المشهد الأول
زبون
:
جارسون.
جارسون
:
سيدي.
زبون
:
واحد أمير.
جارسون
:
فورًا يا سيدي (للبوفيه) واحد
أمير.
صوت من الخارج
:
أيكودي … باري لي ماتان … لي جورنال (تُسمَع
أصوات نفير سيارة وأجراس الترام ودفع عجلات المركبات. صوت يُسمَع قريبًا
جدًّا ثم يدخل القهوة) أيكودي باري … لي ماتان.
زبون
:
لي ماتان (يحصل تبادُل بين الزبون وبائع
الجرائد).
زبون آخر
:
لي جورنال (يحصل التبادُل ويخرج بائع الجرائد.
يدخل زبون … ويجلس على
مائدة).
الزبون
:
جارسون … هات واحد بيرة.
جارسون
:
لك ذلك يا سيدي … واحد بيرة (يدخل بارنت وقد
تغيَّرت أحواله الظاهرية كثيرًا؛ انحنى قليلًا وابيضَّ شعره وهزل جسده
واصفر وجهه، وصار قليل العناية بملابسه ولكنها لا تزال تدل على نعمته،
وتبدو عليه علامات الرجل الذي يسكر والمعذَّب الذي صار لا يهتم بشيء مع
شدة قلقه، ومعه شخص آخر في شكله وسنه تقريبًا).
بارنت
(لسيدة جالسة بالقهوة)
:
طاب ليلك يا مدام جاكميه.
جاكميه
:
ليلتك سعيدة يا سيدي.
زبون
:
جارسون واحد بيرة.
جارسون
:
فورًا … واحد بيرة.
بارنت
(للجارسون)
:
جوزيف … فيرموت هل وصلت الصحف؟
جوزيف
:
منذ هنيهة.
بارنت
:
على بالطان.
جوزيف
(لبارنت)
:
فورًا يا سيدي.
زبون
:
جارسون هات طاسة قهوة.
جرسون
:
فورًا يا سيدي … واحد طاسة قهوة.
بارنت
(للرجل الذي دخل معه واسمه موريس)
:
إنها مصادفة غريبة.
موريس
:
ربَّ مصادفة خير من ميعاد.
بارنت
:
لو لم أمعن النظر في وجهك وأتطفل عليك بالسؤال ما تعرفت عليك؛ فقد تغيرتَ
كثيرًا!
موريس
:
وأنت تغيرت أيضًا … تصوَّر أننا لم نتقابل منذ أكثر من أربعين عامًا! على
أنني لو تغيرت فلي العذر، فقد قضيت أكثر من عشرين عامًا في الحانات
والفنادق، إنها حياة تبدِّل الشخص وتغير الأخلاق.
بارنت
:
وأنا أيضًا منذ عشرين سنة أعيش عيشة الحانات أصرف فيها ثلاثة أرباع
حياتي، بل في هذه الحانة خاصة.
موريس
:
ولكن أين أسرتك وأهلك؟ ألم تتزوج؟ إنني أتذكر أنني قرأت في جريدة يومًا
ما خبرَ زواجِك.
بارنت
:
نعم تزوجت وانفصلت عن امرأتي. وأنت ألم تتزوج؟
موريس
:
لم أتزوج، رأيت أبي مرة يضرب أمي بسوط؛ فتغيرت الدنيا في نظري من ذلك العهد،
وكأن الدهر تبسَّم لي ثم عبس، وبعد قليل ماتت أمي فتركتُ أبي وتخليت عن سائر
مشاغل الحياة، وأنا الآن أعيش بلا أسرة ولا عمل وأنفق مما تركه لي والداي …
وأنت؟
بارنت
:
إنني تزوجت وأسست أسرة وولدتْ امرأتي ولدًا …
موريس
:
جارسون هات واحد بيرة.
بارنت
(مستمرًّا في حديثه)
:
واكتشفت أن زوجتي خانتني مع أعز أصدقائي وقالت لي في وجهي إن الولد ليس
من صلبي! فطردتها من منزلي … ما أبعد يومنا هذا عن ماضينا البعيد الجميل!
أتذكر أيامنا في مدرسة لويز الرابع عشر في مونبليه؟
موريس
:
نسيت كل شيء حتى نفسي.
