها وحولها أطفال يبكون، وقلب الحبيب قد تحوَّل
بعد طول الفراق، وما هو كائن سوف يكون، أمَّا قلب المحبوب فحائر كأن بعقله مسًّا
من الجنون.
لورنزو
:
أنا لا أفهم شيئًا.
مويلف
:
وأنا أيضًا.
فراير
(تلمُّ شعث الورق وتربطه وتضعه في كِيسها وتنهض وتنظر في
الساعة)
:
الآن أستودعكم الله.
مويلف
:
مع السلامة (تخرج).
المشهد الخامس
(مويلف – لورنزو)
لورنزو
:
ألم أقل لك إننا في غنًى عن التنجيم والمنجِّمين، هل يسعى المرء إلى نَبْش
الماضي ويكشف النقاب عن الغيب؟
مويلف
:
هذه أحلام.
لورنزو
:
ربما صحَّت الأحلام. ماذا أنت فاعلة إذا نزعَتْني يدُ النَّوَى منك ونفسي لديك
رهينة فهل تحفظين ودِّي؟
مويلف
:
صه، صه … ما هذا القول (تضع يدها على
فمه) إن قلبي يتمزَّق من قولك.
لورنزو
:
إنني أخاف أن تقطعيني، وأن تنسَيْ في شهرٍ ما قضى الحبُّ في نقشه على صفحات
قلبِك أعوامًا وأشهرًا.
مويلف
:
كُن بي واثقًا، واعلم أنني إذا سلاك جسمي لا تسلوك نفسي وقلبي.
لورنزو
:
إن الأقدار أرحم من أن تضرب بيني وبينك بالفراق.
مويلف
:
لورنزو! لقد عَدَلْتُ عن رأيي.
لورنزو
:
فيمَ؟
مويلف
:
فيما يتعلَّق بحياتنا، وقد أقنعتْنِي حجَّتُك وحجة زينا، وها أنا ذاهبة أنظر فيما
يَعرِض عليَّ الوسطاء من البيوت الصغيرة بشامبل ولانسي.
لورنزو
:
عزيزتي كاترين، إنك تفرحينني بهذا العزم.
مويلف
:
شئت أن أفاجئك بهذا الخبر السارِّ بعد إعداد الدار وتنسيقها، ولكنني بادرت
بإخبارك لأُذهِب عنَّا نحْسَ المنجِّمة … أتحسب يا لورنزو أنني أطيق بعدًا عنك أو
أني أقْسِم مهجتي بينك وبين غيرك أو أشرك في محبتي إياك سواك. لا كان وقت
يفرق فيه بيني وبينك.
لورنزو
(يُخرِج من جيبه محفظةً يُخرِج منها أوراقًا)
:
هاك يا عزيزتي ما تشائين من المال لإتمام ما عزمتِ عليه.
مويلف
(تأخذ الأوراق بنظرات تدلُّل وسرور تُشبِه نظرات الأطفال
إذا عرضْتَ عليهم الدراهم والحلوى)
:
شكرًا لك قد لا أحتاج إلى هذا القَدْر كله. سأحضر لدى عودتي بنفسجًا ووردًا
أحمر وزنبقًا (تقبله وتخرج).
لورنزو
:
كاترين.
مويلف
(تعود)
:
عزيزي المُحبَّب!
لورنزو
:
لا تنسي الخُزَامَى والنرجس.
مويلف
:
لن أنساها (تعود مُنفعِلة ثم
تخرج).
المشهد السادس
(تدخل جانيت)
جانيت
:
لك كتاب مؤمَّن عليه يا سيدي.
لورنزو
:
أين هو؟
جانيت
:
مع ساعي البريد وينبغي توقيع الإيصال.
لورنزو
:
احضري الإيصال أوقِّعه هنا.
جانيت
:
فورًا يا سيدي (تخرج ثم تعود ومعها دفتر كبير
والكتاب) وقِّع هنا يا سيدي.
لورنزو
(يخطف الكتاب خطفًا وينظر إلى غلافه)
:
إنه من إيطاليا.
جانيت
:
وقِّع أولًا يا سيدي، إن الساعي ينتظر (لورنزو
يوقِّع).
لورنزو
:
… شكرًا لك. أعطِه هذا الدرهم (يُخرِج من جيبه
قطعة فضيَّة صغيرة) وإذا سأل عنِّي أحدٌ فلا تخبريه بمكاني ريثما
أفرغ من قراءة هذا الكتاب.
جانيت
:
الأمر لك يا سيدي (تخرج).
لورنزو
(لنفسه)
:
تُرَى ما في هذا الكتاب؟ إنه بخطِّ والدتي، وقد عوَّدني أبي أن يكتب لي بيده. هل
أفضُّه أو لا أفضه؟ هل أقرؤه أو ألقيه ساعة؟ لا … بل أفضُّه فورًا فإن كان
خيرًا زادت ساعات فرحي به وإن كان شرًّا كسبت وقتًا لتدبير أمري وصنت نفسي
من آلام الشك القاتلة (يفض الغلاف بأناة واحتراس،
ويقرأ لنفسه ويدنو من النور ويضطرب ويضع يده على رأسه ويترك القراءة، ثم
يعود إليها ويبقى على هذه الحال نحو عشر دقائق، ثم يجلس في ركن ويسند
جبينه إلى يده. تدخل زينا فجأة وهو في حالة اضطراب).
لورنزو
(متنبِّهًا من تفكيره)
:
ها أنت يا زينا … أريد محادثتك فورًا في أمر ذي بال … اسمعي يا زينا، إنني
منذ أيام شعرت بانقباض شديد واستولت عليَّ الكآبة وأحاط بي الحزن من كلِّ
جانب، وقد كان ما خِفْت أن يكون!
زينا
:
ماذا جرى يا سيدي لورنزو؟
لورنزو
:
نبأ سيِّئ! لقد وقع في أسرتي حادث أليم.
زينا
:
كيف علمت به؟ هل تأتمنُنِي فأشاركك؟
لورنزو
:
جاءني كتاب أن أبي، وهو رأس أسرتنا وعمادها وملْجَؤُها، قد قضى نحْبَه بعيدًا عن
بيته، وأمي وحيدة وليس حولها إلا أخواتي وإخوتي وكلهم صغير ضعيف، وحالنا
مرتبكة، وها هو الكتاب بخطِّ أمي، على أنها لا تقول فيه شيئًا من ذلك خوفًا
عليَّ وإشفاقًا بي.
زينا
:
إذن كيف علمت بتلك الأخبار المؤلمة المزعجة؟
لورنزو
:
قرأتها يا ابنتي بين السطور. أقرؤه دائمًا بين السطور، فإن ما فيها أبلغ
وأصدق ممَّا تخطُّه الأقلام وتجري به الأنامل (يُظهِر
الكتاب لها) وأمي تستقدمني وهي المسكينة لا تعلم أنني أنجزت
عملي هنا من زمن، وأنني أُطِيل إقامتي لأكون معكم. هذا عقاب مَن يعيش بين
أسرتين؛ أسرة يقيِّدُه بها الواجب، وأخرى يربطه بها القلب.
زينا
:
إذن أنت مسافر؟
لورنزو
:
أخشى أن يكون وقت الرحيل قد دَنَا.
زينا
:
إذن أعزِّيك مُقدَّمًا عن مدام مويلف لأن سفرك سيقتلها حتمًا.
لورنزو
:
اصمتي يا زينا.
زينا
:
مسكينة هذه المرأة؛ إنها وأنت بقربها تكاد تُجَنُّ لو غبت عنها طرفة عين وهي
تعلم أين أنت، فما حالها لو علمَتْ بهذا الفراق المفاجئ الذي لم تتعوَّده ولم
تُعِدَّ إليه نفسها!
لورنزو
:
إذن ما الحيلة؟
زينا
:
الحِيلة أن لا حيلة. فأخبرها بما وقع.
لورنزو
:
قلبي لا يساعدني.
زينا
:
إذن اترك الأمر للمصادفات.
لورنزو
:
ويحك! كيف أترك الأمر للحوادث؟ أيفعل ذلك غير المجانين والحمقى؟ وهل لي
من الوقت فسحةٌ تسمح بترقُّب الظروف المناسبة وانتهاز الفُرَص السانحة؟ إن الأمر
شديد سريع والخَطْب جليل. إن أمي وإخوتي وأخواتي ينتظرونني ويتقلَّبون على أحر
من الجمر، وقد يكونون الساعة في حاجة إليَّ، وأنا هنا في بحبوحة السعادة
والحب! … أترضين هذا يا زينا؟ ألا تعدِّين الانتظار نذالة والصبر خيانة لأبي
وأمي ونقضًا لعهد أسرتي؟ إن الحب يجذبني والواجب يدعوني (متحمِّسًا) فالنذل الأخرق يطمئن للحب ويكمن
تحت جناحه النائم كما ينزوي الكسلان تحت الغطاء في يوم الجليد، ولكن الرجل
الشريف يودِّع الحب ويلبِّي نداء الواجب.
زينا
:
الحقُّ بيدك.
لورنزو
:
ألم تكن مويلف تعلم أنه لا بدَّ لنا من الفراق، وأنه إن لم يكن اليوم
فغدًا.
زينا
:
إن الفراق هو موت المحبِّين يظنونه بعيدًا وهو منهم قابَ قوسين أو أدنى. إنه
سهم من سهام القدر يُرشَق به مَن ظنَّ سعادة الحب خالدة لا تفنى.
لورنزو
:
ليس في الوقت متسع للحكم والمواعظ. اذهبي إليها لساعتك.
زينا
:
سأفعل ولكن كيف أبدأ بالقول؟ ادع لي بالنجاح.
