الفصل الأول
(المكان: قصر نيرون برومه، الزمان: في أول عهده ويوم حفلة تأبين الإمبراطور
كلوديوس.)
المشهد الأول
(سنيكا – بوروس)
سنيكا
:
يذهب تعب الإنسان عبثًا إنْ هو حاول الوقوف على ما تخفيه الأقدار.
بوروس
:
على أن الناس ما فتئوا يبذلون معظم الجهد في هذا السبيل.
سنيكا
:
أما أنيوس سنيكا …
بوروس
:
الحكيم الجليل؟
سنيكا
:
بل المنفي المضطهد المغضوب عليه من الإمبراطور كلوديوس … أنا أعود إلى
روما …
بوروس
:
معززًا مكرمًا.
سنيكا
:
وأعين قاضيًا ومهذبًا لنيرون ولي عهده بالأمس وخليفته اليوم.
بوروس
:
ووزيرًا نافذ الرأي مسموع الكلمة.
سنيكا
:
وأحضر حفلة تأبين الإمبراطور كلوديوس الذي غضب عليَّ لحكمتي ورضي عني
إكرامًا لامرأته أجربين.
بوروس
:
وفي قصره الذي صار قصر خلفه.
سنيكا
:
وأنت أيها القائد الهمام، خدمت رومه فغضبوا عليك.
بوروس
:
ونفيت مثلك.
سنيكا
:
ولكنهم عادوا إلى الحق في شأنك؛ فأعادوك وعرفوا قدرك وعينوك قائدًا للحرس
الإمبراطوري.
بوروس
:
وأسعدت الأرباب طالعي فصرت رفيقك في تهذيب الإمبراطور الناشئ.
سنيكا
:
لو أن منجِّمًا تنبأ لي منذ سبع سنين بما وقع لي ما صدقته.
بوروس
:
ولا أنا … ولكن ها نحن نرى بأعيننا ونلمس بأناملنا أحلامًا لم تكن لتخطر
لنا ببال.
سنيكا
:
وقد تحقَّقت.
بوروس
:
أصبت! فإن الأمل قِوام الحياة.
سنيكا
:
ولكن اعلم يا صديقي بوروس أن أجربين التي سعت في تعييننا في منصِبَيْنا لم
تُحسِن إلينا.
بوروس
:
كيف يكون ذلك وأنا أَعدُّ الأميرة أجربين وليةَ نعمتِنا وربَّة الفضل وذات الكرم
علينا؟!
سنيكا
:
إن مهمتنا بالأمس لم تكن شيئًا مذكورًا بجانب المهمة التي وُكِلت إلينا
اليوم، فعرفاننا بجميلها فات أوانه.
بوروس
:
ماذا تعني؟
سنيكا
:
كنا بالأمس أستاذين لفتًى يافع، نلقِّنه مبادئ العلم والأدب، أما اليوم فنحن
وزيران مسئولان، بيدنا قلب نيرون وعقله، وعليهما المُعوَّل في مستقبل
الإمبراطورية الرومانية بأسْرِها.
بوروس
:
ألا يكون الفضل لنا في إنبات الأمير نيرون نباتًا حسنًا؟
سنيكا
:
أجل … ولكن لهذا الفضل آفة، وهي أن كل خير يريده الأمير برومه والرومان
سوف يُنسَب إلى جلالته لأنه الإمبراطور، وكل شرٍّ يُراد بها وبهم سوف يُلصَق بنا
لأننا معلِّماه ومرشداه، وهذا نصيب المعلم والمرشد في هذه الحياة!
بوروس
:
أتحسده أيها الحكيم على نصيبه من ثناء الأمَّة، وقد قضينا أكثر من سبع سنين
في تحسين العدل لنفسه حتى ينال رضا الشعب؟
سنيكا
:
حاشا لمنرفا أن يكون محبُّ الحكمة حسودًا … إنما أخشى أن يكون نصيبنا من ذمِّ
الناس إيانا أعظم من نصيب نيرون من ثنائهم عليه، وقد يؤدي به هذا لانقلابه
علينا.
بوروس
:
وما الذي حداك إلى هذا الظن؟
سنيكا
:
إن مَن وقف على ماضي هذا الأمير وحاضره وقوفنا عليهما، يخشى عليه في
المستقبل ركوب مَتْن الشطط، فقد نبت نيرون منبتًا سيِّئًا؛ لأن أباه دوميتيوس
أنيوباربوس مات وخلَّفه في الثالثة من عمره، ولما نُفِيت أمه بأمر عمِّها الجبار
تيبريوس كفلته عمته ليبديا ووكلت تربيته إلى اثنين من أرِقَّائها العبيد؛ وهما
حلَّاق ورقَّاص، فالرقاص علَّمه الرقص والحلَّاق (بصوت
منخفض) أفسد خُلقه.
بوروس
:
أظن أننا محونا بالحكمة والشجاعة ما اكتسبه الأمير من الحلَّاق
والرقَّاص.
سنيكا
:
لا أظن أن عملنا كان مقرونًا بالنجاح، فقد مضى علينا نحو ست سنين في
تهذيبه، قد وَكَلَ إلينا الإمبراطور كلوديوس بإيعاز أجربين أمْرَ تربيته عقيب
تبنِّيه، ولا أرى تغييرًا كثيرًا في طبعه … وهيهات أن يُصلِح العطَّار ما أفسده
الدهر.
بوروس
:
لا تنسَ يا رفيقي أن نيرون ذكيٌّ بالفطرة، وقد تخرج علينا في العلوم المدنية
والحربية، دعْ عنك كرَمَ أصلِه وعلوَّ حسبه وشرف نسبه، أليس أبوه أنيوباربوس من
أسرة دومنيوس العريقة في المجد، وأمه أجربين ابنة جرمانيكوس قاهر
البرابرة؟
سنيكا
:
دع عنك ما يهواك في فخامة الأسماء والألقاب، وأمْعِن النظر رويدًا في حقائق
الأخلاق، أتعرف من هو أبوه أنيوباريوس؟
بوروس
:
سليل أسرة دوميتيا.
سنيكا
:
لقد كانت حياته صفحة سوداء، فقد قَتَلَ في الشرق نديمًا؛ لأنه لم يُثابِر معه
على الشراب، وتعمَّد قتْلَ طفلٍ تحت سنابك خيْلِه في طريق أبين، وفقأ عين فارس
روماني كان يجادله في ساحة عامة، وكان يسرق أرزاق أمناء الخزينة وهم تحت
إمْرَتِه، ويحرم الفائزَ من المصارعين جائزتَه لينفقها في لهْوِه، واتُّهم في آخر
عهد ثيبريوس بالاعتداء على عفة شقيقته ليبيديا ولم ينجه من العقاب إلَّا موت
الإمبراطور، وقد أنقذتنا الأرباب من شرِّه مذ قضى بِداءِ الاستسقاء.
بوروس
:
عجبًا عجبًا!
سنيكا
:
واعلم أيها القائد أن العِرق دسَّاس، وأن الأبناء يرثون عن الآباء محاسنهم
ومساوئهم، وقد يرث الأشراف والأمراء المساوئ دون المحاسن.
بوروس
:
ما قولك في أجربين وهي ليست كغيرها من النساء يكتنفها الشرف من كل جانب،
فهي ابنة إمبراطور وزوجة إمبراطور وأخت إمبراطور وأم إمبراطور؟
سنيكا
:
أجربين على جانب عظيم من الجمال وكَيْدها أعظم من جمالها، وغير خافٍ عليك أن
النساء يستولين على أشرف ما في نفوس الرجال بإرضاء أسفل ما في أجسامهم،
وأجربين امرأة ترى أن الغاية تزكِّي الواسطة وتبرِّرها، وتعتقد أن كل شيء مباح
في سبيل المجد والسلطة، فلا دخل لشرف أصلِها في فساد خُلقها، هاك نسب صاحبك
من الجانبين.
المشهد الثاني
بوروس
:
مَن القادم علينا؟ لعمري إنها سحنة طارئة لم أرَها قبل اليوم.
سنيكا
:
بلى! رأيتها ولكن نادرًا … هذا لوسيوس بيلاتوس أحد شعراء البلاط،
الإمبراطور كلوديوس قرَّبه واتخذه نديمًا وجاسوسًا على زوجته أجربين ومُعتِقه
بالاس حاميها وأحد عشَّاقها؛ فوَجَدا عليه وحقدا عليه ولم يجدا وسيلة لقتله أو
نفيه، ففازا بإقصائه عن القصر فهو يبغضهما بغضًا دونه كل شيء.
بوروس
:
وما الذي أتى به في هذا النهار؟
سنيكا
:
رأيته مذ تُوفِّي كلوديوس يحوم حول القصر، وقد لقيه نيرون مرة فأُعجِب به
واتخذه بلا علم أمِّه جاسوسًا على بعض العظماء. إن لتلميذك نظرة خارقة في
الرجال وسترى من سعة علمه وبعد نظره وحرية فكره ما يدهشك.
بوروس
:
إذن فلنحذر هذا الجاسوس.
سنيكا
:
لا خوف علينا منه، فقد قلَّمت أظفاره بالإحسان إليه، فإنني وجدته هائمًا
على وجهه، مفقود الأمل، لا ناصر له ولا معين ولا مال عنده يقيه ذلَّة الفاقة،
فسعيت لدى الإمبراطور في خيره فلم يخِب رجائي.
بوروس
:
طالما سمعتك تنصح باتقاء شر من تحسن إليه، على أنه قد آن لي الانصراف إلى
ثكنات جنود الحرس البريتوري؛ لأن رِكابَهم يُوشِك أن يتحرك لحضور الحفلة، فسلامي
عليك (يخرج بوروس من باب
مقابل).
سنيكا
:
لك التحية (ثم يوجِّه حديثه إلى لوسيوس الذي
يدنو) أهلًا بشاعرنا المُفلِق!
لوسيوس
:
السلام على الحكيم سنيكا.
سنيكا
:
لقد بكَّرت.
لوسيوس
:
رثاء سيدي وإمبراطوري جادت به قريحة أستاذي وقدوتي يلقيه مولانا الجديد،
وقد التفَّت عليه محافل الدولة … تلك أمور جديرة بالبُكور.
سنيكا
:
كلام جميل بليغ لولا نسبتك تحرير الرثاء إليَّ.
لوسيوس
:
إن رومه بأسرها تعلم أن نيرون لا يخطُّ حرفًا ولا يفوه بكلمة لم تصقُلْها
براعتك الغالية.
سنيكا
:
إن رومه لا تعرف مواهب سموه معرفتي إياها … لعلك نسيت أنك ستلتقي اليوم
بمولاتنا الإمبراطورة أجربين.
لوسيوس
:
سحقًا لها! واأسفي على أن مولاتي مسلينا ضَرَّتها لم تكن ذات وفاء!
سنيكا
:
هب أنها كانت وفية.
لوسيوس
:
إذن لعاشت وعاش الإمبراطور كلوديوس؛ لأنه كان رجلًا لا يطيق العزوبة وكان
مستسلمًا لشهواته، وقد أدَّى به ذلك إلى تمليك قياد نفسه لشريكة فرشه، فلما
ملكته أجربين فعلت به وبنا ما فعلت.
سنيكا
:
طالما اشتقت لسماع حديث زواج الإمبراطور كلوديوس بالأميرة أجربين؛ لأنني
كنت إذ ذاك منفيًّا عن وطني.
لوسيوس
:
لما رغب الإمبراطور في الزواج انقسمت الحاشية، وطمعت شريفات رومه وبعض
محظيات الإمبراطور في الجلوس على العرش؛ فتبارَيْنَ واتخذن حماة ووسطاء، وفي
نهاية الأمر فازت أجربين لجمالها وشبابها ومجد نسبها وقرابتها من
الإمبراطور وحذْقِ مرشحها بالاس معتوق الإمبراطور وصفيه.
سنيكا
:
أرى في كل وادٍ أثرًا من هؤلاء الأرقَّاء والمُعتَقين.
لوسيوس
:
إن هؤلاء الأرِقَّاء والمعتَقين عبيد في الظاهر وسادة سادتهم في الحقيقة. فهُم
يحكمون البلاط القيصري والبلاط يحكم رومه. إن دسائس الحاشية الإمبراطورية
سلسلةٌ يسبك حلقاتِها الأرقَّاء المعتَقون، ونظام الحكومة خِرْقة يحيكون أطرافها
كما تشاء المطامع، وتزيِّن الأحقاد، وها هم يتحزَّبون في القصر فيفرِّقون الحاشية
وتصل مفاسدهم إلى السناتو فينشق هذا المجلس الجليل وتسود فيه الرغبات
السافلة؛ فينصرف عن مصلحة الدولة ويقصر همه على الانتقام من بعض الفُراد، ويرى
الشيوخُ سيوفَ النقمة معلَّقة على أعناقهم فيتفنَّنون في ضروب التمليق والتزلُّف،
ويصرف كلٌّ منهم عنايته إلى حفظ حياته أو الحصول على مال خَصْمه … وهكذا تظهر
الرشوة وينتشر الفساد وتُهضَم حقوق الشعب الروماني … وهكذا يدب دبيب الأدواء
إلى جسم روما الخالدة فتمرض ثم تضعف ثم تموت.
سنيكا
:
إنك صادق الرأي بعيد النظر … كنت تذكر رابطة القرابة بين أجربين وبين
الإمبراطور كلوديوس.
لوسيوس
:
تقصد أن زواج العم ببنت أخيه كان محرَّمًا في شرائعنا؟
سنيكا
:
كيف مهَّدوا السبيل لهذا القِران … هذا سرُّ سؤالي.
لوسيوس
:
لجأت أجربين لأحد أعضاء مجلس الشيوخ فيتليوس، وهو رجل شريف بمنصبه دنيء
بطبعه، فخطب في المجلس يلتمس عذرًا، وكان الإمبراطور ذاته يخشى سخط المجلس
لِما في هذا القِران من خَرْق حرمة شرائع الرومان، فلم يلبث خطيب السوء أن يفرغ
من خطبته حتى نهضوا جميعًا، وقالوا إذا تردد الإمبراطور في إتمام هذا القران
السعيد فإننا نرغمه عليه ونحمل بأيدينا تلك العروس النبيلة إلى فرش
مولانا.
سنيكا
:
هذا من حسن السياسة.
لوسيوس
:
إن هذا المجلس وصمة في جبين رومه.
سنيكا
:
ولكن أي شيء عاد على الوطن من هذا القِران حتى تحقد على محبذيه إلى هذا
الحد؟
لوسيوس
:
إن بغضي لتلك التي حاولت القضاء عليَّ يخرجني عن جادَّة الاعتدال.
سنيكا
:
ولكن بغضك لا ينسيك واجب الاعتراف بذكائها وقدرتها وقوة إرادتها.
لوسيوس
:
لقد شهدتُ جميع آثارها، وقد كان في كل وادٍ أثرٌ من أجربين.
سنيكا
:
كيف ذلك؟
لوسيوس
:
لما استتب لها الأمر قاسمت زوجها حكم رومه، وهي التي سنَّت سنة انعقاد مجلس
الشيوخ في القصر لتستطيع تنفيذ إرادتها في أعضائه.
سنيكا
:
وأي شأن للمجلس في سياسة أجربين وقد كانت سيدة الإمبراطور ومالكة
قياده؟
لوسيوس
:
إنها صرفت همَّها نحو توطيد قدم ولدها نيرون؛ فاختطَّت لذلك خطة ذات ثلاث شعب،
وكلها لا تتمُّ إلا بموافقة مجلس الشيوخ.
سنيكا
:
أدركتُ. وما كانت تلك الشعب الثلاث إذن أيها الداهية؟
لوسيوس
:
الأولى تزويج ولَدِها نيرون من أوكتافيا ابنة الإمبراطور، والثانية إرغام
كلوديوس على تبنِّي نيرون وجعله ولي العهد وإقصاء برنيانيكوس ولده من
ماسلينا، وقد لجأتْ في الوصول إلى هاتين الغايتين إلى خليلها ومحاميها
بالاس.
سنيكا
:
والشعبة الثالثة؟
لوسيوس
:
أرادت بعد ذلك إثبات رشد ولدِها نيرون قبل برنيانيكوس ابن كلوديوس من
ضَرَّتها مسلينا. فأمرت مجلس الشيوخ بتنفيذ غايتها فمنح نيرون ثوب الرجولة
وعيَّنه لساعته قنصلًا مُنتخَبًا وولَّاه ما وراء العاصمة ولقَّبه أمير
الشباب.
سنيكا
:
لعل في ارتقاء الأمير نيرون إلى عرش رومه خيرًا للشعب.
لوسيوس
:
لو كان الأمر كذلك ما أظهرت الآلهة غيظها.
سنيكا
:
أظهرت الآلهة غيظها؟!
لوسيوس
:
لمَّا تمَّ لأجربين ما كانت تتمنَّى أطلقت الأرباب سخطَها علينا؛ فحلَّقت طيور
الشؤم في سماء رومه ونعق البوم في حظائر الكابيتول وزلزلت الأرض زلزالها في
الجزيرة كلها، وتهدَّمت قصور حديثة العهد بالبناء، وعلا ضجيج الشعب من الغلاء
وشحِّ الأرزاق، ولم يقف غضب الشعب عند الشكوى، فإنهم تجمَّعوا في الفورم وهجموا
على مجلس الإمبراطور وهو يقضي بين الناس، ثم اعتدوا عليه بالسبِّ
والأذى.
سنيكا
:
سمعت بهذه الفظائع في المنفى مرتين ولم أكن أعلم سببها.
لوسيوس
:
حقًّا، إنه بعد عام عادت السماء فأنذرت رومه بالدمار، فانقضَّت الصواعق على
خيام الجند وأحرقتها، وهبَّت الرياح على الأعلام فاقتلعتها ومزَّقتها، وعشش النحل
في الكابيتول، وأُجهِضت الحبالى فسُمِّي عام الأجنَّة، ومَن لم تُجهَض وضعت مخلوقًا
مشوَّهًا، وولدت الخنانيص بأظفار كأنها صقور، وظهر طاعون القضاء فأهلك جماعات
منهم بجملتها، وتنبَّأ الكهنة بأن هذه الخوارق تدل على فاجعة تقع بالملك وتهزُّ
أركان الدولة.
سنيكا
:
عجبًا إن الشعراء كالنساء يؤمنون بالخرافات!
لوسيوس
:
إن أجربين ذاتها وهي على ما هي عليه من الاعتماد على النفس وقوة الإرادة
وبعد النظر تصدِّق بما تسميه خرافات.
سنيكا
:
هذا مستحيل … إن امرأة مثلها لا يُعقَل أن تؤمن بالخرافات.
لوسيوس
:
سمعت كلوديوس يقول وهو معقود اللسان بفعل الخمر لقد قُسِم لي أن أحتمل
خيانة زوجاتي زمنًا ثم أُنزِل بهن سخطي، فنزلت هذه الكلمة على نفس أجربين
نزول الصاعقة، وتأكَّدتْ أن كلوديوس قد كشف أمرها ووقف على علاقتها ببالاس
وغيره، وخشيت نقمته لعلمه بما وقع لضَرَّتها مسلينا على يديه، فأقسمت أن لا
تذهب فريسة خيانتها كما ذهبت سابقتها، فأصرَّت إذ ذاك على المبادرة.
سنيكا
:
المبادرة بماذا؟
لوسيوس
:
صحَّ عزمُها على القضاء عليه قبل أن يقضي عليها، ولم يقف بها عن الإسراع في
هلاكه إلا اختيار نوع السم، ولكن حيرة هذه الجانية الشيطانية لم تطُل؛ فإنها
اهتدت إلى مزيج من سموم حديثة الاكتشاف، تقتل العقل وتترك الجسم بين رجاء
الحياة ويأس الفناء، فباعت لنرسيس أحد المُعتَقين وصالها ثمنًا للسم الذي تقتل
به حليلها، فأحضر لها لوكاستا الساحرة ووكلا إليها إعداد الجريمة القاضية،
واستغوت هالتس أمين الإمبراطور على مائدته وذائق طعامه، فقدم الجرعة
لمولاه.
سنيكا
:
لم أعلم أنه مات بالسم.
لوسيوس
:
حقًّا فإنه لم يظهر للسم أثرٌ في بدنه الضخم، فاستدعت أجربين زينوفون طبيب
الإمبراطور وأمرته أن يشير عليه بما يمكنه من قتله، فأشار عليه بالقيء،
فسلَّمه حَلْقه فمسَّه الطبيب الأمين بريشة مسمومة فمات الإمبراطور كلوديوس، ولكن
أجربين لم تعلن وفاته قبل أن فرغت من إعداد العدة لجلوس ولدها على العرش،
فصارت تأمر الأطباء بعلاج الجثة الخامدة وتبعث إلى مجلس الشيوخ بالرسالة
تلو الرسالة عن تقدُّم صحة الإمبراطور المُتوفَّى، وفي اليوم الثالث فتحت أبواب
القصر وخرج موكب الإمبراطور الجديد، وبعد ساعة من مبايعته خرجت جنازة
الإمبراطور المُتوفَّى، وسارت أجربين بجوار نعش قتيلها باكية مُنتحِبة.
سنيكا
:
إنك تنسب إلى أجربين كل سوء.
لوسيوس
:
إن المقام لا يسمح وإلَّا فإني ذاكر لك عن نيرون …
سنيكا
(مقاطعًا)
:
اغتب من شئت من الناس عدا الإمبراطور.
لوسيوس
:
تخشى أن أخونك؟ أوصَلَ سوء ظنك بي إلى هذا الحد؟ أنت سيدي وولي نعمتي، لقد
أحييتني بعد الموت وبعثتني من قبر الوحدة والفراغ والفقر، وأرجعتني رغم
أعدائي وبينهم الإمبراطورة أجربين ذاتها إلى حظيرة القصر
الإمبراطوري.
سنيكا
:
حاشا أن يسوء بك ظني ولكن …
لوسيوس
:
اعلم يا أستاذ أنني مهما أخلص لنيرون فإخلاصي لك أشد، واعلم أن عدوي
أجربين وبالاس هما عدوَّاك منذ ملكت زمام الإمبراطور الجديد.
سنيكا
:
لا أريد أن أضع على فمك كمامة … فقل ما أنت قائل.
لوسيوس
:
لا أريد أن يخفى عليك في أخلاق الإمبراطور ما يعلمه الناس قاطبة لا سيما
وأنني أعلم أن أجربين وبالاس لا يخشيان أحدًا سواك، وقد تشاورا فيما بينهما
في أمرك ولا يبعد أن ينقاد لهما نيرون لشبابه وضعفه.
سنيكا
:
أعلم قدرًا يكفيني شرَّه … ولا بأس من زيادة العلم.
لوسيوس
:
أتعلم أنه شريك أمِّه في مقتل كلوديوس؟ أتعلم أنه انتهز فرصة ضعف
بريتانيكوس ابن كلوديوس من ماسيلنا وأخوه بالتبني فأفسد خلقه؟ أتعلم أنه
شرع يوغر صدر كلوديوس على ولده حتى أدخل في نفسه أن بريتانيكوس ليس ولدًا
شرعيًّا إنما هو ثمرة عشق مسلينا لغير زوجها، فلم ير كلوديوس بدًّا من حرمان
ولده من المعزَّة الوالدية والتاج معًا؟ أتعلم أن نيرون شهد زورًا على عمَّته
لبيديا، وهي التي كفلته صغيرًا ويتيمًا في دعوى أمِّه عليها، وكان لشهادته أقوى
أثر في الحكم بنفيها ومصادرة أموالها.
سنيكا
:
يا لك من مغتاب! أتأكل لحم أميرك ومولاك؟
لوسيوس
:
إذا كان ذكر الحقائق غيبة، فما قولك في أخلاق المؤرخين؟
سنيكا
:
كيف تعدد مساوئ الأمير ولا تذكر محاسنه؟ ألم يجزل العطاء للشعب لدى وقوفه
للمرة الأولى خطيبًا في مجلس السناتو؟ ألم يدافع بين يدي الإمبراطور عن
مصالح أهل بولونيا ورودس وطروادة وكان لدفاعه أحسن وقع؟ ألم يظهر حذْقًا
نادرًا في القضاء بين الناس، وقد حلَّ بأحكامه أعوص المشاكل، وفضلًا عن هذا
فهو خطيب فصيح وكاتب بليغ وشاعر لا يُشَق له غبارًا!
لوسيوس
:
إن رومه تعلم أن براعة الأستاذ أثيوس سنيكا هي التي تجري بالجواهر
الغوالي في شعر الأمير ونثره.
سنيكا
:
هذا غير صحيح.
لوسيوس
:
ليكن صحيحًا أو غير صحيح فأي غضاضة في هذا؟ يكفي الملوك أن يكونوا
ملوكًا اسمًا ومظهرًا … إن لديهم بفضل قوتهم وثروتهم ألسنة ناطقة لأفصح
القول وأبلغ الحكم، ولهم من آراء وزرائهم أصوب الآراء وأدق الأحكام، وفي
براعة قوادهم أوفق الخطط وأعظم الانتصارات، بل إن أعمال أمم بأسرها قد تُنسَب
إلى الملك دون شعبه. هذا نظام العالم من قديم؛ السعي والكَلَل والنَّصَب للصغار
والمرءوسين والمجد والذكر الخالد للكبار والرؤساء.
سنيكا
(في نفسه)
:
إن هذا الثرثار يقول الحق في بعض الأحيان (ثم
إلى لوسيوس) ولكن لا تنسَ أنه خفَّف الضرائب عن الولايات ومحا
ظلم العهد السابق، وجعل رشوة القضاء أثرًا بعد عَيْن، وقضى على دسائس البلاط
التي أنْقَضت ظهر الشعب وأذلت كلَّ عزيز. دع عنك كلَّ هذا. ما قولك في فضائله
النفسية؟ أليس خير زوج لأوكتافيا ابنة كلوديوس وأبر ولد بأمِّه
أجربين؟
لوسيوس
:
إن حبه لزوجه أوكتافيا يدوم حتى يشغف بسواها على أن الإمبراطور يهجر فرشه
في كل ليلة ولا تحظى امرأته بقُرْبه إلا نادرًا، ويُقال إنه يفضل عليها غلامًا
اسمه فيثاغورس!
سنيكا
:
يا للغِيبة!
لوسيوس
:
أمَّا أمه أجربين فهي تبقى فضلى الأمهات، ما دامت إرادتها لا تصدم إرادته،
وما دامت مطامعها لا تتعارض مع نفوذه وحبه للتفرُّد بالسلطة المطلقة. أما إذا
اختلَّ هذا التوازن فالويل لها … وأنت أيها الأستاذ لو أنك ظهرت يومًا بمظهر
المعارِض لرغبات الأمير، فأقسم لك بالمشتري أن رومه تخسر حكيمها
المُفدَّى.
سنيكا
:
إنك مبالغ. إنني لا أخشى شرَّ الأمير. ألا تذكر أن أدبه وصل به إلى أن كان
يحيي أفراد الشعب كلًّا باسمه؟ ألم يُجرِ أرزاقًا على أعضاء السيناتو الذين
جمعوا بين طيب الأصل ومصيبة الفقر؟ ألا تذكر أنه لما قُدِّم إليه أمر إعدام
الشقي لوكارنوس لتوقيعه تنهَّد وقال: ليتني كنت أميًّا لأُعفَى من التوقيع على
هذا الأمر.
لوسيوس
:
ولكن وقَّع عليه … كان في وسعه أن يعفو.
سنيكا
:
والقانون؟
لوسيوس
:
إن تنفيذ القانون لا يقف دون الشفقة الحقيقة والرحمة فوق العدل.
سنيكا
:
وما قولك في جوابه للسيناتو عند شكر الأعضاء له «إنني اليوم غير جدير
بثنائكم. أرجئوا الشكر حتى أستحقَّه.»
لوسيوس
:
تواضُع كاذب وكبرياء يسترها النفاق (تُسمَع أبواق
وطبول وصهيل خيل).
سنيكا
:
اذكر أنك في قصر الإمبراطور!
لوسيوس
:
إننا في مأمن من البيوت والآذان. إن بيت الملك خير مكان لاغتيابه … ولكن
حذار من الكلام عنه في الطريق حتى ولو كنت تصوغ له عقود الثناء.
سنيكا
:
نصيحة خبير! (يدنو صوت الأبواق ويدخل القائد
بوروس على رأس الحرس ويصطف يمينًا، ثم يدخل أهل القصر، ثم يُسمَع غناء
الكهنة فيدخلون وبعدهم عذارى فيستال ويأخذن مكانهن مقابل الكهنة، وعند
دخول كل طائفة ينادي منادٍ باسمها وهكذا …)
المنادي
:
الحرس الإمبراطوري … رجال القصر … الكهنة … عذارى فيستال … مجلس الشيوخ …
الوزير بالاس (يدخل المذكور
وحاشيته).
لوسيوس
:
هذا عشيق أجربين وسيد رومه بالفعل … هذا عدوك وعدوي … انظر كيف يرمقنا
دون أن يشعر به أحد؟
سنيكا
:
اخفض صوتك.
لوسيوس
:
إنك إن أعنتني عليه لدى الإمبراطور فلن تطول سيادته، فلعله بعد أن يفرغ
نيرون من هذه الحفلة أن يطوي صحيفة أمِّه وعشَّاقها.
المشهد الثالث
المنادي
:
الأمير بريتانيكوس (يدخل وخلفه
لوكوس).
لوسيوس
:
يا لك من شاب شقيِّ الحظ، انظر يا أستاذ إلى اصفرار وجهه وانقباض نفسه … من
الغيظ ولكنه يكظمه.
سنيكا
:
اخفض صوتك لئلا يسمعك أحد … ها هو بالاس ينظر إلينا شزرًا.
المنادي
:
قناصل روما وقضاتها (يدخلون).
لوسيوس
:
هاك فيتليوس الذي صار قاضيًا قد سنَّ زواج العم بابنة أخيه. لم يجدوا ذمَّة
أطهر من ذمَّته!
المنادي
:
الإمبراطورة أجربين فضلى الأمهات والأزواج وكاهنة هيكل كلوديوس الإلهي
(تدخل أجربين بأبهة عظيمة وحولها نساء وعلى
وجهها قناع ضخم فترى بالاس فيتبادلان النظرات).
لوسيوس
:
فضلى الأمهات والأزواج وكاهنة هيكل كلوديوس الإلهي؟! ألا تحدثك نفسك يا
أستاذ بالوقوف في وسط هذا الجمع المملوء بالنفاق والرياء، فتسمِّي كلًّا باسمه
الحقيقي، وتصفه بما هو أهله؟
سنيكا
:
هذا سلوك المجانين.
لوسيوس
:
إن لساني يلذعني!
سنيكا
:
إنك تهرق دمك.
لوسيوس
:
لا شيء أجل وأعظم من قول الحق.
سنيكا
:
إنك تحرج صدري. إذن لماذا رضيت بحرفتك؟
لوسيوس
:
لأتشفَّى في هذا المجتمع الفاسد بالوقوف على أسراره. إن حرفتي تجري مع دمي
في عروقي، ولكنها لا تحجب عن بصيرتي نور الحق.
سنيكا
(لنفسه)
:
تعليل حسن لحرفته (يُسمَع هتاف في
الخارج).
المشهد الرابع
أصوات
:
النصر لقيصر! (تُسمَع أبواق وطبل ويدخل نيرون
وعلى رأسه إكليل من الغار وبيده صولجان فيتحفز الجميع لاستقباله، فيذهب
إلى أمه ويقبل يدها ثم يقصد المنبر الموضوع إزاء العرش ويضع على عينه
نظارة عين واحدة «منوكل» ثم يبدأ مرثيته).
نيرون
:
بعين ملؤها الدمع السخين وقلب خافق من الحزن والحنين وصوت تخنقه العبرات
وتقطعه الزفرات أرثي والدي ووالد الوطن الإمبراطور الإلهي كلوديوس. لقد كان
فقيدنا من سلالة قيصر فوَرِث عن أجداده حكمة الآلهة وشهامة الأبطال … وكان
بطبعه كريمًا محبًّا للشعب فلم يدَّخر وسعًا في توسيع رزق أهل رومه وتسليتهم
بالألعاب الفاخرة. وقد شاد لهم البيوتات العامة وغرس الحدائق الغنَّاء وبنى
الحمامات الممتعة وأنفق عليها من ماله … أما عن شجاعته الحربية وبراعته في
قيادة الجيوش وحكمته السياسيَّة وقدرته في تدبير شئون الدولة فحدِّثوا ولا حرج؛
فقد كان قطبًا من الأقطاب ومِفتاحًا لكل باب … لقد كان أبي وأبوكم مثالًا
للفضيلة فلم يدنِّس نفسه الإلهية بفكرة سوء ولا جسده الطاهر برجس من الشيطان،
وقد تُوفِّي بين ذراعي زوجته المحبوبة، كما تُوفِّي من قبله القياصرة الأجلاء …
ذهب فريسةً لهموم الدولة ومتاعبها ولفظ أنفاسه الأخيرة وهو يلهج باسم رومه
الطاهرة ويذكر الشعب الذي يحبه وباسمي أنا أيضًا، أنا ابنه وخليفته وظله
على الأرض قد رفع إلى السماء … إن روحه الآن بين الآلهة وقد أفسح له
المشتري وعطارد وزيوس وإيزيس إلهة الشرق التي كان يمجِّدها مكانًا ساميًا في
العلا. فحق عليكم أيها الكهنة الصالحون وأيتها العذارى المباركات أن
تثابروا على عبادة كلوديوس الإلهي في هيكله الذي تشرَّف عليه فضلى الأمهات
والزوجات (مشيرًا إلى أمه أجربين) تلك
التي كانت تحبه ويحبها حبًّا جمًّا لم يسبق له مثيل في تاريخ الأسرة
القيصرية … لقد دوَّخ الأعداء وأفسح مجال الحدود ونشر نفوذ رومه في كل بقعة،
ومد سلطة شرائعنا وراء البحار بين الأمم المتمدينة والشعوب الوحشية … إن
مجدك يا كلوديوس أيها الناظر إلينا من سماء ربوبيتك لا يدخل في حيِّز الحصر
ومحامدك جلَّت عن العدِّ والحدِّ … تبارك اسمك في السماء بين الأرباب كما خلد
مجدك في الأرض! سادتي الشيوخ والقضاة! مات الإمبراطور لِيحي الإمبراطور …
إن الشباب خليق بالضلال، وإن مَن كان في سني ليَنُوء بالعبء الثقيل الذي ألقاه
على كاهلي كلوديوس الإلهي، لولا ما أتوسمه من البركة في أرواح أجدادي
القياصرة وأعشمه في التعضيد من فضلى الأمهات ومنكم مُستنِيرًا في حياتي
الحافلة بالمتاعب بأنوار أستاذَيَّ الفاضلين بوروس قائد الحرس البريتوري وهو
سياج الدولة وسيفها المسلول، والحكيم سنيكا الذي ذاع فضله واشتهر علمه بين
الورَى، ستكون حكومتي حكومة عدل واعتدال … لقد علمني سلفي الصالح أن إصلاح
الشئون العامة يقضي بذل النفس والنفيس، فلن أتردد مطلقًا في إضعاف سلطتي
إذا كان في ذلك تقوية للحق، سأخذل نفسي لأبصر العدل. سأنزع سلطة القضاء من
يدي وأسلم زمامها لمجلس الشيوخ ليستريح الناس ويطمئنوا على أموالهم
وأعراضهم وحقوقهم، وسأقضي على سلطة الحاشية ورجال البلاط في القضايا العامة
والخاصة، ولن يكون نيرون سليل القياصرة وإمبراطور رومه جديرًا بهذا النسب
إذا لم يقضِ على الرشوة والدسائس والمؤثرات الخفية التي يبذلها أهل المطامع
والأغراض … وإنني من الآن أرى الفصل بين بيت المال وخزانة العرش، وأعيد إلى
مجلس الشيوخ سلطة تنفيذ الدستور لتتمتع إيطاليا وسائر الولايات التابعة
للإمبراطورية بنعم الشرائع الرومانية. أما أنا فأقنع بقيادة الجيش ولا أطلب
منكم أيها الآباء الموقرون سواها.