بارنت
:
إن المصائب كفيلة بأن تنسي الإنسان نفسه!
موريس
:
لقد اختارتك الأقدار فأنزلت بك كبرى المصائب … وماذا فعلت
بامرأتك؟
بارنت
:
اتقيت الفضائح فوكلت أمر النزاع القائم بيني وبينها إلى وكيل أعمالي،
وانفضَّ الخلاف على مرتب تتقاضاه كل سنة من مالي … لقد فرق بيننا الفساد ولكن
القانون يجمعنا فهي حتى الساعة امرأتي وأنا زوجها!
موريس
:
وماذا فعلت بحياتك؟
بارنت
:
عشت في بداية الأمر منفردًا.
موريس
:
عدتَ إلى حياة العزوبة؟
بارنت
:
لم أعرف شيئًا أشد ألمًا على نفس الرجل الذي تعوَّد العيشة المنزلية
الهادئة من عودته فجأة وبالرغم منه وبفعل امرأة خائنة، إلى حياة العزلة
والانفراد … تصوَّر انتقالك من مائدة بيتك إلى مائدة المطعم وخروجك من قيود
العائلة الجميلة إلى الحرية المطلقة المرذولة!
موريس
:
هو الخراب بعينه!
بارنت
:
الخراب كلمة تُقال وتسمع ولكنها لا تنقل إلى ذهن السامع معناها الحقيقي
إلَّا إذا ذاق مرارتها … لقد خربتني تلك المرأة بعد عِشْرة خمس سنين وشاركها في
ذلك صديقي الذي عاشرني منذ الصبا.
موريس
:
المرأة سبب كل شيء في الحياة.
بارنت
:
على أنني أقول لك شيئًا … إنني في المدة الأولى لم أشعر بآلام كثيرة؛
لأنني كنت كالمذبوح لا يشعر بالقتل إلا بعد أن يسيل دمه، ثم إن نظام
المعيشة يُنسي المصائب، ولكن بعد أن نظمتُ الفوضى الجديدة بدأت أفكر في الطفل
الذي ولدته امرأتي ونسبته في اللحظة الأخيرة لعاشقها، فكنت حينًا وأنا في
منزلي يُخيَّل لي أنني أسمع الصغير ينادي بابا، فكان قلبي يخفق وأنهض وأفتح
الباب وأنظر في السلم لعل الصغير يكون قد عاد متوهمًا إمكان عودته كما تعود
بعض الطيور كالحمام، وأقول في نفسي لماذا يكون الطفل أضعف غريزة من
الطيور؟
موريس
:
ما أصعب هذا على النفس! وما أصعب إدراك الحقيقة بعد هذا الوهم المؤلم! لقد
ذقت في حياتي مرارة هذه الأوهام.
بارنت
:
لقد ملك حب الطفل على نفسي، فكنت أفكر فيه ساعات بل أيامًا وأسابيع، وقد
مكنتني الوحدة والفراغ من تحليل حالتي النفسية، فإن شغفي بالصغير لم يكن
حبًّا قلبيًّا وحسب، بل كان حبًّا بدنيًّا أيضًا … كنت أشعر بحاجة شديدة
إلى تقبيله وضمه ومداعبته، وكنت إذا ذكرت تبادُلنا القبل الوالدية أشعر بحمى
وأكاد ألمس بقوة الخيال شفتيه الصغيرتين، وأحس بلمس شعره الناعم يلمس
خدي.
موريس
:
إن الحب واحد لا يتعدد.
بارنت
:
إن حب الوالد لولده أشد من حب الرجل للمرأة. أتعلم أنني وأنا أسير في
الطريق كنت أتخيل أنه يسير بجانبي كما كان فيما مضى، فأنظر فإذا يدي خالية
من كفه الصغيرة الناعمة، فتأخذني هزة البكاء فأنتحب وأشعر كأنني فقدت البصر،
وأعود أدراجي إلى منزلي حيث أبكي حتى الصباح!
موريس
:
إن حياتك بعد هذه الكارثة عشرين عامًا معجزة … لشد ما يحتمل الإنسان من
الهموم في حياته ولا يُقضَى عليه، وقد يكون هلاكه بأهون الأسباب!