لورنزو
:
اذهبي مُوفَّقة (تخرج زينا. لنفسه) ماذا
أقول؟ وكيف يكون جوابها لي؟ (يعبث بشعره قليلًا
ويحلُّ أزرار غلالته، ويظهر بمظهر اضطراب وقلق شديد، والكتاب في يده ثم
يجلس بظهره نحو الباب بحيث لا يرى الداخلُ إلَّا ظهرَه ولا يلمح وجهه وشعره
المضطرب، ويبقى هكذا عشر دقائق وعندئذ تدخل مويلف بثياب جميلة زاهية
الألوان تحمل أزهارًا جميلة مقطوفة لساعتها، فلما تلمح لورنزو تبدو على
وجهها علاماتُ الفرح ثم تخفِّف الوطأ بحيث لا يسمع وقع أقدامها ثم تلقي
الأزهار بسرعة على مقعد، ثم تدنو منه وتضع يديها على عينيه ليتفرَّس من هي
فتطول قعدة لورنزو ولا ينهض بسرعة إلى يديها فيقبِّلها؛ فتنقبض فينهض بقوة
ويقف أمامها.)
مويلف
:
لورنزو هذا أنت ماذا جرى؟!
لورنزو
:
لا شيء … تجلَّدي.
مويلف
:
كيف؟ ماذا جرى؟ … أخبرني.
لورنزو
:
لقد تمَّت نبوءة الساحرة عذاب وفراق وضياع وفناء.
مويلف
:
واحسرتاه! (يُغشَى عليها.)
(ستار)
الفصل الرابع
المشهد الأول
(بهو فيلا سيلفيا.)
كراشوف
:
هل لديكم مبيت لي؟
جرترود
:
لا أدري يا سيدي إن شئتَ سألتُ ربَّة الدار.
كراشوف
:
أسرعي أيتها الصغيرة (تخرج وتدخل
جيرمون).
جيرمون
:
هل للسيد حاجة نقضيها؟
كراشوف
:
أريد مبيتًا.
جيرمون
:
ليس لدي الليلة غرفة تليق بطول المقام، ولكن إذا رضيت المبيت حيثما اتفق
نقلتك غدًا إلى غرفة حسنة.
كراشوف
:
لا بأس أريد طعامًا قليلًا.
جيرمون
:
سأبعث إليك بوجبة خفيفة في غرفتك بالحديقة … تفضَّل بذكر اسمك ولقبك وصنعتك
وموطنك وتاريخ وصولك (تكتب
البيانات).
كراشوف
:
بوريس كراشوف طبيب روسي من بطرسبرج، وصلت من شهرين وقادم من جنيف.
جيرمون
:
شكرًا لك يا سيدي. تفضل أرشدك إلى غرفتك (يخرجان ثم تعود جيرمون وحدها وتلمس زرًّا).
جرترود
:
سيدتي.
جيرمون
:
لا تنامي لساعتك يا جرترود، فلعل هذا الضيف الجديد يحتاج إلى شيء بعد
العشاء.
جرترود
:
هو لك يا سيدتي (تخرج جيرمون ويُسمَع دقٌّ فتخرج
جرترود ثم تعود يصحبها لورنزو).
جرترود
:
هنا يا سيدي، تفضل بالانتظار ريثما أدعو لك مدام جيرمون فهي تجيبك عن كلِّ
شيء (تخرج).
لورنزو
(لنفسه)
:
لست أدري عِلَّة هذا الاضطراب، ولم أتعوَّد من قلبي مثل هذا الخفقان … لعلها
على ما كانت عليه من العافية والجمال … إن سبعة أشهر لا تُغيِّر سيما الإنسان.
كيف يكون لقاؤها. ماذا تخبِّئ لي من المسرَّات وملاذِّ النفس؟ لشدُّ ما تطول
أحاديثنا عن كلِّ ما قاسيته في بعدها بعد سفري … لعلها الآن في غرفتها أو على
مائدة الطعام … كيف يكون وقْع خبْر قدومي على نفسها؟ … لقد كان الأفضل أن
ألقاها على انفراد لا في هذا المكان. أظن هِزَّة الجَزَع التي أصابتني على ظهر
باخرة البحيرة وجَلَبت إليَّ الأفكار السوداء والمخاوف نتيجة المتاعب … أما
الآن فأنا أستعيد قوتي. عزيزتي كاترين ها أنا عدتُ إليك بعد طول الانتظار …
كيف يكون فرحها بالهدايا والتحف التي أحملها إليها؟ (تُسمَع أصوات وضحك واصطكاك كئوس وأوانٍ ثم تدخل مدام
جيرمون.)
المشهد الثاني
جيرمون
:
طاب ليلُك يا سيدي.
لورنزو
:
أريد لقاء مدام مويلف المقيمة هنا … إنني قادم من بلادٍ بعيدة فتفضلي
بإخبارها فورًا بمَقْدمي.
جيرمون
:
إنها كانت مقيمة في داري ولكنها سافرت.
لورنزو
:
كيف؟ متى؟ إلى أين؟
جيرمون
:
سافرت منذ أسبوع.
لورنزو
:
هل سافرت مُنفرِدة أم بصحبة أحد؟ أمريضة هي أم معافاة؟
جيرمون
:
سافرت مُنفرِدة لا تشكو داء ولا ضيقًا، ولكن شعورها بالضجر حسَّن لديها تبديل
المكان.
لورنزو
:
هل خلَّفت وراءها عنوانها؟ تفضَّلي بإملائه عليَّ.
جيرمون
:
لا أعلم مقرَّها بالدقة ولكن أحسبها مقيمة على مقربة من مونتريه، ويمكنك أن
تستعلم عنها من مكتب البريد.
لورنزو
:
حسن. لقد خارت قواي من شُقَّة السفر، وزادني هذا الخبر ضعفًا، فهل عندك غرفة
أستريح فيها من وَعْثاء رحلتي ريثما أتمكَّن من الوقوف على ما أريد؟
جيرمون
:
ما أشدَّ أسفي يا سيدي! إن البيت آهلٌ بالأضياف، وكنت أودُّ أن أضيِّفك لأنني أراك
في حاجة للراحة … على أنني أنصح إليك أن تقصد ساحة المحطَّة ففيها ما تشاء من
الفنادق.
لورنزو
:
حسن. أستودعك الله يا سيدتي (يحييها ويهم
بالانصراف).
جيرمون
:
سيدي!
لورنزو
:
سيدتي.
جيرمون
:
إن شئت أن ترى مدام مويلف حتمًا …
لورنزو
(يعود مهرولًا)
:
نعم حتمًا يا سيدتي، ألم تدركي قصدي؟
جيرمون
:
أظنها تحضر إلينا غدًا في الضحى لتتسلَّم ما يحمله إليها بريد
الصباح.
لورنزو
:
لماذا لم تبادريني بهذا النبأ من قبل؟
جيرمون
:
تذكَّرته الآن فقط.
لورنزو
:
لقد عاودَتْني شهيَّة الطعام فهل تتفضَّلين عليَّ بلقمة أتبلَّع بها؟
جيرمون
:
ستُحضِر لك الخادم فورًا ما تشتهي (تخرج جيرمون
ويجلس لورنزو).
المشهد الثالث
(تدخل أنطونيا وتلهو قليلًا بأوراق الموسيقى على البيانو غير مُلتفِتة إلى لورنزو.)
لورنزو
(لنفسه)
:
حقًّا إن العالم صغير مهما عظمت مساحته، ولا بدَّ للأحياء من اللقاء. رب
مصادفة خير من ميعاد! (ينهض لورنزو للقاء
أنطونيا).
أنطونيا
(تنظر إليه بتأمُّل ودهشة)
:
موسيو لورنزو! إنك تغيَّرت كثيرًا … إن تقاسيم الوجه لا تتغيَّر ولكنها
تتطور (تدنو منه وتصافحه وهي تُنعِم النظر في وجهه
وتستطرد قائلة) هل اعترضتْ سبيلَك همومٌ كثيرة؟
لورنزو
:
نعم. وهل أنت سعيدة؟
أنطونيا
:
جد السعادة.
لورنزو
:
هل …
أنطونيا
:
للساعة لم يتمَّ الأمر ولكنه يوشك.
لورنزو
:
ومن …
أنطونيا
:
لعلك رأيته من قبلُ أن كنت من نُزَلاء هذه الدار هو الموسيو برنار دي
كالفادوس … كان الأمر هيِّنًا وليس في القصة طَبْل ولا زَمْر … التقينا في الشتاء
الماضي في سان رفائيل على شاطئ البحر وأبصرته فمِلْت إليه وهو كذلك … ثم
تحادثنا ثم تصادقنا … مجمل القول أنني شعرت بعد عشرته طبعًا بأنني لا
أستطيع الحياة بدونه.
لورنزو
:
ما أسعدكما!
أنطونيا
:
لعل هذه السعادة تدوم … يظهر لي أنك في شغل، هل أنت مقيم هنا؟ (يشير برأسه إشارة إيجاب) سأنتهز الفرصة
لأجمع بينكما … إلى الملتقى.
لورنزو
:
إلى الملتقى (تدخل جرترود وتحمل طعامًا أمام
لورنزو. تدخل جابي وتلهو بورق الموسيقى على البيانو ثم تدخل
جيرمون).
المشهد الرابع
جيرمون
:
البارونة جابي تلهو وغيرها ينتحب.
جابي
:
ألا تعلمين أنني أعزف مُنتحِبة وأن عزفي صدى لصوت أحزاني؟
جيرمون
:
لقد حضر ذلك السيد الأجنبي عاشق مدام مويلف.
جابي
:
متى حضر؟ وأين هو؟ وبماذا أجبته؟
جيرمون
:
حزنت لرؤيته ولكنني لم أستطع أن أوقفه على حقيقة الأمر؛ فقلت له ما طلب
إليَّ أن أقول ثم رأيت تلهُّفه فأشفقت عليه وطلبت إليه أن يعود إليَّ غداة غد
… إنه هنا وسيعود إلى تلك القاعة.
جابي
:
هل تنوين إخبارَها الليلة بقدومه؟
جيرمون
:
إذا صرفتِ عنِّي الحديثَ معها في هذا الشأن أضفتِ هذه الحسنة إلى حسناتك
الجمَّة.
جابي
(بتأمُّل)
:
حسن. ابعثي في طلبها واتركينا على انفراد.
جيرمون
:
سأفعل، ولا أكتمك أنني بدأت أنفر منها مذ رأيت هذا الشاب ومذ رأيتني
مضطرة أن أقفل في وجهه باب بيتي بلا عِلَّة.
جابي
:
ولو وقفتِ على حقيقة أمرها معه كما وقفتُ لكان نفورك منها أشدَّ.