رئيس المجلس
:
لك ما تريد أيها الأمير الجليل.
نيرون
:
أيها الآباء الموقرون إن لي لديكم طلبًا أرجو ألا يخيب.
رئيس المجلس
:
للأمير أن يطلب وعلينا أن نطيع.
نيرون
:
تعلمون أكثر مني عواطف البنين نحو الآباء، وقد فُطِرْتم يا سادة الرومان
وشيوخهم على تمجيد الوالدين وإكرامهم، كما فُطِر شبابكم على احترامكم
وتبجيلكم … وها أنا لا أرى أثرًا واحدًا يذكر رومه برجل منحها إمبراطورًا
عادلًا وقائدًا مقدامًا … لعلكم أدركتم قصدي بفطنتكم … أريد أن يُنصب تمثال
لوالدي سينوبكس دوستوس أنيوباريوس.
رئيس المجلس
:
إن ما اقترحه الأمير كان يجول بصدورنا جميعًا.
أعضاء المجلس
:
صحيح!
الرئيس
:
ولكن إلهة الرحمة أرادت أن يصدر هذا الاقتراح عن الولد لتغتبط روح
الوالد، وإنني أقترح أن تُقام للإمبراطور تماثيل من الذهب الخالص والفضة
النقية. فإن الأحجار الكريمة مهما غلت والمعادن النفيسة مهما عزت، أقل وأبخس
من أن تشرف باحتواء شكل جلالته.
نيرون
:
عفوًا يا سادتي، ليس التواضع الكاذب من صفاتي، ولكن تفضلوا بإغفال هذا
الاقتراح؛ لأن الأمير بأعماله لا بتماثيله، ولا أراني حتى الساعة في حلٍّ من
قبول هذا التكريم ويكفي تمثال والدي (ينزل عن
العرش).
الجميع
:
النصر لقيصر!
المشهد الخامس
نيرون
:
أستميحكم عذرًا في إبقائكم برهة ريثما ألْقَى وفد برمينا. إن هؤلاء البرمن
ما فتئوا علة في جسم رومه، مطالبهم مبهمة وآمالهم غير محدودة، وهم عدا ذلك
أشد مكرًا من المصريين … يا بوليوس.
بوليوس
:
مولاي!
نيرون
:
أدخل وفد برمينا (تدنو أجربين من العرش جدًّا
فينظر الحاضرون باهتمام إلى هذه الحركة، يدخل الوفد ويتخذ مكانًا
متوسطًا أمام العرش)، (للوفد) رغمًا عن مشاغلنا العامة والخاصة أردت مقابلتكم
لأسمع مطالبكم، فإن إلحاحكم جعلني أعتقد أن في الأمر ما يدعو
للاهتمام.
رئيس الوفد
:
إن برمينا تبعث إلى رومه تحية وسلامًا!
نيرون
:
إلى رومه تبعث برمينا تحية وسلامًا. هكذا يُقال أيها الرئيس؛ لأن رومه
سيدة العالم واسمها مقدم على كل اسم (تدنو
أجربين من العرش وتحاول الصعود، فيسرع سنيكا إلى نيرون ويُسِرُّ إليه شيئًا،
ويسرع نيرون ويعترض أمه ويقف بينها وبين العرش). (مستطردًا) وعرش روما فوق كل العروش (يقبل أمه ويقودها من يدها بعيدًا) أظن فضلى
الأمهات في حاجة إلى الراحة، فضلًا عن أن مقابلة الوفود ليست من واجبات
كاهنة هيكل كلوديوس الإلهي.
أجربين
:
أنا مسيحية.
نيرون
:
مصحوبة بالسلام يا فضلى الأمهات (تمشي وخلفها
حاشيتها وتشير إلى بالاس فيتبعها بحاشيته، أما نيرون فيصحبها قليلًا
وفي عودته يلتقي وجهًا لوجه ببالاس فينظر إليه شزرًا).
(يصعد إلى العرش) تكلَّم أيها
الرئيس.
رئيس الوفد
:
إلى رومه المقدسة سيدة العالم تبعث برمينا تحيتها، وتبثُّ آمالها، وتعرب
بلساننا نحن نوَّابها.
نيرون
(بضجر)
:
مطالبكم مطالبكم أيها الرئيس.
الرئيس
:
مطالبنا إعادة مملكتنا واسترداد حدودنا الأصلية وتجنيد مائة ألف من
أبنائنا للذَوْد عن حياضنا ومساعدة رومه بجنودنا، ولا بأس بدفع الجزية
لدولتكم وربط أواصر المودة بينها وبيننا بمحالفة دائمة.
نيرون
:
إذن أي سلطة لروما تبقى على بلادكم؟ ما أشد طغيان هؤلاء البرابرة! ما رأيت
شعبًا وحشيًّا يأبى سيادة رومه (إلى
الشيوخ) ألم أقُلْ لكم يا سادة إن مطالبهم مبهمة وآمالهم غير
محدودة.
الشيوخ
:
إن بعد النظر وجلاء البصيرة من الصفات التي حَبَتْك بها الآلهة.
نيرون
:
عفوًا عفوًا يا سادتي … وبعد أيها الرئيس.
الرئيس
:
نحمل إلى جلالتكم هدايا وتحفًا.
نيرون
:
جوهر وذهب ووحوش ضارية وخيول عربية؟
الرئيس
:
أجل يا صاحب الجلالة الإمبراطور.
نيرون
:
أما الجواهر والذهب فخزائن رومه بها مفعمة، وأما الوحوش فكذلك في حدائقنا
وغياضنا منها ألوف مؤلفة، وفي مرابط خيلنا أكرم الأفراس وأسبقها. اذهب إلى
مَن بعثوا بك وقل لهم إن رومه تغيرت، فإن الإمبراطور الجديد يفضل بيتًا من
الشعر على أسد غضنفر، ويرجح قيثارة راعٍ على عقد من الجوهر، وعُدْ لنا بطاعة
قومكم وكراسةٍ فيها نظم شعرائكم إن كان لكم شعراء قيصر يحييكم … (يرفع يده فينسحب الوفد ثم يلتفت نيرون إلى الأعيان
والشيوخ والقضاة والكهنة والعذارى) … شكرًا لكم أيها السادة
الموقرون، قيصر يحييكم (إلى بوروس) عُد
بجنود الحرس إلى ثكناتهم وأجرِ عليهم أرزاق الأعياد المُقدَّسة.
المشهد السادس
(تُسمَع أنغام حربية وينسحب الأعيان والحرس ولا يبقى إلَّا سنيكا ولوسيوس وبعض
الحاشية، بينما يتلاهى نيرون قليلًا بمحادثة الأشراف.)
سنيكا
:
هل أدركت ما جرى؟
بوروس
:
لقد أنقذت رومه من عارٍ لا يُمحَى.
سنيكا
:
إن قلبي كاد يتمشَّى في صدري؛ إذ رأيت تلك المرأة تسير نحو العرش.
بوروس
:
عرش رومه تجلس عليه امرأة! … حقًّا لقد حلَّ الخراب، بل هذا ليس أول عهد
رومه بالخراب، لقد حل الخراب بنا إذ طلبت أجربين من كلوديوس أن تنتقل إلى
الكابتول محمولة على الأعناق.
سنيكا
:
إذن حق لها أن تستهتر بالعرش، فقد شابهت بالأمس زعماء الدين وأنافت
الآلهة؟
بوروس
:
فلا عجب إذا طمحت اليوم إلى صعود العرش … قد أدرك نيرون بسرعة البرق ما
أشرتُ إليه.
سنيكا
:
نعم لأنه ليس بابن كلوديوس الغبي.
لوسيوس
:
وهو تلميذ سنيكا الحكيم.
نيرون
(ملتفتًا إلى لوسيوس ويدنو منه ويقبض على أذنه ويخاطب
سنيكا)
:
انظر يا أستاذ! هكذا تمسك الثعالب، أكان يحاول الفرار إلى وكره! آه لو
كان له ذَنَبٌ (يضحك) ولكن أذنه التي يسمع
بها أهم من ذَنَب الثعلب، الآن لا تستطيع الفرار قبل أن تسمع أرجوزتي …
انتقدها بصراحة وإلَّا قطعت أذنك، ألا تكفيك أذن واحدة (يأخذ جانبًا) ولكن قبل ذلك أريد الانتفاع
بعينيك وأذنيك … هذه الجفون الضيقة وهاتان الأذنان الضخمتان … لقد خلقتْك
الطبيعة لخدمتي … آه يا بوسيوس توسيوس فوسيوس!
لوسيوس
:
لوسيوس يا مولاي لوسيوس.
نيرون
:
لوسيوس … لوسيوس إنني أحب فضلى الأمهات كثيرًا، ولكن …
لوسيوس
:
ولكن مجد رومه فوق حب الأمهات.
نيرون
:
آه يا ثعلب! هل فطنت؟
لوسيوس
:
كيف لا؟
نيرون
:
إذن عليَّ بإخبارها وأخبار سيدك بالاس.
لوسيوس
:
ليس هذا المعتق الحقير سيدي، إنما سيدي قيصر.
نيرون
:
ها ها … حسن … هاك كيسًا فيه نقود. دون ما ترى وتسمع هاك خاتمًا تغشى به كل
مكان، وأبواب قصري مفتَّحة لك في كل وقت. أما الأرجوزة فنرجئها إلى حين … افتح
عينيك وأذنيك وأخفِ ذنبك (يعود إلى حيث كان
سنيكا).
نيرون
:
أيها الحكيم، إن هذا الشاعر أفضل عندي من رئيس الوفد، أراضٍ أنت أيها
الحكيم عن خطة تلميذك مع هؤلاء البرابرة؟
سنيكا
:
حكمة الأمير فوق كل شيء.
لوسيوس
:
كرم مولاي لا يُحَدُّ.
نيرون
:
نحن زملاء يا لوسيوس؛ كلانا فخْرُه نظْمُ القوافي وشغله وزن العروض.
لوسيوس
:
مولاي!
نيرون
:
إلى وكْرِك أيها الثعلب العتيق … إلى وكرك (يخرج).
المشهد السابع
نيرون
(لنفسه)
:
إن نظرة هذا الرجل تروقني كأنه ثعبان عتيق، فإنه ينظر إلى كلِّ شيء ويحرك
حاجبيه وسائر عضلات وجهه كأنه يختزن في ذهنه ما يمر على بصره من الصور …
لقد أحسنا باختياره عينًا لنا على مَن أَرَدْنا (لسنيكا) أرأيت ماذا كانت فضلى الأمهات تحاول لولا حضور
بديهتك وسرعة خاطرك وشدة عزمك.
سنيكا
:
مولاي! لم أكن إلا صدًى لصوت سريرتك.
نيرون
:
دعني أعترف بفضلك على رومه حقًّا، إني شاب ولكني لست كلوديوس، وتحدثني نفسي
بأنني محاطٌ بالناقمين المبغضين، على أنني أريد …
سنيكا
:
مولاي
نيرون
(مستطردًا)
:
أن أضع حدًّا لتداخل الغير في شئون الدولة.
سنيكا
:
هذا حق جلالتك المقدس.
نيرون
:
فيَّ وفيك الكفاية؛ ستقول الأجيال القادمة عهد نيرون العادل وسنيكا
الحكيم.
سنيكا
:
عهد نيرون العادل الحكيم.
نيرون
:
تواضَعْ ما شئت فهذا لا يمنعنا الاعتراف لفضلك؛ أنت عقل الدولة وبوروس قلبها،
وأنا حتى الآن يدها الفعَّالة … ربما يأتي يوم أكون أنا العقل والقلب واليد
معًا.
سنيكا
:
لقد كان هذا اليوم … قد صعدت على العرش ولولا تساهُل جلالتكم في بعض الشئون واستسلامها
ﻟ…
نيرون
:
مَن تقصد يا أستاذي؟ … تكلم.
سنيكا
:
فضلى الأمهات ليست هي العاملة، إنما العامل هو بالاس.
نيرون
:
سأنظر في شأنه … ولكن بحق الأرباب، قل لي كيف أقاومهم جميعًا؟
سنيكا
:
بالاس رأس كل خطيئة، أرأيت جلالتكم كيف أنه أطاع إيماءً من فضلى الأمهات،
فأخلَّ بنظام المحفل بانسحابه بغير إذن إمبراطوري؟
نيرون
:
سأنظر في شأنه. سأقطع دابره.
سنيكا
:
علمت أن جلالتكم تخرج للنزهة ليلًا مع …
نيرون
:
نعم نعم كيف أعلل هذا المَيْل؟ إن نفسي مفطورة على حب كل غريب وقلبي ميَّال
إلى المخاطر … الليل وقطاع الطريق والأماكن المخفيَّة … إن دم الشباب يغلي في
عروقي.
سنيكا
:
مولاي إن لي كلمةً أقولها شريطة أن آمن غضبك.
نيرون
:
لو غضبت على رومه والعالم بأسْرِه فلا أغضب على الأستاذ الحكيم. ألستُ
مدينًا لك بكل شيء؟
سنيكا
:
هذا تواضُع الأرباب.
نيرون
:
تكلَّم فأنت تعلم أنه لا يسرُّني شيء مثل القول الصريح.
سنيكا
:
يقولون إن الفساد قد عمَّ رومه وساءت حال الأخلاق فيها؛ فاندفعت النسوة في
طريق العشق وتغالَى الشبَّان في السير في سبيل الغي والضلال اقتداءً ﺑ…
نيرون
:
آه لعمرك ما أدري أي فرق بين الفساد والصلاح، وأي خطر في اندفاع الناس في
طريق العشق … أليس العشق داعيًا لرقي النفوس من كل الوجوه، فهو يدفع
بالعاشقين إلى طريق التغزُّل فينظموا الشعر ويقدِّموا الهدايا والأزهار ويجودوا
بالنفس والنفيس في سبيل الحصول على المعشوق … ألا ترى أن النفس مطبوعة على
حب الجمال، والطبيعة لا تأبى شيئًا من هذا بل تدعونا إليه، وإنما وضع الناس
قواعد وقوانين واتفقوا على احترامها، ولا يُلزَم بمراعتها إلَّا مَن كان في حاجة
إليها.
سنيكا
:
قد يجوز للإنسان أن يفكِّر على هذه الصورة، ولكن لا يجوز له أن يصرِّح بفكره
أو يطبقه على مرأًى ومسمع من الناس.
نيرون
:
لا أدري كيف تبيح التفكير ولا تبيح القول والفعل وأنا الإمبراطور.
سنيكا
:
لأن جلالتكم إمبراطور، ولأنكم قدوة، ولأن الناس على دين ملوكِهم، ينبغي لكم
التستُّر.
نيرون
:
تريد أن أصرف أوقاتي في الهياكل أعبد آلهةً لا أومن بها، وأضحِّي لها بما هو
أثمن منها؟ … أتريد أن أتخلَّى عن حبِّ أكتيه؟
سنيكا
:
لا أقصد هذا ولا ذاك … إنما أقصد خروج الليل. فقد شاع أن جلالتكم تخرج
عند كلِّ غروب تقريبًا بزيٍّ رقيق، فتطوف بالطرق على غير هدًى وتنزل إلى حيث تأوي
النساء الشقيَّات، ولا تترك حانة أو معهد سوء مهما كان حقيرًا إلَّا وتطرق بابه،
وخلفك عُصْبة من أهل الشر ممن لا أخلاق لهم يضربون الناس ويسلبون الأمتعة في
الأسواق، وأنه لم يخطر ببال أحد أن جلالتك تتنزَّل إلى هذا الدرك الأسفل،
فقوبلت مرارًا بالمِثْل من العامة والسوقة، وأن الجرح الصغير الذي في جبهتك من
آثار تلك المعارك التي أُهرِق فيها دمك الإلهي، فلمَّا ذاعت تلك الأخبار استفحل
الخطب واستباح الناس سبَّ الأشراف وإهانة فضليات النساء، فإذا خيَّم الظلام
انسابت عصاباتهم في الطرق فيقطعونها على المارَّة ويفقدون الأمن في جوانبها،
فكأن رومه في كلِّ ليل مدينة غزاها العدوُّ أو أغار عليها جيشٌ فاتح يستبيح كل
شيء بادئًا بأعراض النساء وكرامة الرجال ينتهكها ومنتهيًا بأحقر السلع
يسلبها، وقد زاد الطين بِلَّة مقتل الشريف بوليوس مونتانوس.
نيرون
:
قل ما شئت ولا تذكر اسم هذا الرجل … تصوَّر أيها الصديق رجلًا يعتدي على
إمبراطوره؟ … لقد بلغت وصحبي أحراش كونيا حيث تلتقي طريق فالوس بشارع نيتونيا، وكنا
نقصد لقاء أصدقاء لنا على ضفاف البحيرة المنوطة بالغابة. فإذا
بهذا الشقي يوليوس مونتانوس مارًّا بنا في مركبته بكبرياء لا تُقدَّر، وحتَّم أن
نتخلَّى جميعنا عن طريقه وإلَّا يدوسنا تحت سنابك خيله، فأوعزت إلى بعض الرفاق
يأمروه بالتخلِّي لنا حتى نمر … ألا ترى العدل يملي عليَّ الاحتفاظ بسلامة
السائرين على أقدامهم؟ فلما أبى ذلك أمرت أن يوقفوا جياده وينزلوه حتى نمر،
فدنا من رفاقي وأمعن فيهم ضربًا، وقال أين زعيمكم ورئيسكم حتى أشجَّ رأسه.
فتقدمت إليه فأخذ بتلابيبي وقال الأفضل لمثلك أيها الشقي أن تُساق إلى
الشرطة لتُجلَد، فلم أتمالك نفسي عن صفعه، فاعتدى عليَّ وأخذ بلحيتي ثم لا
أدري ماذا جرى. فإنه حملق فيَّ قليلًا ثم ترك يده وكأنها استرخت وركع بجانبي،
فقال رفاقي لقد عرف جلالتكم، ولكنه لم يتكلم. أما أنا فلم أعد أطيق النظر
إليه، وأنا متأكد أنه أراد إيلامي بما فرَطَ منه، فهويتُ على رأسه بهراوتي فشُجَّت
وجرى دمه، وعندما رأى عبيده ما وقع تركوا المركبة بخيلها وفروا، وأظن بعضهم
ذهب يستعين بالجند، وقد صحَّت عزيمتي بعد اليوم على أن أصطحب فرقة من الجند
وعصبة من المصارعين وهؤلاء يسكتون ولا يحركون ساكنًا، فإذا حمي وطيس العراك
دخلوا وأفسحوا لي طريقًا بسيوفهم وخناجرهم.
سنيكا
:
إذن مولاي لا يريد العدول عن هذا.
نيرون
:
هذه غزوات الليل أجدِّد بها قواي وأُنعِش بها نفسي وأوقظ الإرادة الخامدة
والمواهب النائمة، إنك أيها الحكيم الهادئ لم تذق لذَّتها. أريد أن تصحبني
الليلة فتشعر بالسرور والغبطة من الانفعال الذي يصيبك عند الالتحام
والاصطدام ووقع العصي على الرءوس والدماء التي تجري، هلَّا كنت في عصبتنا
الليلة؟
سنيكا
:
كلا يا مولاي أشكر جلالتكم على هذه المنَّة، وها أنا أكف عن النُّصْح.
نيرون
:
حسنًا … لا يستطيع التلميذ إرغام أستاذه … ماذا فعل رسولك لدى أكتيه؟ هل
أدَّى الأمانة إلى أهلها؟
سنيكا
:
كيف لا؟! أيتردد أنيوس سريوس في خدمة مولاي؟ إن جاريتكم أكتيه …
نيرون
(مقاطعًا)
:
لا تقل جاريتي كما يقول بقية الناس، إن الحب لا يعرف سيدًا ومسودًا، بل أنا
عبدها.
سنيكا
:
ولكنها معتوقة آسيوية؟
نيرون
:
سأثبت بصفة قاطعة أنها من أصل ملكيٍّ.
سنيكا
:
لا شك أن مجلس الشيوخ يصادق على ذلك؛ لأن الأميرة أكتيه قد تحلَّت بأجمل
الصفات وأكمل الخصال، لم تكد تصلها الجواهر التي جادت بها الذات العليَّة ولم
توشك أن تقرأ القصيدة التي فاضت بها قريحتكم الأولمبية، حتى طارت فرحًا
وطلبت أن تُحمَل حالًا إلى عتباتكم السنية لتلثِمَها.
نيرون
:
الشعر … الشعر … أظن سرورها بشعري كان أعظم من سرورها بجواهري.
سنيكا
:
ستحكم الأجيال القادمة بينك وبين هوميروس.
نيرون
(بفرح وغرور)
:
ولكن هوميروس نظم الإلياذة.
سنيكا
:
ليس الشعر يا مولاي بالكمية ولكنه بالماهية، فربَّ بيتِ شعرٍ من شعرك الخالد
أفضل من ديوان بأسره!
المشهد الثامن
خادم
:
النصر لقيصر!
نيرون
:
ما وراءك؟
خادم
:
عبدكم أنيوس سريوس يحمل رسالة مختومة.
سنيكا
:
هذا صاحبنا أوفدتْه أكتيه.
نيرون
:
ليدخل (يدخل الرسول ومعه رسالة وزهر
وبنفسج).
الرسول
:
على قيصر السلام!
نيرون
:
الرسالة (يعطيها له فيفضُّها نيرون ويقرؤها ثم
يعطيها لسنيكا. مستطردًا) الزهور؟ (يعطيها الرسول
له. بعد أن يشاهد الزهور) بنفسج معناه الأمل! (يدق
على النحاس فيدخل طواشي. للطواشي) ثوب الخروج وهودج (يُحضِر
الطواشي الثوب فيلبسه نيرون … ثم يقول موجهًا كلامه إلى
سنيكا) انتظرني فإنني لا أغيب، لولا أوكتافيا زوجتي ما تكبدت
مشقة الركوب إلى دار معشوقتي.
سنيكا
:
الأمر لجلالتك وأتمنَّى لك السعادة.
نيرون
:
إن قلبي يخفق لدى ذهابي إلى أكتيه أكثر مما خفق في حفلة هذا
النهار.
سنيكا
:
إن موعد حبٍّ أشدُّ تأثيرًا في النفوس اللطيفة من خطبة في السناتو!
نيرون
:
ما أعرفك بأسرار القلوب! (يخرج.)
المشهد التاسع
أجربين
(من الخارج)
:
أريد أن أرى الإمبراطور فورًا.
سنيكا
(لنفسه)
:
هذه فضلى الأمهات … ما سبب عودتها فجأة؟! (تدخل
أجربين فترى سنيكا الذي يدنو منها باحترام) مولاتي!
أجربين
:
عفوًا أيها الفيلسوف إذا قلت لك إن رأس الحكمة عرفان الجميل.
سنيكا
:
إن رأس الحكمة خدمة الدولة بحق وإخلاص.
أجربين
:
أمن أجل إبعادي عن العرش، كنت أسعى في إجلاسه على العرش؟
سنيكا
:
ألا يكفي مولاتي كونُها كاهنة هيكل كلوديوس الإلهي وفضلى الأمهات؟
أجربين
:
هذا قول حسن للعامة والمملقين من رجال الدولة، ولكنه محال لا ينطلي
عليَّ.
سنيكا
:
ألا تقنعين بأنك بلغت أمنيتك؟
أجربين
:
كنت أتمنَّى السيادة الفعليَّة على رومه … ها أنت ونيرون تتآمران على النكاية بي.
سنيكا
:
قد حفظنا كرامة الإمبراطورية.
أجربين
:
وأهنتما كرامة الإمبراطورة!
سنيكا
:
لا مجاملة في المصلحة العامة.
أجربين
:
ولكن المصلحة العامة هي مصلحتي، لأنني أنا التي جعلته إمبراطورًا وجعلتك
وزيرًا.
سنيكا
:
رأي مولاتي يخالف رأيي.
أجربين
:
لو اقتصر الأمر على ما وقع اليوم، إذن لهان الخطب لأن لدي علاجًا
لكبريائه وغدر غيره!
سنيكا
:
مولاتي!
أجربين
:
لقد كان همي بعد الوصول إلى مخدع الإمبراطور كلوديوس أن أحيط نفسي ببطانة
مُخلِصة، وأن أقصي عن حظيرتي كل مخالف ومعاكس، فخطرت أنت ببالي وكنت منفيًّا
فرأيت فيك رأسًا مدبرًا لدى الحيرة، وحِيلة مُنقِذة وقت الضيق، فتوسطْتُ لدى زوجي
في العفو عنك وردِّك إلى وطنك، فلما عدت رفعتك إلى منصب البريتور وسلمتك قياد
ولدي لتهذِّبه وقربتك وفاتحتك بكل ما كان يخامر ذهني فوافقتني إذ ذاك؛ فجعلت
منك ناصحًا ومشيرًا وشريكًا في كل أعمالي وخططي، ولم تكن تأنف إذ ذاك من
خدمتي ودس الدسائس التي تؤدي لغايتي، وها أنت اليوم قد قلبت لي ظهر المِجَنِّ
وبَدَوْتَ لي بوجه جديد. ورضيتَ أن تكون رسول غرام بين تلميذك وبين مُعتَقة دنيئة
الأصل.
سنيكا
:
هذا محض افتراء.
أجربين
:
عيوني رأت تابعَك أنيوس سريوس يحمل إليها هدايا وتحفًا. هل من عارٍ أعظم من
انتحال الحكماء هذه الحرفة؟!
سنيكا
:
إنك تسيئين الظن بي.
أجربين
:
لديَّ براهين.
سنيكا
:
حقًّا إني أعلم أن للأمير علاقة بمعتقة اسمها أكتيه، وقد سُرِرت بهذا كثيرًا
لأنها فتاة جمعت بين جمال الخَلق وكرم الخُلق وتحلَّت بفضائل تعوز كثيرات من
الأميرات وربَّات المجد، وإن في ميل الأمير إليها حبًّا بأخلاقها لدليلًا على
سموِّ نفسه وجمال عواطفه؛ لأنه مدفوع إلى الحب بحكم الشباب، فلو لم يجد لِهواه
مصرفًا في دار هذه المعتقة لالتمسه حتمًا في بيوت المحظيات، وهذا مما يحرج
صدر الأشراف ويملؤها حقدًا عليه وهذا مُضِر بالدولة.
أجربين
:
حتى هذه الحرفة وجدت تعليلًا فلسفيًّا؟! إنني أفضل أن يُفسِد نيرون بيوت
الأشراف كلها على أن يضع قلبه بين يدي امرأة واحدة.
سنيكا
:
لا أُدرِك قصدك.
أجربين
:
لا همَّ للمتزوجات إلا قضاء شهواتهن، ولكثرتهن يكون نفوذهن موزعًا، أما
إذا انفردت به امرأة فإنه يصبح لها وفي يدها، ونيرون صبيٌّ ضعيف لا يسع صدره
إلا امرأة واحدة تملك عَنانَه وتملي عليه رغباتها، فإما أنا وإما أكتيه.
أفهمت أيها الفيلسوف؟
سنيكا
:
لقد غاب هذا عنِّي.
أجربين
:
إن فكر امرأة واحدة يفوق جميع فلسفتكم.
سنيكا
:
مولاتي اتركي نيرون لحكم رومه.
أجربين
:
وأترك سنيكا وأكتيه يحكمان نيرون … اعلم أنني بمفردي كافية للقضاء عليكم
جميعًا، ولا يقف في سبيلي شيء، على أن أنصارًا ومعضدين …
سنيكا
:
السيد بالاس؟
أجربين
:
نعم السيد بالاس أي غبار على هذا الشريف، تريد تعييره بأصله. إنه لا يرضى
أن يكون وسيطًا بين رجل وامرأة.
سنيكا
:
مولاتي إنك جرحتني جراحًا لا تلتئم!
أجربين
:
وأنت قتلتني فأينا أعظم جرمًا في نظر صاحبه؟ على أنني أستطيع الصفح
والنسيان إذا وعدتني ببعده عنها.
سنيكا
:
إن أنيوس سنيكا لا يَعِد ما لم يكن عازمًا على الوفاء.
أجربين
(لنفسها)
:
ستلقى شر الجزاء (يدخل
بوروس).
المشهد العاشر
أجربين
:
أثورة في الحرس البريتوري أم في المدينة؟
بوروس
(يتبادل نظرة مع سنيكا)
:
لا هذه ولا تلك، إنما عدت لأنقل للإمبراطور شكر الجند الذين وُزِّعت عليهم
أرزاقٌ أمْرَ بها اليوم.
أجربين
:
أأنت الذي أصدرت أمرًا لحرس القصر بحجب الإمبراطور عن كلِّ قادم لم يمر
بديوانك العالي؟
بوروس
:
إنه أمر الإمبراطور.
أجربين
:
أنَّى له أن يُصدِر أمرًا كهذا وهو لا يزال حَدَثًا لا يعرف نتيجة
أفعاله؟
بوروس
:
إن الإمبراطور وإن كان صغير السن إلَّا أنه ذكيٌّ عاقل.
أجربين
:
الفضل في ذلك لك ولرفيقك الفيلسوف، واللوم عليَّ وحدي لأنني جلبتكما من
منفاكما، أنت جندي قديم وتنقص ذراعًا … وهو …
بوروس
:
لقد فقدته في الدفاع عن الوطن، على أنني لا أزال قادرًا على تجريد سيفي
من غمده.
أجربين
:
في وجه مَن أيها القائد؟
بوروس
:
في وجه مَن يعتدي عليَّ ويتعمد إهانتي.
أجربين
:
عفوًا … لم أقصد إهانتك ولا تعييرك، ولكنني أستنجد بك بما لحق بي اليوم من
الصغار والمذلَّة؛ إذ دفعني ولدي عن العرش، هل رددتُكما من منفاكما ووكلت إليكما
تهذيبه لأجني هذه الثمرة المرة؟
بوروس
:
إني أخاطبك بحرية جندي لا يعرف تزويق الكلام ولا تلوين وجه الحقيقة … لقد
ائتمنتِني على شباب قيصر، وقد أوليتِني بذلك شرفًا أشكرك عليه، فأعطيتُك عهدًا
بتهذيبه، ولم أعطِك عهدًا بخيانته … لقد علَّمته طاعة القانون ولم أعلِّمه طاعتك
… إن نيرون ليس الآن ابنك إنما هو إمبراطور رومه. لو طلبتِ إلينا أن نجعل
منه رجلًا ضعيفًا لتنحَّينا، أما مسألة العرش فصاحب العرش مسئول عنها.
أجربين
:
أهذا الذي تنتظر أمٌّ مثلي من ولد مثله؟
بوروس
:
هل يضع رومه كلَّ صبح تحت أقدامِك ليرضيك؟ ألا يكون عرفان الجميل إلا بالذل؟
ألا يجوز أن يكون المُعترِف بالجميل ذا شَمَمٍ وكرامة؟ … إن الآلهة التي خلقتنا
لو امتنَّت علينا كل صباح ومساء بوجودنا لقابلنا امتِنانها بالجحود.
أجربين
:
إنك لا تدرك معنى قولي وتندفع بغَيْر أناة.
بوروس
:
لقد أردتِ أن يكون ولدك قيصرًا، فهل تريدينه قيصرًا بالاسم؟ إن رومه ضجرت
من حكم الأرقَّاء، والسماء ضجَّت من خيانة المعتقين والنساء، وها هو الشعب يحيي
عهد نيرون بالأفراح، كيف لا تبتهج رومه بمن أعاد دستورها ومنح الشعب حق
انتخاب القضاة، والجيش حق انتخاب القواد؟ … إذا رضي الشعب يا مولاتي فلماذا
تغضبين؟
أجربين
:
يجب على الولد أن يُغضِب الشعبَ ليُرضِي أمَّه!
بوروس
:
الأم التي تستبيح غضبَ الشعب لِترْضَى أمٌّ لا تجب طاعتها!
أجربين
:
ويل لك! لقد انضممتَ إلى أعدائي.
بوروس
:
لا أعرف إلا الحق!
أجربين
:
سأنظر في شأنكما لدى عودة الإمبراطور. إن أمورًا ذات شأن تدعوني، ولكنني
سأنتظر ولدي، وسوف نرى أينا يفوز في هذا اليوم الخطير (تخرج).
سنيكا
:
إليَّ إليَّ أيها الأخ لقد أحسنت.
بوروس
:
أنت تفضلني في وزن الكلام، فهل أهنْتُها؟
سنيكا
:
لو أنك أهنتها فقد أكرمت رومه … إنها تهددني ببالاس.
بوروس
:
سوف نرى … على أنني صمَّمت منذ اليوم أن أحجب عنها الإمبراطور.
سنيكا
:
تحسن كثيرًا لأنه يضعف أمامها وينقاد لها كأنها تسحره. أما بالاس فسأتولَّى
أمره بنفسي، ولن تغرب شمس اليوم دون شمسه. أسمعت قولها إن أمورًا ذات بال
تدعوها؟ (يُسمَع صوت بوق).
المشهد الحادي عشر
خادم
:
حيُّوا قيصر (يدخل نيرون بثياب الشراب وعلى
رأسه إكليل من الزهور وهو ثَمِل).
سنيكا
:
أرى مولاي مُتوَّجًا بالأزهار الغضَّة.
نيرون
:
توَّجني بها مَن تعلم. أليس هذا التاج في نظرك أعظم من التاج الذي … آه أيها
القائد ما وراءك؟
بوروس
:
وُزِّعت الأرزاق التي شاءت مكارم مولاي أن …
نيرون
(مقاطعًا)
:
أحسنت لا تقطع هذه العادة.
بوروس
:
يأذن لي مولاي.
نيرون
:
لا بأس لا بأس.
سنيكا
:
مولاي.
نيرون
:
أظن كتبك وزوجك الفاضلة أحوج إليك مني (يُحيِّي
ويخرج. يدخل لوسيوس بثياب سائل ويدنو كثيرًا من نيرون).
المشهد الثاني عشر
نيرون
(بذعر)
:
ويحك ما تريد؟ (يضع يده على خنجر ويدق نحاس
الاستدعاء.)
لوسيوس
:
خادمك لوسيوس!
نيرون
(هادئًا)
:
بحق إيزيس إنك ابن جدتها … لم يخب نظري فيك … ما وراءك أيها الثعلب؟ … هل
عاد الثعلب بثمر؟
لوسيوس
:
ثمر كثير يا مولاي، إن قصر الإمبراطورة أحفل بالإشراف من قصر
الإمبراطور.
نيرون
:
مَن رأيت هناك؟
لوسيوس
:
بالاس جاء متخفِّيًا ولكنني عرفته من مشيته وحاجبه، ولم تمضِ هنيهة حتى
استدعى كايوس بيزو.