بارنت
:
على أن سؤالًا واحدًا كان يعذبني ويمزق قلبي … هذا الطفل من صلبي أو من
صلب صديقي الخائن … لم يكن هذا السؤال الجهنمي يخطر ببالي إلا إذا جن
الظلام وأويت إلى غرفة النوم، وحينئذ كانت تلك المشكلة العظمى تتملكني،
فتنفِّر النوم من عيني فأنهض كالمجنون وأبقى أسير الأرق والحيرة حتى
الصباح.
موريس
:
كيف ترتاب في نسبة الولد لذلك الرجل بعد أن قالت لك امرأتك الخئون في
وجهك إنه من صلبه.
بارنت
:
ارتبت وحق لي أن أرتاب؛ لأن تصريح المرأة في مثل هذه الحال لا قيمة له،
فلعلها أرادت الانتقام مني على هذه الصورة الشنيعة، بل كثيرًا ما وصلت
بالتفكير والتأمل إلى الاعتقاد بأنها كانت كاذبة.
موريس
:
ذلك الرجل وحده دون سواه هو الذي يعرف الحقيقة ويستطيع أن يقفك
عليها.
بارنت
:
لقد خطر هذا الخاطر كثيرًا ببالي، وقد حاولت المرة بعد المرة أن أقنع نفسي
أن أقصده وأتوسل إليه وأمنحه كل ما يطلب إذا هو صدقني.
موريس
:
وما الذي دعاك للعدول عن هذا المسعى؟
بارنت
:
نفسي حدثتني بأن العاشق لا بدَّ يكذب كما كذبت معشوقته، ألم يتحالفا ضدي؟
ألا يخشى أن أسترد ولدي إذا قال لي إنه من صلبي، فإذا استرددته سقطتْ النفقة
التي تتقاضاها المرأة ويعيشان بها في رغد من العيش.
موريس
:
لعلك أخطأت بتسرعك. كان يجوز لك أن تخفي عواطفك وتصبر شهرًا أو شهرين
لتتأكد من نسب الولد. يكفيك أن تراقب صديقك والصغير في خلوتهما، فإن الرجل
إذا بقي منفردًا مع الطفل فقد ينتهز الفرصة ليقبله قبلة الوالد بشغف وحب
وقوة؛ لأن قبلة الوالد لا تخفى على أحد، أما إذا كان يهمله أو يقبله بلا
اكتراث فكنت تثق إذن بأنه من صلبك، وكنت تستطيع والحال هذه أن تطرد المرأة
وتحتفظ بالصغير.
بارنت
:
لقد أعوزني الصبر عندما علمت بالحقيقة المؤلمة من لسان الخادم، إن الجلد
الذي تقترحه عليَّ لا يأتي في وقت الشدة والهياج. على أنه قد خطر ببالي هذا
الخاطر بعد الحادثة وقضيت ليالي بطولها في محاولة تذكُّر أحوال الرجل مع
الطفل فلم أستطع تذكُّر شيء. كذلك المرأة لم تكن لها عناية بولدها وقد أقنعني
إهمالها إيَّاه بأن الولد من صلبي؛ لأنه لو كان من صلب عشيقها لكان تعلُّقها به
أشد وعنايتها بتربيته أعظم.
موريس
:
لقد تعلَّقتْ به في اللحظة الأخيرة ولم تغادر بيتك بدونه.
بارنت
:
قد يكون هذا من قبيل النكاية أو من قبيل النفع المادي؛ لأن الطفل سلاح في
يديهما وقد حارباني به وانتصرا.
موريس
:
ولكن ألم تحاول قط استرداد الطفل؟
بارنت
:
لقد حاولت ذلك وصحت عزيمتي يومًا على ذلك، ولكنني لمَّا صممت نهائيًّا عدت
فذكرت أن الخادم أخبرتني أن عشقها يرجع إلى بداية الزواج، وأن المرأة كانت
تعشقه عشقًا يكاد يكون جنونًا، والمرأة إذا عشقت وهبت نفسها لعاشقها بكل
قواها وأكثر ما يكون حمل المرأة من رجل تحبه. أما أنا فكان نصيبي منها في
أوقات خلوتنا نصيب الرجل المكروه الذي تُنِيله المرأةُ مأربَه منها وهي نافرة
متضرِّرة، ويندر أن تحمل المرأة من رجل تبغضه.