جيرمون
:
سأدعوه للطعام في غرفتي ليخلو لكما الجو (تخرج
جيرمون وبعد قليل تدخل مويلف).
المشهد الخامس
(جابي – مويلف)
مويلف
:
طاب ليلك يا جابي. لماذا أرسلتِ في طلبي؟ هل حدث أمر ذو بال؟ لقد
أزعجتْني الخادم لما طرقت الباب.
جابي
:
لماذا؟ ومتى كان طرق الباب يدعو إلى انزعاجك؟
مويلف
:
إنني طول يومي في قلق، ولم يهدأ بالي طرفة عين وأحسب لدبيب النمل
حسابًا.
جابي
:
وما سبب هذا الانزعاج يا تُرَى؟
مويلف
:
لعل ذاك الرجل يصل قريبًا.
جابي
:
أي رجل؟
مويلف
:
الذي حدَّثتك عنه طويلًا … ولست أدري ماذا يحلُّ بي وبه إذا التقينا، ليته
يحضر غدًا.
جابي
:
اعلمي أنه حضر الليلة وسيحضر للقائك غدًا!
مويلف
(بجزع)
:
آه … كيف حضر؟ وأين هو الآن؟ وهل كتمتْ مدام جيرمون سرِّي (تدخل مدام جيرمون).
مويلف
(تفاجئ جابي وجيرمون)
:
لقد علمت بحضوره! (إلى جيرمون) فماذا
قلتِ له؟
جيرمون
(بتُؤدة)
:
لم أنفِّذ ما كلفتِني به، ثم رثيت لحاله فطلبت إليه أن يحضر للقائك قبيل
الظهر غدًا.
مويلف
:
لقد حاولت ردَّه عن عزمه قبل وصوله؛ فأرسلت إليه بكتاب لأَثْنِي عزمه على
الحضور، ولكنه حضر رغم ما قلت له في هذا الكتاب (بفرح) ما أشدَّ تعلُّقه بي!
جيرمون
(بتؤدة)
:
وهل تستبيحين اللعب بحياة هذا الشاب؟
مويلف
(ضاحكة)
:
ليس وراء هذا التعذيب لذَّة.
جابي
:
لا تقولي هذا القول بحضرة مدام جيرمون فهي تخشى أن يقع ولدها في يد
معشوقة مثلك (باحتقار) والآن طاب
ليلُك.
مويلف
:
طاب ليلك يا عزيزتي (تخرج جابي وكذلك مدام
جيرمون بعد أن تنحني تحيةً لمويلف).
مويلف
(لنفسها)
:
هاتان المرأتان لا تدركان شيئًا ولا تفقهان معنى الحياة، فواحدة مُعذَّبة
بحبِّ زوجٍ لا يهواها وأخرى مُولَعة بحب ابنٍ بعيد عنها تخشى عليه الوقوع في
حبائل الشيطان (تضحك) ولا تدري واحدة
منهما مقدار تعذيبي وحسرتي (تجلس إلى البيانو
وتعزف نغمة صاخبة ثم تقوم وتخرج).
المشهد السادس
(يدخل كراشوف وجرترود.)
جرترود
:
هنا يا سيدي، هل أرضاك العشاء؟
كراشوف
:
لا سيما النبيذ.
جرترود
:
هل تريد شيئًا؟
كراشوف
:
شكرًا لك أريد أن أنهض مبكرًا.
جرترود
:
طاب ليلك يا سيدي.
كراشوف
:
ولك المثل (تخرج ويجلس كراشوف مستعدًّا للكتابة
فيخرج من جيبه محفظة فيها ورق، ويقرأ بعض الرسائل بصوت خافت، ثم يأخذ في
تحرير كتابة رسالة، ويتلوها على نفسه بصوت مرتفع) «عزيزي
نوفيكوف، بلغتُ الليلة مدينة فيفي ونزلت بأحد فنادقها، ولما كنت بجنيف قابلت
رجلًا اسمه كارنفسكي وامرأة اسمها بوزنييف، وأخبراني أن الملعونة تطوف أنحاء
سويسرا ولا يقرُّ لها قرار بمكان واحد، وأنها تتخلَّى عن الولد حينًا بعد حين
وتتركه لنسوة مأجورات، وأن حاله أشدُّ ما يكون سوءًا وفسادًا، وأنها تعيش عيشة
البذخ والإسراف لا تُبقِي على درهم ممَّا يصل إليها منِّي ومن أهلها، وتارة تعيش
في فاقة شديدة يطاردها الدائنون والغرماء وينكِّلون بها، وكان لها أكثر من
عشيق، وقد عوَّلتُ على اقتفاء أثرها إلى أن ألقاها فأحاول إنقاذها من نفسها،
فإن أفلحتُ ظفرت، وإلَّا أنقذت الغلام من شرِّها وكان لي معها شأن، ولا تنسَ أن
تقابل آزيف وتطلب إليه أن يحوِّل باسمي على المصرف الوطني بِلوزان صكًّا
بالخمسمائة ألف روبل، وأن يكون ذلك قبل آخر الشهر. وابقَ لأخيك بوريس كراشوف
…» حسن جدًّا العبارة جليلة والخط مقروء (يغلِّف
الكتاب ويضعه في المحفظة ويشعل سيجارة ثم ينظر في ساعته) قد
آن أن أنهض وأطفئ النور أيضًا (ينهض، ويدخل
لورنزو وقد أشعل سيجارة صغيرة بيده ويحيي كراشوف بلا اكتراث، ويعمد إلى
قبعة ليأخذها ويهمُّ بالخروج فيستوقفه كراشوف).
كراشوف
:
السيد قادم من بعيد؟
لورنزو
:
أجل يا سيدي.
كراشوف
:
وأنا أيضًا قادم من بعيد.
لورنزو
:
لكلِّ سفر غاية يصل المسافر إليها.
كراشوف
:
لذَّة المسير خير من حسرة الوصول … إن الحياة ذاتها سفرة بعيدة الشُّقة شديدة
المشقة لا سيما إذا كان المسافر ينوء بعبْء كعبئي.
لورنزو
(مُندهِشًا ويستدير ليرى وجهه جيدًا)
:
خفَّف الله عبْءَ الأحمال عن حامليها.
كراشوف
:
إلَّا حملي فإنه لن يخفَّ مهما تمنيت لنفسي ومهما دُعِيَ لي.
لورنزو
:
إذن حطَّه عن كاهلك.
كراشوف
:
إن الحمل على قلبي وليس على كاهلي، وأحمال القلوب لا تُحطُّ (يبتسم لورنزو) تبسَّط في الحديث ما شئت. إنني
أريد الكلام لأخفِّف عن نفسي ويلات الصمت والانتظار.
لورنزو
:
هل سيدي … عاشق؟
كراشوف
(واضعًا يده على شفتيه)
:
صه، صه … عاشق؟ كلا! كلا! إنما أنا مُقتفٍ أريد الانتقام. لقد ماتت كلُّ
عاطفة في قلبي إلَّا عاطفة الثأر.
لورنزو
(مُنزعِجًا)
:
تريد الانتقام ممن يا سيدي؟
كراشوف
:
من امرأة ضالَّة مُضِلة خرَّبت حياة زوجها … امرأة قضت على سعادة أسرة بجملتها
… جعلت من رجل مِقْدام على كبار الأمور صبورٍ على الشدائد، كتلةً من اللحم
والدم بلا إرادة ولا قوة، وجعلت من طفل ذكيِّ الفؤاد بهيِّ الطلعة باسِمِ الثغر
قويِّ البنية حادِّ الذهن، كائنًا أحمق مصروعًا كئيبًا تنتابه الأمراض وتتقاسم
العلل جسدَه الضئيل، ومن بيت عامر آهِلٍ طَلَلًا باليًا وأثرًا خاويًا، وجعلت من
نفسها بضاعة تكاد تُباع وتُشترَى، وجعلت قلبها مجرد عضلات لا تعرف اللذة والألم
إلَّا من حيث توحي إليها مطالب البدن.
لورنزو
:
وهل كانت تلك المرأة التي تصف زوجًا لك؟
كراشوف
:
نعم يا سيدي (يحقن نفسه بالمورفين في يده، ويطرق
لورنزو كأنه أدرك أمرًا ذا شأن فجأة).
لورنزو
(واجمًا لنفسه)
:
واغوثاه لو كان هو … إنه يحقن ذاته بالمورفين! (إلى كراشوف) والآن أنت تقتفي أثرها لأنك لم تهتدِ
إليها.
كراشوف
:
لم أهتدِ يا سيدي، وسأغدو إلى سان جان جولف فقد هداني بعضُ مَن رأوها إلى
تلك القرية.
لورنزو
:
أنت من بطرسبرج يا سيدي كما يلوح لي من هيأتك ولهجتك.
كراشوف
:
نعم … وكان الطبُّ صنعتي.
لورنزو
:
وتريد الانتقام يا سيدي (لنفسه) أوه …
أوه.
كراشوف
:
إن الانتقام يدعوني (ينظر إلى لورنزو
بدهشة) إنك تنظر إلى بطني … تنظر إلى ضخامة جسمي … إن الشحم
يكاد يخنقني والآن أريد الانتقام ولكن بطني تعوقني … تخمد إرادتي وتشلُّ
يميني (يخرج المورفين ويحقن نفسه) وهذا
عدوٌّ آخر أشدُّ وطأة من البطن! … هذا عدوٌّ عزيز المطالب لأنه يطلب العقل والروح
فينقضُّ عليهما.
لورنزو
:
ولماذا تُمكِّن هذه السمومَ القاتلة من نفسك؟
كراشوف
:
لقد أسلمَتْني المرأة لليالي والأيام، وهذه أسلمتني للمورفين والخمر، وهما في
جسمي كالنار والماء، لا النار تحرق الماء ولا الماء يطفئ النار!
لورنزو
:
هذا أمر شنيع (لنفسه) كيف الخلاص من
هذا الوحش المُعذَّب (إليه) وماذا أعددْتَ يا
سيدي لعدوتك من أدوات الهلاك؟
كراشوف
:
حقنة سباين البوتاس أحقنها بها على غِرَّة منها في أيِّ جزء من بدنها؛ فتموت
بعد برهة، ثم هذا (يُخرِج مسدسًا) فإن
كانت تستعصي وتستغيث فهذا (يُخرِج خنجرًا)
أغمده في جسدها إن فاجأتها مع معشوقها.