نيرون
:
كايوس بيزو سليل كاليورنيوس؟
لوسيوس
:
هو بعينه يا مولاي ثم جاء الخطيب سوريوس فلافيوس ثم سوليتسيوس أسير ثم
أنيوس لوكان ثم بلونيوس لانيريوس.
نيرون
:
على رِسلك يا ثعلب! كل هؤلاء السادة زاروا قصر الإمبراطورة اليوم؟
لوسيوس
:
كلٌّ مصحوب بحاشيته، ولا يزال بعضهم هناك، وخرج البعض وأنا بالباب ولم يخلصني
من أيدي الخدم إلا الشاعر أنيوس لوكان.
نيرون
:
إذن الفضل في نجاتك لأحد أهل حرفتك … ولكن هل وقفت على الغاية من
زيارتهم؟
لوسيوس
:
لم يكن في وسعي إتمام كل شيء في يوم واحد، ولكنني لحظت أمرًا مهمًّا … كان
أحدهم يدخل مغتبطًا بمقدمه بادي البشر ثم لا يلبث أن يخرج بوجه مُكفَهِر ورأس
مطرق.
نيرون
:
إذن قدموا لا يعلمون غاية زيارتهم وخرجوا وقد وعَوا أمرًا ذا بال. هذا
حسن. قد لا يكون في الأمر شيء.
لوسيوس
:
وقد يكون فيه ما فيه … أما الإمبراطورة فقد أسرعت إلى هذا القصر ولم
أدركها.
نيرون
:
ثابِرْ على عملك.
لوسيوس
:
ولكنني محتاج إلى رجال فقد اتسع نطاق العمل.
نيرون
:
أتريد أن يكون لك أتباع؟
لوسيوس
:
لأتمكن من خدمة العرش.
نيرون
:
إن رئيس الشرطة السرية …
لوسيوس
:
الضابط بوليوس؟
نيرون
:
هو بعينه … إنه يغضب إذا علم أن الإمبراطور يشرك معه سواه في أداء عمله،
فلا أريد أن يقف أحد على شيء من هذا، خذ المال الذي تريد واتخذ مَن تشاء من
الأعوان دون أن يعلموا حقيقة الأمر. واعلم أن عملك سرٌّ بيني وبينك لا يقف
عليه أحد ولا سنيكا نفسه.
لوسيوس
:
هذا ما صحَّ عليه عزمي.
نيرون
:
خذ هذه الورقة فهي صكٌّ على الخزانة، واكتب إليَّ بيان عملك قبل غروب الشمس
كل يوم، فقد تألَّبت الذئاب على الأسد، أما بالاس فسأسقطه فورًا وسأضعه تحت
مراقبة شديدة (يدق نحاس
الاستدعاء).
المشهد الثالث عشر
خادم
:
مولاي!
نيرون
:
الحكيم سنيكا على جناح السرعة.
خادم
:
فورًا (نيرون يتناول عودًا «هارب» ويوقِّع عليه
وتبدو عليه علامات القلق).
خادم
:
إن الإمبراطورة بالباب تحتِّم الدخول، وهذا ما نهانا عنه القائد بوروس
(يضطرب نيرون أولًا ثم يقول
بتصميم).
نيرون
:
لِتدخُلْ … مَن ذا الذي يحجبني عن فضلى الأمهات.
أجربين
(تدخل)
:
يحجبك القائد بوروس وقد أصدر أمره إلى الحرس.
نيرون
:
هذا طيش منه وهوس. هل يُحجَب ولد عن أمِّه؟ إنني إذن غير مطاع في قصري. القصر
قصرك والإمبراطور ولدك ورومه تحت قدميك.
أجربين
:
هذا ما يقال بيننا، أما على مرأًى من الشيوخ والكهنة والحاشية، بل على
مرأًى من هؤلاء الغرباء الوحشيين من رعايانا، فقد استبحت لنفسك أن تصدني عن
العرش الذي حملتك إليه على كاهلي … لقد وقفتُ شبابي وجمالي على خدمتك وما
ضننت بشيء في سبيل ارتقائك إلى عرش رومه … إنني رضيت بعشرة شيخ ذميم الخلق،
زير نساء، لا يترك الفراش إلَّا إلى المائدة ولا ينصرف عن المائدة إلى
للفراش!
نيرون
:
عفوًا عفوًا يا أماه … خليق بالأحباء ألا يُزعِجوا الأموات في قبورهم. إن
الإمبراطور كلوديوس صار بفضلي إلهًا وأنت حارسة هيكله. لا يليق بخادم
الآلهة أن يكْفُر بنعمتهم.
أجربين
:
دومينيوس أينوباربوس.
نيرون
:
أنت تعيرينني باسم أبي! إنك خلعت بريتانيكوس من ولاية العهد لأنه دعاني
بهذا الاسم. سأترك اسمي المصطنع. سأمحو من التماثيل والأنصاب اسم نيرون
وأُصدِر أمرًا إمبراطوريًّا بإثبات اسمي دومنيوس أنيوباربوس؛ لأخلص من تعيير
الناس … وبعد يا سيدتي الأم الحنون … إن دومتيوس أنيوباربوس مصغٍ
إليك.
أجربين
:
أراك ضيِّق الصدر قليل الحلم، وعلى غير ما كنت أعهد، أيضايقك الآن أن أعيد
على مسامعك الإمبراطورية في طرفة عين ذكرى أمور قضيتُ في إنجازها أثمن وأعزَّ
سنيِّ حياتي؟ إنني قضيت سبع سنين في نزْعِ محبة ولدٍ من قلب والده.
نيرون
:
أنا الذي فعلت ذلك؛ فقد أقنعت الإمبراطور كلوديوس بأن ابنه ليس ابنه إنما
هو ثمرة الزنا.
أجربين
:
لقد حادثتَه مرة أو مرتين في الحمام أو على المائدة، أما أنا فقد أنجزت
عملي كله في الفراش وأنا بين ذراعيه … إنني أبلغتك رشدك قبل الأوان، وخلعت
عليك حلَّة الرجال وأنت صبي.
نيرون
:
عفوًا إن الإمبراطور كلوديوس هو الذي شاءت إرادته أن يخلع عليَّ هذه
الحلَّة، على أن هذا لن يذهب بحلاوة الجميل.
أجربين
:
إنني لا أمتنُّ ولكنني أذكرك.
نيرون
:
إنني ذاكر وشاكر.
أجربين
:
لقد جعلتك ابنًا لكلوديوس وزوجتك من ابنته فأمسيتَ تربطك به روابط القرابة
وأواصر النسب. لقد كنتَ في مبدأ حياتك طفلًا يتيمًا تعيش في كنف عمتك ليبديا،
فأصبحت في بضع سنين ابنَ الإمبراطور ووليَّ عهده وابن زوجته وزوج بنته، ولو
أنك بقيت في كنف ليبديا …
نيرون
:
لا تذكري عمتي ليبديا بسوء. فقد كفلتني صبيًّا، وأحسنت تربيتي، ولولا
مشيئتك ما شهدتُ عليها زورًا أمام مجلس السناتو.
أجربين
:
إنني مهما حييتُ فلن أنسى أنك صددتني عن العرش.
نيرون
:
أمَّاه … لم أحاول صدَّك عن العرش؛ لأنني لم أدرك أنك ترغبين التربُّع عليه …
ها هو أمامك قطعة من الخشب على قوائم أربعة … اصعدي إن شئت وابقي حيث
أنت.
أجربين
:
كما يرون الفارس طفلة على ظهر فرس تدليلًا أنت تهزأ بي يا نيرون!
نيرون
:
حاشا للأرباب … ليتني متُّ قبل أن أسمع منك هذه المسبَّة، على أنني أريد الصلح
… الصلح يا أماه … الصلح خير من شماتة الأعداء، ألست ولدك وغرس
بنانك؟
أجربين
:
إن للصلح شروطًا.
نيرون
:
هاتي شروطك ولا تكتمي عني شيئًا.
أجربين
:
سنيكا وبوروس لا بدَّ من عزلهما.
نيرون
:
سنيكا وبوروس، بل عزل ألف مثلهما هيِّن في جنب رضاك، ولكن ما ذنبهما؟ إنك
أنت التي اخترتِهما وفضلْتِهما على غيرهما. هل يُعزَل الحكماء والقوَّاد بغير ذنب؟
ماذا يقول العامة عنا إذا عاقبنا بدون ذنب أو جَرِيرة … إن سنيكا لا يغادر
كتبه وبوروس لا يفارق جنده.
أجربين
:
إنهما يدسَّان لي الدسائس، ويشعلان نار الفتنة بيني وبينك.
نيرون
:
إن الذي نقل إليك هذا كَذَبَك.
أجربين
:
إن عزلهما يعود عليك بالنفع دوني.
نيرون
:
وكيف ذلك؟
أجربين
:
إن سنيكا يدَّعي أنه الرأس المحرك والعقل المدبِّر، وبوروس يزعم أنه حامي
زمامك، ولولاه ما بقيت على العرش يومًا.
نيرون
:
حسن … حسن … سأفعل. ومَن ترشحين لمنصبيهما؟
أجربين
:
بالاس يخلف سنيكا، وفنيوس روفوس يخلف بوروس.
نيرون
:
فنيوس روفوس! فنيوس روفوس … هذا ضابط شاب.
أجربين
:
أشيخ أنت؟
نيرون
:
أنا إمبراطور والإمبراطور يصلح للملك وهو صبي، ولكن الحرس البريتوري
يتطلب كهلًا مُدرَّبًا.
أجربين
:
يمكن اختيار كهلٍ للحرس … وما قولك في بالاس؟
نيرون
:
على العين والرأس ولا عيب فيه إلَّا أصله.
أجربين
:
ولكن أصله لم يمنعه من سعيه في تزويجي من كلوديوس، ولا من إقناع
الإمبراطور بضرورة تبنِّيك وإثبات رُشْدك قبل أخيك، ولم يمنعه كذلك عن الإحسان
إلى سنيكا وبوروس وهما الآن ينتقصان من قدره … ولا ريب في أنه ذو الفضل
عليك، ولولاه لم تكن قيصرًا.
نيرون
:
عفوًا عفوًا … الجميل لا يُوزَّع، كوني أنت دون سواك صاحبة الفضل عليَّ،
وامتنِّي بصنيعك كيفما أردتِ، ولكن بحقي عليك لا تثني عنقي لبلاس.
أجربين
:
عدني أنك تفعل ما أريد.
نيرون
:
أعدك.
أجربين
:
أوكتافيا زوجتك الشرعية.
نيرون
:
هل أعزلها؟
أجربين
:
أتهزأ مني؟
نيرون
:
كلا يا فضلى الأمهات، حيث إننا الآن في مقام العزل والتنصيب، زعمتُ أنك
تريدين تبديلها بسواها.
أجربين
:
كلا! على العكس أريد تبديل سواها بها، اهجُرْ المعتقة أكتيه التي جُنِنْتَ بحبها
حديثًا.
نيرون
:
أوكتافيا حقًّا إنها جميلة وطاهرة لا يضارع حسنها إلا فضائلها، وأنا مخلص
لها منذ ثلاث سنين.
أجربين
:
إنك تهجرها.
نيرون
:
أوهذا من شئون الدولة؟
أجربين
:
كلا بل من شئوني، وأنا لا أريد أن تفضل معتقة وضيعة الأصل على ابنة
الإمبراطور كلوديوس.
نيرون
:
ألم تقولي لدى زواجي منها إنه زواج قضت به الضرورة، وإنني في حلٍّ من ملاذِّي
أسعى وراءها أنَّى وجدتها؟
أجربين
:
اتخِذْ مَن شئت من نساء الأشراف والنبلاء، وقصري مفتحة أمامك أبوابه، أبيح لك
فيه ما تهوى. وأجمع لديك نسوة رومه من كلِّ ذات حسن وحسب، واهجر أوكتافيا إن
شئت بل طلقها لساعتك شريطة أن لا تجعل لتلك المعتقة أكتيه سلطانًا على
قلبك.
نيرون
:
ليت الحب تُربَط أواصره بأمر إمبراطوري أو بمرسوم من مجلس الشيوخ، إذن
لأبغضت هذه وأحببت تلك.
أجربين
:
إذن تهزأ بي ثانية؟
نيرون
:
كلا كلا يا فضلى الأمهات ولكنني أتمنَّى. أليس التمنِّي مباحًا في رومه.
سأهجر أكتيه وأعشق أوكتافيا وأعزل بوروس وأولي روفوس (يدخل سنيكا).
المشهد الرابع عشر
نيرون
(مستطردًا)
:
أو أعزل هذا أيضًا. سأعزله حالًا بحق الآلهة لأعزلنَّه (إلى سنيكا بصوت منخفض) قصدت بالاس سترى كيف
يسقط (يدق نحاس الاستدعاء فيدخل
رسول).
نيرون
:
خذ فرقة من الشرطة واحضر إلينا الشريف بالاس فورًا.
أجربين
:
لماذا تحضره بفرقة من الشرطة؟
نيرون
:
تشريفًا لقدره (يدق نحاس
الاستدعاء).
خادم
:
مولاي!
نيرون
:
مُر خازن البلاط يحضر الحليَّ والحُلَل التي خصصْتُ بها فضلى الأمهات (يخرج الخادم) … إن أفضالك يا أماه لا تُعَد
ونعمتك عليَّ لا حدَّ لها (يعود الخازن وينشر
الحلي والحلل).
نيرون
(لأمِّه)
:
هذا بعض ما وجدت في خزائن القصر، أقدمه لك هديةً بنية عربونٍ للصلح الذي
تم اليوم بيننا (تقلِّب أجربين نظرها في الهدايا
باحتقار).
سنيكا
:
حقًّا إنها هدية قيصرية لا تليق إلا بفضلى الأمهات.
أجربين
:
قيمة الهدية بقصد مُهدِيها، وأنت لا تقصد بهذا إكرامي ولا التعبير عن حبك
إياي، ولكنك فرزت نصيبي وخصصتني بما جادت به نفسك؛ لتحرمني من الميراث
الإمبراطوري.
نيرون
:
لماذا فسَّرتِ أقوالي وأفعالي على النحو الذي رأيتِه الليلة؟ أيقنت بسوء
حظي.
خادم
:
السيد بالاس! (يدخل بأبهة عظيمة وخلفه حاشيته
ويتبادل نظرة من أجربين).
المشهد الخامس عشر
أجربين
:
إن الإمبراطور أيها السيد يريد إبلاغك أمرًا خطيرًا.
بالاس
:
إنني أطوع خدمه.
نيرون
:
إن رومه لا تحتمل إلا قيصرًا واحدًا.
بالاس
:
لتحرس الآلهة قيصرها مرموقًا بعين السعد مشمولًا بعناية الأرباب.
نيرون
:
دعني أتمِّم قولي وأبقِ الدعاء لي أو عليَّ للنهاية … إن رومه لا تحتمل إلا
إمبراطورًا واحدًا، فإن وُجِد على عرشها اثنان فلا بدَّ لأحدهما أن يتنحَّى، ولما
كنت أنا إمبراطورًا بحقٍّ إلهي، فلا أستطيع التنحِّي عن عرش أجدادي، فدعوتُك
لألتمس من جلالتك أن تتنازل عن نصيبك في العرش، فما قول جلالتكم؟! (نظرة اندهاش من أجربين).
بالاس
:
مولاي لست إمبراطورًا ولا وزيرًا بل أنا خادم وضيع.
نيرون
:
أتريد أن تجعل مجلس الشيوخ حكمًا بيني وبينك؟
بالاس
:
إنني لا أستحق المحاكمة.
نيرون
:
إذن فأنت منذ اليوم ميِّت بين الأحياء لا دخل لك في شئون الدولة، لا تزور
ولا تُزار، لا تخطب على منبر ولا تظهر في سوق عامَّة … محظور عليك دخول القصور
الإمبراطورية، ومُحرَّم عليك الاجتماع بالأشراف ورجال الحكم، واعلموا أيها
السادة أن رومه لها إمبراطور واحد هو أنا (يصعد
على العرش).
أجربين
:
إن بالاس الذي أذللتَه وأقصيته هو الذي رشحني لعرش الإمبراطور كلوديوس،
وأقنعه إلى تبنِّيك، وأقنعه أن صالح الدولة وتأييد الأمن يقتضيان رفع شأن
الغاصبين من أسرة قيصر كما فعل الإمبراطور أوغسطوس وطيبريوس من قبل، وزاده
ترغيبًا فيك بذكر مساوئ برنيانيكوس، ولما خطب كلوديوس خطبته بهذا الشأن لم
يكن قوله إلا صدى صوت بالاس.
نيرون
:
بالاس الذي كان يحرِّك الإمبراطور عن بعد بحبائل دهائه كما يحرك الأطفال
صورًا من الورق بخيوط دقيقة خفية.
أجربين
:
لقد أنفق هذا الدهاء في سبيلك ولم تكن تهزأ بالإمبراطور إذ ذاك هزْءَك به
الآن! لقد أخطأت في أنني سعيت في هذا السبيل، فحق لك أن تذلني وتلحقني
بالمهملين في حاشيتك، وأخطأ بالاس … وها هو يُجزَى شر الجزاء على خير
الأعمال، وأخطأ كلوديوس لأنه تبنَّى ولدًا من غير صلبه وأدخل غريبًا في بيت
كلوديان المقدس فقضى نَحْبَه رغم أنفه مغضوبًا عليه من الأرباب والناس. إن
الشيء من معدنه لا يُستغرَب. ألست دومنيوس أنيوباربوس؟
نيرون
:
نعم … نعم … أنيوباربوس ألم يكن لك زوجًا؟
أجربين
:
ستحكم الرومان بيني وبينك … إن أرواح آبائي ساخطة عليك وعظامهم ترتجف في
قبورها وروح كلوديوس تنظر إلينا بعين الشماتة والفرح. إنك تهين أمك على
مرأًى ومسمع من حاشيتك، وتقتل هذا الرجل الذي أحسن إليك لأنه بقي على وفائه
لي. حمدًا أيتها الآلهة على أن برنيانيكوس لا يزال حيًّا!
نيرون
:
برنيانيكوس!
بالاس
:
مولاتي!
أجربين
:
نعم برنيانيكوس ابن كلوديوس من صُلْبه وولي عهده وخليفته على عرشه، قد شبَّ
ونما وآن له أن يجلس على عرش والده. لم يكن كلوديوس أبًا لأحدٍ غير
برنيانيكوس. سوف يظهر كل شيء. سأرفع الستار عن كل شيء. سأفضح نفسي أمام
الملأ. سأعترف بالجرائم التي لوَّثت بها جسمي وروحي لأجلك، أنا التي تزوجت من
عمي وأشركتك فيما تعلم من أمره. سأحمل برنيانيكوس إلى الحرس البريتوري.
سأشعل نار الفتنة. سأخرب رومه. فويل لك مني. ويل لك مني (تخرج ووراءها بالاس وتُحدِث هرجًا).
نيرون
:
لا تذعروا يا سادة، هذه نوبة تصيبها من حين إلى آخر، وتهذي ثم تفيق فلا
تذكروا ما قالت … اذهب أنت يا بوليوس واستدعِ الأمير برنيانيكوس على جناح
السرعة وأبقِه في هذا البهو حتى أعود … وأنت يا كراسوس (بصوت منخفض) ادعُ لنا لوكستا الساحرة. وأنت
أيها الحكيم إلى كتبك. أما أنا فسأوافي أصدقائي لأن الساعة الأولى من الليل
قد قربت واليوم خمر وغدًا أمر، وستعلم رومه أيُّنا أقدر.
(ستار)
الفصل الثاني
المشهد الأول
لوسيوس
(يخرج فجأة)
:
ها هو الأمير برنيانيكوس وصفيُّه لوكوس، سأستمع ما يقولان كما أُمِرت. انعكاف
الأمير حرمني من التجسس عليه (يختبئ).
لوكوس
:
وهل تعلم يا مولاي سبب هذه الدعوة؟
برنيانيكوس
:
لا أعلم سببها ولا يهمني، فقد استوى عندي كل شيء، ولولا أنك الباقي من
حاشية أبي ولولا وفاؤك لذكراه وإخلاصك لي، لضاقت الدنيا في عيني.
لوكوس
:
أحذِّرك يا مولاي من مكاشفة الناس بما يكتمه ضميرك، فقد ساءني تقرُّب أجربين
الخئون من سموِّك، وأخشى أن تكون خُدِعت لها.
برنيانيكوس
:
أجربين تخدعني! إن حوادث أذاها لا تزال حاضرة في ذهني، فقد دخلت على أسرتنا
ولو كانت وباءً جارفًا لكان أثرها بيننا أقل فتكًا بنا، فقد حرمتْ أختي
أوكتافيا خطيبَها الشريف سيلانوس وأدخلتْ علينا غريبًا من غير دَمِنا؛ ولدها
لوسيوس دوميتيوس أينوباربوس. وما زالت تقربه وتقصيني حتى حلَّ محلي وصار ابن
أبي وولي عهده وخليفته. فلما بلغتْ ما كانت ترجو قضت على والدي وجعلت ولدها
إمبراطور رومه. كل هذا ورومه غافلة عنَّا كأنها لا ترى ولا تسمع.
لوكوس
:
إن أشراف رومه عن بكرة أبيهم ينظرون بعين السخط إلى تلك الأعمال ويعطفون
على سموِّك.
برنيانيكوس
:
ما نفعُ العطفِ بعد حلول البلاء؟ ألم تصل المودة بينهم وبيني إلى أبعد من
ذلك.
لوكوس
:
هكذا أشراف رومه أبناء ساعتهم وعبيد حكَّامهم.
برنيانيكوس
:
أهذا قدْرُ أسرة كلوديان في نظرهم؟
لوكوس
:
إن الإمبراطور كلوديوس والدك يستحق اللوم.
برنيانيكوس
:
عفوًا عفوًا يا لوكوس، لا يجوز لولد أن يحكم على والده. لقد كان أبي طيِّب
القلب طاهر السريرة.
لوكوس
:
الفوز في العالم بالعقول والأخلاق لا بالقلوب الطيبة والنيات
الحسنة.
برنيانيكوس
:
إذن تظن أجربين ونيرون …
لوكوس
:
اخفض صوتك يا مولاي، فإن نيرون مذ بلغ العرش بثَّ العيون والأرصاد في كل
مكان، وقد يكون تحت هذا المقعد عينٌ ترى ولهذا الجدار أذن.
برنيانيكوس
:
هب أنهم نقلوا إليه ما أقول.
لوكوس
:
إنه كالدهر لا أمان له وكالقدر لا مردَّ له.
برنيانيكوس
:
أراه منذ أمد قصير يظهر لي العطف ولين الجانب.
لوكوس
:
هذا يدعو سموَّك لأن تحذره أشد الحذر.
برنيانيكوس
:
أتحسبه يضمر لي سوءًا وأنا لا أناوئه العداء؟
لوكوس
:
إن بطش نيرون بالناس راجع إلى ما يتوهَّمه فيهم، فهو يعاقب على الأذى الذي
يتوقَّعه فيقتص من الناس على نيَّاتهم، ولا يصبر إلى أن تصير أعمالًا، ومبدؤه
الاتقاء خير من العلاج، وسحق البيضة أسهل من ذبح الديك الصائح.
برنيانيكوس
:
تظن نفسه تحدِّثه بقتلي؟
لوكوس
:
إن نيرون يسارع إلى الخلاص من أعدائه على قدر ما تحمَّلوا من مظالمه، فهو
يخشاك بنسبة ما لَحِقَك من أذاه.
برنيانيكوس
:
أيقتلني في رومه جهارًا؟
لوكوس
:
لا حاجة به إلى الجهر في مثل الذي تقول، وما دامت لوكاست حية تسعى فكأس
السم لدى نيرون حاضرة.
برنيانيكوس
:
إن قولك يخترق قلبي … إن نفسي تحدِّثني بأن نيرون يضمر لي السوء؛ ولذا عوَّلت
على تنفيذ أمرين أصونهما عن سواك.
لوكوس
:
أبقِ هذا الحديث إلى أن تعود إلى قصر سموك، فإنني لا أثق بهذا المكان مهما
كان خاليًا في الظاهر، فقد يكون خلف هذا الستار جاسوس.
برنيانيكوس
:
وفي جوف هذا التمثال جاسوس (يضحك).
لوكوس
:
الأمير يضحك من حَذَرِي.
برنيانيكوس
:
الحذر يُعَدُّ جبنًا إذا زاد.
لوكوس
:
الأمر لمولاي.
برنيانيكوس
:
سأحاول إشعال نار الفتنة في قلوب الأشراف والشيوخ بأن أهيج الخواطر على
نيرون.
لوكوس
:
وإذا فشلت؟
برنيانيكوس
:
سأتعلق بأهداب الفرار فألتجئ إلى آسيا أو أفريقيا.
لوكوس
:
أتترك رومه وطنك؟
برنيانيكوس
:
لا وطنَ لمن لا كرامة له في وطنه.
لوكوس
:
أتترك المدنية والنعيم؟
برنيانيكوس
:
ماذا جنيت من المدينة والنعيم … إنني أعاني صنوف الذل، وأفضلُّ أن أكون
رأسًا لذئب على أن أكون ذيلًا لأسد!
لوكوس
:
أتعيش بين الأمم المتوحشة؟
برنيانيكوس
:
عيشة الإباء في ظلال الهمجية خير من عيشة الذل في ظلال التمديُن. ليست
قيمة الترحُّل في نصيبه من الرفاهية، إنما قيمته في نصيبه من الكرامة
والشَّمَم.
لوكوس
:
هل فاتح سموك بهذا العزم سواي؟
برنيانيكوس
:
نعم أفضيت به قبلك إلى بوليوس أحد ضباط الحرس البريتوري، وهو من النفر
الكرام الذين بقُوا على مودة أبي.
لوكوس
:
خاب ظنُّك أيها الأمير … إن هذا الضابط صنيعة نيرون وعينه الساهرة وأذنه
الصاغية! بل هو يده اليمنى في جرائمه؛ لأنه رئيس فرقة الحرس الخفي.
برنيانيكوس
:
أراك لا تحسن الظن بأحد.
لوكوس
:
إن حسن الظن شيمة الحمقى. ماذا كان رأيه؟
برنيانيكوس
:
لقد بشرني بنجاح الفتنة، وقال إن الأشراف والشيوخ مجمعون على بغض
نيرون.
لوكوس
:
إنه ينصب لك الحبائل.
برنيانيكوس
:
إن السعادة حسناء تعشق أشجع الفتيان.
لوكوس
:
ولكنها لا تعشق الطائشين.
برنيانيكوس
:
ما تقصد؟
لوكوس
:
الرأي مُقدَّم على الشجاعة.
برنيانيكوس
:
حتى متى؟ (يُسمَع بوق).
جندي
:
حيوا قيصر (يدخل نيرون وخلفه جند وحرس ويحدث
اضطراب. ينتهز لوسيوس فرصة فيزوغ من خلف التمثال ويخرج دون أن يراه
برنيانيكوس، ويدخل مع نيرون كأنه كان في حاشيته ويحادثه همسًا كأنه
يفضي إليه بما سمع).
لوكوس
(يهمس لبرنيانيكوس)
:
كن حذرًا صبورًا في قولك.
برنيانيكوس
:
سأرى (يخرج لوكوس بعد أن يعانق مولاه ويقبل
يده).
المشهد الثاني
نيرون
:
أهلًا بك أيها الأخ. إن عزلتك تسوءني وبعدك يؤلمني فلا وقت أسعد لديَّ من
الوقت الذي أتمتع فيه بحلو حديثك.
برنيانيكوس
:
إن الإمبراطور يتنزَّل.
نيرون
:
ألم أقل لك يا برنيانيكوس إنه ليس للسلطة في نفسي أقل أثر، فهي عبء أنوء به.
برنيانيكوس
:
إن الدولة حِمْل ينوء به من لم يُخلَق لحَمْله.
نيرون
(يتغير)
:
تقول إنني لم أكن أصلح للعرش؟ إذن مَن ذا الذي كان يصلح؟
برنيانيكوس
:
لا يصلح للدولة إلا أهلها.
نيرون
:
ألست ابن كلوديوس وأخاك الأكبر؟
برنيانيكوس
:
إنك ابنٌ وأخ اسمًا ووهمًا!
نيرون
:
برنيانيكوس! ألا تخشى صولتي؟
برنيانيكوس
:
أنت مغتصِب ولا صولة لغاصِب. كنت تقول الآن إنك لا تأبه للسلطة ولا تهتم
بالصولة، فما الذي جعلك تلجأ إلى صولتك.
نيرون
:
عجبًا عجبًا هوِّن عليك. إن هذه الحدَّة قد تليق بالسوقة ولكنها لا تحسن
بالأمراء من بيت كلوديوس.
برنيانيكوس
:
ليس لي من بيت كلوديوس إلا النسب وقد شريت النسب — وهو وهم باطل — بثمن
باهظ وهو حياتي وسعادتي. ليتني ولدتُ بين الشعب إذن لاخترت بقوتي وخُلقي
قائدًا أو كنت خطيبًا، ولكنني واأسفاه وُلِدت أميرًا من صلب إمبراطور، وقد قُضِي
على الأمراء أن يضحُّوا بسعادتهم وآمالهم في سبيل نسبهم، وأن يقضوا أعمارهم في
عشرة الأرقاء والمعتقين ورجال الحاشية عوضًا عن عِشْرة الأشراف وأهل الفضل،
وهذا سرُّ انحطاطنا وانطباع نفوسنا على الخوف والتمليق.
نيرون
:
هذه روح الثورة ولا يليق بالأمير الفتى أن يثور على أخيه الأكبر، لا سيما
إذا كان الأكبر نيرون إمبراطور رومه أليس كذلك يا سادة؟
السادة
:
هذا عين الصواب.
برنيانيكوس
:
أنا ثائر؟ أنا الخاضع الراضي المعتزل الصامت. أنا الصابر.
نيرون
:
إن الثورة تجري مع دمك في عروقك.
برنيانيكوس
:
لو كانت الثورة تجري في عروقي لثُرْتُ إذ ألبسوك قباء الرجال ليثبتوا رشدك
قبلي، وإذ منحوك سلطة القناصل وسموك أمير الشباب … لو كانت الثورة تجري مع
دمي في عروقي لثرت إذ خلع الإمبراطور عليك الحلة الأرجوانية وهي حلة القواد
والزعماء وتركني في قميص لا يستر الساق؛ ليثبت للملأ أنني لا أزال طفلًا، وأنك
أمير راشد … لو كانت الثورة تجري في عروقي إذ مات أبي موتًا خفيًّا بغير
داء وفي الوقت الملائم، كأن المنية كانت تترقَّب بلوغك الرشد وعقدك على
أوكتافيا وحلول بوروس على رأس الحرس البريتوري محل جينا وكريستيبوس كأنكم
أخذتم على المنية عهدًا أن لا تتأخر بعد ذلك عن الإمبراطور طرفة
عين!
نيرون
:
أما والآلهة ما كنت أظن هذا الصبي الناشئ يصون في صدره كل هذه الذكريات
… لم تحدثني نفسي أيها الشاب بأن قلبك الصغير يحمل هذه الأحقاد الكبيرة،
وليس بيني وبينك ما يدعوني لاحتمال دلالك وصَلَفك.
برنيانيكوس
:
ليس هذا دلالًا ولا صَلَفًا، إنما أدفع عن نفسي تهمة الثورة.
نيرون
:
إنه دفاع يتضمن اتهامًا، وهذا الاتهام موجَّه إلى إمبراطورك، على أنني
طالما دافعت عنك وعن أمك لدى الإمبراطور كلوديوس.
برنيانيكوس
:
لقد ذهبت أمي فريسة دسائس أمك!
نيرون
:
إن ميسالينا لا تستحق دفاعًا.
برنيانيكوس
:
لك أن تلحق بي من الأذى ما تشاء، ولكن حذارِ من اغتياب امرأة متوفَّاة في
حضرة ولدها.
نيرون
:
إنها لم تصُن كرامتَها … كانت متهتِّكة؟
برنيانيكوس
:
لم تكن أكثر تهتُّكًا من سواها، على أنني لا أستبيح اغتياب أمِّك أجربين وهي
لا تزال حية.
نيرون
:
ها أنت تسبُّ فضلى الأمهات … إن أمي لم تخُن زوجها.
برنيانيكوس
:
وأمي لم تقتل بعْلَها.
نيرون
:
أيها السادة! إن هذا الحَدَث يحرج صدر إمبراطورِه.
برنيانيكوس
:
لست إمبراطوري!
نيرون
:
أنا إمبراطور رومه، ألست من أهل رومه؟
برنيانيكوس
:
كلا … مذ صعدت على عرشها فلا أعدُّها وطنًا لي.
نيرون
:
عجبًا … إن هذا الولد يخرجني عن حلمي (يدنو منه
ويحاول إمساكه).
برنيانيكوس
:
مكانك يا لوسيوس دومتيوس أنيوباربوس.
نيرون
(يرجع إلى الخلف بذعر)
:
آه يا للنجدة! يا للنجدة! إنه يدعوني باسم أبي. إنه يعيرني بأصلي. هذا
الولد يريد قتلي … دسيسة سوداء … مؤامرة شيطانية! احكموا بيننا قبل أن أبطش
به.
المشهد الثالث
سنيكا
:
مولاي! الحق في جانبك ولكن القوة بيدك أيضًا فصافح أخاك واعف عنه
(يدنو من نيرون ويشاوره).
نيرون
:
إنني لا أرفض الصلح إذا مدَّ لي يده.
برنيانيكوس
:
وأنا لا أرفض الصلح إن كنت مخلصًا.
نيرون
:
أنا الإخلاص مُجسَّمًا … إلى صدري … عانِقْ أخاك الذي لا يحب سواك … إن الدنيا
هينة في جنب رضاك. اصْحَبْه أيها الضابط إلى حيث ينتظرني لأمتِّع به قلبي ونفسي.
واعلم يا بوليوس أن اليوم الذي عاد فيه برنيانيكوس إلى حضن أخيه لهو يوم
مبارك! (يخرج بوليوس ورنيانيكوس، ثم يعود بوليوس
بعد قليل) … لقد تحققت صدق روايتك وعلمت أن ما نقلته عن
برنيانيكوس هو عين ما يجول في صدره، هل أحضرت المرأة لوكستا؟
بوليوس
:
هي رهينة أمر مولاي. حاشا أن أنقل لمولاي إلَّا صدقًا.
نيرون
:
آه يا بوليوس! إنه ليحزنني أن يقضي هذا الفتى في ريعان صباه، ولكن مصلحة
الدولة فوق كل مصلحة، إنهم يتآمرون ويدسون الدسائس السوداء ويتحفَّزون
للانقضاض عليَّ أنا أميرهم وحاكمهم إمبراطور رومه! إنني لا أدافع عن نفسي
إنما أدافع عن عرش رومه، وواجب الدفاع عن العرش أعظم واجب. أريد جرعة من
السمِّ تزهق عشرين نفسًا في طرفة عين، لا بدَّ لي من الفتك بهم قبل أن يفتكوا
بي.