موريس
:
أهذا الذي دعاك للعدول عن استرداد الطفل؟
بارنت
:
أجل … قلت في نفسي إنني إذا استرددته فسوف أبقى دائمًا مرتابًا في أنه
ابن الآخر ولن أطيق إذن تقبيله أو ضمه إلى صدري أو مداعبته، بل لن أطيق
سماع صوته يناديني بابا، وكنت إذن أبقى طول حياتي معذَّبًا بهذا الشك المؤلم
المزعج! ففضلت الوحدة على عِشْرة هذا الطفل الذي سيجعل حياتي جحيمًا
دائمًا!
موريس
:
يا لك من ضحية! إن الإخلاص وحسن الظن بالناس والاستسلام للنساء يؤدي
بالإنسان إلى …
بارنت
(مكمِّلًا)
:
إلى جهنم … إن هذه الشكوك أطفأت نور قلبي وآذنت بحلول الظلام في نفسي
وروحي، فكنت أفر من ذاتي كمن يفر من عدوٍّ مخيف، وأخيرًا تجسَّم هذا الظلام
النفسي بحيث صرت أخاف الظلام الحقيقي، فإذا ما بدأ الشفق مؤذنًا بدنوِّ الليل
تدثرتْ نفسي وقلبي برداء من الرعب والرهبة، وتولَّدت فيهما للخوف أفاعٍ لاذعة،
وطغى الغمُّ عليَّ كأنه فيضان نهر حالك السواد، وامتدت إلى فؤادي براثن اليأس؛
فشعرت كأنني ميت بين الأحياء أو مجنون بين العقلاء، أتعلم مقدار هذه
الآلام؟ إن أفكاري أصبحت كالوحوش التي تطارد إنسانًا مطمئنًا فيفر أمامها
مهزومًا ثم لا يرى بدًّا من الاستسلام لها؛ فتنشب فيه أظفارها القاتلة وتنهش
لحمه حتى تقضي عليه.
موريس
:
لعل عيشة العزوبة بعد الزواج هي التي أحدثت بك هذا.
بارنت
:
عيشة العزوبة في المحل الثاني والمنزل الذي كنا نقطنه في المحل الأول …
المنزل ذلك المنزل الذي حلَّ به الخراب بعد العمران … ذلك المنزل الذي كنت
أعود إليه فرحًا مستبشرًا فأجده مُضاءً آهِلًا بمَن كنت أعتقد أنهم أخلص الناس
لي … حلَّت بي الكارثة فكنت أعود إليه فإذا هو في ظلام حالك مملوء بالأشباح
المخيفة، فكنت أتحاشاه وأتحاشى ما يحيط به من الطرق الضئيلة الأنوار وألتجئ
إلى الطرق الفسيحة المملوءة بالحركة والحياة والأضواء … هذا ما كنت أشعر به
في أيامي الأولى … وكنت إذ ذاك ألجأ للحانات الحافلة بالناس كما يتهافت
الفراش على السراج المضيء، فأنتحي ناحية وأطلب الكأس فأحسوها حسوًا بطيئًا
خوفًا من فراغها ومرور الوقت ودنوِّ ساعة الانصراف والوحدة … وكلما قام أحد
رواد الحانة فكأنه قطعة من نفسي تغادرني! وأكاد أتمسك به وأتشبث بثيابه
وأتوسل إليه أن يبقى معي؛ لأنني أترقب برعب شديد تلك الساعة التي يقول لي
فيها خادم الحانة آن لنا أن نغلق فتفضل يا سيدي بالانصراف.
موريس
:
أكنت تبقى إلى تلك الساعة؟
بارنت
:
نعم أبقى إلى الساعة التي ينصرف فيها آخر إنسان ويشرع الخدم في نقل
الكراسي والمناضد وتغيير معالم المكان، وكنت أرى متألمًا صاحب القهوة
وأمينة الصندوق يتناقشان الحساب، وطالما سمعت الخدم فيما بينهم يشيرون
إليَّ من طرف خفي، ويقول أحدهم لأخيه هاك ضيفًا لا يدري أين يبيت.