لورنزو
:
آه!
كراشوف
:
ما لك تدمدم هكذا؟
لورنزو
:
ألا يقشعر الإنسان من سماع كلِّ تلك المهالك؟
كراشوف
:
لو رأيت تلك المرأة لاقشعر بدنك بحقِّ أكثر من قشعريرتك ألف مرة.
لورنزو
(بقوة)
:
وإن اعترضك عاشِقُها ووقف لك وقفة الند للند، وكان مثلك متأهِّبًا للدفاع عن
محبوبته ولو بالقتل.
كراشوف
:
أمرُّ به مرَّ الكرام ولا أحرِّك عليه ساكنًا … على أن العاشق الذي أنت تذكره
لا يعترضني إلَّا إذا كان من البلاهة والحمق بمكان عظيم.
لورنزو
(بحدة)
:
لماذا؟
كراشوف
:
لأنه حليف يكيد لحليفه … ما أشدَّ جهالة الرجل الذي ينتقم من زوجته أو
معشوقته في شخص معشوقها! إنه منتقم من الوحش في شخص فريسته … هل المعشوق
الآخر إلَّا فريسة المرأة التي تلعب به ريثما تزهد فيه فتتركه إلى فريسة أخرى
… آه لو رأيت عشيق امرأتي.
لورنزو
:
ماذا كنت تفعل به؟
كراشوف
:
كنت أضمُّه إلى صدري وأقول له انظر … انظر أيها الأعمى إليَّ … انظر ما
فعلته بي تلك الأفعى المُطيَّبة الملتفَّة حول ساقيك وخصرك وصدرك وعنقك تمتص دمك
وترتوي بماء حياتك … بل كنت أرفع إليه إحدى آلات الهلاك تلك وأُوعِز إليه
باستعمالها حتى يدرك جلال الانتقام من المرأة قبل أن تخلعه كما تخلع إحدى
نعليها، وحينئذ يأتيها الموت من جهتين … آه لو كنت أرى هذا المعشوق الشقي
الحظ!
لورنزو
:
ما اسم تلك السيدة؟
كراشوف
:
كانت تحمل اسمي ثم صار اسمها ثقيلًا عليها، فبحثت في سجل الموتى حتى عثرت
باسم جدٍّ من جدودها فدعت نفسها مدام مويلف يا سيدي! (يمتقع وجه لورنزو ويضطرب ولكنه يتجلَّد) أما
الولد فاسمه كوستيا وهو تصغير قسطنطين اسم والدي.
لورنزو
:
وهل عزمت على الذهاب إلى سان جان جولف؟
كراشوف
:
نعم نعم إنها هناك.
لورنزو
:
إن الباخرة التي تقصد سان جان جولف تُبحِر الساعة السادسة يا سيدي … والآن
أستودعك الله (يخرج مُنزعِجًا).
كراشوف
:
أحسنت (يدنو من زر الكهربا فتنطفئ بعض المصابيح
ثم يُسمَع وقع أقدام فيعيد النور) أظن نور هذه القاعة يبقى
مضيئًا طول الليل (يخرج وتدخل أنطونيا وخلفها
مويلف ولا تدركان كراشوف فيختفي وراء ستار).
المشهد السابع
(مويلف – أنطونيا)
مويلف
:
مهلًا أيتها الآنسة. ألم نلتقِ قبل اليوم في جنيف؟
أنطونيا
(مُعرِضة عنها)
:
ربما.
مويلف
:
ما لك؟ لا أجد سببًا لهذا الإعراض.
أنطونيا
(بتصنُّع)
:
لست مُعرِضةً أيتها السيدة، ولكن خطيبي الموسيو برنار ينتظرني.
مويلف
(بانزعاج وغيظ مكظوم)
:
أأنت خطيبة موسيو برنار؟
أنطونيا
:
نعم أنا خطيبة موسيو دي كالفادوس، هل تعودتِ دعوةَ الرجال بأسمائهم دون
الألقاب؟
مويلف
:
امزجي نبيذك بالماء وهدِّئي روعك.
أنطونيا
:
لست في حاجة إلى أمثالك ووَعْظِك.
مويلف
:
مهلًا أيتها الآنسة، إن لي معك شأنًا أعظم مما يصل إليه ظنُّك (تنظر إليها أنطونيا باحتقار ثم تخرج. مويلف
لنفسها) هذا وقع أقدام (تسير إلى
نافذة مُطِلة على الحديقة فتلمح موسيو برنار) موسيو برنار عم
مساءً تفضل بالدخول إلى قاعة الاستقبال، لحظة من فضلك، كلمة واحدة.
برنار
:
لا أستطيع أن أسهر أكثر مما سهرت.
مويلف
:
أريد محادثتك في أمر ذي بال.
برنار
:
أخشى أن يسمعك أحد وكما يقولون خير قليل وفضحت نفسك!
مويلف
:
لا شأن لك. ادخل فالقوم نِيام وليس لأحد علينا رقابة.
برنار
:
ولكن يهمني أن لا يراني أحد معك.
مويلف
:
أتوسل إليك أن لا تكسر قلبي، وأن لا تنزل بي إلى ما دون ذلك من دَرَك
المذلة.
برنار
:
لقد أجبتك إلى طلبك مرارًا وخلونا وتحادثنا وأنت تعلمين أن في هذا من
الشبهات ما فيه.
مويلف
:
أقول لك قولًا أخيرًا لا تطاوعني غير هذه المرة. إنني أنتظرك منذ
الساعة التاسعة ولم أحفل بالنوم، وقد أخذ بمعاقد أجفاني بل لم أحفل بما هو
أعظم شأنًا من النوم لأجلك.
برنار
:
سأدخل وأبقى معك لحظة.
مويلف
:
شكرًا لك (يدخل).
برنار
:
ما هو الأمر الذي تريدين محادثتي فيه … لا تُطِيلي فإنني الآن غيري بالأمس؛
لأن خطيبتي بالبيت وأخشى أن تفاجئنا فتتهمني بغير ذنب.
مويلف
:
ألا تجلس قليلًا؟ ما هذا التعنُّت؟
برنار
:
ليس في الأمر تعنُّت.
مويلف
:
إذن ما هذا الدلال؟
برنار
:
ولا دلال وليس بيننا ما يقتضي أحد الأمرين.
مويلف
:
ولكن بيني وبينك ما يبيح لي كل شيء (تدنو منه
فيبتعد) أتبتعد عني؟ أيلذُّ لك تعذيبي إلى هذا الحد؟
برنار
:
سيدتي إنه لم يخطر ببالي قط أن …
مويلف
(مقاطعةً)
:
لا تزِدْ كلمة واحدة … واحدة … إنك تعبث بقلبي، أتريد أن أقتل
نفسي؟
برنار
:
أنت حرة ولكن انتظري ريثما أبلغ غرفتي (ينهض).
مويلف
(تتعلق به)
:
كلا انتظر. إنني أمازحك … لا أريد الموت ما دمت أتمتع برؤيتك ولو عن جفاء.
جرِّب حبَّ امرأة تظن أنك تبغضها.
برنار
:
سيدتي إن كلَّ هذا لا ينفع.
مويلف
:
إذن أغيِّر مجرى الحديث … ما أخبارك يا موسيو برنار؟
برنار
:
لا تسألي عن أشياء إن تُبْدَ لك تسُؤكِ. فقد تناولت من بريد اليوم كتابًا
يبشرني بقدوم أهل خطيبتي وسنقضي معًا بضعة أيام متنقِّلين في الغابات والجبال،
ثم نعود إلى ليون فأُزَفُّ إلى عروسي.
مويلف
(تنهض)
:
أهذا آخر قولك لي؟ إنك إن لم تسمع صوت قلبي المعذب فلن تكون سعيدًا في
زواجك … إنني بعد أن عرفت خطيبتك سأقتفي أثرك بسخطي وحقدي … سأنفث لك في
العُقَد، وسأستنجد بأرواح الشرِّ الكامنة والظاهرة … إنني امرأة شيطانيَّة؟
برنار
(باستهزاء)
:
ها ها ها أنت لا شك مجنونة. لقد أخطأتُ إذ أغثْتُ لهفتَك وخلوْتُ بامرأة مثلك
دقيقةً من وقتي … إن مجرد النظر إلى وجهك وسماع صوتك بعد ما رأيت منك خيانة
لعروسي الطاهرة (تبكي مُمسِكة به فيحاول التخلُّص دون
أن يمسَّها) إنك إن أطلت هذا الموقف فضحتك بالمناداة على الخدم
وأيقظت كلَّ مَن في المنزل.
مويلف
(باكية)
:
سامحني! اعفُ عني! لقد جننت بحبك وأفقدني إعراضك صوابي … اعف عن تهوُّري …
كن سعيدًا أنت وعروسك … إنني لا أعرفها ولم يقع عليها بصري قطُّ، إنما قلت لك
ذلك لأزعجك … أتوسل إليك أن تنسى كلَّ ما سمعت مني.
برنار
:
حسن. سأحاول نسيان ما سمعت … ليلتك سعيدة.
مويلف
:
أسعد الله ليلك … اسمع قبل أن تخرج.
برنار
:
ماذا تقولين هذه المرة؟
مويلف
:
لا تصدق كلمة واحدة ممَّا قلت. كنت أمازحك. أتحسبني جادَّة فيما ذكرت لك.
برنار
:
ها ها … وبعد؟
مويلف
:
لقد حضر الليلة الرجل الذي كنت أنتظره من زمن … قدم من بلاد قصيَّة، ولكنني
لم أتمكن من لقائه وسألقاه غدًا قبل شروق الشمس، فأحظى بقربه ثم نرحل إلى
حيث المنى تبعث المنى، وهو فتًى كريم ومجنون بحبي وأنا كذلك أحبه كثيرًا، وهو
شديد الغيرة عليَّ، ولم يرُدِ انتظاري خوفًا عليَّ من دهشة السرور بلقائه … انظر
إلى أية درجة من الهيام وصل حبُّه إياي!