بوليوس
:
هل يأمر مولاي بمثول الساحرة لوكستا بين يدي جلالته؟
نيرون
:
نعم لا بأس … أريد مشاهدتها لأزيدها تأكيدًا (يهم بوليوس بالخروج) … (مستطردًا) ولكن لا، لا أريد مشاهدتها لأنها ساحرة وأخشى شرَّ
عينيها. ليس من المحتَّم على الأمير أن يلقى كلَّ أعوانه. إن لوكاستا يدي
السوداء التي تعمل في الخفاء، فدعها في ظلمائها ولا تعرِّضها للضياء.
بوليوس
:
الأمر لك (يخرج).
خادم
:
القيصر! القيصر …
نيرون
:
ما وراءك؟
خادم
:
القائد بوروس (يدخل القائد).
المشهد الرابع
نيرون
:
أهلًا بك أيها الشهم الهمام لقد جئت بعد الأوان.
بوروس
:
هل طلبني مولاي قبل الآن؟
نيرون
:
أين كنت إذ رفع برنيانيكوس صوته على صوتي وسبَّ جلالتي وتهكَّم عليَّ وتعدَّى
على مقامي الإمبراطوري ثم تهددني؟
بوروس
:
أيصدر كلُّ هذا عنه وهو الأخ الأصغر؟
نيرون
:
لقد صار أخي حربًا عليَّ وعلى الدولة … إنه يحاول إشعال نيران الفتنة،
وقد جمعتِ الأحقاد والمطامع بينه وبين تلك التي تدعونها فضلى الأمهات، وما هي
إلَّا شرهن، ويشد أزرهما في اتفاقهما بالاس حتمًا لأنه صفيُّ الإمبراطورة
وحاميها!
بوروس
:
مؤامرة!
نيرون
:
كلا … لهو ولعب؟ … نعم مؤامرة … مؤامرة شيطانية، هم يريدون عزلي عن العرش؛
لأنني لم أفسح لهم عليه مكانًا، ويودُّون نزع الصولجان لأنني أبعدته عن
أيديهم، ويرغبون في وضْع التاج لأنه يسَعُ رأسي دون رءوسهم.
بوروس
:
وهل ثبت؟
نيرون
:
ثبت. وهل نحن في نزاع قضائي حتى نبحث عن الثبوت بالأوراق والصكوك
والمستندات؟ أحقل هو أم بيت؟ إن الأمر أعظم ممَّا تظن أيها القائد … إن عرش
رومه في خطر، والفتنة ضاربة أطنابها والثورة على الأبواب وحياة الإمبراطور
نيرون أمست مهدَّدة. أمِن حِزبهم أنت؟
بوروس
:
مولاي!
نيرون
:
إذن ما هذا السكوت؟ ألست قائد الحرس البريتوري وهو سياج الدولة؟
بوروس
:
مُرْ.
نيرون
:
القضاء على زعماء الفتنة.
بوروس
:
وهم؟
نيرون
:
الأمير برنيانيكوس
بوروس
:
مولاي؟!
نيرون
:
نعم نعم … لقد طفح الإناء وقد صحَّت عزيمتي على …
بوروس
:
أتقضي عليه؟
نيرون
:
قبل نهاية هذا اليوم … ثم أُتبِعُه بغيره.
بوروس
:
قد تكون المجازفة في العجلة، وقد يكون الذي أوعز إلى جلالتكم …
نيرون
:
لم يوعز إليَّ أحد … إن مجدي وحياتي وطمأنينتي وسلامة العرش هي التي
أوعزت إليَّ.
بوروس
:
لا تطاوعني نفسي أنك أنت الذي ابتكرت هذا العقاب. تأمَّل يا مولاي! بأي
دم تريد تخضيب يديك؟ هل سئمت حب الرومان وأنت الآن تستثير بغضهم. إن الشعب …
نيرون
:
الشعب! الشعب! … إلى متى أحفل بحب الشعب وبغضه؟ على أنني ذُقْت هذه اللذة
فلم أجد لها الطعم الذي كنت أتوهَّمه. إن حبَّهم ابنُ يومِه، فهو يُولَد مع الشمس
وينتهي مع الغروب.
بوروس
:
أنت إمبراطور رومه.
نيرون
:
لِيكن … فهل أنا إمبراطور رومه لأرضي الرومان وأغضب نفسي؟ ألا أستطيع أن
أكون إمبراطورًا لنفسي يومًا، ألا أتمتع بالإمبراطورية.
بوروس
:
إن واجب الدولة …
نيرون
:
الدولة أنا وأنا الدولة!
بوروس
:
مولاي إنك إلى الآن أبيض اليد طاهر الذيل، فإذا أخذت برأي المملقين
والدسَّاسين فسوف يقودك إلى ذنب والدم يدعو الدم، والعنف يزيد العنف!
نيرون
:
سأقضي على واحد وانظر في شأن الآخرين.
بوروس
:
إنك إن قتلت أخاك أشعلت نارًا لا تنطفئ جذوتها.
نيرون
:
إن لي في القصاص حياة ومجدًا.
بوروس
:
إذن لقد رفعتِ الآلهةُ عن رومه رحمتها. لقد كنتَ ضنينًا بدماء المجرمين
وتأبى التوقيع على أحكام القصاص، فما بالك اليوم تجود بأكرم الدماء
وأطهرها؟!
نيرون
:
إن مجدي يأمرني!
بوروس
:
إنك إن قتلت أخاك لا شك فاقد مجدك.
نيرون
:
أمن حزبهم أنت يا بوروس؟
بوروس
(يركع ويمد له يده بسيف)
:
خذ هذا السيف وأغرسه بين جوانحي وأهرق دمي، فليس له غرماء، ثم سِرْ في
طريقك التي رسمتها لنفسك، إنني أفضل الموت في هذا السبيل على أن يُقال عنك
إنك سفَّاك لا ترعى حُرْمة الأموات ولا تحفظ مودة الأحياء.
نيرون
:
انهض انهض … إنني واثق من إخلاصك.
بوروس
:
بشرفي.
نيرون
:
أوشكت أن أعدل.
بوروس
:
أين الأمير برنيانيكوس سأردُّه إلى رحابك وأرد كَيْد الوشاة إلى
نحورهم.
نيرون
:
إنه في مكان أمين من هذا القصر لا يستطيع الوصول إليه أحد … سيعلم أنه
مدين لك بحياته.
بوروس
:
كان المسكين ينتظر حتفه وهو لا يدري مصيره! (يخرج.)
نيرون
(لنفسه)
:
إن القوة التي فقدها هذا القائد ببتر ذراعه استردَّها بطول لسانه. ما كنت
أحسب هذا القائد المغوار يحرص كل هذا الحرص على دم فردٍ وطالما سبح في دماء
الألوف (يدخل بوليوس).
المشهد الخامس
نيرون
:
هذا أنت يا بوليوس، عليك لعنة الآلهة، أين كنت أيها البطيء
المتراخي؟
بوليوس
:
كنت أُعِدُّ سمًّا يزهق عشرين نفسًا، وقد جمعت له لوكستا أعشابًا شيطانية
وجرَّبناه في رفيق فقضى قبل أن يستقر في جوفه!
نيرون
:
واأسفاه! لقد أضاعت لوكستا عملها وسحرها عبثًا. كدت أعدل عن قتل
برنيانيكوس.
بوليوس
:
عدلْتَ يا مولاي؟ إذن ويل للمخلصين الذين يدافعون عن عرش إمبراطورهم … إن
الإمبراطورة أجربين إذا علمت بهذا العزم وهي لا شك عالمة. فسوف تستغل هذا
العدول لذاتها وتنسبه إلى نفوذها عليك وتأثيرها فيك؛ وبهذا يقوى حزبها
ويرتفع ذِكْر برنيانيكوس ويعود بالاس رأس العصبة إلى سالف مجده.
نيرون
:
دع عنك فضلى الأمهات وبالاس، فإن شأنهما أقل من أن يشغلني، ولكن الذي
يشغلني هو الشعب.
بوليوس
:
إن عَلِمَ الشعب أن الملك سفَّاك ثم يسفك، فالشعب يخشاه، وإن عَلِمَ منه الرحمة
والعدل فالشعب يبغضه ويحتقره. فاختر لنفسك ما يحلو.
نيرون
:
قاتلتْك الآلهة! ما أصدق نظرك وأصوب رأيك! أين كنتَ وهم يرهبونني بالشعب
تارة وبالرومان طورًا.
بوليوس
:
إذا أكرمت الرومان أطغيتهم وأغريتهم بالغرور؛ لأنهم أَلِفُوا تقبيل اليد التي
تضربهم.
نيرون
:
لقد وعدت بوروس، وإنني أخشاه لفضيلته.
بوليوس
:
إن لبوروس غاية يرمي إليها.
نيرون
:
أمن حزب الفتنة هو؟
بوليوس
:
كلا ولكن بوروس ومن معه يخشون أنك إن قضيت على أعدائك من ذوي قرباك ونجوت
من رقابتهم، ذقتَ للحرية والبطش طعمًا لا تسلوه فيخلو لك الجو ويتسع أمامك
أُفُق الصولة، وفي هذا إضعافهم والقضاء على سلطتهم.
نيرون
:
آه آه … مسكين أنت يا نيرون! لها أجربين لها حزب وبرنيانيكوس له حزب
وبوروس له حزب، لقد تكاثرت الأحزاب علينا فلا ندري أيها نقاوم أولًا. إن
الأمر لا يحتمل الصبر وليس في الوقت مُتَّسعٌ للإبطاء، أجربين … برنيانيكوس …
إليَّ جميعكم … سأصارعكم وأصرعكم … لقد عدلت عن العفو والرحمة … سيَلْقَى
برنيانيكوس حتْفَه لا محالة!
المشهد السادس
خادم
:
النصر لقيصر!
نيرون
:
ما وراءك؟
خادم
:
إن امرأة مقنَّعة تأبى تعريف نفسها تريد المثول بين يدي جلالتكم.
نيرون
:
مؤامرة جديدة في هذا اليوم العصيب … أمقنَّعة هي؟
خادم
:
كإحدى عذارى النار المباركات.
نيرون
:
لعلها تخفي بين ثنايا قناعها خنجرًا أو مدية أو طلسمًا مصريًّا.
خادم
:
لم نمد إليها يدًا.
نيرون
:
أحضروها محفوفة بالجند، ثم اتركوها ريثما أستطلع طلعتها وكونوا على قَيْد
قدمٍ منِّي.
خادم
:
الأمر لمولاي (يختفي نيرون وراء تمثال وتدخل
عشيقته أكتيه محفوفة بالجند).
أكتيه
:
عجبًا! أهكذا أُمِرْتم أن تفعلوا؟
خادم
:
هذه عادتنا مع مَن لا نعرفهم.
أكتيه
(ترفع النقاب)
:
لا خوف على الإمبراطور مني … أنا جاريته أكتيه (يُدهَش الحرس).
نيرون
(خارجًا من مخبئه)
:
اتركونا … (ينسحب الحرس) … (مُستطرِدًا) أكتيه إلى صدري!
أكتيه
:
مولاي لقد طال هجرك فيا ليتني لم أعرف هواك.
نيرون
:
جئت في يوم لا يصلح للغرام!
أكتيه
:
كل وقت صالح للحب. إن نغمة من قيثارتك ولحنًا ترفع به عقيرتك وكأسًا تنبِّه
بها نفسك وكفًّا ناعمة تمحو هموم الدولة عن جبينك وشفتين ملتهبتين تُسِرَّان إلى
فمك الإلهي حديث الهوى وقلبًا خافقًا ينضم إلى قلبك هذا، هو الحب الذي جئت
أحمل إليك رسالته.
نيرون
:
أكتيه أكتيه، أنَّى لك بهذا الكلام العذب؟
أكتيه
:
إن حبي بل عبادتي إياك أوحت إليَّ ما أقول!
نيرون
:
هذا شعر صادق.
أكتيه
:
أشْعُر بأعظم مما يتحرك به لساني، فما القول سوى صدى صوتٍ العواطف!
نيرون
:
حقًّا لقد مضت أيام دون أن أراك.
أكتيه
:
بُعْد مولاي عني يومًا هجرُ سنين. فما بالك إذا طالت الأيام؟!
نيرون
:
إنك بارقة الأمل في ليل الحوادث التي تكتنفني، وقد ارتاحت نفسي منذ رأيتك
وتفاءلت بمَقْدمك.
أكتيه
:
إني جارية قليلة الشأن ولكن حبي عظيم. ضعفي ظاهر ولكن قوتي كامنة، فإن
أبقاني مولاي بجانبه فأنا كفيلة بأن أُزِيل همومه وأسهر على سعادته.
نيرون
:
ولكن أوكتافيا ابنة كلوديوس الإلهي التي دَهَتْنِي بها فضلى الأمهات ألا
تغار؟ ألا تنتحب؟ ألا ترفع شكواها إلى مجلس الشيوخ أولًا وإلى الأرباب
ثانيًا، كأن للشيوخ أو الأرباب دخلًا بين الرجل والمرأة التي
يختارها؟
أكتيه
:
إن أوكتافيا زوجة شرعية وشريكة الإمبراطور في العلانية، أما أنا فجاريته
وخادمته أخلع نعليه وأحملهما وأقبِّل قدميه هكذا (ترتمي على قدميه).
نيرون
:
إذن فلْتبقَيْ.
أكتيه
:
مولاي!
نيرون
(يدق نحاس الاستدعاء)
:
أعدُّوا لهذه العقلية مخدعًا في الطبقة العليا من الجناح الأيمن.
أكتيه
:
مولاي لو سمحت جلالتكم لاخترت الجهة التي أُقِيم بها.
نيرون
:
أي مكان تختارين؟
أكتيه
:
القلب!
نيرون
:
يا لك من مُداعِبة! لقد محوتِ نصف همومي!
أكتيه
:
والنصف الآخر؟
نيرون
:
في هذه الليلة! (ترمي له قبلة وتسير خلف
الخادم.)
المشهد السابع
لوسيوس
:
مولاي! إن العرش في خطر.
نيرون
:
خطر جديد؟
لوسيوس
:
بقية أخبار المؤامرة.
نيرون
:
ما لهذه الأخطار من نهاية؟
لوسيوس
:
إن فضلى الأمهات …
نيرون
:
لِتخطفنها الشياطين وتخطفنَّك أنت أيضًا! إنني لم أنجُ من دسائس الأمس حتى
تفاجئني بمكائد اليوم!
لوسيوس
:
إن لها حزبًا قويًّا مُؤلَّفًا من الأشراف والشيوخ وأكابر الأمة، وهي لا تألو
جهدًا في لمِّ شعث الناقمين على عهدك وجمع كلمتهم، وقد علمت أنها تغلُّ يدها
في كلِّ الأمور إلا في شراء هؤلاء القوم، فهي تبسط لهم يدها كل البسط وتنفق
عليهم بسخاء قيصري وتُولِم لهم الولائم، وقد سمعتها بأذني تخطب فيهم وتدعو
كلًّا منهم باسمه، وتحبب نفسها إلى أصغرهم شأنًا بالملق والمداهنة وتغذِّي
نفوسهم بالألحان العذبة.
نيرون
:
سنيكا … على سنيكا وبوروس … الأسماء يا لوسيوس … الأسماء.
لوسيوس
(يُخرِج ورقة من جيبه)
:
أكبرهم شأنًا تسعة.
نيرون
:
الأسماء الأسماء (يدق نحاس الاستدعاء)
الحكيم سنيكا والقائد بوروس على جناح السرعة.
لوسيوس
:
إن بالاس هو الرأس المدبِّر واليد الفعَّالة.
نيرون
:
بالاس! … إن سياسة اللين لا تنفع. لقد عاهدني ونقض عهده. سأبعث به إلى
حيث لا يستطيع التآمر عليَّ بعد اليوم … هات الورقة وبادِرْ إلى إتمام عملك
ووافني بكل جديد وحذارِ من الطيش والمبالغة في نقل الأخبار، أنت عيني وأذني،
واعلم أني إذا علمت أن عيني تخدعني فقأتها، وأذني إذا خانتني صلمتها ويدي
إذا عجزت عن قضاء حاجتي قطعتها.
لوسيوس
:
المال يا مولاي!
نيرون
:
خذ (يلقي له مالًا. يخرج).
خادم
:
الحكيم سنيكا والقائد بوروس (يدخلان).
نيرون
:
الحكيم غارق في بحار علمه، والقائد مرتكن إلى سالف مجده، والعرش في
خطر.
سنيكا
:
مولاي!
بوروس
:
لم نقصِّر.
نيرون
:
نعم لم تقصِّرا ولكن تعوزكما اليقظة. أنتما تتخلَّيان عني وتتركاني أذهب
فريسة امرأة لا قلب لها، ومُعتَق لا أصل له ولا كرامة.
سنيكا
:
مولاي.
نيرون
:
إن مولاك لم يعد مولًى لأحد. إن مولاكم منذ اليوم هو بالاس المُفدَّى
ومولاتكم أجربينا!
سنيكا
:
فضلى الأمهات؟
نيرون
:
إليك عني … إنما هي الخئون الغادرة.
سنيكا
:
وماذا يحمل مولانا على أن …
نيرون
:
تقذف بي الشياطين والأرواح الشريرة، وتنهش لحمي الخنانيص الوحشية، وتهشم
عظمي تماسيح أفريقيا، إذا ما أبقيت على أحد منهم بعد اليوم! لقد تآمرت
الإمبراطورة أجربين مع بالاس وروبيليوس بلاتوس حفيد الإمبراطور أغسطس على
إحداث ثورة، غايتها خلعي والتزوج من شريكها لتقاسمه العرش … لقد آن الأوان
للخلاص من هذه العقرب.
سنيكا
:
نريد أن نعلم.
نيرون
:
وما نهاية علمكم؟ إن أجربين الخئون هنا في رومه على قَيْد ميل منِّي تؤلف
حزبًا من أعدائي الطامعين في العرش، وتتآمر عليَّ وهاك قائمة بأسماء زعماء
حزبها (يدق نحاس الاستدعاء).
خادم
:
مولاي!
نيرون
:
أيها القائد بوروس. تسع فرق من جندك تُحضِر لي كلًّا من هؤلاء قبل أن يهدأ
روعي.
بوروس
:
الأمر لك (يخرج).
المشهد الثامن
سنيكا
:
هل تثبَّت مولانا؟
نيرون
:
دعِ التثبُّت للمؤرخين. أما أنا فأذبح أولًا.
سنيكا
:
قد يكون في القضاء عليهم خطرٌ أشد من الذي تخشاه.
نيرون
:
ليس لدي إلا وسيلة واحدة حيال مَن يتآمر.
سنيكا
:
كلا يا مولاي إن هناك عدة وسائل بعضها أفضل من بعض … تستطيع أن تستَبْقِيَهم
بعد أن تقف على أسرارهم وتملك أعناقهم. طالما تقدمت إلى جلالتك بالمشورة في
أمر هؤلاء الأشراف، إن تقريبهم من جلالتك بالإحسان خير حائل بينك وبين دسائس
الأعداء.
نيرون
:
إنني إذا أحسنت إليهم طمعوا فيَّ وأطمعوا غيرهم.
سنيكا
:
وإن قتلتهم أغضبْتَ أُسَرَهُم وهِجْتَ سخطَ سواهم.
نيرون
:
وماذا عليَّ إذا أغضبت نصف رومه؟
سنيكا
:
إن حسن السياسة يقتضي الإقلال من الناقمين والإكثار من المخلصين.
نيرون
:
حسن … ولكن ما حِيلتي في هؤلاء وأنا لم أُلحِق بأحدهم أذًى؟
سنيكا
:
إن مَن لم يلحقه أذاك يطمع في إحسانك.
نيرون
:
يا لك من مدافع عن حياة مَن لا يستحقون الدفاع.
سنيكا
:
إنني لا أدافع عنهم إنما أريد أن أدْفَع عنك أذاهم.
نيرون
:
إذن بماذا تشير عليَّ؟
سنيكا
:
إذا أقبل هؤلاء التسعة في حراسة الجند، أحْسِن وفادتهم وأنعم عليهم، وكَفاهم
ما أصابهم من الرعب في قدومهم.
نيرون
:
أأنفق ما أملك في شرائهم وأحرم نفسي؟
سنيكا
:
أنفق نصف ثروتك في الاحتفاظ بالنصف الآخر، ثم ماذا عليك لو قسمت بينهم ما
صادرته من أملاك سواهم، فإن ذلك يغريهم بالانضمام إلى صفك ويوقع بينهم وبين
المَوْتُورين.
نيرون
:
أما فضلى الأمهات فقد حق العقاب عليها فلا أقبل فيها شفاعة (يدق نحاس الاستدعاء ويدخل رسول).
نيرون
:
ابعثوا في طلب فضلى الأمهات.
بوروس
:
مولاي قد يكون المُخبِر كاذبًا. إن مَن يعيش من نَقْل الأخبار قد يستبيح
المبالغة!
نيرون
:
وأنت أيضًا من حزبها؟ أي ثقة لي فيكم بعد اليوم؟
بوروس
:
مولاي لو كنتُ من حزبها ما أخلصت لجلالتك النصيحة.
نيرون
:
إنكَ تخلص لأجربينا إذ تريد الإبقاء عليها … لو كنتَ مخلصًا لي لسارعت إلى
القضاء عليها.
بوروس
:
إنها مهما عظمت جنايتها فهي والدة لها كرامة.
نيرون
:
إنك تسبني في وجهي … أنت تهين العرش إذ تجعل لمَن يغتالني كرامة. إنها
كانت والدتي إذ كنت طفلًا فصبيًّا فيافعًا فأميرًا فوليًّا للعهد … أما
الآن وأنا خليفة كلوديوس فهي لا ترى ولدها على العرش، إنما ترى شريكًا لها
غصبها نصيبها في الغنيمة. أفهمت أنك لا تدرك كُنْهَ امرأةٍ كولدها.
بوروس
:
ولكن …
نيرون
:
بئس اللفظ هذا لكن … لكن ماذا؟ لقد استضعفتَنِي بالأمس وأنقذتَ برنيانيكوس
من يدي، واليوم تريد إنقاذ الأخرى؟ كلا! كلا! لن أضعف منذ اليوم … تستطيع
أن تركع ما شئت وتبرز لي موضع البتر من يمينك، وتذكرني بوقائع الحرب التي
شهدتها وعُقِدَت لك فيها ألوية النصر … كل هذا لن يحرك مني ساكنًا لأن حياتي …
حياتي كلها في خطر (إلى سنيكا) ما لك
ساكت؟
سنيكا
:
حتى يفرغ مولاي.
نيرون
:
إنني لا أعتز بحياتي لِذَاتها، إن رومه تجد بعدي مائة إمبراطور، ولكن
الفنون … الفنون الجميلة تفقدني … إن صوتي الذي أسرف فيه أمامكم لم يُخلَق
للنثر وإلقاء الخطب، وحنجرتي هذه حنجرة صِيغَت من معدنٍ إلهي، فلا تعادلها
قيثارة أورفيوس ولا أوتار أبولون … إنها وديعة بين يديكم فلا تبدِّدوا
أوصالها فيما لم تُخلَق له … إن الشعر والأوزان والقوافي وأبحر العروض كلها
تناديني أن احْتفِظ بشبابك. رباط رقبتي يا لوسيوس (يحضره الخادم فيربط رقبته).
سنيكا
:
حقًّا لم يغب عن ذهننا …
بوروس
:
على أنني لا أرى مانعًا من سماع أقوالها قبل توقيع العقاب عليها.
نيرون
:
الآن جاء وقت الدفاع!
بوروس
:
نعم يا مولاي إن الدفاع حق طبيعي لكلِّ متهم مهما كان حقيرَ الشأنِ، فما بالك
بوالدة وإمبراطورة؟
سنيكا
:
إن هذا الرأي عين الصواب. فإذا ظهر لجلالتكم أن للتهمة ظلًّا من الحقيقة
فلا يعوقك عن الدفاع عن حياتك عائق.
نيرون
:
مَن يضمن لي قتلها؟
بوروس
:
أنا أباشر التنفيذ بيدي.
نيرون
:
أنت إذن كفيلها إلى أن تعدمها.
بوروس
:
هذا إذا ثبتت التهمة.
نيرون
:
إذا ثبتت التهمة.
سنيكا
:
ولكن قبل كل شيء لا بدَّ أن تفعل شيئًا … قصَّ جناحيها وجزَّ حواشيها.
نيرون
:
وكيف ذلك؟
سنيكا
:
بأن تقصيها عن قصرها وتسرِّح حرَّاسها، وتضيِّق عليها في مسكنها الجديد، فإن هذا
يذهب بكرامتها ويضعف من شأنها. إن بلاطًا بلا حرس ولا أبهة كجسم بلا
روح.
نيرون
:
سأحكم بنفيها مهما كان دفاعها … وقد وكلتُ إليك أيها الحكيم إبلاغها
بمشيئتي بعد الدفاع، بحيث لا تعلم أن الحكم صدر قبل سماع قولها.
سنيكا
:
الأمر لك يا مولاي.
نيرون
:
حسن (ويدق نحاس الاستدعاء ويدعو ضابطًا يسرُّ
إليه شيئًا).
رسول
:
فضلى الأمهات! (تدخل.)
نيرون
(على العرش)
:
لقد شاءت إرادتنا أن يستوي في الدفاع المخلصون والخونة، ولولا توسُّل بعض
مَن نجلُّ رأيهم ونعوِّل في الشدائد عليهم، لكان مصير المتهمين بالتآمر على
العرش وحياتنا مصيرَ سواهم من الجناة والآثمين … إن سلامة العرش فوق كلِّ شيء.
تقدَّم أيها القائد بسؤال مَن تشاء من المذنبين.
بوروس
:
ليس أمامنا إلا الأميرة، متهمة بأنها تآمرت مع مَن يُدعَى بالاس وغيره على
خلع الإمبراطور وقتله ليخْلُفاه على العرش، وقد نُقِل إلينا الخبر عن لسان
لوسيوس وتيكتوس ويدَّعي هذا المخبر أنه شاهدُ رؤيةٍ وعيان، وقد أمر جلالة
الإمبراطور أن تتمتع الأميرة بحق الدفاع عن نفسها.
أجربين
:
هذه فِرْية يأبى العقل تصديقها، وتهمة كاذبة لا دليل عليها، مصدرها المرأة
جوليا سيلانا، ولا شك عندي في أنها استعملت المخبر لوسيوس الذي كان شاعرًا
في عهد كلوديوس يعيش على هامش البلاط، ولا يكفي الناس شرَّ لسانه حتى سيده
الذي كان يقيم أَوَدَه، فلما عُرِفَت حقيقتُه وجد أنه أحقر من أن يُنفَى أو يقتل.
وإنني لا أبرِّئ دورميتيا عمة الإمبراطور من اشتراكها مع جوليا سيلانا في هذا
البلاغ الكاذب، وإنني أستطيع أن أدعم كلَّ حرف مما نطقتُ به بالأدلة القاطعة …
هذا هو تاريخ التهمة التي قمتم من أجلها وقعدتم، ومن أجلها استبحتم لأنفسكم
أن تزعجوا امرأة هي رغم كل قول وقائل والدة الإمبراطور، ولو جهلت جوليا
سيلانا ما تعانيه الأم في الحمل والوضع لأنها لم تُنعِم عليها الآلهة بنَسْل من
أحشائها، فأنتم لا تجهلون ما عانيته في هذا السبيل …
إن فاسقة مثل سيلانا
مطلقة كايوس سيليوس قد تغيِّر عشاقَها وتستعيض عن محبوب أمس بآخر، ولكن الأم
لا تستطيع تبديل ولدها ولا الاستعاضة عنه بسواه … إن مُعتَقين لا ذمَّة لهما
ولا شرف باعا لسانيهما لعجوز قضت شبابها في الخنا، وتقضي شيخوختها في
الإساءة إلى مَن أحسنوا إليها، يتحتم أن تكون أجربين جانية بغير ذنب. وهل
يستبيح ولدي لنفسه تصديق هذين المفتريين فيوقع بي ويلطخ يديه بدم أمه؟ …
لقد استعملوا كلهم لإتمام العمل ذلك الشاعرَ الحقير الذي استعان بخياله
السقيم على تصوير حادثةٍ لا وجود لها في عالم الحقيقة … لما كنت مشغولة
بإدخال نيرون في الأسرة الإمبراطورية وإثبات رشده قبل الأوان وجعله وليًّا
لعهد كلوديوس الإلهي، وأمهد له سبيل الإمبراطورية ليجلس على عرشها محفوفًا
بالجلال والمجد، أين كانت تلك التهم وأين كان هؤلاء المبلغون؟ … ليظهر
الرجل الذي يستطيع اتهامي بتهمة تمس سلامة العرش أو كرامة الدولة، ولو أن
برنيانيكوس ابن كلوديوس صار إمبراطورًا فأي أمل لي في دولته وهو يعلم عني في
مناهضته ما يعلم، بل أي أمل لي في عهد ديلبوس بلوتوس إذا جلس على عرش رومه،
إنني إذن ما كنت أستطيع الدفاع عن نفسي بين يدي إمبراطور أجنبي كما أفعل
الآن أمام ولدي الذي حملته في أحشائي وغذَّيته من لحمي ودمي … تسلمته من أبيه
في ليلة حبٍّ شريف، قبلة حارة وحلمًا لذيذًا وأسلمته للعالم إمبراطورًا لرومه
وسيدًا للناس أجمعين. هاكم الاتهام وهاكم الدفاع فاحكم أيها الإمبراطور …
احكم على أمك، فأنت خير الحاكمين!
بوروس
(لسنيكا)
:
لم تبقَ في عروقي نقطة دمٍ لم تغلِ من الغضب من أعداء الأميرة … ولم يبق
عندي أقل ريب أو أدنى شك في براءتها مما نُسِب إليها … أيها الحكيم أليس هذا
رأيك؟
سنيكا
:
نحن نستمع وللإمبراطور الرأي الأعلى.
بوروس
:
إن كلامها يصل إلى أعماق السرائر وهذه شِيمة الصدق.
نيرون
:
أظن التهمة باطلة ولكنهم أتقنوا التلفيق بحيث إنني، وأنا أعتقد براءة
الأميرة، لا يزال في نفسي أثر من أقوالهم.
بوروس
:
لا مجال للشك يا مولاي!
نيرون
:
حقًّا لا مجال للشك يا مولاي.
بوروس
:
ينبغي عقاب المخبرين فقد أتوا بنبأ كاذب.
نيرون
:
ما أطيب قلبك أيها القائد! إنني لا أعاقب جاسوسًا مهما كان كاذبًا لأن
عقابه يُضعِف عزمه ويُثبِط هِمَّة سواه، ما هو الجاسوس؟ أليس خادم الدولة الأمين
يعرِّض حياته للخطر ويستعمل ذكاءه في الوقوف على أسرار أعدائنا. الجاسوس …
الجاسوس … إنه عيني التي أرى بها وأذني التي بها أسمع، أتريد أن أبقى
إمبراطورًا أعمى وأصم؟ إن مثل الجاسوس كمثل الكلب الأمين يحرس القطيع، إن
أوْقَع الراعي بكلبه، فقد أمِنَ الذئاب عاقبة الاعتداء عليه. إذا عرف الأشرار
أنني أعاقب جواسيسي أو أُوقِع بهم لمجرد تحريفٍ في القول أو تغيير في الحقيقة
فهم يطمعون بي.
بوروس
:
ولكن ألا يحسن إكرام الأميرة؟
نيرون
:
سلها هل يستغني الإمبراطور عن جواسيسه؟ إنها أدرى مني ومنك بتدبير شئون
المملكة. على أن هذا أمر لم أبتُّ فيه بصفة قاطعة وسأنظر فيه.
أجربين
:
لا أمل لي إذن في عقاب أعدائي مِن الذين بلَّغوك في حقي كذبًا.
نيرون
:
أبْلِغْ أيها الحكيم الأميرة مشيئتي.
أجربين
:
مشيئتك هل كان يعلمها قبل أن تسمع دفاعي؟
سنيكا
:
إن الإمبراطور راغب في خير الأميرة، ويريد أن لا يتكرر مثل ذلك الحادث،
لأجل هذا صحَّت عزيمة جلالته على إبعادها عن مواطن الريب وتنظيم دخلها وخرجها
بحيث لا تكون ثروتها نهبًا للطامعين والمملقين والمنافقين ورسل السوء وسُعاة
الشر، وإن العزلة في ظل التمتُّع برضاء الإمبراطور خير من تكالُب الناس على
مجلس سموِّها والأمير غضبان مُرتاب.
أجربين
:
إذن نفي وفقر ووحدة؟ أهذه التي تزوِّقها وتنمِّقها وتسميها بالعزلة وتنظيم
الدخل والتمتُّع برضاء الإمبراطور؟
سنيكا
:
لستُ إلا ناقلًا.
أجربين
:
هل أمرْتَ بذلك يا مولاي؟ هل حكمت على أمِّك قبل سماع دفاعها؟
سنيكا
:
إن الطبيب نهى جلالته عن كثرة الكلام احتفاظًا بحنجرته.
أجربين
:
ليس لي عون ولا نصير سوى الاستسلام والصبر. سِرْ أمامي أيها الحارس إلى
السجن الذي اختاره لي ولدي (تخرج).
نيرون
:
إن البراءة ليست واضحة.
بوروس
:
والتهمة غير ثابتة.
نيرون
:
إذن تستحق العقاب.
بوروس
:
إن الشك يُفسَّر لمصلحة المتهم.
نيرون
:
هذا إذا كانت التهمة مما يقع على الأفراد، أما إذا كان المجني عليه
إمبراطورًا فالشبهات تُوجِب الحدود. على أنني جاملتكم وأظهرت الشفقة على الرغم
من أنها تعلم مخبأ بالاس الذي حار جندي في البحث عنه، ولكنها لا تبوح
به.
سنيكا
:
لقد تجلَّت الحكمة العليا في حكم جلالتكم بنفيها. أما بالاس فلن يفلت من
يَدِنا مهما طال أمد اختفائه.
نيرون
:
الآن أستطيع أن أتنفس … برنيانيكوس معتقل، وبالاس ذليل مختبئ، والبحث عنه
متواصل ورؤساء الحزب من الأشراف سأتولاهم بتقسيم الأموال المصادرة عليهم
عملًا برأيك أيها الحكيم فيهتفون لي، وأجربينا منفية مُراقَبة … سأقول شعرًا
في هذا، تخيَّلت نفسي أبولون مثلًا أقود سفينتي وهي رومه في بحر إيجيه ثم تهبُّ
الرياح العاتية وتعصف العواصف القوية وتعلو الأمواج حتى تغمر السفينة … ثم
…
سنيكا
:
هذا خيال سامٍ.
نيرون
:
لا تقاطِعْ فقد ارتُجَّ عليَّ … سأرجئ تكوين القصيدة إلى ما بعد السهر
(يدق نحاس الاستدعاء فيدخل
خادم).
خادم
:
مولاي.
نيرون
:
هل حضر الأمير أوتون؟
خادم
:
لم يحضر بعدُ.
نيرون
:
إنه أخلف ميعاده … الأفضل أن أقضي هزيعًا من الليل في الترحيب بالعقيلة
المقنَّعة … هيا بنا يا سادة (يخرجون. يدخل بالاس
مقنَّعًا. لوكوس).
بالاس
(إلى لوكوس)
:
لقد دعوتك لأنك أشد الناس إخلاصًا للأمير، وقد صحبته في مَقْدِمه إلى هذا
القصر وستصحبه في الخلاص من الأسْرِ والفرار من الموت، فقد صحَّت عزيمة نيرون
على القضاء على مولاك غداة غدٍ، وقد أعدت له لوكستا السم الناقع!