موريس
:
وقاحة الخدم في تلك الأماكن لا تُطاق، على أنهم لا يعرفون مصائبنا.
بارنت
:
فإذا ما خرجت إلى الطريق المظلمة الباردة في الساعات الأولى من الصباح
عاودتني وساوسي، وأخذت أفكر في الطفل وأسائل نفسي ذلك السؤال الأبدي الذي
تعوَّده ذهني ولساني، بحيث أفكر فيه بغير مجهود عقلي وأنطق به بدون أن أحرك
لساني «هل الطفل من صلبي أو من صلبه؟»
موريس
:
يا لنا من شِقَّين.
بارنت
:
إنني أشعر بأن الهمَّ يسلب حياتي شيئًا فشيئًا، تكاد الخمر التي أتجرعها عن
غير رغبة، والهواء الفاسد الذي أستنشقه اضطرارًا يقتلانني.
موريس
:
وأين تتناول طعامك؟
بارنت
:
هنا في هذا المكان أفطر صباحًا وأتغدَّى ظهرًا وأشرب الخمر عصرًا وأتعشى
ليلًا، وإنني أحمد الساعتين التاليتين للغداء، فإنني بفضل كأسين أتمكن من
النوم، وناهيك بنوم النهار بعد الغداء في مكان عام مطروق، فإن عيني تغمض
جالسًا كأنني حارس أختلس النعاس، ولا يتحاشى الخدم إزعاجي أكثر من عشرين
مرة، وفي الساعة الرابعة يقدم لي أحدهم الجرائد التي قرأتها صباحًا فأعيد
تلاوتها عصرًا من أول سطر في الصحيفة الأولى إلى آخر سطر في الصحيفة
السادسة أو الثامنة.
موريس
:
كان يحسن بك أن تغيِّر نظام حياتك نوعًا.
بارنت
:
هذا ما حاولت، فقد تركت الدار تنعي مَن بناها، ولجأتُ إلى غرفة في فندق
واخترت أقرب الطبقات إلى الطريق لأتمكن من سماع صوت الحركة والحياة فأطمئن
وأشعر بالإيناس بقربي من الناس … ما أشد حسد الإنسان في شقوته للناس الذين
يظنهم سعداء! … فإنني كلما مررت بغرف جيراني من قاطني الفندق ورأيت أحذيتهم
بالأبواب أو سمعت أصواتهم وهم يتحادثون أو لمحت وجوههم لدى دخولهم أو
خروجهم تخيَّلت أنهم سعداء وأنهم ينامون الليل الطويل ملْء جفونهم … ذلك الليل
الذي تنتهزه الهموم لإشهار الحرب على الأشقياء أمثالي.
موريس
:
أتردد في سؤالك سؤالًا مؤلمًا … ألم ترَ طوال هذه العشرين سنة تلك التي
نكبتك، أو ذلك الوغد الذي خان صداقتك، أو الصغير الذي حرمتك ذكراه، لذيذَ
الرقاد؟
بارنت
:
نعم … منذ خمس عشرة سنة تقريبًا أي بعد الفاجعة بخمس سنين، كنت أسير غارقًا
في بحار الهم والضجر ما بين كنيسة مادلين وشارع دورات، فإذا بي بامرأة لفتت
نظري بمشيتها مستندة إلى رجل طويل القامة وبجانبها طفل نام، وكانوا يسيرون
أمامي فقلت في نفسي أين رأيت هؤلاء الثلاثة؟ وأدركتهم لأتحقق منهم، وفي
لمحة عين تعرفت على المرأة من إشارةٍ حرَّكت بها يدها، فقلت ها هي تسير إلى
جانب معشوقها ومعهما الطفل، ثم خفق قلبي وكدت أقع مغشيًّا عليَّ، ولكنني لم
أقف بل أردت أن أنظر إليهم وجهًا لوجه، فتبعتهم وكان مَن يراهم يتوهَّم أنهم
أفراد أسرة شريفة آمنة وتلك الفاجرة ماسكة بذراع صاحبها تحادثه بحب وحنان،
وتنظر إليه من حين لآخر فألمح تقاطيع وجهها وحركات شفتيها وابتسامتها
وعطفها على معشوقها لدى نظرها إليه.