برنار
:
هنيئًا لكلِّ منكما بصاحبه.
مويلف
:
إنه جميل جدًّا وغنيٌّ وكريم.
برنار
(باسمًا)
:
إن كان كما وصفتِ فهو لا يصلح إلَّا لك.
مويلف
:
سافر من أجلي سبعة أيام!
برنار
:
اعلمي يا سيدتي أنك تخطئين المرمى إذا أردت أن تثيري غَيْرتي عليك؛ لأن
الغيرة تقتضي الحب وليس بيننا شيء من ذلك، طاب ليلك (يهم بالخروج).
مويلف
:
إنك لم تفطن إلى قصدي. لم أُرِد قط أن أثير غَيْرتك، إنك لن تراني بعد الليلة. إنك تترك
فرصة عظيمة تفلت من يدك وأنت قادر على انتهازها.
برنار
:
وما هي تلك الفرصة؟
مويلف
(بتردُّد)
:
امرأة في الثلاثين من عمرها ذات جسم لا نظيرَ له، تهب لك قلبها وروحها وأنت
تردُّها وهي عاشقة مُولَّهة بحبك، تريد أن تذيقك لذَّة لن تذوقها من عروسك الساذجة
وأنت ترفض تلك اللَّذة.
برنار
(خارجًا)
:
طاب ليلك يا سيدتي.
مويلف
:
برنار قف (تجري خلفه) موسيو كالفادوس
سامحني (يقف برنار).
برنار
:
ماذا تريدين؟
مويلف
:
أريد أن أقول إن الآنسة أنطونيا …
برنار
(مقاطعًا)
:
خطيبتي! من أين لك معرفة اسمها؟ أي شأن لك معها؟ هل تعرفينها؟ وأي علاقة
بينكما؟
مويلف
:
أعرفها ولا أعرفها.
برنار
:
هذا لغز جديد!
مويلف
:
كلا! أريد أن أقول لك إنني أعرف شخصًا يعرفها جيدًا، وهي أيضًا تعرفه
معرفة تامَّة.
برنار
:
مَن هو هذا الشخص؟
مويلف
:
هذا سرِّي لا أبوح به.
برنار
:
بلى، بوحي به لي وحدي فأنا لا أخونك إذا ائتمنتِني.
مويلف
:
كلا، كلا … إني مخطئة وأعود أرجع في قولي.
برنار
:
هذا لا يكون. هذا لا يليق. لا تذهبي قبل أن تقولي.
مويلف
:
إنك تشغل نفسك على غير جدوى.
برنار
:
أنتِ التي شغلتني.
مويلف
:
انسَ ما قلت لك، ولْنغيِّرْ مجرى الحديث.
برنار
:
لقد تركتِ بحديثك هذا ما يشغل بالي، إن الشكوك تستبدُّ بي، وسوف تكبر حتى تنهش
قلبي وتنغِّص حياتي.
مويلف
:
قلت لك تغيير الحديث أَوْلى. أتعرف موسيو لورنزو؟
برنار
:
من لورنزو هذا؟
مويلف
:
ذلك الرجل الحزين اللابس الحِداد الكثير الصمت الذي نزل بالدار
الليلة.
برنار
:
كلا لا أعرفه ولم أره.
مويلف
:
إن شخصًا آخر تعرفه جيدًا يعرف هذا الرجل.
برنار
:
مَن الذي تعنين؟
مويلف
:
أعني شخصًا آخر يعرف لورنزو جيدًا، ولا يريد أن يعرف أحد عنه ذلك.
برنار
:
مَن هو يا ترى؟ كأنك تطرحين عليَّ لغزًا.
مويلف
:
ألم تفهم بعدُ؟ الأمر مع ذلك سهل لا يحتاج إلى كدِّ قريحتِك.
برنار
:
أيتها المرأة، ماذا أنت قائلة؟
مويلف
:
هدِّئ روعك، الأمر كما فهمت، وأنا لا أرسل القول جزافًا، بل لديَّ ما يثبت ذلك
ممَّا لا شك وراءه.
برنار
:
أكُتُب غرامٍ من خطيبتي لهذا الرجل أم ماذا؟
مويلف
:
نعم. كُتُب غرامٍ أوقعتها في يدي المصادفات.
برنار
:
وأين هي؟
مويلف
:
لا أستطيع إبرازها إلَّا إذا وعدتني.
برنار
:
بماذا أي وعد تريدين؟ وهل تحاولين الانتفاع بهذه الكارثة؟
مويلف
:
لا نفع لي ولكن عِدْني بالكتمان.
برنار
:
أعدك … أعطني تلك الرسائل.
مويلف
(تخرج من جيبها خطابًا واحدًا وصورة)
:
ها هو.
برنار
(يخطفه بسرعة عظيمة)
:
هذا خطُّها! (يقرأ بتلهُّف) يا ويلي
وويلها … اغربي عني أيتها المرأة … كنت أبغضك مرة واحدة فأمسيت بعد هذا
الاكتشاف أبغضك ألف مرة.
مويلف
:
كنت تَزْدرِيني وتقبِّحني وتنفُر مني وتَتَيه عليَّ حسابًا أنك ظفرت بأكرم
العذارى وفضلاهن، والآن رأيت بعينك أننا في الهوى أشباه، وأنني كما أحبك
كانت فتاتك الصغيرة تحب سواك.
برنار
:
اصمتي ولا تقولي فيها كلمة.
مويلف
:
إلاهة هي لا تُذكَر ولا تمس؟ أم ربَّة الصون والعفاف يُخشَى عليها من
اللمس؟!
برنار
:
كفى … كفى اتركيني وشأني، ولكن أي ثمن تطلبين لتلك الأوراق.
مويلف
:
بلغني الثمن وزيادة.
برنار
:
وما هو؟
مويلف
:
أن بصرك وقع عليها وأنك علمت ما كنت تجهل من شأنها … إلى الملتقى يا مسيو
برنار (عند خروجها تضع إبهام يمينها على طرف
أنفها وتفرد كفَّها علامة الازدراء. يخرج كلٌّ منهما من
باب).
المشهد الثامن
(يدخل كراشوف قابضًا على قلبه وهو يلهث من التهيُّج.)
كراشوف
:
آه! هي هنا هي هنا لقد ظفرت بها بعد طول الاقتفاء (الساعة تدق الثالثة) …
(ستار)
الفصل الخامس
المشهد الأول
(بهو فيلا سيليفيا. يدخل لورنزو.)
لورنزو
:
طاب يومك يا سيدتي.
جيرمون
:
طاب يومك. تفضل بالانتظار ريثما تحضر مدام مويلف إيذن لي أن انصرف إلى
شئون منزلي (مويلف تتقدم إلى لورنزو ماشية
الهُوَيْنى مضطربة وتصافحه).
مويلف
:
متى حضرت إلى فيفي؟
لورنزو
:
وصلت ليلة أمس (لنفسه) إنها تغيَّرت
كثيرًا وكدتُ لا أعرفها للوهلة الأولى.
مويلف
:
خير أن نجلس بجوار الشرفة، فإنني أكاد أختنق من شدَّة الحرِّ (يجلسان بجوار الشرفة وتشرق مويلف بريقها ثم تختنق
بما يشبه البكاء ولكنها لا تبكي).
لورنزو
:
ألم يصل إليك كتابي الذي أرسلتُ منذ أسبوع؟
مويلف
:
بلى وصل إليَّ.
لورنزو
:
انتظرت أن ألقاك في مرسيليا أو جنيف على الأقل، فحين لم أجِدْك بإحداهما
ظننتك مريضة أو في حاجة أو أن مانعًا قهريًّا عاقك عن لقائي … لعل كوستيا
بخير ولعل أخبار أسرتك سارة.
مويلف
:
دعنا من كوستيا ومن أسرتي. ألم يصل إليك مني كتاب.
لورنزو
:
كلا.
مويلف
:
هذا مستحيل لا بدَّ أنك تسلَّمته.
لورنزو
:
وماذا جاء به؟
مويلف
:
لو كنتَ قرأته ما كلفت نفسك مشقَّة الحضور ولا حسرة العودة.
لورنزو
:
ماذا تقولين؟
مويلف
:
إنني أقول لك خلاصته في كلمتين؛ ارحل لساعتك فإن الحبَّ الذي كان بيننا قد
انقضى، والقلوب إذا تنافر ودُّها مثل الزجاجة كسرُها لا يُجبَر!
لورنزو
:
أتمزحين أم تقولين حقًّا؟
مويلف
:
ليس في الأمر مَزْح. إنك طلبتَ إليَّ يومًا أن أصدقك إذا نُزِع حبُّك من قلبي
فوعدتك.
لورنزو
:
إنني إذا عثرت بالكتاب ما عدلت عن الحضور، بل إذن تقدمت لأنقذ نفسي من ندمٍ
ربما عراني إذا عَدَلْت عن لقائك تصديقًا لما جاء في كتابك.
مويلف
:
وما يكون معنى حضورك؟
لورنزو
:
كنت أصل إلى فيفي هادئ الروع مطمئن القلب ضعيف الرجاء في حبِّك، وتكون
سياحتي إليك تضحية في سبيل الإخلاص والوفاء (تنهض فينهض).
مويلف
:
يكاد مَن يسمع قولك يحسبك موطدًا نفسك على الانفصال والقطيعة، فأنت قادم
لتريح ضميرك.
لورنزو
:
كنت أرجو لقاءك لأشبع نفسي بحبِّك، ولأفرغ لك في ليلة ما وسعه فؤادي من آلام
الوحدة والفراق خلال سبعة أشهر لم تمرَّ منها لحظة دون أن تمر صورتك بعيني
وصوتك بأذني؛ لأن نفسي لم تكن تحدِّثني أنه بينما كانت النار تضيء بين جوانحي
كنت تخونين عهودي، وتحنثين في أيمانك الوثيقة، وتهدمين بمِعْول الأثَرَة والشهوات
هيكلَ الحبِّ المقدس!
مويلف
:
هوِّن عليك. لم أحسب أن لهذا الخبر هذا الوقع.
لورنزو
:
كاترين! أتمزحين أم تقولين حقًّا. كفى مزحًا. حدثيني عن حالك ودعي المَزْح
جانبًا.