لوكوس
:
وكيف السبيل إلى نجاته؟ ومَن يكون سيدي المقنَّع؟
بالاس
:
لقد وعد نيرون القائد بوروس بالعفو عن أخيه، ولكن وعده لم يكن إلا خديعة.
هاك اسمي فاقرأه (يُخرِج من جيبه
ورقة).
لوكوس
(بذعر)
:
كيف علمت ذلك؟
بالاس
:
إنه أخذ في إعداد المعدات للقضاء عليه، ولكنَّا تمكنَّا بما بذلناه من الجهد
والمال من الوقوف على مكانه وجئنا لإنقاذه، كما تمكَّنا من إبقاء الإمبراطورة
ريثما نجمع كلمتنا … وإنها قادمة بعد حين في حراسة اثنين من حاشيتي (يهمس في أذنه).
لوكوس
:
إنني أبذل حياتي في سبيل نجاته.
بالاس
:
ها هو يسير في مقدمة مُنقِذيه ولا يدري جسامة الخطر الذي يتهدَّده، ففاتِحْه
أولًا في أمره وحبِّذ إليه الفِرار.
لوكوس
:
سأفعل (يدنو برنيانيكوس من الاثنين. يبتعد
بالاس قليلًا).
المشهد التاسع
لوكوس
:
مولاي! لقد وقع ما خِفت أن يقع، وأنت الآن أسير في هذا القصر تترقبك المنية،
ولا حائل بينكما إلَّا تردُّد هذا الظالم.
برنيانيكوس
:
عجبًا … لقد تصافينا وضمَّني إلى صدره قائلًا إنه الإخلاص مجسَّمًا والوفاء
ممثَّلًا ثم وضعني بحيث لا أرى أحدًا ولا يراني أحد!
لوكوس
:
لم يكن ولن يكون نيرون صادقًا، وقد علمتُ أنه بدأ الآن يضرب بشدة على أيدي
مَن يتهمهم ببغضه. وها هو قد نفى أمَّه وأفقرها وقصَّ أجنحتها، وهي الآن في
القصر سجينة مثلك، ولكن السيد بالاس يسعى في إنقاذها كما سعى في إنقاذ
سموِّك.
برنيانيكوس
:
وبماذا تشير عليَّ؟
لوكوس
:
بالفرار يا مولاي تحت جنح الظلام متزيِّيًا بزيِّ تاجر أو بحَّار، وأنا في
صحبتك.
برنيانيكوس
:
إن الأمير المطالب بالعرش لا يفر.
لوكوس
:
لقد كنت عازمًا على الفرار من قبل.
برنيانيكوس
:
لو أنني أشعلت نار الثورة وفشلت إذن لفررت فيكون انصراف اليائس الناقم
المُزدرَى، أما الآن فيكون هرب الجبان من وجه الردى، وهذا ما لا أرضاه لنفسي
مطلقًا.
لوكوس
:
أتوسل إليك قد تستطيع أن تجر جيشًا من البلاد الأجنبية وتعود إلى رومه
ظافرًا.
برنيانيكوس
:
هذا أمر محفوف بالريب. إن مَن يتولاه الجبن في أول أمره يترقبه الفشل في
آخره (تُرَى أشباح قادمة).
لوكوس
:
هذه الأميرة أجربين يصحبها رجلان من حاشية بالاس.
برنيانيكوس
:
أأخاطبها؟
لوكوس
:
لا بأس إن مصلحتكما واحدة.
برنيانيكوس
:
إنني لا أحب الوفاق الذي تُرغِمنا عليه الحوادث.
لوكوس
:
هذا نظام الحياة، فعدوُّ اليوم قد يكون صديق الغد، وخصيم الأمس قد يصبح أليف
اليوم.
المشهد العاشر
أجربين
:
ولدي العزيز برنيانيكوس، كنت أبحث عنك وظننت هذا الوحش أوقع بك.
برنيانيكوس
:
لم يكن وحشًا إذ اقترفتِ كل جريمة لتحرميني وتمتِّعيه.
أجربين
:
ليس هذا مجال العتب والتأنيب، إني أرشحك للعرش!
برنيانيكوس
:
أي سلطة لك بعد اليوم فقد قصَّ ولدك جناحيك وجزَّ حواشيك.
أجربين
:
إن أجربين ابنة جرمانيكوس لا تُقهَر.
برنيانيكوس
:
ما خطتك؟
أجربين
:
أن نفر حالًا إلى البلاد الأجنبية، وأن نهيِّج الأقوام ونعود بجيش
فاتح.
برنيانيكوس
:
هل يئست من رومه؟
أجربين
:
نعم.
برنيانيكوس
:
إذن لا أمل لنا؛ لأننا إذا فقدنا العضد والنصير في رومه ذاتها، فمعنى هذا
أن رومه لا تريدنا.
أجربين
:
إن رومه تريدنا حتمًا، ولكن إرادتها تلاشت وأخلاقها فسدت، ومَثَلُها كَمَثل
العاشق الذي ذهبت قوته وقلبه يخفق لأجل حبيبه وسائر أعضائه تخونه إذا حاول
إشباع أشواقه.
لوكوس
:
إن رأي الأميرة عين الصواب، ولكن هل لدى جلالتكم مال؟
أجربين
:
أكثر من ماله.
لوكوس
:
ورجال؟
أجربين
:
أعظم عددًا وأشد إخلاصًا من رجاله.
برنيانيكوس
:
مَن يكون هذا السيد المقنَّع؟ (أجربين تهمس في
أذنه.)
بالاس
:
مولاي أنت إمبراطورنا غدًا.
برنيانيكوس
:
هذا حلم!
بالاس
:
ليست هذه أول مرة أُجلِس فيها أميرًا على العرش.
برنيانيكوس
:
لقد فعلتها وقتلتَ نفسك وقتلتنا!
بالاس
:
قد يخطئ الإنسان، ولكن الحكيم يصحِّح خطأه، وقد أعددتُ كل شيء لهذا
الغرض.
برنيانيكوس
:
وهل أنت صاحب رأي الهجرة؟
بالاس
:
نعم، ولكن لن تطول ولن تكون بعيدًا عن رومه.
برنيانيكوس
:
ألا ترى غرابةً في أن مَن يريد أن يحكم رومه يفرُّ منها؟
بالاس
:
مَن يريد الاستيلاء على الحصون يصوِّب عليها سهامه وهو بعيد عنها
برنيانيكوس
:
أصبت!
بالاس
:
الإسراع بالخروج من هذا القصر من الباب الأخضر.
برنيانيكوس
:
أليس محفوفًا بالحرس؟
بالاس
:
لا يعرف هذا الباب أحدٌ سوى الأميرة وعبدكم.
برنيانيكوس
:
هيا بنا (يخرجون).
لوسيوس
(يخرج من مخبئه)
:
إن عين نيرون ساهرة.
(ستار)
الفصل الثالث
(قصر نيرون – أهل الديوان الإمبراطوري – ندماء وأميرات ونساء ومهرجون وخدم وجواري …
إلخ.)
المشهد الأول
(بيترون (صديق نيرون) – ريبليوس (وطني) – أصدقاء)
ريبليوس
:
مذ عدت إلى رومه علمت ما سرَّني، وهو أنك أوفى مَن يثق بهم قيصر.
بيترون
:
حقًّا لقد طالت غيبتك، فإن هذا الخبر لا يسر إلَّا مَن طالت غيبتهم عن رومه
فانقطعت سلسلة الاتصال في أذهانهم بين الحاضر والماضي.
ريبليوس
:
يحق لك أن تتهمني بالجهل؛ لأننا مذ افترقنا في صبانا اتجهت نفسي نحو الجيش
فتتبعت القائد كوربولون وحاربت البارتان، أما أنت فقد فضَّلت الإقامة بين
جدران قصرك الفخم وحدائقك الغنَّاء، وتسعدك المحظيات ويخدمك الجواري
والأرقاء.
بيترون
:
على رِسْلك يا ريبليوس! إنني لم أركن إلى السكينة في ظلال الرخاء، وقد كان
لي نصيب لا يقلُّ عن نصيبك في خدمة الوطن، فقد كنتُ حاكمًا على مقاطعة بيتينا
بأسْرِها، وإني لا أمدح نفسي، ولكن أتحدث بنعمة الآلهة إذا قلت لك إنني كنت
حاكمًا عادلًا محبوبًا من الرعية.
ريبليوس
:
نحن الرومان الذين رحلنا مع الجيوش لمحاربة البرابرة والوحشيين اكتسبنا
من أخلاقهم؛ فكستنا عشرتهم ثوبًا من الخشونة، وغمست ألسنتنا في مرارة الصراحة
الفطرية.
بيترون
:
عفوًا أيها البطل تحسب أنني واجدٌ عليك لصراحتك. إن الصراحة هي أعزُّ الصفات
منالًا في رومه أيامنا هذه، بل إنني أغتبط بمَن لم تذهب أخلاقُنا المجلوبة
المصطنعة بسلامة سريرته وحرية لسانه. لقد راجت سوق النفاق والتصنُّع، وارتفع
قدْرُ الكذب والنميمة، وعلا شأن التملُّق والمداهنة بقدر ما هبطت قيمة الإخلاص
والصدق والكرامة!
ريبليوس
:
إن أدبك الرائع يُملِي عليك هذا القول المنمَّق؛ لتُذهِب عنِّي وهلةَ الخجل بما سبق
به لساني.
بيترون
:
لست أيها الرفيق في بيتي فأداجِيَك وأتملُّقك، إنما أنت في بيت قيصر، فإن شرفت
بيتي …
ريبليوس
:
علمت أنه تلتقي فيه صنوف المسرَّات والملاذ، وأن صاحبه مخترِع البدع!
بيترون
:
لقد بالغوا في الوصف إنما الناس على دين ملوكهم، إذا كان قيصر يدعونا
للشراب والمنادمة فلا نستطيع أن نشرح له فلسفة أفلاطون!
ريبليوس
:
ولكن تستطيع أن تنشده قصيدة من شعرك الرائق الذي كنت تمارسه منذ
صباك.
بيترون
:
بحق أسلبياس وسيبريس لا تذكر الشعر لئلا تذكر في الشعر نيرون!
ريبليوس
:
أشاعر هو؟
بيترون
:
إنه شاعر ومنشد وممثِّل ومتسابِق ومصارع وصياد وموسيقار، وبالجملة فهو يدَّعي
لنفسه كل صفات المتفنِّنين، أما شعره فقد حرم علينا الشعر لأنه لا يروقه إلا
إنشاد ما ينظم ويحتِّم على الحاضرين والغائبين التفاني في تمجيده وتقديسه،
والويل كل الويل لمَن لا يُجنُّ إعجابًا بقصائده، وقد أنقذت بالأمس فيسباسيان
من الموت لأنه أخذته سنة من النوم ونيرون ينشد قصيدة من شعره (يسيران قليلًا).
المشهد الثاني
(فينكيوس – بلازوس)
فينكيوس
:
كيف أصبحت؟
بلازوس
:
نهضتُ ظهرًا منهوك القوى، وقد أقنعني استرخاء أعضائي أن بدني لم يعد يطيق
ملاذَّ الحياة.
فينكيوس
:
إن وليمة في قصر نيرون ليست مما يُستهان بها. لقد رأيتك تفرط في الأكل
والشراب وتسرف في المغازلة.
بلازوس
:
حمدًا للآلهة التي أنعمت علينا بحمَّام الصباح، وبأيدي الجواري المدلكات،
وبدهن النعام، وعطر الشرق وزيت الكافور.
فينكيوس
:
لا تنسَ ريشة العاج المغموسة في زيت الجوز.
بلازوس
:
إنني شريت منذ شهر رقيقًا مصريًّا كانت صناعته الطب، فوصفت له حالي وما
أعانيه من سوء الهضم وآلام المفاصل وما يعتريني من أوجاع الكعبين والأطراف،
وخفقان القلب ووخزاته المزعجة التي تمتد أحيانًا إلى ذراعي اليسرى بأسرها،
وما يصيبني أحيانًا من هياج الكليتين وضيق الصدر ويغشاني من ضعف الذاكرة
وخمود القريحة والأرق وفقد الشهية.
فينكيوس
:
لقد عددْتَ أمراض الرومان وجميع ما يملكون من الأمم!
بلازوس
:
إن عبدي الطبيب المصري يقول إن هذه المصائب كلها ما هي إلا أعراض لداء
واحد معروف في مصر بداء الملوك؛ لأنه لا يصيب إلا المترفين
والأغنياء.
فينكيوس
:
وما دواؤه؟
بلازوس
:
قال لي الحِمْية إلى حدِّ الصيام، وكَبْح جماح الشهوات إلى حدِّ العفاف.
فينكيوس
:
وهذان أمران تستطيعهما.
بلازوس
:
سأحاول الاعتدال؛ لأنجو بجلدي من هذا الداء الوبيل (يسيران).
المشهد الثالث
(سنيكا – لوكيان)
لوكيان
:
حقًّا إن المناقشة كانت لذيذة وممتعة لولا أن الإمبراطور أدركته النشوة
قبل الوصول إلى النتيجة!
سنيكا
:
إن هذا البحث لا نتيجة له.
لوكيان
:
ومع ذلك فإنك وافقته على معظم آرائه، وكدت تقول بقوله.
سنيكا
:
أنا أقول برأيه إن المرأة مخلوق بلا روح؟
لوكيان
:
يُخيَّل لمن كان يسمع حديثك أمس أنك كنت مُشرِفًا على قول هذا الرأي.
سنيكا
:
أنت كنت مشغولًا عنا بمحادثة ذلك الساحر الإغريقي الذي يدَّعي
الحكمة.
لوكيان
:
كنت أُعِيرك أذنًا، وما بقي من سمعي لخرافات هذا الشيخ.
سنيكا
:
أنا لا أوافقك، فإن حديثه لم يكن حديث خرافة، وقد قال كثيرًا من الحقائق،
فأنا أعتقد مثله بخلود النفس وتأثير السحر واستحضار الأرواح والتأثير على
الناس عن بعد، بمجرد الفكر والإرادة.
لوكيان
:
ولكن هل تعتقد أن للنفس إشرافًا على المستقبل فتحدِّث صاحبها عن علم بما
سيقع؟
سنيكا
:
وهذا أعز وأرفع ما أعتقد.
لوكيان
:
إذن تقول كما يقول كهنة مصر بإمكان الاطلاع على الغيب، والاستسلام للأقدار،
وسبق علم الآلهة بما سيقع لبني الإنسان.
سنيكا
:
أقول بهذا كله.
لوكيان
:
ولكن هذه الأفكار تناقِض أفكار نيرون.
سنيكا
:
لقد وهبت نيرون فصاحتي ومشورتي، ولم أهبه روحي وعقلي.
لوكيان
:
حقًّا أيها الفيلسوف، إن معظم آرائك مضنون بها على غير أهلها.
المشهد الرابع
(لوسيوس – كريسبوس)
لوسيوس
:
إن الليالي حَبَالَى يلِدْن كل عجيبة!
كريسبوس
:
وهذه الليلة؟
لوسيوس
:
تتمخض عن المدهشات.
كريسبوس
:
عجبًا كيف ذلك وبال نيرون هادئ يولم الولائم، ويعقد مجالس الخمر، ويمرح في
بحبوحة الغرام؟
لوسيوس
:
إنه عَلِم بفرار أمِّه وبرنيانيكوس واجتماعهما عليه مع فريق كبير من الناقمين،
فتمكَّن من القبض عليهما وردَّهما إلى محبسهما، ولكن يده لم تمتد بعدُ إلى بالاس؛
ولذا تراه هادئًا في الظاهر ولكنه مضطرب في الباطن.
كريسبوس
:
إنه لا يعدم رأيًا صائبًا يمده به سنيكا، وسيفًا حادًّا يطرحه بين يديه
بوروس.
لوسيوس
:
لو كان الأمر كما تقول، ما كان نيروند ليلتجئ إلى طلاسم لوكستا وسمومها،
فقد أرسل في طلبها، لعله مدبِّر مَقتَل أمِّه في هذه الليلة.
كريسبوس
:
إنه يشبه الملوك جميعهم، يندر أن يكتفي أحدهم بالأسلحة الظاهرة دون
الخفية، إن حياة الملوك حرب دائمة، والحرب خدعة.
لوسيوس
:
أضف إلى ذلك أن لِنيرون في كل حين أصدقاء وندمانًا وعشَّاقًا يرتاح إليهم
ويطلبهم ويستسلم إلى مقاصدهم، وقد فات الآن عهد أتوتون وبوروس وسنيكا كما
فات عهد أجربينا وأكتيه، وجاء عهد سوفنيوس وتجلان وبترون ونوفاثنيوس.
كريسبوس
:
ولكنني أرى الفريقين قديمهم وجديدهم مجتمعين، فهناك سنيكا وبوروس وأوتون
وتجلان وبترون.
لوسيوس
:
إن القديم لا يزال يتحكَّك بالبلاط عسى أن يعود إلى سابق مكانته أو يحاول
الإيقاع بالجديد الذي خلفه، وهو لا ينقطع عن القصر لئلا يشمت به أعداؤه أو
يتخذ خصومُه من ذلك ذريعةً للوشاية به لدى قيصر.
كريسبوس
:
ها هو سنيكا يدنو من بترون، وبوروس يحادِث تجلان.
لوسيوس
:
إن بترون وتجلان عدوَّان لدودان، تجمعهما المنفعة والمصلحة المشتركة
وتقصيهما الغيرة والحسد.
كريسبوس
:
وسنيكا يبدو عليه الذل!
لوسيوس
:
مَن يهنْ هان الهوانُ عليه، لو تمكن هذان الرجلان سنيكا وبوروس من الاستيلاء
على عقل هذا الشاب لكان عهده أعظم عهد في التاريخ، ولكن قضت الأقدار إلا أن
يتغلَّب الشر على الخير ويُعطِي نيرون نفسه هواها، فيذهب عقل سنيكا وفضل بوروس
عبثًا. وما قيمة العقل حيال القوة الغشوم، وماذا يستطيع الفضل إزاء الرذيلة
المنتصرة؟!
كريسبوس
:
حقًّا! إن هذا من العجائب!
المشهد الخامس
(تاسوس – كريسبوس)
تاسوس
:
إني لا أرى أكتيه بين المقرَّبات من قيصر في هذه الليلة.
كريسبوس
:
لقد مضى عهدها وانقضى سلطانها.
تاسوس
:
كيف؟ هل زال حبُّها من قلب نيرون الذي كان يعبدها؟
كريسبوس
:
إن من صفات هذا الرجل وأمثاله عدم الوفاء في الحب، دَيْدَنُه الملل وخلَّته
الضجر، وكما تراه في قلق دائم أينما حلَّ، كذلك ترى عواطفه في تنقُّل مستمر،
ولا يمكن تعليل هذه الحال إلَّا بفساد الطبع.
كريسبوس
:
لم يفعل بأكتيه سوءًا … فهي الآن تعيش منزوية، كالوزير الطاهر الذمة في
بلد فاسد.
تاسوس
:
قد انضمت إذن إلى ضَرَّتها.
كريسبوس
:
تقصد أوكتافيا؟
تاسوس
:
نعم!
كريسبوس
:
لا فرق بينهما إلا أن أوكتافيا زوجة شرعية وأكتيه مَحْظِيَّة.
تاسوس
:
ما أسعد الرجل الذي تحبه امرأتان!
كريسبوس
:
إن أوكتافيا لا تحبه مطلقًا، ولكنها مغلوبة على أمرها وهي مرغمة على
السكوت والصبر.
تاسوس
:
كنت أعلم فيما مضى أنه يحسن معاملتها.
كريسبوس
:
كان ذلك خوفًا من أمه أجربينا، ولا يعوقه عن قتلها إلا أنه لا يجد لها
ذنبًا يبرِّر فعلته ولكنه حتمًا واجِد.
تاسوس
:
نسيت إجابتي عمن حلَّت محل أكتيه الجميلة.
كريسبوس
:
لقد حلَّت محلها سابينا بوبيا، وهي امرأة شريفة الأصل كريمة المَحْتِد، وقد
جملتها الطبيعة بأجمل الصفات وأبهى الخصال وأحلى المزايا، ولم تحرمها إلا من
الفضيلة … جمالها رأس مالها وعقلها رائدها ومصلحتها دليلها في حياتها
الفاسدة.
تاسوس
:
ولكن كيف وصلت تلك الفاتنة سابينا بوبيا إلى قلب نيرون؟
كريسبوس
:
إنها تزوجت من الشريف أوتون صديق نيرون العزيز ونديمه المقرب ورفيقه في
رحلاته الليلية، وما لبث الشريف أن عقد عليها وحظي بها حتى أخذ يُطرِي جمالها
لدى نيرون وهو أعلم الناس بأخلاق مولاه! لقد سمعته بأذني ينهض فجأة في وسط
الوليمة عندما تكون الخمر قد بدأت تلعب برأس نيرون في تلك اللحظة المتوسطة
بين الصحو والنشوة … تلك اللحظة التي تتيقظ فيها كلُّ الشهوات عندما يريد
الثَّمِل الجمع بين حافة الكأس وشفة امرأة، ويقول ها أنا ذاهب إلى ذراعَيْ تلك
التي جمعتْ صنوفَ الجمال والدلال … تلك التي يشتهيها كلُّ مَن رآها، فإذا ذاق
غرامها لا يسلوها!
تاسوس
:
حقًّا إن هذه كلمات عجيبة على لسان زوج!
كريسبوس
:
هكذا لم يلبث نيرون أن شغف ببوبيا، أو وقع في الحبالة التي نصبها له
أوتون، فأرسل إليها مَن يبلغها حبَّه الجم، فلم تتردد لحظة في قبول غرام
الإمبراطور!
تاسوس
:
لقد عرفتْ من أين تُؤكَل الكتف!
كريسبوس
:
ولما أن وثقت أن نيرون صار رهْنَ حبِّها، بدأت تتيه وتدلُّ وتشير إليه من طرف
خفيٍّ أنها امرأة متزوجة!
تاسوس
:
يا للعفة!
كريسبوس
:
وقد استطاعت تلك الفاجرة أن تصيب هدفين بسهم؛ فإنها نفَّرت نيرون من
معشوقته المخلصة أكتيه، وبغَّضته في صديقه الحميم أوتون؛ فهجر الأولى وقلب
للثاني ظهر المِجَنِّ، فأبعده وأقصاه وحرَّم عليه مجالسه، وقفل في وجهه أبواب قصره،
ولما لم يجد وسيلةً للإيقاع به ولَّاه على لوزيتانيا.
تاسوس
:
والزوجة؟
كريسبوس
:
أبقى عليها وقرَّبها، وهي الآن قرَّة عينه ومالكة قلبه وسيدة قصره.
تاسوس
:
بغير عقد شرعي؟
كريسبوس
:
عقد الهوى.
المشهد السادس
(يُسمَع صوت بوق.)
رسول
:
النصر لقيصر! (يدخل نيرون ومعه
كثيرون.)
نيرون
:
آه يا رفاقي … كنت الليلة على وشك السفر إلى أشايا، وقد أعددت للسياحة
عدتها، وقصدت الكابيتول مصحوبًا بالنبلاء لتقديم القربان الأخير قبيل
الرحيل.
أحدهم
:
إن قيصر المقدس يتواضع للآلهة بتقديم القربان.
آخر
:
ما رأينا إلهًا يقدِّم قربانًا لأخوته!
نيرون
:
حقًّا ولكن ينبغي للأرباب أن تذكر بعضُها بعضًا من حين لآخر، ومع هذا فإن
زميلي هوميروس ذكر لنا في إلياذته أن الأرباب في ألومب كانت تولم الولائم
فيما بينها!
أحدهم
:
لا غرابة إذا قدم قيصر قربانًا لبوليكس وفيستا.
نيرون
:
خاصة فيستا يا صاح، فإنها على الرغم ممَّا بيننا من أواصر القرابة الإلهية
لا تفتأ تملؤني رهبة ورعبًا.
أحدهم
:
حاشا لقيصر الإلهي أن يذكر!
نيرون
:
صمتًا يا صاح. إنني أقول الحق. إنني لا أكاد أرى تلك الإلهة الرهيبة
وأشهد نارها المتأجِّجة حتى ينفر شعري في منابته ويصطك فكَّاي وتستولي على سائر
أعضائي رجفةٌ كالتي تدرك العصاب بالحمى. وأضرب لكم مثل اليوم، فإنني لم أوشك
أن أقف في حضرة تلك التي يزعجني مجرد ذكر اسمها حتى شعرت بدوار فخارت قواي،
ثم اصفرَّت الدنيا في وجهي وفقدت الإدراك، وكدت أستلقي على ظهري لولا أن
تناولني تيجلان بذراعيه القويين. تعسًا لها من رجفة، ما أشنع الخوف أيها
الرفاق! إنه الحالة الوحيدة التي يستوي فيها الآلهة أمثالي والبشر
أمثالكم!
تيجلان
:
نفسي حدثتني اليوم وأنا أرى قيصر يتمايل اليوم أن هذه رجفة الوحي
الإلهي.
نيرون
:
حقًّا حقًّا … إنني أتذكر الآن شيئًا فشيئًا … لقد كان يُخيَّل إليَّ أنني
سمعت صوتًا يهمس في أذني: أرجئ سفرتك (يدخل
رسول).
رسول
:
النصر لقيصر!
نيرون
:
ما وراءك؟
رسول
:
لقد أنجزتُ ما أمَرَ به قيصر.
نيرون
:
اقرأ البلاغ.
رسول
:
أيها الشعب الروماني لقد أرجأ قيصر سفره لأجلكم، فإنه أثناء ذهابه إلى
الكابتيول وعودته شهد آثار الحزن تبدو في سيماكم، فعلم أن سفره هو سبب
كآبتكم، فتحرك في قلبه الإلهي عواطف الحب الوالدي نحو أبنائه الأعزَّة، فقرر
أن يبدل راحته في سبيل سعادتكم وصحَّت عزيمته على البقاء بين ظهرانيكم،
فانتظروا في يومكم هذا توزيع الأرزاق، وأعدوا أنفسكم لمشاهدة الألعاب الفخمة
… ليحيَ قيصر! … هذا يا مولاي هو البلاغ الذي سنذيعه في الشعب.
نيرون
:
عظيم! افعل … افعل (يخرج الرسول)،
(مستطردًا) تعدَّدت الأسباب والفعل
واحد، لا ينبغي للشعب أن يعرف أكثر من هذا … إن الشعب لا يهمه إلا امتلاء
بطنه وانشراح صدره (يُسمَع هتاف الشعب من أسفل
القصر: ليحيَ قيصر! ليحيَ قيصر!) حقًّا يا رفاق إن الوحي
الإلهي لا يزال يرنُّ صداه في أذني، يُخيَّل إليَّ أن تلك التي يزعجني مجرد ذكر
اسمها أوحت إليَّ أنني أستولي عما قريب على ملك مصر والشرق بأجمعه. فإذا
وقعت لي مصر الفاتنة، سأشيد بها آثارًا لا تُعَد الأهرام في جنبها شيئًا
مذكورًا، وسأنحت في الصخر سفنكسًا يزيد في الضخامة والعظمة سبع مرات عن
الإسفنكس الموجود، وسأصور ملامحي جميعها في صورته؛ بحيث تخلد تقاطيع وجهي
على مرِّ الدهور، وتشمل حمايتي شعوب الأرض إلى آخر أجيالها.
بيترون
:
يا لها من منحة تعجز الإنسانية عن حمدك عليها!
نيرون
:
وفي مصر أيضًا سأتزوج من القمر!
بيترون
:
يا له من زواج … إنه قِران النَّيِّرينِ!
نيرون
:
سنلد أجمل الكواكب!
بيترون
:
سيخلق نيرون دورة فلكية جديدة، لا تُعَد في جانبها دورة الشمس شيئًا!
نيرون
:
نعم سأخلق سماء تزهو على السماء وأرضًا تفاخر الأرض.
بيترون
:
ليتزوج فتيليوس من النيل!
نيرون
:
إنهما لا يلدان إلا التماسيح … وأزوج تيجلان من الصحراء!
بيترون
:
فيلدان الثعالب وأبناء آوى!
نيرون
:
سأجد لكلِّ واحد منكم في مصر ما يسرُّه ويلهيه.
بيترون
:
إن مَلَكتَيِ الشعر والغناء اللتين تملكان عليك نفسك منذ الصغر، تشكو من
الهجر.
نيرون
:
حقًّا لقد مضى حين من الدهر ولم أنظم شعرًا ولم أوقِّع نغمة على
وتَرٍ.
بيترون
:
إن الأشراف والقرناء الذين مننت عليهم بهذا الاجتماع وفضَّلتهم على كل
العالمين، يبتهلون إلى مقامك الإلهي، ويلتمسون من مراحمك الوالدية أن تتفضَّل
بالإنعام عليهم بما تجود به قريحتك الأولمبية.
نيرون
:
إليك عني يا بيترون … أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أرفض لك طلبًا إلا هذا
فإنني لا أطاوعك فيه.
لوكان
:
إن الإنسانية راكعة أمام هيكلك الإلهي تحييك وتلتمس …
نيرون
:
وأنت أيضًا يا لوكان … من أين آتي لكما بالشعر؟
لوكان
:
كلنا نعلم أنك نظمت في الفترة الأخيرة أناشيد وأغاني ومقاطيع تسمو على كل
ما نظمته شعراء الجنس البشري منذ بداية الخليقة إلى آخر الدهر!
بيترون
:
إن لوكريس نفسه أمير شعراء الرومان يخجل من شعره إذا أسعده الحظ بسماع
شعرك.
نيرون
:
أنتم تعلمون …
الجميع
:
ارحمنا بقصيدة من شعرك!
نيرون
:
إن شفقتي الوالدية تعوقني عن الاستمرار في الامتناع … سأنشدكم ولو
ارتجالًا.
بيترون
:
إن بيتًا واحدًا من شعر قيصر يُحيي نفوسنا وينعشها.
نيرون
:
فلْتدعُ إذن بوبيا … إنها حقًّا منحرفة المزاج وهذا الذي دعاها للتخلف عن
هذا الاجتماع … إن عقاقير الأطباء وقوانين أبقراط ونصائح جالينوس تعجز عن
شفائها، ولكن قصيدة من شعري تُعِيد إليها الحياة والقوة!
أحدهم
:
ما أسعد حظَّها وحظنا!
نيرون
:
فلْتُدْعَ إذن لتسمع إنشادي (يتحادث على انفراد مع
بيترون ويخرج رسول لدعوتها).
المشهد السابع
(شخصان من حاشية القصر)
أحدهما للآخر
:
أتظن أنها تستطيع النهوض من فراشها؟
الآخر
:
إنها تنهض مُرغَمة ولو كانت تجرِّر أذيال المرض.
الأول
:
أليس لها عليه من دالَّة؟
الآخر
:
حقًّا إنها الوحيدة لأيامنا هذه في السيادة على قلبه. فلو كانت في النَّزْع
فإنها تحضر ولو محمولة على أعناق الرجال … إنها تستبيح لنفسها كل شيء معه
إلَّا جرح عواطفه في مواهبه.
الأول
:
إنني لم أرَها.
الآخر
:
سترى أجمل وجه خلقتْه الأرباب (تدخل بوبيا
محاطة بخدم وهي تجرِّر أذيالها وعليها علامات الذبول).
نيرون
:
إلى المائدة أيها السادة (يجلس وينتحي نيرون
وبوبيا مكانًا بعيدًا عن الجالسين).
نيرون
:
أهلًا بالملك المتربِّع على عرش الجمال!
بوبيا
:
جاريتك الطامعة في رضاك التي تفدي تراب قدميك بنور عينيها، الساجدة في
غيبتك أمام تمثال جلالك الإلهي، العابدة في حضرة صفاتك، التي لم تمنحها
الأرباب لملوك الأرض قاطبة، ها هي بين يديك تلبِّي نداءك وتلتمس إقبالك عليها
بنظرة واحدة تُطفِئ لهيب حبها!
نيرون
:
أنتِ قبلة الشمس لدى شروقها، وفم الطبيعة الفرحة بالصباح! … أنت شعاع الفجر
في أول يوم من الربيع، أنت مطلع قصيدة السعادة الأبدية، نظمك أورفيوس في
ديوان الحياة الهنيئة، وينشدك نيرون موقِّعًا على أوتار قلبه المُفعَم
بحبك!
بوبيا
:
مولاي! إن حبك الإلهي هو الذي رفع نفسي إلى مصافِّ النفوس التي تستمد من
ضيائك، كذلك إخلاصي لشخصك وعرشك هو الذي يُملِي عليَّ مالا يجرؤ على التصريح
به إنسان على سطح الأرض.
نيرون
:
حبيبتي بوبيا! إن عرشي وتاجي وأعظم منهما صوتي وقيثارتي تحت قدميك! ما
الذي ألمَّ بك؟
بوبيا
:
هذا كرم الأرباب وتواضُع الآلهة، ولكن الذي يحزنني وينغص عليَّ أسعد ساعات
الحياة التي أقضيها بقربك، ما أسمعه فيغلي له دمي في عروقي وتفارقني راحة
القلب والنفس.
نيرون
:
أتسمعين من أحد ما يسوءك؟
بوبيا
:
أجل أيها الأمير تصوَّر بمخيِّلتك الشعرية النادرةِ المثال، مقدار حسرة عاشقة
عابدة تفاخر بمعشوقها ومعبودها إذا هي سمعت أنه ليس ملكًا ولا إمبراطورًا
ولا رجلًا … وما هو إلَّا طفل خاضعٌ لإرادة غيره، يُخيَّل له أنه قابض على زمام
الدولة وما هو في الواقع إلا آلة في أيدي ثلاث نساء، وأن ذلك الذي ندعوه
إمبراطور الرومان ووالد الوطن وسيد العالم لا يملك حريته الشخصية.
نيرون
:
عجبًا! أيجرؤ مخلوق بشريٌّ أو إله شيطاني أن يقول هذا عن نيرون! … فوالآلهة لو أن سواك
نطق في حضرتي بهذه الألفاظ إذن لسحقت رأسه بصولجاني هذا،
بل لمزَّقت أعضاءه بأناملي … لقد غادرتني ملكة الشعر واستولَّى عليَّ شيطان
الغضب!
بوبيا
(راكعة)
:
من حسن حظِّ الناس جميعًا أنني أستقبل سورة غضبك المقدس وأشرب بلذة الظمآن
حلاوة هذا الغيظ الإلهي. لأجل هذا أنا أصون لساني عن ذكر مَن سبَّبْنَ هذه
النميمة؛ لئلا يمتد إليهن سخطك وهن أقرب الناس إلى جلالتك وأحبهن إلى
قلبك.
نيرون
:
إذن أنت شريكتهن في الخيانة! اعلمي يا بوبيا أنني أتسامح في كلِّ شيء إلا
كرامتي … إن صوتي سيخفت وشعري تمحوه الأيام، ولكن كرامتي أنا لوسيوس
رومينيوس نيرون إمبراطور رومه وسيد العالم كرامتي ستبقى مُسجَّلة في بطون
الدفاتر إلى آخر الدهر.