موريس
:
يا له من عذاب أليم! … والطفل؟
بارنت
:
الطفل هو الذي لفت نظري، وشغلني أكثر منهما كليهما … رأيته وقد نما وظهرت
عليه قوة الفتوة فاعترتني دهشة، أصار الطفل الصغير فتًى طويل القامة يسير
بجانب أمه كأنه رجل صغير … وقد وقفوا أمام حانوت يتبينون بضاعةً
معروضة.
موريس
:
هل تغيَّروا كثيرًا؟
بارنت
:
الرجل شابَ وضعف وانحنى، والمرأة استعادت شبابها وزاد سمنها، أما الولد
فلم أكن لأعرفه لو لم أره في صحبتهم، فقد تغيَّر تغيُّرًا تامًّا.
موريس
:
هل حادثتهم أو رأوك؟
بارنت
:
كلا كلا، ولكنني لما دنوت من الطفل شعرت بقوة عظيمة تدفعني إلى خطفه
والفرار به … أجل الفرار به، فدنوت منه كثيرًا وتعمدت لمسه كمن يلمس شخصًا
خطأ، فما شعر الولد بجسم أجنبي يلمسه حتى التفت ونظر إليَّ نافرًا غاضبًا،
فلم أتمالك أن فررت من وجهه وكأن نظرة الصغير طعنة خنجر جرحت قلبي، فأخذت
أعدو كأنني لص يقتفي أثري شرطٌّ أو صاحب المال المسلوب، وقد أصابني خوف شديد
لئلا تكون المرأة أو الرجل رأياني وتعرفا عليَّ، وما زلت أعدو إلى أن بلغت هذه
الحانة، فجلست وأنا ألهث من شدة التعب، وفي تلك الليلة شربت ثلاث كئوس من
الأبسنت.
موريس
:
عجبًا … أنت تفر منهم؟ يفر الأمين من الخائن ويهرب الموتور من الجاني …
كم في الحياة من المضحكات المبكيات؟
بارنت
:
لقد بقي هذا الأثر المؤلم المزعج عقيب هذا اللقاء في نفسي أربعة شهور،
وكنت في كل ليلة من هذه الشهور الأربعة أتخيلهم الثلاثة سعداء هانئي البال
… الوالد والوالدة والولد ينفقون عن سعة من مال الرجل الذي خانوه وخدعوه،
ويعيشون آمنين في ظل القانون الذي طالما يُوقِع العقاب بالأبرياء … لقد محت
هذه الصورة ما سبقها وذهبت كلُّ الشكوك القديمة المؤلمة، واستقر اليقين المر
القاتل، فغاب عن ذهني الطفل الصغير الذي كنت مجنونًا بحبه وحلَّ محلَّه في
ذاكرتي صبيٌّ نابتٌ نباتًا حسنًا كأنه أخوه الأكبر، وتأكدت أن حبي في قلب
الصغير قد انطفأت شعلته وانقطعت كلُّ علاقة كانت تربطه بي، ولو أنه رآني
وقالوا له هذا والدك إذن ما سعى إليَّ ولا مدَّ ذراعيه الصغيرين ولا فمه
الذهبي، بل نفر مني وأنكرني … ألم يطعني بنظرة أحدَّ من طعنة الخنجر؟
المشهد الثاني
(يدخل عجوز يبيع الزيتون – بارنت – موريس)
بارنت
:
هاك الشاعر أوليفيه … عم مساءً يا هوميروس هذا الزمان!
العجوز
:
الزيتون الجميل … أتريد بنصف فرنك؟
زبون
:
أريد بصاديين على شرط أن تنشدني آخر قصيدة من شعرك.
العجوز
:
لا أنشد الشعر بأقل من نصف فرنك.
موريس
:
أتعرف هذا العجوز؟
بارنت
:
أراه من عشرين سنة … إنه من أعظم شعرائنا وقد نشر أكثر من عشرة دواوين من
الشعر.