مويلف
:
عجيب جدًّا أنكَ لا تصدقني ولا تريد أن تقبل أمرًا وقع، أما قلتُ لك إنك
تفقدني بهذا البعد الطويل.
لورنزو
:
أي بعد تقصدين؟ هل مضى على فراقنا أكثر من ستة أشهر، ما أقصر الوفاء
عندكن! ألم تذكري لي أنك عرفت امرأة حفظت ودَّ حبيبها خمسين سنة؟ فكيف لم
تستطيعي البقاء على ودِّي نصف سنة؟!
مويلف
:
يظهر لي أنك سابح في بحر الأوهام أو طائر في جوِّ الخيال!
لورنزو
:
هل كانت عهودك وأيمانك لأجل مسمًّى. هل عجز قلبك عن الوفاء بوعودك أم فقدْتِ
العقل والقلب معًا؟
مويلف
:
لقد أقسمت لك حقًّا، على أن القسم قد يصدر عن نزعة من نزعات النفس ولا
يحاسب المرء عليه إلا نفسه.
لورنزو
:
إذا كان ما بيننا قد انتهى فكيف تطلبين إليَّ أن أرحل، وأي حق لك في
ذلك؟
مويلف
:
نصحت لك بالرحيل حفظًا لكرامتك.
لورنزو
:
أتحسبين في مجيء رجل يبحث عن امرأة كانت له، ما يدعو إلى احتقاره؟
مويلف
:
الأمر لك (تهم بالخروج).
لورنزو
:
اسمعي.
مويلف
:
تريد أمرًا يا سيدي؟
لورنزو
:
قبل أن تذهبي اقبلي الهدايا التي أحضرتها باسمك.
مويلف
:
ماذا أحضرت لي؟
لورنزو
:
أحضرت لك حريرًا هنديًّا ودمقسًا شاميًّا وعطرًا شرقيًّا ومصوغًا مصريًّا
وأشياء أخرى لا تُعَد.
مويلف
:
لا أستطيع قبول هداياك ما دمتُ أردُّ حبك.
لورنزو
:
اقبليها لا عربونًا لحبٍّ مقبل ولكن تذكارًا للودِّ القديم.
مويلف
:
كذلك أقبل.
لورنزو
:
هذا خاتم ذهبي نقشت عليه اسمك.
مويلف
(تتختَّم)
:
إنه جميل.
لورنزو
:
وهذا عقد من اللؤلؤ وهذه العلبة المدلَّاة فيها صورتك.
مويلف
(تتقلَّد العقد فيحاول لورنزو ربطه من خلف العنق فتردُّه
بيدها)
:
شكرًا لك فإنني أعرف كيف ألبس الحُلي.
لورنزو
:
وهذان هما القرطان اللذان اشتهيتِهما يوم كنا معًا في فلورنسا. أتذكرين
عهد فيزوليه؟
مويلف
(تتحلَّى بالقرطين)
:
شكرًا لك ودعنا من العهود والآن ثِق يا موسيو لورنزو أن هذه الهدايا لم
تُحدِث في الأمر شيئًا، وأنني لم أقبلها إلَّا إرضاءً لك (تهم بالخروج).
لورنزو
(كالمجنون)
:
إلى أين؟
مويلف
:
هذا شأني … ليس لك نهيٌّ عليَّ ولا أمر.
لورنزو
(يتبعها)
:
عجبًا لضجرك وإعراضك!
مويلف
:
إن الماضي لا يعود.
لورنزو
:
ألا أصحبك إلى حيث تشائين؟
مويلف
(تقف فجأة)
:
أتريد أن تقتفي أثري وتعذِّبني كما كان يفعل زوجي.
لورنزو
:
أقتفي أثرك وأعذبك كما كان يفعل زوجك؟! هل وصلت بي الحال إلى هذا الحد.
كفى … كفى … اذهبي أنَّى شئتِ … كاترين … كاترين …
مويلف
:
ماذا تريد مني؟
لورنزو
:
عودي وابقَي قليلًا، فإن لي كلمة أريد أن تُصغِي إليها.
مويلف
(تعود بضجر)
:
هات ما عندك.
لورنزو
(لنفسه)
:
أأخبرها بمقدم زوجها كراشوف؟ إنني أخشى أن تنزعج الأَوْلى أن أُغرِيَها
بالرحيل ثم أفاوضها في أمره (إلى مويلف)
لو علمتِ أنني لم تغمض لي عين إلَّا خلسة خلال سبعة أيام بلياليها، وأن حمَّى
الانتظار والأمل كادت تطحن عظامي وتُبدِّد أعصاب قلبي، ولو علمت مقدار حبي
وانشغال نفسي عليك، وكيف كنت أبعد مخاوف الوحدة والوحشة عن قلبي بأمل لقائك.
لو علمت كيف كان خفقان قلبي واضطرابي حين بلوغ فيلا سيلفيا، وخَوَر قواي
وانحلال أوصالي عندما سمعت خبر سفرِك، ويأسي حينما قالت لي صاحبة الفندق إن
ساحة المحطة ملأى بالفنادق لفضَّلت الموت على أن تجني عليَّ هذه
الجناية.
مويلف
:
ما الفائدة من هذا النواح والشكوى؟
لورنزو
:
طالما ذكرتِ لي أن حبَّك إياي إنما هو الحب الأعظم.
مويلف
:
إن الحب الأعظم هو حب الساعة التي أنت فيها.
لورنزو
:
لقد قضيتِ على حياتي وتزيدينني غيظًا!
مويلف
:
لم أقضِ على حياتك إن أمامك عمرًا مديدًا وعيشًا سعيدًا. أما أنا فليس
أمامي إلَّا الوحدة والألم.
لورنزو
:
إذن ما يدعوك للإعراض عن حبِّي ما دمت لن تحظَي بالسعادة من اليوم؟
مويلف
:
تريد أن أعود إليك فتملكني، وتشعل من جديد في قلبي نار حبِّك بعد أن خَبَت وهي
نارٌ تلتهم الأحشاء وتُفنِي الروح والجسد، ثم تتركني أتضوَّر من ألم فراقك سبعة
أشهر أخرى أو سبع سنين وربما تركتني إلى الأبد بعد الذي رأيتَه مني … كلا! …
كلا! لن يكون ذلك لك.
لورنزو
:
أعاهدك أن لا أفارقك بل أعيش معك طول حياتي … لقد جئت لأجل هذا … جئت
لأزفَّ إليك بُشْرى لقاءٍ لا فراق بعده … (يبكي.)
مويلف
(تبكي)
:
أنت تبكي يا لورنزو … إن وقع دموعك على نفسي الشقيَّة كسقوط قطر الندى على
الأزهار قبل الذبول. إن دموعك أثمن من هداياك النفيسة الغالية، ولكن إليك
الآن عني يا لورنزو وعد إلى حياتك السعيدة … اعفُ عني واتركني فقد خُنْت
حبَّك!
لورنزو
:
كيف خنتِ حبي؟
مويلف
:
نعم خنت حبك وسقطت بين ذراعَيْ رجل غيرك … لقد يئست من حبِّك بعد أن يئست من
لقائك!
لورنزو
:
آه! يا لك من شقية. لقد كنت أعمى غبيًّا … ما أشدَّ حماقة مَن يضع قلبه في
كفِّ امرأة مثلك! إذن كنت تكذبين وأنت تبكين وتستعطفين؟ هل ألقى الحبُّ على
بصيرتي غشاوة، فلم أستطع التمييز بين الصدق والكذب؟ هل أعمتني كلماتك
العذبة ووعودك الوهمية (تبكي) ابكي الآن
أيتها البائسة؟
مويلف
:
هل كان حبي عظيمًا لديك بهذا المقدار حتى تأسف عليه أسفًا يكاد
يقتلك؟
لورنزو
:
إنني لا آسف على حبك أيتها المرأة، ولكنني آسف على الأيام التي قضيتها
مخدوعًا بحبك الكاذب! … ألا تذكرين تلك الليلة التي قضيتها بجانبك في
رابالو أصارع الموت عليك وأنت بين مخالب الحمَّى … لقد حاربت الردى بالعلاج
والسهر، ودرأت بجهادي المتواصل ريح الفناء العاصفة التي هبَّت عليك وأنت
غارقة في ذهول الداء … وانتشلتك من أظفار المنية بعد أن أوشكتْ أن تنشبها في
روحك … واأسفاه! على أن نفسي لم تُشرِف على المستقبل لأرى ما تفعلين بي (يجهش بالبكاء ويقع مغشيًّا عليه، فتنتهز مويلف هذه
الفرصة وتهرب، ثم يصلح لورنزو من شأنه ويدخل جودياس).
المشهد الثاني
(جودياس – لورنزو)
جودياس
:
هذا أنت يا لورنزو؟
لورنزو
:
جودياس! جودياس … عزيزي جودياس (يهم
بضمِّه) لقد صادف لقاؤنا غايةً في فؤادي.
جودياس
(مبتعدًا)
:
هذه عادة قديمة أزالتها آدابُ اللياقة الحديثة بين الرجال وتكفي المصافحة
على الطريقة الأمريكية دون الضمِّ والتقبيل، لا سيما وأنَّك ذو لحية كثَّة وأنا لا
أطيق شعر الذكور.
لورنزو
:
عفوًا إذا أزعجك اندفاعي … حسبتك جودياس صديقي القديم.
جودياس
:
أنا هو إنما الدنيا والأخلاق تغيَّرت ودوام الأمور على حالها محال، ولا يبقى
على حال واحدة إلَّا الحمار.
لورنزو
:
هل تقيم منذ عهد طويل بفيفي؟
جودياس
:
منذ بضعة أشهر ليس إلا …
لورنزو
:
وهل طاب لك المقام؟
جودياس
:
على قدر المستطاع، فإنني أعيش عيشة الفراغ والشباب، وأقطف ما أستطيع من
أزهار السعادة وأذوق ما تجود به الحياة من فواكهها.
لورنزو
:
وهل عشقت أو بقيت بلا عشق يا جودياس؟
جودياس
:
هل حسبتني في عداد المجانين فتسألني عن العشق … أيُّ عاقل يعشق؟
لورنزو
:
وهل لا يعشق غير المجانين.