بوبيا
:
عفوًا يا مولاي، ما عظمة الملك وجلال العرش وسلطان رومه وسيادة العالم
بأخلد من صوتك وتوقيعك!
نيرون
:
حقًّا! لقد نسيت خلود المواهب. إن العبقرية أبقى على كرِّ الدهور من عرش
رومه، تبًّا لهم إنهم يسيئون إلى العبقري بالانتقاص من الإمبراطور …
انهضي!
بوبيا
(تنهض)
:
إن الغِيبة يا مولاي مهما كانت مكذوبة وصاحبها مهما كان حاسدًا وحاقدًا
تترك أثرًا في نفوس سامعيها.
نيرون
:
حقًّا حقًّا … الأسماء … أسماء النسوة.
بوبيا
:
عدني أنك لا تنالهن بسوء بسبب إخلاصي وصراحتي.
نيرون
:
أعدك بكل شيء.
بوبيا
:
هن أكتيه محظيتك!
نيرون
:
يا لها من فاسقة! ولكنها جارية تُباع وتشترى وقد هجرتها مذ عرفتك! ثم
من؟
بوبيا
:
وأوكتافيا زوجك!
نيرون
:
لقد صدق ظني، هذه أيضًا قتلتها الغيرة قتلتين!
بوبيا
:
أما الثالثة فهي فضلى الأمهات!
نيرون
:
فضلى الأمهات وفضلى الأزواج وفضلى الجاريات! يا لنيرون من مؤامرة النساء!
ستَلقى كلٌّ منهن جزاءها، أما الجارية التي كانت مَحْظِيَّة فستُباع في
الأسواق.
بوبيا
:
إن بيعها لا يُسكِتها.
نيرون
:
إذن يُمثَّل بها … أما أوكتافيا ابنة كلوديوس فلا تستحق رحمة ولا حنانًا. ما رأيت مثلها
زوجًا عاقرًا وعاشقة ملحَّة، فإذا ما جفوتها تآمرت عليَّ وأذاعت
عني ما يقلِّل من قدري في نظر الشعب … هذه تحفة من تحف فضلى الأمهات وهدية من
هداياها القيمة … سأطلقها في احتفال عام … سيشهد طلاقها الآباء المقدَّسون،
ويصدر أمري بنفيها إلى أقصى حدود المملكة … أما فضلى الأمهات فهي في القصر
سجينة وسأقضي عليها في أقرب فرصة بدون مناقشة … إنها اقترفت ذنوبًا ما ذكرت
في جنبها شيئًا مذكورًا.
بوبيا
:
إن عبادتي لشخصك المقدس وخوفي عليك وكل ما قد يمسك بأذًى يدعوني للإلحاح
في الوقوف على جميع خواطرك وخططك.
نيرون
:
إن لنا نحن الأمراء من بيت قيصر، خطة واحدة نسلكها حِيال أعدائنا أقارب
كانوا أو غرباء … القتل.
بوبيا
:
ولكن لفضلى الأمهات ذاتًا سامية وشخصية مقدسة!
نيرون
:
إن ذاتها مهما سمت وشخصيتها مهما تقدَّست لا تقفان في سبيل أغراضي وإرادتي.
لقد تآمرت مع برنيانيكوس وبالاس وغيرهم على إمبراطورية رومه.
بوبيا
:
إن قتل الأم …
نيرون
(مقاطعًا)
:
كقتل أي إنسان آخر!
بوبيا
:
إذن صحت عزيمتك؟
نيرون
:
نعم … لقد صحَّت منذ زمن طويل، ولكنني كنت أتحيَّن الفرص وهاك فرصةً فريدة سنحت
ولن تفر من يدي.
بوبيا
:
الفرصة …؟
نيرون
:
أجربين (نيرون إلى الأضياف) أيها
النبلاء.
بيترون
:
القصيدة.
نيرون
:
أَرجِئوا الشعر لفرصة أخرى. لِيعزِفِ العازفون. اشربوا جميعًا وادعوا لقيصر
بالنجاح.
بعضهم
:
نشرب وندعو ليحي ولْيفُزْ قيصر!
المشهد الثامن
(نيرون يدق نحاس الاستدعاء فيدخل رسول.)
رسول
:
مولاي!
نيرون
:
عليَّ ببوليوس (يخرج ويعود ومعه
بوليوس)، (إلى بوليوس) هل
أحضرت تلك التي تقيم على شاطئ البحر؟
بوليوس
:
تلك التي تطلبها جلالتك بالباب!
نيرون
:
سألقاها … فلْتُحْضِرَن.
بوبيا
:
لقد شعرتُ بأن قواكَ خارت لما سمِعْتَ بقدوم هذه المرأة؟
نيرون
:
ألا تخور قوانا إلَّا لدى لقاء امرأة محبوبة؟ … إن في شئون الدنيا ما هو
أعظم شأنًا من الحب.
بوبيا
:
وتلك المرأة؟
نيرون
:
ما بالها؟
بوبيا
:
إنها مَحْظِيَّتك القديمة أكتيه.
نيرون
:
أخطأتِ يا عزيزتي … هذه المرأة هي أظافري التي أنشبها في أعدائي، ومخالبي
التي أنتزع بها نفوسهم من بين جوانحهم، هي المُنقِذة المخلصة، بيدها سرُّ حياتي
وسعادتي؛ لأنها قابضة على زمام الموت.
بوبيا
:
إذن هي …
نيرون
:
لوكستا الساحرة وصانعة السموم.
بوبيا
:
لألتقينَّ بها لأكون لك عضدًا ومساعدًا.
نيرون
:
قومي بتحية الأضياف (تدخل لوكستا. لوكستا ونيرون على انفراد).
لوكستا
:
ماذا تطلب مني في هذه المرة؟
نيرون
:
أتذكرين الماضي؟
لوكستا
:
سَلْ تيزيه إذا كان يذكر الجحيم!
نيرون
:
أتذكرين كيف أنقذتك؟ لقد أخرجتك من سجن ضيِّق وقذر حيث كنتِ أقرب إلى الموت
منك إلى الحياة، وأنت راقدة على فراش من الوحل الكَرِيه الرائحة، وحول بدنك
تلتف الأفاعي والحيَّات.
لوكستا
:
كنت لا أشعر من شدة البرد فلم أكن أبالي.
نيرون
:
أتعلمين إلى أين نقلتك؟ … لقد نقلتك إلى بيت فخم بَنَيْتُه لك خاصة وزيَّنته
بأبهى الزخارف … إن القوم يعتبرون حرفتك جرمًا فظيعًا وأنا أعتبرها فنًّا
جميلًا، وكانت الحكومة تطارد شركاءك في صنعتك، فأغمضتُ عيون الشرطة عنك وغللت
يدها التي كانت تمتد إليك بالأذى لولا حمايتي … وقدَّمت إليك أتباعًا ومريدين
يتلقون ما تجودين عليهم بتعليمه.
لوكستا
:
أنت تذكر إحسانك إليَّ وتنسى كيف رددت لك الجميل … لقد منحتك نصف قوة
المشتري فوضعت تحت تصرُّفك أعظم قوة في الطبيعة، وسلكتك قياد الموت هادِم
اللذات ومفرِّق الجماعات.
نيرون
:
حسن … إذن أنت تذكرين وأنا لا أنسى ولا تزال المودة بيننا قوية.
لوكستا
:
اليوم حتْفُ مَن؟
نيرون
:
إن لساني ينعقد دون ذكر اسمه … احظري … إن الذي هوى نجْمُه وأريد تسليمه
بيدي إلى الموت عدوٌّ شديد القوى، عظيم الخطر، ولا أستطيع أنا نيرون سيد العالم
أن أحرِّك به لساني … ولكن حذار أن يُبطِئ فعْلُ السم كما حدث لدى القضاء على
كلوديوس … لا بدَّ أن يكون السم قتَّالًا لساعته دون أن يستطيع مَن يتناوله أن
ينطق بحرف أو يومئ بإشارة … أريد سمًّا ناقعًا مهلكًا سريعًا قاطعًا مانعًا
… أريد سمًّا خارجًا من فوَّهة جهنم كما تخرج النفثة من فم الثعبان!
لوكستا
:
هذا أمر هيِّن … إن أوصاف السم الذي تصفه سهلة التحضير لديَّ، ولكن لا بدَّ لي من
معرفة المقصود بالموت.
نيرون
:
لقد عهدتك غير محبة للاستطلاع، فما الذي جعلك الآن فضولية؟
لوكستا
:
ليس حب الاستطلاع ولا الفضول هو الذي يدعوني إلى معرفة المقصود بالموت،
إنما اعلم أن هناك إناسًا لا يفعل بهم السمُّ مهما كان قويًّا؛ فإنهم لخوفهم
على حياتهم عوَّدوا أحشاءهم التغلُّب على السم بازدراد جميع صنوفه بمقادير
معينة في أيام متتالية؛ فأصابتهم مناعة دائمة، فإذا كان المقصود بالموت
شخصٌ من هؤلاء، فلعلَّ السم لا يصيب منه مقتلًا، فتعود عليَّ باللائمة وتتهمني
بالخيانة، وما أسهل هذه التهمة لديك حتى لِأخلصِ المقرَّبين لديك!
نيرون
:
حقًّا إذا خاب السم في هذه المرة فلأعيدنَّك بغير رحمة إلى سجنك القديم
وأعيِّن عليك سجَّانًا أقسى من بوليكس … صديقك بوليو يوليوس فتأمَّلي!
لوكستا
:
لا بدَّ لي من معرفة المقصود بالموت بالذات.
نيرون
:
لا أستطيع ولا أريد … استنجدي بقوى سحرك على معرفة اسمه … نجِّمي أيتها
العرافة القادرة، واستحضري الجن الخاضعين لأمرك (تجلس وتبسط تختًا من الرمل، وتنظر في كأس ماء، وتقوم بإشارات وتطلق
بخورًا ونيرون ينظر إليها ثم تنهض وتحييه).
نيرون
:
لعلك وفقت؟
لوكستا
:
لقد نجح السحر!
نيرون
:
والسم؟
لوكستا
:
خائب!
نيرون
:
هل فرغت جَعْبتُك؟
لوكستا
:
كلا ولكن لسُمِّي ألف ترياق.
نيرون
:
إذن علمتِ شخصَ المقصودِ بالموت!
لوكستا
:
أمك.
نيرون
:
حسن سأبحث عن وسيلة أخرى … اغربي عن وجهي.
لوكستا
:
ستحتاج إليَّ.
نيرون
:
ربما … في يوم آخر (يلقي إليها كيسًا فيه مال
ويستدعي بوليوس).
المشهد التاسع
نيرون
(لبوليوس)
:
عليَّ بأنيستوس أمير البحر … إنه بين الأضياف.
أنيستوس
(يدخل)
:
مولاي!
نيرون
:
أتذكر ماضيك؟ لقد كنتَ رقيقًا فأعتقتك، ومعدمًا فأغنيتك، ثم صرت جنديًّا
فرقَّيتك وجعلتك كبير الأسطول وأمير البحر، فأنت الآمر الناهي في عرض البحار …
ترتجف ميسينوم لذكر اسمك، ولا يأنف نبتون أن يلبِّي نداءك!
أنيستوس
:
لم يفعل قيصر بعبده هذه المكارم عبثًا، وسيلقاني في كل وقت رهين
إشارته.
نيرون
:
أنا أعلم ما بينك وبين والدتي من أسباب النفور مذ كنت معلمي.
أنيستوس
:
وأعلم ما بين جلالتك وبين سموِّها من أسباب البغضاء.
نيرون
:
لقد أعجزتني تلك المرأة، وأصبحت حِيالها ضعيف الحِيلة.
أنيستوس
:
إن قيصر لم يأمر عبده.
نيرون
:
لا أريد مشروعًا يفشل أو محاولة تخيب.
أنيستوس
:
إن كان الإغراق فإن البحر واسع الأرجاء ولا حدَّ لعمقه.
نيرون
:
وكيف يكون ذلك؟
أنيستوس
:
لديَّ سفينة كبرى ذات ثلاث قلاع مهجورة مذ خلفها تيبريوس، وكان صنعها
للقضاء على العظماء من أعدائه … إنها ذات طبقتين؛ إحداهما متحركة والأخرى
ثابتة، فإذا شاء ربَّانها قلب الطبقة المتحركة بجهاز خاص بها فتغرق بمن فيها
وينجو البحارة وكلُّ مَن كان على الطبقة الثابتة … وهكذا يلتهم البحر فريسته
والبحر أشد العناصر كتمانًا للأسرار!
نيرون
:
ولكن كيف تقنع فضلى الأمهات بالنزول إليها؟
أنيستوس
:
أنا أدبر لك ذلك … ادْعُها وسالمها وأظهر لها الرغبة في الصلح وهيِّئ لها
سبيل السفر بحرًا إلى بايا؛ حيث يُحتفَل بعد قليل بعيد الإلهة منرفا، وسأحملها
في الفلك المعلوم، ولْندُعُ إله البحر نبتون يتلقاها بحنان ورحمة.
نيرون
:
نِعْم الرأي رأيك … اذهب وأعِدَّ السفينة على جناح السرعة (يخرج ويدق نيرون نحاس الاستدعاء ويدخل بوليوس فيُدْنِيه
نيرون ويحادثه ويخرج).
المشهد العاشر
نيرون
(للأضياف)
:
لقد دعوتكم في أمر ذي بال! لقد طال الهجر بين الأم وولدها، وقلْبُ الولد
يحنُّ إلى رضاء تلك التي حملته في أحشائها وأرضعته من ثديها.
تيجلان
:
نِعْم القلب قلب قيصر! إن جلال الدولة وعظمة الملك لا تُنسِيه حبَّ
الوالدين.
نيرون
:
لأجل هذا صحَّت عزيمتي على مصالحتها، وأجعلكم شهودًا على صفائنا ومودتنا في
مستقبل الأيام.
بعض الأضياف
:
إننا في خدمة قيصر وإن فضلى الأمهات لتقدر هذه النعمة حقَّ قدرها (يدخل بوليوس).
نيرون
(إلى بوليوس)
:
عليَّ بفضلى الأمهات … إنها هنا في القصر في ضيافتي (تدخل أجربين).
أجربين
:
أرى الولائم تولم ومعالم الأفراح تُقام بأمر قيصر، وأجربينا ابنة جرمانيكوس
وحليلة كلوديوس وأم نيرون سجينة؟!
نيرون
(يعانقها)
:
أمَّاه! إن قلبي يدْمَى لدى سماع هذه الألفاظ الجافية. إنما دعوتك لأزيل
أسباب الشقاق أبدًا، ولأمحوَ سيئات الماضي بحسنات المستقبل.
الأضياف
:
إن فضلى الأمهات لا شكَّ تقدِّر هذه المروءة.
أجربين
:
متى كان للولد مروءة على والدته؟! أنا التي …
نيرون
:
أنا أعلم من أنت. وها أنا جئت إليك خاضعًا مُطِيعًا طالبًا الصلح. الصلح يا أمَّاه، فاجلسي
على هذه المائدة، وكلي من هذا الطعام واشربي من تلك الخمر، وشمي
هاتيك الأزهار واسمعي تلك الأنغام.
الأضياف
:
إن نفوسنا تذوب رأفة من هذا الحنان البنوي.
أجربين
:
أتعاهدني على الصفاء الدائم؟
نيرون
:
أعاهدك.
أجربين
:
أتطلق سراح أخيك برنيانيكوس؟
نيرون
:
حتمًا إنه ليس بالسجين الذي يُطلَق سراحه، إنما هو في ضيافة أخيه
الأكبر!
أجربين
:
إذن أَقْبل صلحك، وأجلس على مائدتك.
نيرون
:
إلى صدري أيتها الأم العزيزة (يتعانقان وتدق
الأنغام ويهتف الحاضرون).
الحاضرون
:
لِتحي فضلى الأمهات! ليحي قيصر!
نيرون
:
لقد حلَّ فصل الربيع.
أحدهم
:
هذا فأل حسن وبشرى سعيدة.
نيرون
:
ولا بدَّ لنا من الاحتفال بهذا الصلح المبارك … انظروا في سجل الأيام … ألا
يوجد عيد مُقدَّس نشترك في إحيائه … وإن لم يكن هناك عيد فلأخلقنَّ عيدًا باسم
فضلى الأمهات.
أحدهم
:
أذكِّر جلالتكم بعيد الكونكاتورا؛ عيد الإلهة منرفا يُحتفَل به في
بايا.
نيرون
:
متى موعده؟
القرين
:
بعد ثلاثة أيام.
نيرون
:
إذن هو عيدنا عيد منرفا وأجربين.
القرين
:
لِتسمح لي جلالتكم بتصحيح أمر بسيط.
نيرون
:
صحِّح ما شئت، فكل شيء مباح في يوم الصلح المبارك!
القرين
:
عيد أجربين ومنرفا. حقًّا إن منرفا إلهة الحكمة، ولكن فضلى الأمهات أسمى
منها مقامًا وأرفع شأنًا؛ لأنها إلاهًا أعظم من منرفا!
الجماعة
:
حقًّا حقًّا صحيح عيد أجربين ومنرفا.
نيرون
:
الأمر لكم في التسمية، ولكن كيف يكون الوصول إلى بايا حيث يحتفل
بالعيد؟
أحدهم
:
بطريق البحر.
نيرون
:
ما أجمل هذه السياحة! عليَّ بأحد رجال الأسطول.
المشهد الحادي عشر
(يخرج بوليوس ويعود أنيستوس.)
نيرون
(إلى أنيستوس)
:
ادْنُ وقبِّل أقدام فضلى الأمهات، واطلب منها العفو عن زلَّاتك السابقة.
أجربين
:
لا أعرف لمثل هذا زلات تذكر (يدنو أنيستوس
ويقبل طرف ثوبها).
نيرون
:
لقد مضى زمن طويل لم أرَ فيه وجهك أيها الذئب العتيق، كأنك ملك مستقل على
مملكة الأمواج.
أحدهم
:
ما أجمل هذا التشبيه!
آخر
:
إنه معنًى شعريٌّ مبتكَر.
أنيستوس
:
إن نبتون خادم قيصر وأنا أحقر خادمي نبتون.
نيرون
:
لقد عزمنا بحَوْل الإلهة فيستا على السياحة إلى بايا؛ حيث نحتفل بعيد
الإلهتين أجربين ومنرفا، فأعِدَّ لنا سفنًا تحملنا واختر من بينها أعظمها
وأفخرها، وزيِّنها بالأزهار وضع فيها ثلاثين بحَّارًا من أمهر بحارتك، وقلِّدهم
أقوى المجاديف وأحسنها، وانشر على سطحها أفخر الألوية وأبهى الأعلام، واعتنِ
بأثاثها أشد عناية، واعلم يا أيها الذئب العتيق أنني سأراها لأنها معدَّة
لفضلى الأمهات وحاشيتها.
أنيستوس
:
لجلالتك الأمر.
نيرون
:
وأعدوا لنا سفنًا حيثما اتفق ولْتَسِر سفينة فضلى الأمهات في المقدمة تحت
قيادتك، وقدِّم القربان لإلهَيِ الريح والبحر لِيَسْكُنَ الأول وليغتبط الثاني. لا
أريد أن تزعجها هبَّات النسيم ولا اهتزاز الأمواج.
أنيستوس
:
الأمر لجلالتك.
نيرون
:
والآن إليَّ يا والدتي العزيزة أضمك إلى صدري قبل نزولك إلى البحر. إن
هذا القلب مهما قسا في الماضي على وحيدك لم يكن يريد به شرًّا لأن فوقه ذلك
الصدر الحنون الذي طالما ضمتني إليه تلك الأيادي الكريمة وتان الثديان
اللذان أرضعاني ماء الحياة الأولى، وتحته تلك الأحشاء الغالية المصونة التي
حملتني وغذتني من لحمها ودمها ثلاثمائة يوم وليلة! أي غافل جاهل وأي حاقد
حاسد وأي لئيم معاند يسعى للإيقاع بين والدة وولدها؟! بل أية قوة من قوى
الأرض تستطيع التفريق بين أم وابنها … لقد كنا قبل الخليقة شخصًا واحدًا ثم
انفصلنا ولم ننفصل بحكم الطبيعة إلا لأكون منك بمثابة الجزء الذي لا يتجزأ،
إذا نطق الصغير يا أماه اهتزت جوارحها وسالت نفسها على لسانها لتجيب سؤاله،
وإذا قالت الأم ولداه طارت نفسه شعاعًا وصعد الجواب من أعماق نفسه
أماه!
أجربين
:
ولداه! (يتعانقان ويُسمَع شهيق البكاء)
اعلم يا ولدي أن الموت يحلو لي بعد هذا الوداع.
نيرون
:
لا قدَّرت الآلهة أن أشرب غصتك وأُفجَع فيك ولمَّا أتمتع برضاك.
المشهد الثاني عشر
(يدخل أنيستوس)
أنيستوس
:
إن السفينة الكبرى قد أُعدَّت (نيرون يضم أمه إلى
صدره).
أجربين
:
هل آن وقت الفراق؟
أنيستوس
:
انتهاز فرصة سكون البحر أفضل وأدعى للسلامة والبركة.
نيرون
:
إذن في حفظ الآلهة (يسير بأمه إلى باب الخروج
ثم يعود فيقف على مكان عالٍ ويشير بيديه علامة الوداع)،
(إلى بوبيا) الآن اطمأن قلبي! سترحل
فضلى الأمهات عن هذا العالم وهي مُحسِنة ظنَّها بي بعد أن سمعت خطبتي في حب
الوالدين (ثم إلى سنيكا) ما رأيك أيها
الحكيم؟
سنيكا
:
إن المعاني التي جرت على لسان جلالتك كادت …
نيرون
:
دع عنك المعاني إنها ملك مُشاع، إنما أطلب رأيك في الأسلوب … الأسلوب قبل
كل شيء!
سنيكا
:
الموضوع …
نيرون
:
خلِّ عنك الموضوع، الشكل أعظم أهمية من الموضوع … إن عمران العالم
بالأشكال.
سنيكا
:
الأسلوب بديع والشكل كامل.
نيرون
:
والآن أيها السادة، انظروا لنا نوعًا جديدًا من المسرَّات.
تيجلان
:
إن هؤلاء الراقصات من الشرق قد حضرن مصحوبات بمغنِّيين وعازفين وناقرين على
أدوات الطرب، والجميع في انتظار أمر مولانا ومولاهم.
نيرون
:
ما قولك في رقص الشرق أيها الحكيم؟ علينا بهن (منظر رقص شرقي وموسيقى شرقية وأكل وشرب وغزل).
المشهد الثالث عشر
نيرون
:
ما وراءك؟
أنيستوس
:
لقد خطَّطنا لفضلى الأمهات مضجعًا بين الأمواج، ونبتون أغمض جفنه ووضع
أنامله في أذنيه فلم يرَ ولم يسمع!
نيرون
:
هل تمَّ كل شيء؟
أنيستوس
:
كل شيء تمَّ على ما تروم جلالتك.
نيرون
:
عليَّ بالتفصيل … صِفْ لي كل ما جرى منذ خرجْتَ بها من هنا إلى أن وصلت بها
إلى مضجعها الأخير.
أنيستوس
:
لما أوصيتَنِي جلالتك بفضلى الأمهات، صحبتها معزوزة مكرَّمة إلى الشاطئ، وهناك
فرشنا لها بساطًا قرمزيًّا لتخطو عليه إلى الجسر المحدود بين الشاطئ
والسفينة، وقام البحارة لجلالتها الإمبراطورية بالتحية، وقد أنزلتُها على
الرحب والسعة في الطبقة المتحركة من السفينة، وبعد أن قرعنا الأجراس ونفخنا
في الأبواق تحركت السفينة متجهة برأسها في شقٍّ من البحر بين بابيس وبوزولا،
ولم يوشك الفُلْك أن يتحرك حتى رغبت الإمبراطورة في الراحة، ولزمت قمرتها
المزيَّنة بأفخر الأثاث، وعندما أقبل الليل وأسدل الظلام ستوره حوَّلنا رأس
السفينة نحو عرض البحر، ولم يطُل سيرنا في هذا الاتجاه حتى حدث في السفينة
هرج واضطراب وسببها على ما علمت بعد ذلك، إن جارية من حاشية الإمبراطورة
اسمها أسيرونيا فَطِنت إلى خطتنا فأيقظَتْ مولاتها ولفتت نظرها إلى خطة السفينة؛
فنهضت فضلى الأمهات من فراشها مذعورة واستدعت جالوس وهو فارس روماني كان
على ظهر السفينة، ولما مثل بين يديها أمرتْه بأن أحضر لديها، فأخبرها جالوس
بأنني لا أستطيع إلى ما تريد سبيلًا لانشغالي بإنزال بعض قوارب النجاة إلى
البحر، فقالت له إذن سأذهب إليه وألقاه حيث يكون، وكنا قد أدرنا جهاز
الطبقة المتحركة فبدأ الماء يدخل من الخُرُوق ويتدفق كأنه من أفواه القرب،
وأخذت سطوح الغرف التي كانت فيها الإمبراطورة وحاشيتها تسقط، وكان لسقوطها
صوت مخيف مزعج في سواد الليل، ثم أمرت بدق ناقوس النجاة، وبالنفخ في أبواق
الإنقاذ، وقد رأيت تحت جنح الظلام أشباح النساء تروح وتجيء حائرات، وسمعت
نُواحَهن وعويلهن، واخترق أذني صوتُ فضلى الأمهات وهي تقول أنيستوس! أيها
الربَّان الخائن! أهذه قيمة وصية ولدي لديك، ثم سمعت عويلًا وعاد صوت فضلى
الأمهات فقالت الآن فطنت هذه ليست خيانة أنيستوس بمفرده إنْ هو إلا عبد
مأمور … هذه خيانة ولد جحود كافر بنعمة الآلهة.
نيرون
:
لا تُعِد على مسامع إمبراطورك كلَّ ما سمعته.
أنيستوس
:
لقد أمرتني جلالتك إن أُسْهِب.
نيرون
:
حسن! أتمِمْ حديثك.
أنيستوس
:
… إن هو إلا عبد مأمور هذه خيانة ولد جحود كافر بنعمة الآلهة (يتملَّمل نيرون).
نيرون
:
وبعد؟
أنيستوس
:
وبعد هجم الردى على فضلى الأمهات وجواريها من جهتين؛ أتاهن من فوق رءوسهن
فهوى السقف عليها وأدركهن من تحت أقدامهن فطغى الماء فكنَّ من المغرقات،
عندئذ رأيت منظرًا رهيبًا لا أنساه ما دمت حيًّا … رأيت فضلى الأمهات ونفرًا
من صواحبها وقد استسلمن للأمواج فابتلعهن البحر، وقد خرجت من أعماق قلوبهن
صرخة مزعجة لفَظن بها وداعَهن للحياة وآمالها، وقد خرجت من أعماق البحر حيث
انطبقت عليهن الأمواج صرخةٌ أخرى كأنها صوت إله غضوب.
نيرون
:
كفى كفر شعرًا! هذا صوت عويل هؤلاء النسوة … ليس لديهن إلا العويل
والصراخ حتى في تلك الساعة … ساعة الموت!
أنيستوس
:
وماذا كان يجدر بهنَّ يا مولاي وقد يئسن من رحمة الآلهة وفقدْنَ الأمل في
النجاة؟
نيرون
:
يتأملن في جلال الموت ويحفظن ألسنتهن لدى هذا الموقف الرهيب … على أنك
بحَّار ساذج لا تدرك جلال هذه الآراء الشعرية! … أكمل حديثك.
أنيستوس
:
وبعد قليل عادت شعورهن فطفت على سطح الماء، ثم ما لبثت رءوسهن أن ظهرت
للعيان ثم رأيت رأسًا بين تلك الرءوس تستغيث صاحبته من أعماق قلبها بصوت
خافت لا يوشك أن يصل إلى أذني: النجاة النجاة أنا أجربين أنا والدة
الإمبراطور أنقذوني.
نيرون
:
ثم ماذا؟ … هل مدَّ إليها أحدٌ يد المساعدة؟ هل كانت متشبِّثة بلوح طافٍ
ومعتصمة بحبل الإنقاذ؟
أنيستوس
:
لا هذا ولا ذاك يا مولاي، فإن بحارًا قويًّا كان يعلم حقيقة الحال دنا من
فضلى الأمهات وبيده مجداف، فظنَّت أنه أتى لينقذها فمدَّت إليه يدها وتجدَّدت
آمالها فبذلت مجهودًا شديدًا في الوصول إليه، فهوى بالمجداف على ذراعها
فبترها، ثم أخذ يضربها على رأسها حتى شجَّه، واختفت للمرة الأخيرة في غيابة
اليمِّ ولم يبدُ لها أثر!
نيرون
:
وما اسم هذا البحار الشجاع؟
أنيستوس
:
أنتيكوس يا مولاي.
نيرون
:
سأرقِّيه وأكافئه على أنه أراح فضلى الأمهات من متاعب ساعتها الأخيرة …
أحسنت يا أنيستوس أحسنت، هكذا أبطال البحر وإلا فلا!
المشهد الرابع عشر
نيرون
(فجأة للحاضرين)
:
يا لك من مخبر مشئوم … آه وا أماه!
الحاضرون
(ينهضون عن المائدة مفزوعين)
:
مولانا!
نيرون
:
الحداد يا سادة! الحداد خبرُ ينعقد دون ذكرِه لساني!
أحدهم
:
حياتنا فداك!
نيرون
:
إن فضلى الأمهات التي كانت بين ظهرانيكم منذ ساعة، والتي لم أتمتع برضاها
بعد صلحنا المبارك، قضت نحْبَها غريقةً في طريقها إلى مكان الاحتفال بعيدها
المقدس!
أحدهم
:
يا ويلنا!
نيرون
:
لقد غارت الآلهة من الصلح الذي تمَّ بين نيرون وأمه … الحداد يا سادة
الحداد … لا تُضاء مدينة رومه ثلاث ليال، ولا تُقام الأفراح ولا تُولَم
الولائم.
الحاضرون
(ينتقلون إليه)
:
نعزي جلالتكم (يصافحه بعضهم).
نيرون
:
سأبقى حليف الحزن أليف الأسى إلى أن تدركني منيَّتي.
الحضور
:
يأذن لنا صاحب الجلالة في الانصراف؟
نيرون
:
إن الوحدة خير وسيلة للعزاء (يخرجون ماعدا
بوبيا).
المشهد الخامس عشر
خادم
:
النصر لقيصر … بالباب رفيق اسمه أجرنيوس يحمل رسالة مهمة.
نيرون
:
لِيدخُل (يدخل أجرنيوس).
أجرنيوس
:
النصر لقيصر!
نيرون
:
ما وراءك؟ (يدنو منه أجرنيوس ويهمس في
أذنه).
نيرون
(يبدو عليه اضطراب شديد)
:
قل تكلَّم.
أجرنيوس
:
رسالة من مولاتي الإمبراطورة أجربين فضلى الأمهات.
نيرون
:
رسالة من مولاتك الإمبراطورة؟ هل وصلت سالمة إلى مستقرِّها محمولة على
السفينة؟
أجرنيوس
:
لقد حدث لها حادث مزعج في الطريق، ولكن الآلهة التي لا تغفل عن سعادة
جلالتك، أبَتْ أن تصيبك في أعزِّ حبيب لديك وأقرب الناس إلى قلبك
فأنقذتُها.
نيرون
:
آه لقد نجت فضلى الأمهات … نجت من البحر العجاج المتلاطم
بالأمواج.
أجرنيوس
:
نعم يا مولاي وهي الآن في قصرها آمنة مطمئنة، وقد بعثت بي لأبشرك بهذا
الخبر السار خشيةَ أن يبلغك عنها سوء فيبدو لك الحزن.
نيرون
:
حمدًا للآلهة على نجاتها … يا لها من أمٍّ حنون تخشى عليَّ من الحزن عليها،
إنها تعلم ما في قلبي نحوها من العطف والمحبة! ولكن قُصَّ عليَّ خبر
نجاتها، إن هذا يهمني لأكافئ الأشخاص الذين ساعدوها على الخلاص من مخالب
الموت (يهيج) ويل لنبتون الخئون يا له
من إله وغد بين الآلهة!
أجرنيوس
:
على العكس يا مولاي يحق لنا أن نشكره.
نيرون
:
إنني أسبُّه أيها الغبي لأنه حاول انتزاع أمي من بين يدي، ولكن عليَّ
بالتفاصيل.
أجرنيوس
:
إن السفينة التي ركِبَتْها فضلى الأمهات كانت مُزيَّنة ومنمقة إلا أن السوس نخر
أخشابها وقوَّض أركانها، فلم تكد تهب عليها الريح حتى تبدَّدت أوصالها وطغى
عليها الماء من كل جانب، وقد استغاثت فضلى الأمهات بكلِّ من كان على ظهر
السفينة فلم يُعنَ بها أحد … وتقدَّست الآلهة التي شَغَلَت كلًّا بنفسه وصرفت
أنظار البحَّارة عن والدة قيصر.
نيرون
:
سيلقى كلُّ واحد منهم عقابه لا سيما كبيرهم أنيستوس الكذوب، الذي أوصيته بها
خيرًا وأتمنته على تلك الجوهرة الثمينة، وذلك البحار الدنيء جالوس الذي
كنت أظنه شهمًا مقدامًا فإذا به أقل من كلاب البحر (لنفسه) ينبغي الآن أن نكذِّب بلاغ الموت
ونذيع بشرى النجاة وننقض أمر الحداد.
أجرنيوس
:
ولما غرقت السفينة وأشرفت فضلى الأمهات على الهلاك مرَّ بها بعضُ البحارة
في قارب صغير فأنقذوها، وقد حدث أن جارية أرادت النجاة فادَّعت أنها أجربين
ولكنها هلكت!
نيرون
:
يا لهم من … يا لهم من …!
أجرنيوس
:
شجعان.
نيرون
:
نعم يا لهم من شجعان!
أجرنيوس
:
وقد أوصلوها سالمة من كلِّ أذًى.
نيرون
:
من كل أذًى! مرحى! مرحى! يا أنيستوس كنت أنت الجدير بهذا الفضل على
مولاتك.
أجرنيوس
:
أوصلوها سالمة من كلِّ أذًى إلى خليج بوزولوس، ومن هناك حُمِلَت على الأعناق في
سرير إلى قصرها، وما كادت تطأ قدمها على أرض القصر حتى بعثت بي
إليك.
نيرون
:
نعم الرسول يا صاح! نعم الرسول!
أجرنيوس
:
ما أنا إلا غرس بنان جلالتك وخادم والدتك التي بعثت بي إليك لأُدخِل
الطمأنينة على قلبك، وإنها تلتمس من جلالتك أن تؤجِّل زيارتك لها على الرغم
من شدة شوقك إليها وتشوُّقها إليك، ريثما تستكمل راحتها من الانزعاج الذي
أصابها، والآن يسمح لي قيصر بالانصراف؟
نيرون
:
ابقَ لدينا قليلًا يا صاح … ما هذا؟
أجرنيوس
:
هذا سيف أحمي به ذِمار والدة قيصر.
نيرون
:
أرني إياه … جرِّدْه من غمده … إنه من طراز عجيب (يُخرِج سيفه ويناوله لنيرون الذي يُلْقِيه بين رجليه بسرعة
ويصرخ) النجدة! النجدة! إليَّ برجال الحرس … دقُّوا نواقيس
الاستغاثة (يحضر قوم).