موريس
:
ولماذا يبيع الزيتون؟
بارنت
:
هذا مصدر رزقه الوحيد ولا أدري سرَّه، لعله مصاب مثلنا … موسيو
أوليفيه.
أوليفيه
:
الزيتون الجميل، أتريد بنصف فرنك؟
بارنت
:
نعم وأنشدني شعرًا (أوليفيه يعطي الزيتون وينشد
الشعر الآتي).١
أوليفيه
(يتحرك)
:
الزيتون الجميل.
موريس
:
بعني أنا أيضًا.
أوليفيه
:
أتريد بنصف فرنك؟
موريس
:
وقصيدة (أوليفيه يعطي الزيتون وينشد.٢ تدخل عجوز تبيع أزهارًا).
زبون
:
أهلًا بالأم جوليا هل نبتت أزهار الربيع؟
العجوز
:
أزهار الربيع لا تنبت في الخريف إنما أبيع الزنبق والأقحوان.
بارنت
:
وهذه المسكينة جوليا إنها لا تعرفني.
موريس
:
مَن تكون تلك المسكينة؟
بارنت
:
خادمتي ومربيتي ومسببة مصائبي!
موريس
:
كيف لم تعرفك؟
بارنت
:
أنها تتردد على هذه القهوة منذ خمس سنين، وقد ضعف بصرها واضمحلت قواها؛
لأنها تزيد عن الستين، ولست أدري ماذا فعل الدهر بها بعد أن غادرت
منزلي.
موريس
:
بأي عاطفة تشعر نحوها؟
بارنت
:
ببغض شديد يمازجه عرفان بالجميل … إنها سببت خراب بيتي ولكنها أنارت
بصيرتي.
موريس
:
أتحب تلك التي سببت لك هذا الشقاء؟
بارنت
:
إنها لم تسبب شقائي، إن التي سببت شقائي هي تلك التي كانت امرأتي، ولكن
هذه فتحت عيني. كيف كانت تكون حالي لو بقيت هذه العشرين عامًا محجوب النظر
بغشاوة الخيانة والخديعة؟ أتحب أنني كنت أحمل عار الزوج المخدوع طول عمري
وأربِّي في حجري ولدًا ليس من صلبي؟
موريس
:
أصبت.
بارنت
:
إنني أحسن إليها ولا أكشف لها عن حقيقة أمري لقد تغيَّرنا كلانا! وأنا أشد
الاثنين تغييرًا.
موريس
:
أناديها … أيتها الأم جوليا.
جوليا
:
أزهار الخريف … الزنبق والأقحوان.
بارنت
:
عليَّ بزنبق وخذي هذا (يعطيها بارنت نقودًا
صامتًا).
جوليا
:
بارك الله فيك يا سيدي … أزهار الخريف الزنبق والأقحوان … (يُفتَح باب القهوة).
بائع جرائد
:
جرائد المساء … لاباتري … لي سيكل … لي طان … لي ديبا … لاباتري
زبون
:
لاباتري.
آخر
:
لي ديبا.
آخر
:
لي طان (يوزع ويخرج).
موريس
:
إن هذه الحياة مؤلمة على النفس. ألا تود يومًا أن تخرج إلى ضواحي باريس؟
إن تغيير المناظر وتبديل الهواء يفيدك.
بارنت
:
إنني أشعر منذ عهد قريب بضعف شديد، وقد نصحوني أخيرًا بالانصراف يومًا إلى
الخلاء.
موريس
:
جارسون … علينا بجدول بمواعيد القطارات لضواحي باريس.
جارسون
:
فورًا يا سيدي (يعود به).
بارنت
:
أي مكان تختار لي؟
موريس
:
غدًا الأحد نذهب معًا إلى سان جرمان.
بارنت
:
أعرفها فقد قصدتها حين خطبتي مع تلك الخائنة.
موريس
:
عد إليها فلا بأس بها، نركب قطار الساعة العاشرة فنصل قبيل الظهر.
بارنت
:
في وقت الغداء.
موريس
:
إذن إلى غد الساعة العاشرة إلا ربعًا بمحطة سان لازار.
بارنت
:
إلى الغد (تُسمَع أصوات … لابارتري … إكسلسيور).
(ستار)