جودياس
:
بلا ريب، إن العشق غذاء نفوس الجهال والحمقى.
لورنزو
:
وماذا يصنع العقلاء الراشدون إذن؟
جودياس
:
يعيشون مثلي حسب الطلب وعند مقتضى الحال … ألا كارت يا مون شير!
لورنزو
:
ماذا تقصد بهذا التعبير؟
جودياس
:
إن الطبيعة لم تخلق أوفرَ عددًا من النساء، فأنا أختار ممَّا ألقى في طريقي
مَن تلائم حاجتي لساعتي.
لورنزو
:
بحبٍّ أم بدون حب؟
جودياس
:
حب الضرورة وأتخلَّى عنها قبل أن تتخلَّى عني، وأزهد فيها قبل أن
تزهدني.
لورنزو
:
ولو لقيت منهن امرأة تحبك؟
جودياس
:
إن النساء يبدين غير ما يخفين؛ فلو ادَّعت امرأة حبي أشكرها ثم أودعها … خذ
لك مثلًا امرأة روسية أظهرت لي حبًّا يكاد يكون جنونًا … أوه أظنك تعرفها
جيدًا لأننا التقينا بها معًا.
لورنزو
:
أعرفها جيدًا! مَن تكون تلك المرأة؟
جودياس
:
هي مدام مويلف التي كان لك معها حديث طويل بلوزان.
لورنزو
:
آه الآن ذكرتها. ماذا تقول؟ هل أحبتك تلك المرأة حبًّا يقرب من
الجنون؟
جودياس
:
نعم فإنني لقيتها هنا لدى وصولي.
لورنزو
:
تقول إنها أحبتك؟
جودياس
:
نعم.
لورنزو
:
كفى يا هذا فإن حديثك يُمل.
جودياس
:
وهل تطفَّلت به عليك. على أنه لم يخطر ببالي أنك منهم.
لورنزو
:
ممن تحسبني؟
جودياس
:
من عشَّاق تلك المرأة.
لورنزو
:
كنا فيما مضى أصدقاء ثم فرَّقنا الدهر، وما كدت أحسب أننا نلتقي على ما نحن
عليه.
جودياس
:
كل هذه الجلبة وهذا الخصام لأجل امرأة أنت تعرفها، ما أقلَّ خبرتك بالحياة!
لقد فطنتُ لحقيقة أمرك فاسمع نصيحتي … إذا خانتك فاتركها وخذ سواها ولا تملأ
الدنيا نواحًا عليها، ولا تأسف عليها وتندب حظك العاثر.
لورنزو
:
هذه غريزة الوحوش الذين لم تُنعِم عليهم الطبيعة بنعمة الوجدان الشريف، فهم
فريسة شهوات أبدانهم، على أنني لم أطلب منك نصيحة ولا درسًا.
جودياس
:
لقد أخلصت لك النصح. هل أنت أول مَن تَصيَّدته تلك المرأة بحبائلها؟ … إنك لا
تستطيع الجواب لئلا تنال منها … ألا تذكر لقاءكما الأول في لوزان؟
لورنزو
:
لا تزد أيها الرجل!
جودياس
:
لعلك تعرف بعض من سبقك إليها، وإن كنت لا تعلم عددَ مَن وَرَدَ بعدك ومَن
سيرد.
لورنزو
:
ويلٌ لك!
جودياس
:
اشرب كأس الحقيقة حتى آخر عَكَرها، إن معشوقتك التي خانتك كما خانت سواك من
قبل سوف تخون غيرك من بعد.
لورنزو
:
أيها الوغد! (يخرج مسدسًا) لأخرقن
جبينك ولأخرقن رأسك بنار مسدسي هذا (يفرُّ جودياس
ويتبعه لورنزو).
المشهد الثالث
(برنار – أنطونيا – لورنزو)
أنطونيا
:
طاب يومك (يعرض برنار عنها) طاب يومك
(يزيد برنار إعراضًا وتغيُّرًا) ما
هذا؟ أنت معرض عني؟ ماذا جرى؟!
برنار
:
اسمعي أيتها الآنسة.
أنطونيا
:
أيتها الآنسة! لماذا تدعوني هكذا؟ ماذا جرى يا برنار؟ لا تُطِل
تعذيبي.
برنار
:
إن لي معك حديثًا ذا شأن.
أنطونيا
:
ما هذا الحديث؟ وما عسى أن يكون حتى تباغتني معرضًا.
برنار
:
إن على هذا الحديث يتوقف هناءُ حياتنا المستقبلة.
أنطونيا
:
ما تقصد؟
برنار
:
لا يعنيك قصدي … يعنيني أن تخبريني عن الماضي.
أنطونيا
:
بأي ماضٍ أخبرك؟
برنار
:
ماضيك أيتها الآنسة.
أنطونيا
:
ليس في سجل حياتي صحيفة لم أُطلِعْك عليها.
برنار
:
تذكري جيدًا … ألم تحبي شخصًا قبل تعارفنا حبًّا يقرب من الجنون؟!
أنطونيا
:
لا أذكر.
برنار
:
ألم تكاتبي هذا المحبوب؟
أنطونيا
:
كلا.
برنار
:
تصرِّين على الإنكار حتى لو رأيتِ رسالة الغرام التي خطَّتها يدك. سأعود إليك
بالمكتوب لأرى إلى أيِّ حدٍّ تبلغ مكابرة المرأة، واعلمي أن كلَّ ما كان بيننا قد
انتهى، وأنك منذ اليوم حرَّة لا تربطك بي رابطة الخطبة! (يهم بالخروج).
أنطونيا
:
برنار إلى أين تذهب؟
برنار
:
سأعود إليك بالأوراق التي تقنعك إقناعًا قاطعًا (يخرج لاستحضار المكتوب).
أنطونيا
:
واغوثاه … ذلك الرجل الحقود الغيور انتقم لنفسه يا لدناءة الرجل! (يدخل لورنزو.)
لورنزو
(لنفسه بعد أن يعود من مطاردة جودياس)
:
يا للجبان! لم أتمكن من اللحاق به … (يلمح
أنطونيا) طاب يومك أيتها الآنسة.
أنطونيا
:
أتجرؤ أن تحيِّيني أيها الرجل … إن قلبك لا يعرف الرحمة وضميرك لا يخشى
تأنيبًا.
لورنزو
:
أيتها الآنسة! ماذا أصابك؟ هل فقدت رُشْدَك؟
أنطونيا
:
نعم فقدت رشدي إذ سخَّرت يدي فيما دوَّنته لك فبِعْت كتابي بأبخس الأثمان وهو
انتقامك من سعادتي.
لورنزو
:
أنت تتهمينني ظلمًا بإظهار كتابك لخطيبك.
أنطونيا
:
إلى متى تعبث بسذاجة قلبي؟
لورنزو
:
يا للهول! الآن أدركت ما حدث … هوِّني عليك أيتها الآنسة … إنني لم أدفع
كتابك إلى خطيبك … إنما عرفت الآن مَن خانني وغدر بك … ولكن اعلمي أنني
أذنبت بنيَّة خالصة.
أنطونيا
:
أخبرني إذن أسرع بإخباري، إن برنار لا يلبث أن يعود حاملًا تلك الورقة ولا
أدري ما أقوله له.
لورنزو
:
أتذكرين تلك المرأة مويلف التي آثرتها على سواك؟
أنطونيا
:
نعم أذكرها ورأيتها أمس.
لورنزو
:
هي التي خانت أمانتي وأظهرت كتابك لخطيبك … لقد جاء يومٌ ملكتْ عليَّ فيه
هذه المرأةُ قلبي ونفسي … ثم جاء يوم طلبتْ فيه كتابَك وغيره من الرسائل
لتحرقها لتُسدِل بيني وبين الماضي حجابًا لا تنفذ منه الذكرى … فأذعنت ودفعت
إليها الأوراق!
أنطونيا
:
الآن فهمت ولكن ما التدبير الآن؟ إن خطيبي قال لي ما كان بيننا قد زال
وإن رابطة الخطبة قد حُلَّت. وإذا صدق في قوله فلا حياة لي بعد اليوم (تبكي).
لورنزو
:
خفِّفي عنك أيتها الآنسة وابرحي الآن هذا المكان، وأنا الكفيل بعودة المياه
إلى مجاريها بينك وبين خطيبك فتعودي إليه رافِلة في حبِّه ورضاه.
أنطونيا
:
شكرًا لك وغفرانًا (تخرج).
المشهد الرابع
(برنار – لورنزو)
(يدخل برنار وينظر مُتلفِّتًا.)
لورنزو
:
عفوًا يا سيدي هل أنت السيد برنار دي كالفادوس؟
برنار
:
هو أنا. ألك حاجة أقضيها؟ (يضع الأوراق في
جيبه.)
لورنزو
:
اسمي لورنزو لودفيجو … سيكون بيننا صداقة دائمة … هل أنت موضع حبِّ امرأة
اسمها مويلف؟
برنار
:
حقًّا إن في هذا المنزل امرأة تدَّعي حبي.
لورنزو
:
سأفتح لك قلبي. كنت مُولَّهًا بتلك المرأة فاستولت على رسائلَ كتبَتْها إليَّ
فتيات طاهرات شريفات في سويعات جنون الصبى وطيش الشباب، وكنت أحرص عليها
لأردَّها لصواحبها، وأذكر بين اللواتي كتبن إليَّ فتاة اسمها أنطونيا … الآنسة
أنطونيا بيلادونا … رأيتها مرة واحدة لا أكثر مع أسرتها ولم تتجاوز علاقتي
بها ذلك الحد.
برنار
:
أتقسم أن علاقتكما لم تتعدَّ ما ذكرْتَ؟
لورنزو
:
أقسم أنه لم يتمشَّ السوء بيني وبين أنطونيا بيلادونا، وأنني لا أحفظ لها
إلَّا ذكرى حبٍّ عذريٍّ شريف.
برنار
:
شكرًا لك يا سيدي … لقد أنقذت سعادتنا … إن أنطونيا بيلادونا هي خطيبتي
وكانت تلك الصحيفة من ماضيها غامضة عليَّ، والآن جلوتَ غامضها، وأزلت الشك عن
قلبي.