بعضهم
:
ماذا جرى؟ ماذا جرى؟
نيرون
:
انظروا انظروا … ها أنتم شهود عدول … هذا الرجل حارس قصر فضلى الأمهات
وأقرب خَدَمها، قد أوفدتْه لقتلي بعد أن صالحتُها في مجلس حافل بالشيوخ والقرناء
والأشراف، وهذا سيفه بين رجليه … جرَّدَه ليغمده في صدري … هذا سيف الغدر
أرسلته تلك التي تدعونها بفضلى الأمهات لتُجهِز به على ولدها وفلذة كبدها …
على سيد العالم وإمبراطور رومه.
أحدهم
:
ليُقتلَنَّ الساعة.
نيرون
:
بل أبقوا عليه. إنه أصبح رهن التحقيق. تنفعنا حياته أكثر مما يشفي موتُه
غليلنا. إن له حتمًا شركاء في جنايته … خذوه إلى مكان أمين وادعوا إليَّ
أنيستوس كبير الأسطول … لم يبقَ بعدُ إلا هذا … اعتداء في رابعة النهار من
رقيق حقير في أسفل درك الجندية على إمبراطور رومه وسيد العالم … في أي زمن
نعيش يا سادة؟ أيحدث هذا وأنتم أشراف هذا الزمان ورجال هذه الدولة؟ أيعتدي
على أميركم لأن طامعةً كانت تريد الوصول إلى العرش الذي لا تستطيع حمايته
فأقصيتُها؟
أحدهم
:
إن التحقيق سيسفر …
نيرون
:
التحقيق! التحقيق! … إذن فتحنا باب القضايا وأوسعنا مجالًا للمرافعة
والمدافعة وأقمنا منصبًا للخطابة والفصاحة، اعلموا أن مِن كلِّ ألف مجرم لا
يقع في يد القضاء إلا مائة، ولا ينال العقاب من المائة إلا عشرة، فلو أن
لهذا الجاني مائة شريك فلن يُعاقَب منهم إلا واحد!
أحدهم
:
إن مثل هذه الخيانة تقتضي حكمًا سريعًا قاسيًا.
نيرون
:
أنت تعرف كيف تُحكَم البلاد.
آخر
:
ولكن لا تنسَ أن للمتهمين في هذه القضية شأنًا لا يماثله شأن
الآخرين.
نيرون
:
جميع الناس سواء أمام القانون.
المشهد السادس عشر
(يدخل أنيستوس)
نيرون
:
أنيستوس.
أنيستوس
:
مولاي!
نيرون
(بسخرية)
:
أيها الربان الماهر والبحري القدير!
أنيستوس
:
لا قدرة لأحد حيال قدرة قيصر.
نيرون
:
إذن ماتت فضلى الأمهات؟!
أنيستوس
:
واستقرت في قاع البحر إلى الأبد.
نيرون
:
ولكنها بعثت إليَّ منذ هنيهة رسولًا!
أنيستوس
:
إذن هو من زبانية جهنم وقادم رأسًا من أعماق الجحيم؛ لأنني رأيت بعيني
السفينة تتحطم وتغرق والماء يطغى عليها، ورأيت أجربين تصرخ وتستغيث ورأيتها
كذلك وقد كُسِر ذراعها وشُجَّ رأسها ورأيتها تغيب في اليمِّ عن أعين
الناظرين.
نيرون
:
لقد صدق أجرنيوس وأخطأ أنيستوس. إن التي قتلت على تلك الصورة الشنيعة لم
تكن للأسف أجربين إنما هي جاريتها أبيرونيا، أما فضلى الأمهات فقد نجت
بجلدها وهي الآن في قصرها.
أنيستوس
:
مَن قال هذا؟
نيرون
:
معتوقها أجرنيوس.
أنيستوس
:
أرأيته بعينك؟
نيرون
:
رأيته وسمعت رسالته، وقد حاول الشرير اغتيالي فاستغثت وقد اعتقلناه وهو
ينتظر المحاكمة.
أنيستوس
:
أيريد قيصر حقيقةً محاكمة مثل هذا الوغد؟
نيرون
:
وغيره من شركائه في محاولة اغتيال حياتي الغالية.
أنيستوس
:
إن الأمر يطول.
نيرون
:
وهذا رأيي … إذن ما العمل؟
أنيستوس
:
أنا كفيل هذه المرة بالقضاء عليها بصفة لا تقبل الشك.
نيرون
:
كيف تفعل؟
أنيستوس
:
سأذهب إليها في الحال ومعي فرقة من البحارة، حتى إذا مثلت بين يديها
قتلتها.
نيرون
:
تحقَّق من شخصيتها أولًا بحيث لا نحتاج إلى بلاغ آخر عن نجاتها.
(ستار)
الفصل الرابع
المنظر الأول
شخص
:
لقد تمَّ كلُّ شيء على يد أنيستوس، وقُتِلَت أجربين في قصرها بأمر ولدها شرَّ
قتلة.
آخر
:
عجبًا لقد علمنا أنها نجت من الغرق!
الأول
:
إن مَن يقصده نيرون بالقتل لا نجاة له، فإن سَلِم من غائلة البحر لا يفر من
غوائل البر، فقد أرسل الأمير البارُّ بأمه إليها شرذمة من الجند يقودهم
أنيستوس الجسور ليغتالوها، مُتهِمًا إياها بالاشتراك في الشروع في اغتياله بيد
معتقها أجرنيوس الذي نَقَل إليه خبرَ نجاتها من الغرق.
الثاني
:
هل فعل هذا جهارًا؟
الأول
:
لقد كنت بين الحاضرين آن ذاك. إن خبر نجاتها من أيدي القتلة الذين حاولوا
إغراقها ذاع وانتشر، فجاء الناس من كلِّ فجٍّ يهنئونها بسلامتها وينظرون
بأعينهم أميرةً حاربها الدهر حتى جعل موتها على يد ولدها.
الثاني
:
كل جانية تدفع ثمن جرائمها.
الأول
:
وإننا لكذلك مجتمعين في ردهة القصر وأبوابه نتلقَّف أخبارها، وإذا بتلك
الشرذمة من القتلة قد أقبلت شاهرة أسلحتها، فشُتِّت شملُنا بالأسنة والسيوف ثم
أحاطت بالقصر لتحرسه ريثما يُتِمُّ الجناةُ فعلهم ثم دخلوا القصر عَنْوة واعتقلوا
الخدم، ودخل أنيستوس بمفرده إلى مضجع أجربين.
الثاني
:
وكيف كانت حالتها؟
الأول
:
إنها كانت في هياجٍ وقلق لا حدَّ له؛ لأن رسولها إلى ولدها أبطأ فلم تستبشر،
وكأن نفسها كانت تحدِّثها بما سيقع لها، فكانت تصرخ وتستغيث وتقوم في فراشها
وتقعد كأنها مجنونة، وكانت تبعث في كلِّ لحظة بالرقيق تلو الآخر يكشف الطريق
لعله يرى رسول ولدِها ورسولها عائدًا، وممَّا زاد آلامها هولًا أن البحر الذي
كان هائجًا مضطربًا منذ برهة سكن سكون الموت، كأنه يريد الإصغاء إلى ما سوف
يصيبها، فقالت وقد أثَّر سكون الأمواج في نفسها: ما للبحر قد خفت صوته. وإذا
بالبحر عاد فجأة فزأر وزمجر فذُعِرَت من ذلك الصوت الذي لم يكن مُنتظَرًا، وكادت
تخرُّ مغشيًّا عليها لولا أنها رأت إحدى جواريها تغادر مخدعها فاستوقفتها
قائلة: وأنت أيضًا تتركينني؟! وإذا بأنيستوس يدخل عليها بغير إذنها وخلفه
القبطان هرقل والبحار أولوراتوس، وكان الثلاثة مسلَّحين بخناجر وسيوف ورماح
كأنهم قادمون على معركة فاصلة، ولم يبتدِرْها أحدهم بالتحية، فابتدرتهم قائلة:
إن كنتم قادمين من لدى الأمير فأخبروه أنني بخير. فسكتوا ولم يجدوا جوابًا
فقالت: إن كنتم قادمين لقتلي فلستم إذن رسُلَه لأن قتل الأم ليس من صفات ولد
بارٍّ. فلم يجيبوا إنما أحاطوا بفراشها وجرَّد البحار سيفه.
الثاني
:
يا لهول ما تروي!
الأول
:
فلما تيقَّنت أنهم يقصدون قتلها، وأنها فقدت المُساعِد والنصير كشفت عن أخفى
ما في جسمها وأشارت بيدها إلى مكان الستر منها، وقالت بصوت هزَّ خناجر القتلة
في أيمانهم: هنا أغْمِدْ سيفك، في هذا المكان جزاء حملي ووضعي ولدًا يستبيح قتْلَ
الأم!
الثاني
:
فماذا فعلوا؟
الأول
:
هوى هرقل على رأسها بهِراوة فشجَّها، ثم اشترك معه رفيقاه فأصابها كلٌّ من
الثلاثة في مقتل من مقاتلها، ولم تلبث أن زهقت روحها بين آلامٍ يصعُب عليَّ
وصفُها.
الثاني
:
وبعدُ؟!
الأول
:
حدث أمرٌ لم يكن في حسبان أحد، فقد أقبل بعد برهة نيرون بذاته متزيِّيًا
بزيِّ بحار، وقد عرفه كلُّ مَن كان على مقربة من المكان.
الثاني
:
هل أدركته الندامة فجاء ينقذها؟
الأول
:
إنك طيب القلب. لقد جاء ليتحقَّق بعينَيْ رأسه أنها قُتِلَت هذه المرة.
الثاني
:
وكيف علمت ذلك؟
الأول
:
لقد بلغنا أنه أمر أن يكشف عنها الرداء الذي سترها به جلاده، فلما أن رآها
عرته دهشة ثم قال: لو علمتُ أنها على هذا النصيب من جمال الجسد لأبقيت عليها
… أفهمت؟
الثاني
:
ما أفظع هذا! ما أفظع هذا!
الأول
:
ثم عاد الأمير من حيث أتى بعد أن أمر أن تُحرَق جثتها ليلة مصرعها، بدون
حفاوة وأن يُدفَن رفاتها بغير إكرام، ولا ضحايا في مكان لا يعرفه أحد.
الثاني
:
يا لها من خاتمة شنيعة!
الأول
:
كانت حياتها أشد شناعة من موتها.
الثاني
:
لشد ما أدهشني جلدها لدى الموت!
الأول
:
كانت عالمة بأنها ستلقى حتفها على هذه الصورة، فقد روى لي مَن عليم
بأخبارها أنها استشارت منجمة في صباها، فقالت لها: سيولد لك ولد يحكم رومه
ويقتل أمَّه. فأجابت: رضيت أن يقتلني إن حكم … إنه منذ قتل أمه لم يستقر على
حال من القلق، وأغرب ما في أمره أنه أخذ يظهر بمظهر الحزين الذي أصابه
الدهر بفقد أمِّه، فهو يبدو لمن يراه كمَن فارقته بشاشته واعتدال مزاجه، ولبس
وجه اليتيم شاحب السحنة كاسف البال لا ينفع معه العزاء على المُصاب الذي حلَّ
به.
الثاني
:
ما أقدره على التصنُّع!
الأول
:
إن الذي كان يبدو عليه لم يكن من أثر الحزن والألم، إنما من أثر الرعب
والندامة، فإنه مهما كان قلب الولد قاسيًا فإن قتل أمِّه بأمره ليس أمرًا
هيِّنًا، ولكن دهاء نيرون أعظم من ندمه، فإنه تمكَّن من الانتفاع بما يبدو عليه
من شحوب الوجه وكسافة البال ليظهر بهما بمظهر المحزون على فقد أمه.
الثاني
:
أترى لهذا علاقة بغيبته الطويلة عن عاصمة المملكة؟
الأول
:
قلت لك إن الرعب ملك عليه سبيله، فأدركه القلق فهامَ على وجهه منذ فعلته
الشنعاء، وقد قيل إنه لا يستطيع النظر إلى البحر لأنه يُخيَّل إليه في كل مرة
أنه يرى أمَّه تغالب المواج، وقد أبلغه أتباعه أن الدائر على ألسن العامة أنه
إذا جنَّ الليل سُمِع من ناحية القبر الذي دُفِن فيه رفات أجربين صدى عويل
واستغاثة، وأبلغوه أن امرأة جاءها المخاض فولدت ثعبانًا، وأن أخرى انقضَّت
عليها الصاعقة وهي في فراش زوجها، وأنه لدى كسوف الشمس الأخير زلزلت الأرض
فتهدَّم أربعة عشر حيًّا من أحياء رومه، ومما زاده يقينًا في تلك الخرافة أنه
يهذي حينًا فيسمع صوتًا في غرفة نومه يشبه صوت أمه، ويرى شبحًا يمثِّل صورتها
وهو يودعها الوداع الكاذب يوم أغرقها أنيستوس بأمره.
الثاني
:
ما أفظع هذا؟ … على أنني أرى في العاصمة معالم الزينة لاستقباله.
الأول
:
إنه بعد أن أقام شهرًا يتنقل من غير قصد ويضرب في الأرض بدون جدوى، ألقى
عصا تسيارِه بنابولي، وبعث إلى مجلس السناتو لعجم عوده برسالة من قلم سنيكا
البليغ يشرح فيها عذره عن ذنبه.
الثاني
:
فماذا كان جواب هذا المجلس الموقَّر؟
الأول
:
إنه بالرغم من صوت الشعب الروماني الناقم على هذا الجاني الذي لا عُذْر له،
أصدر المجلس الموقر القرار تلو القرار مفرغة كلها في قالب المذلة والتمليق،
فأوَّلها تخليد ذكرى اليوم الذي فشلت فيه المؤامرة المصطنعة التي لفَّقها نيرون
لينتحل عذرًا لقتل أمه، وثانيها إقامة تمثالين أحدهما لنيرون والثاني
لمنرفا إلهة الحكمة ونصبهما في رحبة المجلس، وثالثها محو تاريخ ميلاد
أجربين من التقويم الروماني، وكان حتى اليوم عيدًا عامًّا ويومًا
مقدسًا.
الثاني
:
وهل أغفلوا أمر عودته إلى رومه؟
الأول
:
كلا! إنهم بعثوا إليه برسلهم يستقدمونه إلى العاصمة، ويمثِّلون له الشعب
هائمًا بحبه منتظرًا بفارغ الصبر عودته إلى مقر ملكه، وأكَّدوا له أن الشعب
أمسى لا يبغض شخصًا بغضه أجربين، بعد أن اتضح أمرها وبانت حقيقة
مقاصدها.
الثاني
:
أراه قد اعتقد صِدْق قولهم.
الأول
:
إنه أحذر من ابن آوى … لم يأمن أن يعود دون أن يبعث بنفر من رجال حاشيته
يستطلعون طلائع البلد وهو على مقربة منه، فلما أن قدموا رأوا أكثر مما كان
يتوقعون، فقد التقوا في الطرق بوفود القبائل قادمة للقائه بأمر مجلس الشيوخ،
ورأوا الشيوخ أنفسهم وقد لبسوا أفخر ثيابهم وتزيَّنوا وخرجوا إلى ظاهر
المدينة ينتظرون عودة نيرون ليقدِّموا له فروض العبودية، وقد حُشِد أهل رومه
رجالًا ونساءً، شيوخًا وأطفالًا واصطفوا حسب أعمارهم وطبقاتهم الاجتماعية،
وصدر الأمر فشُيِّدت في الطريق التي سيمر بها الإمبراطور مواقف من الخشب كما
يُفعَل يوم عودة القياصرة الفاتحين بعد انتصاراتهم الحربية … هكذا يعود إلى
الوطن ظالمٌ قتَلَ أمَّه واستباح كل منكر … يعود عودة القياصرة المنتصرين تحت
أقواس النصر!
الثاني
:
وهل اليوم موعد عودته؟
الأول
:
الساعة انظر (ينظران).
المنظر الثاني
(يُسمَع صوت بوق.)
الثاني
:
ما هذا الذي نسمع؟
الأول
:
هذه موسيقى الحرس (ينظر).
الثاني
:
ولكن بوروس ليس على رأسه.
الأول
:
إنه مصاب بداء في الحنجرة (يدخل قضاة المحكمة
العليا ووفد مجلس الشيوخ ويُسمَع صوت هتاف الشعب: لِيحي قيصر! النصر
لقيصر).
المنظر الثالث
(يدخل نيرون محمولًا على الأعناق ويبدو عليه الضعف والملل ويبقى في هودجه – ضباط
وجند وأعضاء مجلس الشيوخ وقضاة – وكهنة …)
ضابط
:
عمر مديد وملك سعيد وانتصارات لا تُعَد ومفاخر لا تحصر.
نيرون
:
وبعد؟
ضابط
:
هذا يا مولاي لسان حال هؤلاء الجند، أرادوا أن يحظوا بشرف المثول بين يدي
جلالتك، فأعِرْهم يدك الطيبة الطاهرة فيقبِّلوها وأذنك الرقيقة الحساسة فيشنِّفوها
بأطيب الثناء والحمد.
نيرون
:
حديث واحد منهم كافٍ.
شخص
:
إنهم يهنئونه بمقتل أمه!
جندي
(يتقدم)
:
بلسان الجيش الروماني المقيم
في العاصمة وضواحيها والراحل منه في أطراف الإمبراطورية النائية رافعًا
أعلام دولتك وناشرًا صولتك، جئنا نصوغ لآلئ التهاني لجلالتك فرحًا بما أنعمتْ
به علينا الآلهة بنجاتك من المؤامرة الفظيعة التي دبَّرها عقلٌ جهنمي وقلب
نُزِعَت منه الرحمة، ونعم العقاب الذي لَقِيَتْه الجانية (يدق نيرون يده فيأخذها الجندي ويقبلها بخشوع
وينصرف).
قاضٍ عظيم
:
إن قضاة المحكمة العليا يعدُّون هذا اليوم من أسعد الأيام، فقد منَّت علينا
الآلهة بحياة جديدة بأن طالت حياتُك ونجت رومه بأن نجوت من غدر الغادرين،
وقد سرَّنا أن جرى العدل مجراه، ولقي الأثيم جزاء ما قدَّمت يداه، فذاق الكأس
التي أراد أن تجْرَعها، وهكذا كل نفس تستبيح القتل سوف تلقى مصرعها.
نيرون
:
إن قولك أيها القاضي العادل يفرج الكرب ويقنعني بأن في رومه قضاة (يمد له يده فيقبلها وينسحب).
شيخ من مجلس السناتو
:
مجلس السناتو ملجأ لكل شيخ محنَّك، وقد بغَّضتنا التجارب في كلِّ مَن يغتال
النفوس كائنًا مَن كان، فما بال مولاي لو كانت تلك النفس التي نجت بأعجوبة
سماوية هي أعز علينا من نفوسنا … إننا بنص الدستور الروماني المقدس نستمد
سلطتنا من شعاعٍ من هالة أنوارك الساطعة، وننطق من أعلى منابرنا مدفوعين
بقوة بيانك، ونشرِّع الشرائع ونقنن القوانين بفضل إرادتك الإمبراطورية، فمَن
يحاول إلحاق الأذى بجلالتك فقد حاول ضرب رومه في مقتلها، فقَتْلُه خير الجزاء
ونعم الفعل!
نيرون
:
كلام الشيوخ … شيخ الكلام! (يدنو الشيخ ويقبل
يده وينصرف.)
كاهن
:
يسمح لي قيصر أن أقدِّم للآلهة قربانًا فرحًا بنجاته؟
نيرون
:
لك ذلك.
بيترون
:
إذا تنازل قيصر بالقبول أمرت لساعتي بتوزيع القمح والزيت والنبيذ بين
الفقراء ابتهاجًا لخلاصه من مؤامرة أهل السوء.
نيرون
:
لك ذلك يا بترون العزيز.
سنيكا
:
أما أنا فقد ضحَّيت بما ضحيت بدون إذن؛ لعلمي بأن قيصر سيقرُّ عملي.
نيرون
:
حسنًا فعلت.
بوروس
:
أما أنا فقد ضحيت وعتقت أربعين رقيقًا.
نيرون
:
لا تنسَ يا بترون عتقاء بوروس لئلا يجرعوا فيبغضوا الحرية (يضحك).
رسول
:
لِيحي قيصر.
نيرون
:
ما وراءك؟
رسول
:
وفود من مدن شتَّى قدموا ليهنِّئوا جلالة الإمبراطور.
نيرون
:
أدخلهم (يدخلون).
أحدهم
:
نحن أهل سولوسيا وباكتريا ورافنا ونابولي وبيتيا وجاليليا وقيصرية
وقرطاجنا، جئنا نحمل إلى جلالتكم أجمل التهاني لنجاتكم من خطر المؤامرة
السوداء، وقد ضحَّينا بعُشْر ما نملك إنعامًا ومتاعًا وأقمنا الصلوات في كل
مكان داعين للأرباب أن تتقبل أُضْحياتنا وصلواتنا وأن تُطِيل حياتك وتُسعِد أيامك
وتنصرك على أعدائك.
نيرون
:
إن رومه تشكركم وتثني عليكم، أما أنا فقد أمرت أن تُجرَى عليكم من الخزانة
الخاصة أرزاقٌ تُعوِّض عليكم ما أنفقتم في هذا السبيل.
أحدهم
:
لم نبغِ بذلك عِوَضًا.
نيرون
:
لم يفتكم الأجر من الأرباب ولا الثناء من مولاكم (يدنو فيقبل يد نيرون)، (مستطردًا) آه ماذا أسمع؟ هذا صوت منكر …
صوت امرأة … صوت امرأة تستغيث … امرأة تُقتَل … أسامعون أنتم أيها السادة
صراخها؟ أجيبوا … انطقوا …
بعضهم
:
لا نسمع شيئًا سوى هبوب الريح.
نيرون
:
إذن هذا الذي أسمع ليس صوتًا إنما هذيان الحمي!
المنظر الرابع
(ينزل نيرون من هودجه ويقف بين الحاضرين خطيبًا.)
نيرون
:
أيها الجنود والقضاة والشيوخ والأعيان والوفود والأصدقاء، باسم رومه
أشكركم واعلموا أن دولتكم في يد جبَّار عنيد، لا يخاف أعداءه قليلًا كانوا أو
كثيرًا، صغارًا كانوا أو كبارًا، وإنني دائمًا لهم بالمرصاد أصيدهم قبل أن
يصيدوني، وأبطش بهم جهارًا قبل أن يتمكنوا من طعني بخناجرهم سرًّا، ماذا يفعل
الخنجر في السيف؟ وماذا تنال الأفعى من التنين … على كتفي أحمل رومه وفي
كفي أرى قلوب أهلها وبين أناملي زمامهم أفرادًا ومجتمعين وتحت قدمي هذه
أعناق أعدائي الحاسدين، فعودوا إلى عساكركم ودساكركم ومحاكمكم ومجالسكم
ومدنكم وقراكم، وانقلوا عني أن رومه آمنة ما دمْتُ سيدها، ونيرون مطمئن ما دام
خادم رومه … حقًّا إنهم يتقوَّلون عليَّ ويغتابونني … إن اغتياب العظماء
ونكران فضلهم من صفات البشر ونصيبي من هذا وذاك لا يقل عن أنصبة أجدادي
العظماء وأمثالي الأماجد … يقولون ظلمًا إنني قاتل أمِّي الأميرة أجربين، وهذا
محض اختلاق، إنهم يفترون عليَّ الكذب ليشوِّهوا سمعتي ويصمونني بالعقوق
والكفران … إن ذكر الخبر مجردًا عن جميع ما أحاط به من المقدمات والنتائج،
ظلمٌ بيِّن وإيذاء لي في عواطف الحب البنوي، كذلك تفصيل الأمر فيه ذكْرٌ لسيئات
أمي بعد أن قضت، ولكن هل تريدون الوقوف على الحقيقة؟
أصوات
:
إننا نعلمها.
نيرون
:
إنني أدافع عن سمعتي، أليس لإمبراطور رومه أن يدافع عن شرفه؟
أصوات
:
كيف لا؟
نيرون
:
لقد بعثت إليَّ الأميرة أجربين بعد نجاتها من الغرق بمعتقها أجرنيوس وهو
أقرب العتقاء إليها وأوفرهم نصيبًا من ثقتها، فلما رأيتُه أدنيته واثقًا منه
ثقتي من أكثر خدمي أمانة، فإذا هو مسلح بخنجر وقد استلَّه فعلًا وشرع في
الاعتداء على حياتي، فلم أصدق عيني في بداية الأمر، ولكنني رأيت الموت يطل
من خنجره فاستغثت وقبضنا على الجاني وأخذنا نحقق معه لنقف على حقيقة حاله
ولِنعلم حقًّا هل أرسلته أمي ليخطف روحي أم هو رسول غيرها من المتآمرين
الأشرار، فعلمتِ الأميرة الوالدة بهذا الأمر وخشيت افتضاح السر ففضلت أن
تموت بيدها على أن تلقاني وجهًا لوجه، بعد أن علمت أنها دبَّرت مقتلي، على
أنني وحقكم يا سادة، لم أكن أُضمِر لها سوءًا، كنت عقدت النية على العفو عنها
وإن كان العفو في مثل هذه الحالة يغضبكم لأنها كانت ترمي بمطامعها إلى
الاستيلاء على العرش، وقد حاولتْ بتأثير بالاس أن تحصل على يمين الطاعة من
الحرس البريتوري، أكنتم تخضعون يا سادة لظلم امرأة يوحي إليها الشرير بالاس
أنواع الشر والفساد؟ … إنها كانت تبغضكم أكثر من بغضها لي … إنها كانت
تحثُّني في صباي على ازدراء الشيوخ، وطالما ألحَّت عليَّ في أن أغلَّ يدي عن
المنح التي كنت أمنحها للجيش والشعب (أصوات
اشمئزاز)، (مستطردًا) ألا
تذكرون دعاواها الطويلة العريضة ضد أشراف رومه وأعيانها؟ ألا تذكرون أنها
حاولت الجلوس على عرش أوجست العظيم أثناء استقبال الوفود الأجنبية؟ … إنني
منعتها إذ ذاك عن السقوط بمجد الرومان إلى الدرك الأسفل، فلم تنسَ لي تلك
الحسنة.
صوت
:
ورومه لا تنسى لك تلك الحسنة.
نيرون
:
إن عهد كلوديوس الإلهي كان عهد مجد ورخاء، ولكنه كان منغَّصًا من حين إلى
آخر بالفشل والضيق، فاعلموا أن كل خير تمَّ إنما تمَّ على يدي الإمبراطور، وكل
شرٍّ وقع إنما خزيه واقع على رأس تلك التي كانت تحرِّكه في الخفاء.
صوت
:
يا لها من خائنة!
نيرون
:
فإذا ضربنا صفحًا عن العواطف البنوية ونظرنا إلى مصلحة الإمبراطورية
الرومانية، حكمنا بأن موت أجربين كان من حسن حظِّنا.
صوت
:
حقًّا.
نيرون
:
أرأيتم بعض البُلْه والغافلين والطائشين ينسبون إليَّ محاولة إغراقها قبل
موتها، على أن تلك الحادثة التي تعرفون تفصيلها إنما هي بنت المصادفات،
وأظهر حجة على أنه لم تكن لي فيها يد، نجاتها ووصولها سالمة إلى مقرِّها. فلو
أنني دبَّرت مقتلها ووكلت أمره إلى عدد من البحَّارة يقودهم قبطان جسور، أتظنون
نجاتها تكون أمرًا سهلًا؟ … على أنها هي أول من أساء بي الظن، فأرسلت إليَّ
خادمها ليغتالني، وكانت نتيجة ذلك أنها ماتت وعاش نيرون.
أصوات
:
ليحي قيصر!
نيرون
:
قيصر يحييكم! (ينصرفون طائفة طائفة ويبقى
لوسيوس وتيجلان.)
المنظر الخامس
(لوسيوس – تيجلان)
نيرون
(إلى لوسيوس)
:
أيها الثعلب لقد تغيَّرت الدنيا منذ التقينا.
لوسيوس
:
ولكن وفائي وإخلاصي واجتهادي لم يتغيروا.
نيرون
:
وفضلى الأمهات تلك التي كانت ترهبني وتتوعدني.
لوسيوس
:
أصبحت أثرًا بعد عين، وأخنى على ذكرها الذي أخنى على سابينا.
نيرون
:
لم يكن لك دخل في القضاء عليها.
لوسيوس
:
لأن ذلك يتطلب دهاءً وقدرة أقْصُر عنهما بلا ريب.
نيرون
:
تقسيم العمل خطة محمودة، إن ما يتطلب مجهود التنين لا يتمُّ على يد
الثعلب وسأبقيك للخطط الصغرى … بالاس لا ينغصني الآن سوى اختفاء هذا
الخائن.
لوسيوس
:
لقد ضاع بحثنا عن هذا الداهية!
نيرون
:
واصل البحث فإنني لا أزال أخشى جانبه (لنفسه) نيرون الآن تستطيع أن تتزوج من بوبيا، فقد زالت من
سبيلك سائر العقبات التي كانت تدعو لتأخير هذا القِران المنتظر، ولكن قبل
الزواج الجديد ينبغي طلاق أوكتافيا … لم يدْعُنِي لاحتمالها والصبر على عِشْرتها
إلَّا فضلى الأمهات … فلتطلق أوكتافيا، ولكن أي مبرر لهذا الطلاق؟ … حقًّا
إنها ما فتئت نموذج الأزواج، ولم تتحول عن طريق العفَّة والاستقامة قَيْد شعرة،
ولكن مجد أبيها ودفاع أمي عنها وحب الشعب الهائل لها، كل ذلك بغَّضني فيها،
وجعلها في نظري مصدر رهبة وازدراء، والآن فلأستشيرن تيجلان (إلى تيجلان) أنت تعلم أيها العزيز أن قلبي
متعلق منذ حين بسيدة يعادل جمالُها شرفَ نسبها.
تيجلان
:
أعلم ذلك.
نيرون
:
ولم يعقني عن تحقيق حلم حياتي بالزواج منها إلا عقبتان؛ عقبة زالت وأخرى
لا تزال، وهي حليلتي أوكتافيا، وقد صحَّ عزمي على طلاقها ولكنها بيضاء الصحيفة
عاطرة الذكر طاهرة الذيل، فهل لديك عذر أنتحله لدى الآباء الموقَّرين أستبيح
به فراقها؟
تيجلان
:
إن نيرون العظيم يطلب خليفةً على عرش رومه، وهذه الأميرة عاقر، وهذا في
شرعنا من أسباب إباحة الطلاق.
نيرون
:
لا فُضَّ فوك! … أسْرِع لساعتك إلى السناتو وأعرض عليهم الأمر وعُد إليَّ
بجواب قاطع.
تيجلان
:
سأفعل.
نيرون
(إلى رسول)
:
ادعُ الأميرة بوبيا (لنفسه) سأبشرها
بقرب الزواج وسيكون فرحها بقربي عظيمًا، أليس من العجيب أن يضطر نيرون
العظيم إلى حيلة شرعية وهو فرق الشرائع؟ … على أنني أغتبط بمثل هذه الحادثة
لأنها تدل الشعب على مقدار حبي للعدل والمساواة.
بوبيا
:
مولاي!
نيرون
:
شئت أن أحادثك قليلًا في مشروع زواجنا.
بوبيا
:
أتوسل إليك يا مولاي ألا تزيد ألمي بذكر هذا الأمل الذي لن يتحقَّق، إنك
قوي بل أقوى من كل كائن تحت السماء، وأنا بجنسي وحبي وقلبي أضعف المخلوقات،
وتلك القوة من جانبك وهذا الضعف من جانبي لم يشفعا لي عندك، فأنت تستبيح في
كل وقت أن تعبث بنفسي المعذَّبة وتلعب بعواطفي الملتهبة … أنت تلهي نفسي
الظمآى المتعطشة بذلك السراب الخلَّاب، وكلما دنوت لأطفئ لهيب ظمآي من غدير
حبك العذب أقصيتَه عني بحجة أو حيلة.
نيرون
:
ألا تظنين أن عشرتنا بغير زواج أدعى للتمتُّع ونحن نجني فيها من ثمار الحب
ما نشاء؟
بوبيا
:
أنت لا غبار عليك إذا قِيل عنك إنك موضع عشق ألف امرأة، ولكن امرأة مثلي
لا تستطيع أن تسير في المدينة ولا تلقى سيدة شريفة وجهًا لوجه، وإن أحقر
جارية في قصرك لأرفع شأنًا من أعظم مَحظِيَّة.
نيرون
:
وأنت أيضًا تنسجين على منوال العامة، وتجعلين للعقد الشرعي شأنًا وأنت
تعلمين أنه ضربٌ من الأوهام.
بوبيا
:
ليس في العالم شأنٌ أعظم من شأن الأوهام، لأنها الستار الذي تختفي وراءه
الحقائق.
نيرون
:
أخشى أن تزول لذة العشق إذا عُقِد الزواج، فإن لذة العشق ناتجة عن كونه
محرَّمًا!
بوبيا
:
كلا يا مولاي، إن عشق النفوس التي كنفوسنا شجرة لا تنمو إلَّا في ظل
الطمأنينة والأمن، ولا يقتلها شيء مثل التستُّر والتخفِّي والتقيُّد بالقيود التي
تقتضيها حياة العاشقين بغير زواج.
نيرون
:
ولكن لا يخفى عليك أن زواجنا يقتضي طلاق أوكتافيا، وهذه الأميرة وإن كانت
مُبغَضة إليَّ إلا أنني لا أجد حِيلة للخلاص منها.
بوبيا
(تمعَّن التفكير لحظة)
:
الأمر سهل يجوز لك أن تتهمها بالزنا مع الموسيقار الإسكندري
إيريوس.
نيرون
:
إليك عني! ومَن يصدق هذه الخرافة … أوكتافيا ابنة كلوديوس وأخت برنيانيكوس
وزوجة نيرون تسلِّم نفسها لذلك النافخ في الناي؟!
بوبيا
:
أنت تجد هذه التهمة صعبة التصديق، ولكن ثِقْ أن الشعب يقبلها عن طِيب
خاطر.
نيرون
:
ولماذا؟
بوبيا
:
لأن شريفات النساء أسهل انقيادًا للطبقة المنحطة من الرجال.
نيرون
(إلى تيجلان)
:
اكتب إلى الأميرة أوكتافيا كريمة الإمبراطور كلوديوس وحليلة الإمبراطور
نيرون، أنكِ استهنت بالرباط المقدس الذي بينكما، واستبحت لنفسك الوقوع في شراك
حبٍّ دنيء، واستسلمت للموسيقار إيريوس الإسكندري، فهل لديك ما تدفعين به هذه
التهمة المشينة قبل أن يوقع الإمبراطور بك عقاب الزنى؟ اذهب بهذه الرسالة
وحقِّق تلك التهمة بكل دقة، وابذل جهدك في الحصول على اعترافٍ منها أو شهادة
رؤية من الحاشية، وإذا رأيت ضرورة لتهديدها أو تعذيب من حولها فلا
تتردَّد.
بوبيا
:
وإذا لم يسفر التحقيق عن إدانتها؟
نيرون
:
هذا أمر لم أفكِّر فيه.
بوبيا
:
على أنه ممكن الحصول.