لورنزو
:
هنيئًا لك حبها فإنها خير مَن عرفت من النساء. والآن ضمني إلى صدرك يا برنار (يتعانقان).
برنار
:
هيا بنا إلى خطيبتي، فإنها تنتظر عودتي على أحرِّ من الجمر.
لورنزو
:
بل اذهب إليها مُنفرِدًا ولعلنا نلتقي بعد اليوم.
برنار
:
الأمر لك … إلى الملتقى وشكرًا لك على ما صنعت من الجميل (يخرج برنار).
المشهد الخامس
(لورنزو منفردًا)
لورنزو
(لنفسه)
:
أرى تلك المرأة توقظ الشياطين في أعماق نفسي إنها تستفزُّني … أأقتلها
وأشفي غليلي بالقضاء عليها؟ أأسلبها نعمة الحياة كما سلبتني نعمة السعادة
والأمل؟ لقد فعلتْ بي تلك المرأة كلَّ ما لم تكن تحدِّثني به نفسي، فصدعت قلبي
وأشعلت في فؤادي نار الغيرة، وقالت لي في وجهي إنها لم تحفظ لي عهدًا … لقد
آن لي أن أصحوَ، وقد بدأت أبلُّ من علتي، الحب الحب الحب … قاتل الله الحب!
لورنزو لورنزو أفِق لنفسك … لماذا يا ربَّاه لا تزول من نفسي آفة الحب ولا
يبرأ قلبي من محنة الهوى … إن كلَّ شيء في الكون يُخلَق ثم يتجدد وكل كائن في
الطبيعة يُبعَث بعد أن يهلك فالبعث يا ربَّاه! أريد قيامة نفسي … أريد بعث روحي
البعث البعث يا ربَّاه …
المشهد السادس
(جودياس – مويلف)
جودياس
:
هل كانت لك بلورنزو دي لودفيجو صلة عشق؟ إن الأمر ذو بال.
مويلف
:
كلا. مَن افترى عليَّ هذه الفِرْية؟ لم تكن بيني وبينه صلة كالتي بيني
وبينك.
جودياس
:
إن عزيمتي قد صحَّت على الرحيل عن هذا البلد وهذه الديار بأسرها.
مويلف
:
وأنا أيضًا سأرحل فخذني معك.
جودياس
:
كلا! لم تصل بنا المودة إلى هذا الحد.
مويلف
:
أنا لا أطلب إليك أن تعاشرني.
جودياس
:
إذن ماذا تطلبين؟ اعلمي قبل كلِّ شيء أنني لا أستطيع عشرة النساء أكثر من
السويعات الضرورية.
مويلف
:
أسألك أن تصحبني إلى ما وراء هذا البلد، ثم يأخذ كلٌّ منا طريقه إلى غايته
التي يقصد إليها.
جودياس
:
هذا مستحيل يا عزيزتي. أستودعك الله.
مويلف
:
يا لك من نذل خسيس. ما أعظم الفرق بينك وبينه. إذن أسافر منفردة (تلمس زر الكهرباء. تدخل جرترود).
جرترود
:
سيدتي.
مويلف
:
أخبري مدام جيرمون أنني تلقَّيت برقية من ولدي تنبئني باشتداد مرضه، وأنني
مضطرة إلى الرحيل فورًا ثم عودي إليَّ تجديني في غرفتي فتساعديني في إعداد
حقائبي.
جرترود
:
سأفعل يا سيدتي (تخرجان كلٌّ من
باب).
المشهد السابع
(كراشوف ولورنزو يدخلان من بابين متقابلين.)
كراشوف
:
هذا أنت أيها السيد. ألا من وسيلة للعثور بهذه الخادم؟ فقد دققتُ لها سائر
أجراس المنزل ولم يبقَ عليَّ إلَّا دق نواقيس المدينة!
لورنزو
:
وأنا أيضًا أبحث عنها ولعلها تقضي بعض الشئون ثم تعود. هل ظفرت ببغيتك
التي كنت تنشدها في سان جان جولف؟
كراشوف
:
ظفرت، ولكن في غير سان جان جولف.
لورانزو
(لنفسه)
:
ترى ماذا يُضمِر لها من السوء؟ … لعل لي من ضَغَن هذا الزوج الموتور انتقامًا
يريح نفسي (إلى كراشوف) وهل تقيم في
فيفي طويلًا؟
كراشوف
:
قد يطول مقامي وقد لا يطول … وأنت؟
لورنزو
:
إنني أبرح المدينة قبل نصف الليل بساعة.
كراشوف
:
أتمنَّى لك سفرًا سعيدًا وإن عثرت بالخادم بعثْتُها إليك.
لورنزو
:
شكرًا وأدعو لك بالتوفيق (يتصافحان ويخرج
لورنزو وتدخل جرترود تحمل حقائب مويلف وهي تلهث من شدة التعب ثم تضعها
في وسط القاعة).
جرترود
:
أف! ما أثقلَ هذه الحقائب كأن بها رصاصًا أو نحاسًا، لست أدري ماذا يضع
الأغنياء في حقائبهم، ولماذا يحتاجون إلى أمتعة لا تُعَد ولا تُحصَى؟! (تبصر كراشوف) عفوًا يا سيدي.
كراشوف
:
جرترود أين أنت؟
جرترود
:
عفوًا يا سيدي، إنني نسيت الشاي وما أنسانِيه إلَّا سفر الأضياف في ليلة
واحدة أو بقطار واحد. إنني أشكو ثقل هذه الحقائب وكثرتها، على أنني لم أنقل
إلَّا متاع مدام مويلف وسأنقل فورًا …
كراشوف
(لنفسه)
:
إذن هي مسافرة، فهل علمت بحضوري أم لم تعلم؟ (إلى جرترود) مسكينة أيتها الصغيرة (يسمع دق الجرس. تخرج جرترود وتدخل مويلف بثياب السفر وعلى وجهها
قناع وهي مشغولة بلبس قفاز ثم تنحني على إحدى حقائبها فتتناول منها
شيئًا ثم تنهض فتلقى كراشوف وجهًا لوجه فتَضْطَرِب أولًا ثم تعود إليها
قوتها).
مويلف
:
ها أنت يا موسيو كراشوف، أي ريح أتت بك؟
كراشوف
(بغضب)
:
ريح السموم … إلى أين تذهبين؟
مويلف
:
وهلا تزال تستبيح لنفسك مثل هذا السؤال؟
كراشوف
:
ربما يطول حديثنا الليلة.
مويلف
:
أستودعك الله.
كراشوف
(يقف أمام باب الدخول ويحاول إخراج مسدسه)
:
إني أمنعك الخروج من هنا إلَّا إلى دار الشرطة حيث تُرغَمين على مقاسمتي
الحياة بحقِّ عقد الزواج الشرعي الذي لا يزال قائمًا بيننا (تدخل جرترود).
جرترود
:
رسالة برقية إلى مدام مويلف (تمدُّ يدها
بالرسالة).
مويلف
:
من أين يا جرترود (تقرأ بلهفة) من
آبلس أيضًا (تقرأ) «احضري حالًا كوستيا
مريض جدًّا. لا تجزعي.»
كراشوف
:
إذن هيا بنا إلى ولدك فلعل قدومك يعيد إليه العافية.
مويلف
:
أفضِّل أن أموت أنا وولدي على أن أسايرك في طريق (تعيد قراءة الرسالة) لا تجزعي ما معنى هذه الكلمة؟ إن هذه
الرسالة أدْعَى إلى إسراعي بالسفر فتخلَّ عن طريقي (تدخل جرترود بلهفة).
جرترود
:
مدام مويلف …
مويلف
:
ما وراءك أيتها الصبية؟
جرترود
:
رسالة أخرى.
مويلف
(تخطف الرسالة وتفضُّها باضطراب وتقرأ)
:
أعزيك عن ولدك. ديلا كويزن … آه! واولداه! (يدخل لورنزو من باب وبيده أمتعته ومن باب آخر أنطونيا وأختها مدام
كاميل وبرنار وينظرون جميعًا إلى مويلف وهي تتضور من الألم ثم تنظر إلى
وجوه الواقفين وكلما تعرفت واحدًا منها وجمت واضطربت.
لنفسها) ويلاه! هل تآمرت الأقدار عليَّ في ساعة واحدة؟! أي
أمل لي في الحياة؟ إن اليأس قتَّال لساعته. لخير للمرء أن يموت بغتة تحت صدمة
العاصفة من أن يبلى فوق الصخرة المقفرة على مهل (تُخرِج من سلتها قِنِّينة صغيرة وتدنيها من فمها. تدنو منها مدام
كاميل).
مدام كاميل
:
أيتها السيدة هل لك حاجة أقضيها؟
برنار
:
كاترين هيا بنا (يمر جودياس بالغرفة وينظر بلا
اكتراث إلى مويلف. تتناول مويلف بفمها ما بالزجاجة).
برنار
:
ما هذا؟
لورنزو
:
لقد انتحرت (إلى كراشوف الذي يبقى
مبهوتًا) أغِثْ زوجك يا سيدي! … أدركها بالإسعاف قبل أن تسلم
الروح.
مويلف
(إلى لورنزو)
:
آه! آه! ها أنت تشهد مصرعي يا لورنزو (يسرع
الجميع إليها نساء ورجالًا).
كراشوف
(يلتقط القِنِّينة الفارغة ويشمها ويقرأ ما هو منقوش
عليها)
:
هذا سيانور البوتاس! لا أملَ لنا في حياتها … إنه سم لا تِرياقَ له (لنفسه) لقد فعلتْ بنفسها ما كنت أضمر لها
وكذلك مات الصبي … لقد حلَّت لي الأقدار ما كنت عاجزًا عن حلِّه.
مويلف
:
آه! (تضرب وتنبش في الغرفة بيديها ورجليها
وتشهق طويلًا ثم تهمد.)
لورنزو
(يدنو منها ويضع قبلة قبل الجميع)
:
أعِدُّوا لها فراشًا وثيرًا، مَن يرغب منكم في اللحاق بالقطار فلْيُدرِكْه. أما
أنا فباقٍ حتى الصباح …
(تنزل الستار)