نيرون
:
وماذا ترين؟
بوبيا
:
أملِ عليه الحكم من الآن، ومهما تكن نتيجة التحقيق فالحكم يُنفَّذ لا
محالة.
نيرون
:
أليس في إصدار الحكم قبل ثبوت التهمة تسرُّع يَشِين العدل؟
بوبيا
:
أراك تتردَّد فيما يقرِّب أجَلَ سعادتِنا، وأنت في كل ما عدا ذلك ثابت العزم صادق
النية، قل إذن يا مولاي إنك لا تريد الزواج.
نيرون
(لتيجلان)
:
اكتب باسم نيرون العظيم إمبراطور روما ووالد الوطن صدر هذا الحكم في
قصره. من حيث ثبت على الأميرة أوكتافيا حليلة الإمبراطور من اعترافها
وشهادة خدمها أنها فرَّطت في عِرْضها للموسيقار إيريوس الإسكندري، قد أمرنا
بنفيها إلى أقصى حدود المملكة ومصادرة أملاكها عقابًا لها وعبرة
لسواها.
تيجلان
:
ألا يزال للتحقيق ضرورة؟
نيرون
:
حقِّق احترامًا للظواهر واحتفاظًا بالرسميات لئلا نُتَّهم بالظلم! (يخرج تيجلان).
بوبيا
:
الآن استراح قلبي واطمأنت نفسي.
نيرون
:
أتعلم الآلهة يا حبيبة قلبي أنني لست قاسيًا وليس الظلم من شيمي، ولكن
الناس اعتادوا اللين والتساهل؛ فهم لا يحبون إلَّا من ظلم نفسه في سبيلهم،
فإذا رأوا بوادر العدل عدُّوها ظلمًا. أليس من العدل أن أطلِّق امرأة لا أحبها
وأنا أقوى رجل في العالم؟ ولكن إذا عرضت هذا الأمر بسيطًا مجردًا عن
الأسباب والدواعي التي تطفئ نار حب الاستطلاع المشتعلة في قلوب الناس قالوا
مجنون أفعاله لا تعلل، ومخبول لا يُسأَل عما يفعل؛ فأضطر والحالة هذه لاختلاق
الأسباب من حيث لا أسباب، ولما كانت الأسباب الملفَّقة مرذولة لأنها غير
معقولة، فهم يصمونني بالظلم والقسوة، ونيرون مظلوم يا قوم! نيرون
مظلوم!
بوبيا
:
متى كان لرأي الناس هذا الشأن في نفسك؟ ألا تعلم يا مولاي أنه لا يخشى
رأيَ الجمهور إلا الجبانُ؟
نيرون
:
حاشا لنيرون أن يخشى الناس أو يعمل على إرضاء غرائزهم … إنني إن فعلت ذلك
خسرت لذَّتي وهلكت، ولكن هذا سنيكا قد أصابته الحكمةُ بخور العزيمة وفتور
الهمة، فكنت كلما استشرته في أمر حسب له ألف حساب، وكان لرأي الجمهور المكان
الأول في نظره.
بوبيا
:
وهل سنيكا وليُّ أمر نيرون؟
نيرون
:
كلا إنما نيرون لا يستغني عن سنيكا؛ لأنه معلمي الأول ولأن وجوده بجانبي
يهدِّئ روع الشعب؛ لاعتقادهم أن الإمبراطور لا يُصدِر أمرًا بغير موافقة حكيمه
ومستشارة.
بوبيا
:
نفسي تحدثني أن الوصاية قد طال استمرارها، وصارت لا تلائم سنَّك وعقلك
وكرامتك.
نيرون
:
سأعمل على زوالها. إن هذا ما تحدثني به نفسي، ولكن الأمور مرهونة
بأوقاتها. اتركيني أخلص من الذين رماني بهم الدهر واحدًا فواحدًا؛ لئلا
يتألبوا فيصيروا حربًا علينا لا نقدر على صدِّ تيارها الجارف (تيجلان يدخل).
بوبيا
:
ما وراءك؟ هل أذعنت الإمبراطورة ورحلت؟
تيجلان
:
خبر يسوء ولا يسرُّ. إنني قصدت حجرة الأميرة وقرأت عليها الرسالة
الإمبراطورية فأظهرت في بداية الأمر دهشة عظمى، ثم أخذت تبكي ثم وقفت وقفة
لا يستطيعها إلَّا أميرات بيت كلوديوس وأمطرتني وابلًا من الذم والتكذيب
والتأنيب، وادَّعت أن هذه تهمة ملفَّقة وفِرْية باطلة اخترعها الإمبراطور ليتخلص
منها، وكان الخلاص منه أحرى به بعد أن فعل بأبيها وأخيها وغيرهما ما
فعل.
بوبيا
:
والجواري؟
تيجلان
:
كدْنَ ينهَلْنَ عليَّ ضربًا لولا أنني لجأت للقوة وعذَّبت واحدة منهن إرهابًا
للبقية، فلم يكن نصيبي من تلك المعذَّبة إلا قولها: إن سيدتي بريئة شريفة
وسأبقى على هذا القول لأنه الحق حتى أموت … إن ذيل سيدتي أطهر من فمك وفم
مولاك!
نيرون
:
هل جبُنت حيال هؤلاء النسوة، وجرؤت أن تنقُل إليَّ مسبَّتي؟
تيجلان
:
كلا يا مولاي، إنني لم أجد داعيًا لتلاوة الحكم لعدم انطباق أسبابه على
الواقع ولكنني نفَّذته، ولست أعلم كيف وصل الأمر إلى آذان الشعب، ولم أكن أدري
قبل اليوم أن أهل رومه يعتزون بإنسان اعتزازًا ينسيهم واجب الطاعة
والاحترام نحو شخص جلالتكم المقدس.
نيرون
:
وماذا جرى؟
تيجلان
:
إنهم عابوا في حقك بألفاظ لا تقف بذاتها عند حدٍّ، واعتدوا على تماثيل
الأميرة بوبيا فقلبوها رأسًا على عقب، وزيَّنوا بالأزهار تماثيل أوكتافيا،
وحاولوا مرارًا ضرب الجند وإعادة الأميرة إلى قصرها عَنْوة، وكادوا يفوزون
ببغيتهم لولا أن أمرت الجند فشهروا السلاح وحملوا عليهم حملة كاذبة.
نيرون
:
وأين أوكتافيا الآن؟
تيجلان
:
لما رأيت السير بها غير متيسر اعتقلتُها تحت حراسة الجند في ثكنة
كراسوس.
نيرون
:
أرأيتم كيف يتداخلون فيما لا يعنيهم من شئوني الخاصة؟
تيجلان
:
وقد سمعتهم يقولون سحقًا للقاتل وتعسًا للمخنَّث! إن جميع الآلهة تلعن
نيرون. إنه لم يأتِ بمكرمة واحدة وأتى بكل الرذائل!
نيرون
:
هذا مستصغر الشرر. لأقضينَّ على الفتنة وهي جرثومة قبل أن يستفحل
أمرها.
تيجلان
:
بماذا يأمر قيصر؟
نيرون
:
بالتشديد في تنفيذ ما عزمنا عليه.
بوبيا
:
هل أرجأت نَفْيَها؟
نيرون
:
إليك عني أيتها السيدة. إن شئون الدولة أهم من شئون النساء (تقبل يده وتنصرف بخوف).
نيرون
:
عليَّ بأنيستوس الجسور … وأنت يا تيجلان ردَّ الأميرة أوكتافيا إلى قصرها،
وأطلق أصوات المنادين يعلنون هذا الأمر في كلِّ مكان، وامنح كلَّ مَن تلقاه فرحًا
بهذه البشرى درهمين ونصيبًا من القمح وآخر من النبيذ، وبشِّر الشعب بالألعاب
العامة، وقل للأميرة إنك فعلت ما فعلت بغير إذن قيصر، وأَعلمُ أنه لا يقرُّني
لشدة تعلُّقه بك وغيرته عليك، وأحسن كل الإحسان إلى الجواري اللواتي تعدَّين
عليك وكنْ باشًّا في وجه الناس جميعًا، ولاطِفْهم ما استطعت إلى ذلك سبيلًا،
واعلم أن مَن لا تستطيع قصْمَ ظهره اليوم فابتسم له وجاوز القضاء عليه إلى غد.
إن غدًا لناظره قريب (يحضر
أنيستوس).
المنظر السادس
نيرون
:
أهلًا يا أنيستوس الجسور.
أنيستوس
:
مولاي؟
نيرون
:
إن إمبراطورك لا ينسى جميلَك، فطالما أنقذتَنِي من أعداءٍ كنتُ أستثقل ظلهم
وأخشى أطراف ألسنتهم، وبقي عليك الآن أن تنقذني من سخافة امرأة متعجرفة،
ولستَ في حاجة إلى تجريد سيفك أو سل خنجرك، بل إن الأمر أهون من أن تهزَّ له
يدك.
أنيستوس
:
وكيف يتم إذن يا مولاي؟
نيرون
:
حرِّك لسانك … اعترف أمام مجلس حافل بعظماء الدولة أنك عاشق أوكتافيا، فإن
تمَّ الأمر على ما أشتهي منك أغدقت عليك من الأرزاق والمِنَح ما لم تحدِّثك به
نفسك، ووهبتك قصرًا جميلًا في أجمل بقاع الأرض بعيدًا عن رومه، وإن أبيت أو
تردَّدت فإنك ملاقٍ حتفك لساعتك!
أنيستوس
:
إن طاعتي لقيصر غير قائمة على ترغيبه أو وعيده.
نيرون
:
إذن ابقَ في هذه الحجرة حتى تُدعَى (يدخل
الحجرة)، (مستطردًا) عليَّ
بترزياس الشيخ ودراكوس الشريف وماركوس منتدب الشعب وسنيكا الحكيم … إن
أمرًا ذا شأن عظيم من أمور الدولة يقتضي حضورهم فورًا.
رسول
:
سنبعث في طلب كلِّ واحد منهم ثلَّةً من الجند ليصلوا جميعًا في وقت واحد
(يخرج).
نيرون
(لنفسه)
:
كلوديوس الإلهي! طيَّبتِ الآلهة ثراك! ما أصعب الخلاص منك ومن ابنك وبنتك
وزوجتك! هل كتبت عليَّ أن أقضي حياتي الطيبة في القضاء عليكم ليهنأ بالي
وتقر عيني؟ إن أنيستوس الجسور سيقوم حتمًا بما طلبت إليه، إنه خبير
بأنواع الفساد وصنوف الشر … إن الضرورات تبيح المحظورات بل تبيح المحرمات
أيضًا … ما أشقى المعذَّبين بتبكيت الضمير! سمعت بوروس يقول إنه كوخز الإبر.
من حسن حظي أنني في راحة من هذا الوخز المؤلم.
رسول
:
حضر الأشراف المدعوون.
نيرون
:
ليدخلوا (يدخلون) … أهلًا بكم يا
سادة. إن الأمر الذي دعوتكم من أجله من أكبر أمور الدولة شأنًا. يسوءني
وحقكم يا سادة أن أُوجِع مسامعكم بذكر رذيلة جديدة صدرت عن بيت
كلوديوس.
أحدهم
:
متى كان بيت كلوديوس مصدرًا للفضائل؟
نيرون
:
إن الأميرة أوكتافيا فُوجِئت في حضن عشيق لها، ونيرون يصرف وقته في شئون
الدولة ويحرم ذاته لذيذ الرقاد في الدفاع عن الوطن وحليلته الخائنة تبيع
عرضها بثمن بخس مع البحار أنيستوس، ولمَّا وقع المذنبان في يدي بفضل الإله
بوليكس الساهر على شرفي، أنكرتِ المرأة واعترف الرجل.
أحدهم
:
أين هذا الخائن الذي دنَّس عرض مولاه واستحق سخط الآلهة؟ (يدخل أنيستوس ويبدو عليه رعب مصطنع ويدنو من نيرون
ويقبض على يده.)
نيرون
:
تكلَّم أيها الوغد. اذكر لنا كل ما تعلم. إن حياتك هينة في جنب شرفي …
لقد اعتُقِلْتَ متلبسًا بالجناية واعترفت أمامي فانزع برقع الحياء الكاذب وكن
جسورًا إلى آخر الأمر.
أنيستوس
:
إن جرمي أفظع من أن يُعاد الاعتراف به على مسمع من هؤلاء السادة.
أحدهم
:
إن شرف قيصر وصيانة عرضه من أمور الدولة.
أنيستوس
:
لقد دُعِيتُ إلى حجرة الأميرة أوكتافيا، فلما مثلت بين يديها صرفت خدمها
واستقبلتني بما لا ينتظره قبطانٌ مثلي من حليلة نيرون، ثم حسَّنت إليَّ القرب
منها والبقاء في مضجعها، وبعد أن أظهرت لي ما خفي من جمالها …
نيرون
:
يا لهول ما أنا سامع! يا للعار! انهض أيها الإمبراطور الإلهي من مضجعك
وانظر ماذا فعلت كريمتك الطاهرة بشرف خليفتك!
أحدهم
:
خفِّف عنك يا مولاي.
آخر
:
مَن شابهت أمها فما ظلمت!
نيرون
:
لا فُضَّ فوك … لقد اختارت لي فضلى الأمهات المرأة الحسناء في المنبت السوء.
أتمم حديثك أيها المعشوق! (يهجم عليه)
دعوني أقضي على حياة هذا الرجل قبل أن يقضي على شرفي (يمنعونه).
آخر
:
إن له شريكة في الجرم، فلا بدَّ من سماع قولها لنقدِّر جناية شريكته.
أنيستوس
:
إنك أمرتني أن أذكر كل شيء.
نيرون
:
تكلم! تكلم!
أنيستوس
:
ولما قضينا ليلتنا على أتمِّ ما يكون من الصفاء والسعادة، أصبحت الأميرة
تطالبني بإخلاص أسطول ميسونوم.
نيرون
:
الأسطول الذي أنت أميره!
أنيستوس
:
هو يا مولاي بعينه.
نيرون
:
خيانة للشرف وأخرى للوطن. لقد عمَّت البلوى وطفح الإناء … وبعد؟
أنيستوس
:
لقد سللتُ سيفي من غمده، وقلت لها ضعي هذا أنَّى شئت من مقاتلي ولكن لا تطلبي
إليَّ أن أخون الوطن.
نيرون
:
إن هذا القول وحده كافٍ لتخفيف عقوبتك.
أنيستوس
:
وإننا لكذلك، وإذا بالجند قد أحدقوا بنا يقودهم تيجلان.
نيرون
:
أتسعمون شهادة تيجلان أم اكتفيتم باعتراف هذا الرجل؟
بعضهم
:
اكتفينا.
نيرون
:
هل ثبت لديكم أيها السادة جناية الزنا في بيت قيصر؟
أحدهم
:
كل الثبوت.
نيرون
:
اكتب يا تيجلان باسم نيرون قيصر وإمبراطور رومه من حيث ثبت جريمتا
الخيانة والزنا على المرأة أوكتافيا مطلقة الإمبراطور حكمنا عليها بالنفي
في جزيرة بانداتوريا، ومن حيث إن شريكها أنيستوس خان شرف قيصر مُجبَرًا بعد
أن نصبت له أوكتافيا حبائل الشر ثم إنه أبى موافقتها على خيانة الوطن
بتسليمها قياد أسطول ميسونوم، قد راعينا في حقه منتهى الرأفة، وحكمنا بنفيه
إلى جزيرة سردينيا، ولْيُقرَأ هذا الحكم في مجلس السناتو ولْينادِ به المنادون في
كل نادٍ، أخرجوا بهذا الوغد إلى حيث لا أراه بعد اليوم (إلى تيجلان سرًّا) اقتُلْها وشتِّت شمل جواريها،
وصادر كل ما تعثر به في مخادعها من المال والحُلَي.
تيجلان
(همسًا)
:
سأفعل يا مولاي (يخرج تيجلان وبعده
أنيستوس).
نيرون
(مستطردًا)
:
أيها السادة لقد تمَّت مهمتكم وأنتم ضيوف قيصر.
المنظر السابع
(يدخل رسول ومعه علامة الحداد.)
نيرون
:
ما وراءك؟
رسول
:
أطالت الآلهة حياة قيصر.
نيرون
:
فيمن هذا العزاء؟
رسول
:
القائد بوروس.
نيرون
:
إن المصائب لا تأتي فرادى أيها السادة، لقد مات شهم يستحق ثناء الوطن …
لم أكن أظن أن التهاب الحنجرة يُودِي بهذا البطل! (يبكي.)
أحدهم
(لآخر همسًا)
:
هل مات بالتهاب الحنجرة؟
آخر
:
هذا ما يُقال، ويقال أيضًا إن هذا الذي يبكيه ويرثيه هو الذي قضى عليه؛
ليستولي على ثروته لأنه لم يترك ذرية.
نيرون
:
ينبغي لرومه بأسرها أن تبكي هذا القائد الشجاع والمشير الكامل الناصح
الأمين … إن فضائله أكثر من أن تُعَد وأعماله الباهرة في ميادين القتال لا حدَّ
لها وآراءه في سياسة الملك يحسده عليها أعظم الملوك (لنفسه) ها نحن نخلص من العهد القديم شيئًا
فشيئًا (ثم مستطردًا) فخلِّدوا يا سادة
ذكر هذا الرجل الكريم، ولا تضنوا على اسمه بأن تزدان به صفحة من صحف التقويم
الروماني … لقد مات القائد بوروس عن غير عَقِب، وتركته تُرَد حتمًا إلى الخزانة
الإمبراطورية … ما كان أكرمه وأشرف نفسه! لقد منحني في حياته أغلى ما كان
يملك وهو علمه وذكاؤه، وها هو يمنحني بعد موته ميراثًا لا يُستهان
به.
أحدهم
:
العبد وما ملكت يداه.
نيرون
:
لقد رأيت أن أعيِّن مكانه على رأس الحرس البريتوري القائدين فنيوس روفوس
وسوفونيوس تيجلان.
أحدهم
:
ما أصدق نظر هذا الرجل! … لقد اختار واحدًا مشهورًا بالأمانة والاستقامة
وعلو الهمة ليُرضيَ الشعب، واختار الآخر مشهورًا بالفساد ودناءة الأخلاق ليُرضِيَ
ذاته.
سنيكا
:
مولاي!
نيرون
:
سيدي الحكيم الفاضل.
سنيكا
:
لقد مضى عليَّ أربع عشرة سنة في خدمة شخصك الكريم؛ قضيت ثمانيًا منها وزيرًا
ومشيرًا، وقد أغدقتَ عليَّ النعم من متاع وشرف فزينت بكرمك حياتي ووضعتني
موضع الحسد ممن لم ينالوا شأوي، ولم يبقَ لي يا مولاي لديك سوى مطلب واحد
وهو أن تبيح لي أن أقضي ما بقي من أيامي في القناعة والراحة بعيدًا عن
مشاغل الدولة ومشاكل السياسة، وقد جرَّأني على هذا الطلب علمي بأنك صرت بفضل
مواهبك الإلهية ناضج الفكر صحيح العزم صائب الرأي، ولستَ في حاجة إلى نُصْح شيخ
أحبُّ شيء لديه تعهُّد حديقته ومطالعة بعض الكتب، فتفضل يا صاحب الجلالة وجُدْ
على خادمك المخلص بآخر ما يلتمس من عتباتك السنية … دام جودُك وطال وجودك في
مجد مؤثَّل وعيشة رضية.
نيرون
:
أستاذي! إذا استبحت لنفسي أن أرتجل ردًّا على خطبتك البليغة، إنما بقوة
أستمدُّها مما استفدته من أدبك الجم وفصاحتك النادرة. لقد دربتني على الخطابة
وأكسبتني حضور البديهة وسرعة الجواب، وعلَّمتني مقابلة الشدائد بصدر رحب ونفس
مطمئنة، ومرَّنتَنِي على حل المعضلات فلا تقف في وجهي مشكلة، ولو كانت أعقد من
ظهر التمساح، وأكسبتَ أسلوبي في الخطابة والكتابة مرونةً تمازجها البلاغة،
فيكاد يكون من السهل الممتنع، وعلَّمتني من حوادث التاريخ القديم والحديث ما
أنار بصيرتي وشحذ قريحتي وأكسبني خبرة الأجيال الغابرة، هذه نعمك عليَّ
ذكرتُها لا على سبيل الثناء عليك، وإن كنت أهلًا لكل ثناء، ولكن لأَسُرَّك بنضج
ثمار جهودك وتكليل أعمالك السامية بتاج النجاح، ولكن لا تنسَ يا أستاذي
العظيم أنك إن تخليت عني فأنت تجني على الوطن والدولة؛ لأنك تعيدني إلى
طفولتي الأولى فأشعر أنني ما بلغت مدى العظام، إنني أُوتِيت ما ذكرتُ من
الفضائل والكمالات ما دمتَ بجانبي، ولكنك إذا بعدت عني فهيهات أن أصْلُح لشيء
بعد ذلك اليوم المشئوم، يوم انصرافك (تغرورق عيناه
بالدموع ويضم سنيكا إلى صدره).
سنيكا
:
مولاي إن قواي تخور حيال هذا الكلام. إنني أضع تحت قدميك كل ما أوليتني
من النعم السابقة وأردُّ إلى خزائنك الإمبراطورية كل ما أملك من تراث، فإن
المال يفنى ورضاك عني خالد.
نيرون
:
لا تستعجل إن ثروتك — مدَّت الآلهةُ من أَجَلِك — ستعود حتمًا إلى خزائني كما رُدَّت
إلينا ثروة رفيقك الشهم بوروس؛ لأنك واأسفاه لم تعقب، وهكذا العظماء أمثالنا
لا يعقبون.
سنيكا
:
العبد وما ملكت يداه لسيده عاجلًا وآجلًا، إنما أريد أن يجيب مولاي
سؤالي.
نيرون
:
حسن … حسن … الزم قصرك وتمتَّع بشيخوختك المباركة، ولكن لا تنسَ أنني سألجأ
إليك عند مقتضى الحال، فلستَ بعيدًا عني لأنه كلما نأى الحبيب دنا (يتعانقان) … هذا لا يمنع بقاءك الليلة لأنك
ضيفي.
سنيكا
:
أنا باقٍ (يدخل تيجلان).
تيجلان
(على جنب)
:
مولاي!
نيرون
:
ماذا فعلتم؟
تيجلان
:
لقد فتحنا شرايينها فلم تقطر نقطة واحدة من دمها، فذبحناها وعدنا
برأسها!
نيرون
:
لماذا فعلت ذلك؟
تيجلان
:
إن السيدة بوبيا أصرَّت على أن ترى رأسها!
نيرون
:
إذا كان الأمر كذلك فحسنًا فعلت، وهل أحصيت التركة؟
تيجلان
:
تربو على ألف سستر عدا الجواهر والحلي.
نيرون
:
طيَّبت الآلهة ثراها كانت مدبِّرة مقتصدة … هذا يوم الخلاص من العالم القديم
في يوم واحد، مات بوروس واستقال سنيكا وماتت أوكتافيا (إلى الحاضرين) أيها السادة، إنكم ضيوفي في
هذه الليلة … أعدوا شرابًا ورقصًا … إن لديَّ سرًّا عظيمًا سأقترن غداة غد
بالسيدة بوبيا، فلْتُدعَ إلى مجلسنا ولتحيَ بلقب إمبراطورة رومه! (تدخل بوبيا باحتفال موسيقي ويحدث رقص وغناء ويتناول
نيرون قيثارته.)
أحدهم
:
الشعر الإلهي!
نيرون
:
هذا يومه سأنشدكم آخر ما نظمت … وصف حريق طروادة!
الجميع
:
كلنا آذانٌ صاغية.
نيرون
(ينشد)
:
… عني أيا قوم الهوان افرنقعوا
أفلم يبرِّح في مقامكم الكدر
لا أبصرت عيناي حرق معاقلي
مَن لي بقربي قبل ذلك في سقر!
تيجلان
:
ما أجمل هذا الشعر! ما أبلغ هذا الأسلوب! ما أبدع هذه القوافي!
آخر
:
لو اختار الخلودَ قصيدةً تمثِّله لم يجد أسمى ممَّا سمعنا.
آخر
:
ليس هذا الشعر من صنع البشر … إنه صوت الآلهة في العُلا حرَّكت به أفصح لسان
إنسانيٍّ!
نيرون
(إلى بترون)
:
بترون … مالي أراك صامتًا؟ هل ملك عليك حُسْن النظْمِ قدرة النطق؟
بترون
:
كلا إنما أرى [الصمت] أحق بهذه الأبيات الضئيلة الركيكة والمفككة.
نيرون
(بحنق مكتوم)
:
ماذا ترى فيها من العيوب الفنيَّة؟
بترون
(بعدم اهتمام)
:
لا تصدق ندماءك فيما يصوغون لك من عبارات الثناء. إنهم لا يدركون شيئًا
في الشعر.
تيجلان
:
ليس حسن الذوق وقفًا على أحد.
آخر
:
الآلهة حصرت مواهبها العليا في ربِّ البدع …
نيرون
:
لا تقطعوا عليه حديثه. إنني أحب الصراحة … تكلَّم بحرية.
بترون
:
تسألني عن عيوب هذه القصيدة من الوجهة الفنية وتحرجني بهذا السؤال، ولكن
إذا أردت الحقيقة المرة فاسمعها … إن هذه القصيدة تكفي لتخليد ذكر فحول
شعراء الرومان أمثال فيرجيل وأوفيد بل تكفي لتمجيد ذكر هوميروس؛ لأنها لا
تقل في شيء عن الإلياذة، ولكنها لا تليق بعبقريتك الإلهية. من يكون أوفيد
وفيرجيل وهوميروس في جنب نيرون؟ هؤلاء شعراء ذوو مواهب إنسانية، أما أنت
فإله من الآلهة وعبقريتك روحانية أولمبية فلا تُعِر أذنك لثناء تيجلان أو
إعجاب لوكان، فهذا تمليق ظاهر. إنني أطلب إليك شعرًا أعظم من هذا لأنه على
قدر العبقريين الجبابرة تكون ثمار أفكارهم. إن الأجيال القادمة تطالبك بشعر
يليق بما منحتك الآلهة من الذكاء والفصاحة وسمو الأفكار، ولكنك يا قيصر ألزم
بالكسل منك بالمجد الخالد، وهذه عادة الأرباب في العلا، تنام نهارك وتسهر
ليلك وواجبك نحونا ونحو رومه ونحو الإنسانية يقضي عليك بأن تدأب وتنتج
لتخرج لنا من كنوز نفسك الغنية ما لا يخرجه إلا الجد والعمل، فأنت يا مَن
تستطيع أن تُخرِج للناس شعرًا باقيًا ما بقيت لغات البشر، أقول لك على رءوس
الأشهاد وأمام هؤلاء الذين لا يعرفون قدرك فيقنعون بالقليل من فضلك، إننا
ننتظر منك خيرًا مما سمعنا.
نيرون
:
مهما عظمت المواهب التي جادت بها عليَّ الأرباب، فأنت أيها الصديق الحبيب
المخلص المتفنِّن في نظري أجلُّ وأعظم من مواهبي … أنت وحدك تستطيع أن تقول
الحق في وجهي. وها أنا أعمل بنصحك (يهم بإشعال
القصيدة بالنار).
بترون
(يقبض على يد نيرون ويأخذ الشعر قبل أن يحترق)
:
كلا كلا، إن هذه القصيدة وإن كانت غير جديرة بعبقريتك، إلا أنها أصبحت
ملكًا للإنسانية فأعطني إياها.
نيرون
:
دعني إذن أبعث بها إليك في علبة تليق بهديتي إليك. حقًّا لقد فتحت عيني
إلى ما كنت عنه عميًّا. إن وصفي لحريق طروادة ليس بالقوة التي كانت تجول
بنفسي، على أنني كنت أحسب أنه يعادل وصف هوميروس. أتعلم مصدر عجزي في
الوصف؟ لا بدَّ للمتفنِّن إذا شاء أن يصنع تمثال إلهٍ من الآلهة من نموذج ينقُل
عنه التقاطيع والملامح الظاهرة، ثم يضيف إليه من الصورة النفسانية التي لا
يراها ولا يشعر بها سواه، وقد رأى هوميروس حتمًا مدينةً تحترق أمَّا أنا فلم
أرَ لسوء الحظ هذا المنظر الذي يجول في نفسي، فأنَّى لي أن أصف شيئًا لم يقعْ
عليه نظري.
بترون
:
إذا صحَّ هذا الرأي من الوجهة الفنية، فقد أتيت في قصيدتك بمعجزة لأن الوصف
على ضعفه آية في الإبداع، إن في نفسك قوةً تشرف بها على ما لم تُحِط به
علمًا.
نيرون
:
أجبني يا بترون هل أحزنَك إحراق طروادة؟
بترون
:
كلا وحق نبكال حليل الزهرة، فإنه لولا ذاك الحريق ما دوَّن آشيل رواية
بروميتيه، ولولا حرب طروادة ما نظم هوميروس شعر الإلياذة، وإنني أفضِّل بقاء
رواية آشيل وديوان هوميروس على بلد حقير كطروادة.
نيرون
:
هذا قول ينطوي على العقل والحكمة. إن الضحايا مهما عظمت وجلَّت قليلة في
جانب الفنون الجميلة، وينبغي للمتفنِّن أن يبذل في سبيل فنِّه كل شيء، فما أسعد
حظ الشاعر الذي رأى بلدًا تلعب به النار!
تيجلان
:
إذا أمر قيصر أحرقنا له أنتيوم، فإن عزت عليك قصورها وبساتينها أحرقنا
السفن الراسية في خليج أوستي، وإلَّا فإني أشيد لك على قمة جبل البان بلدًا
من الخشب ثم تشعل فيه النار بيدك.
نيرون
(باحتقار)
:
أنا أقنع بحريق سفن قديمة أو بلد مُلفَّق من أخشاب بالية؟! أهذا مقياس
عبقريتي في نظرك؟ ما أضعف إدراكك وما أبعد فكرك عن تصوُّر معاني
الجمال.
بترون
:
وما أصغر عبقريتك في اعتباره!
نيرون
:
هذه رومه وقد أقبل الصيف وانتشرت الرطوبة في أرجائها، وانبعثت من حواشيها
ودروبها روائح الوباء الجارف.
تيجلان
:
إن النار تطهِّر كل شيء.
نيرون
:
إن جدران رومه منقوشة بمثالبي والعيب في حقي شعرًا ونثرًا؛ فقد وصموني
بأني قاتل أمي وأخي، وأنني وحش في صورة إنسان؛ لأنك يا تيجلان أعدمت نفرًا
من أعدائي بأمري. إنهم ينسبون إليَّ القسوة وبالغوا في تقبيح أعمالي بحيث
أصبحت أُسيء الظن في نفسي وأسائلها: أقاسية أنت أيتها النفس الطيبة الهادئة
المطمئنة؟ فتجيبني نفسي: كلا إنما الناس لا يدركون قيمة أعمالي. قد يكون في
عقاب الجناة قسوةٌ، ولكن العقاب قصاص على جريمة، فالفعل قاسٍ والنفس حنون
كريمة، قولوا لمن يصمني بالقسوة أن يشهدني وأنا أسمع أنغام الموسيقى، إنني
إذن لألطف من طفل وأكثر وداعة من حَمَلٍ!
تيجلان
:
إن رومه لم تستطع تقديرك حق قدرك.
نيرون
:
إن عقلي ليس كعقل غيري من بني الإنسان، ويُخيَّل إليَّ أن الآلهة خلقت عقول
بعض الناس دميمةً قبيحة، وبعض العقول جميلة بديعة، فعقلي جميل.
تيجلان
:
ما أصدق هذا القول!
نيرون
:
إن عقلي مصنوع من مادة ثمينة نادرة كالجواهر الكريمة، وعقولكم مصنوعة من
القصدير أو … أو … أو …
تيجلان
:
الصفيح!
نيرون
:
الصفيح أحسنت … فهذا العقل الجوهري اللؤلؤي الياقوتي الزمردي الزبرجدي،
يرى ويدرك ما لا تدركه العقول القصديرية الصفيحية النحاسية وتُفتَح له حتمًا
أبواب اللانهاية، فإذا فُتِحَت أمامي هذه الأبواب في كلِّ عام مرة أرى لمحة من
لمحات الجمال والجلال التي لا أستطيع التعبير عنها وإن استطعت فإنكم لا
تدركونها فأشعر بأنني من طينة غير طينتكم … إنهم يقولون عني إنني
مجنون!
تيجلان
:
مَن ذا الذي يجرؤ على هذا؟
نيرون
:
كلا! دعهم إن كمال العقل اللؤلؤي يُسمَّى في نظر العقل القصديري جنونًا. إذا
كنت مجنونًا في نظركم فهذا أعظم فخر لي، والويل لي إذا رضيتم عني ووصفتموني
بالعقل والتؤدة. إنني إذن أكون في نظر نفسي مضيعًا. إن عقلي يسبق قلبي،
فلذا تراني أريد أن أرى ما لا يخطر على بالكم. وأريد أن أشعر وأحسَّ بما لا
تحدثكم به نفوسكم. وها أنا اليوم أشعر بأن أبواب اللانهاية ستُفتَح لي لحظة
فأرى فيها بريق الجمال الأعلى … إن الآلهة تأبى إلَّا أن أضحي لها بما هو
أعظم فلْتَكُن إرادة الآلهة.
تيجلان
:
علامَ صحَّ عزمك؟
نيرون
:
ستدرك من إرادتي القيصرية معنى كل ما تقدَّم؛ لأن أفعال الآلهة اليوم تفسِّر
أقوالهم بالأمس. اعلم يا تيجلان أنه يوجد شخصان في جلدي، أنت الآن ترى
قيصرين تحت هذا التاج، الأول هو الذي يراه كل الناس ويخافون بأسه وبطشه،
والثاني هو المتفنِّن الذي لم يدرك حقيقة أحد سواه، إن الأول هو الذي يخاطبك
الآن والثاني هو الذي يُنشِب أظفاره بهولٍ أشد من هول المنية، ويشعل النيران في
المدن العظمى فتلتهب وتتأجج حتى تمتزج دموع ساكنيها بأمواه أنهارها … أفٍّ
أفٍّ ماذا أصابني!
تيجلان
:
قيصر!
نيرون
:
ما أثقل العبء الذي أحمله على كاهلي!
تيجلان
:
أي عبء تعني؟
نيرون
:
أرأيت يا ذا العقل القصديري أنني أنوء بحمل عبء السلطة المطلقة وأكلُّ دون
حمل العبقرية.
تيجلان
:
إذن خفِّف عن نفسك وهوِّن.
نيرون
:
لا يخف حملي ولا يهون إلا إذا نفَّذت إرادتي الآلهةُ لساعتها.
تيجلان
:
تُنفَّذ حتمًا.
نيرون
:
لتحرقَنَّ رومه.
تيجلان
:
ستشتعل النار في أرجائها في أقل من لمح البصر.
نيرون
:
ابدأ بأحياء الفقراء؛ لأتمكن من مشاهدة النار عن بعدٍ، وليكون لديَّ من الوقت
ما يكفي لنظم أغنيتي الجديدة، وتوقيع أنغامها على قيثارتي.
تيجلان
:
لك ذلك (يخرج تيجلان).
نيرون
(إلى رسول)
:
عليَّ بعذارى النار (يجلس متأمِّلًا وتدخل
العذارى فيرقصن وينشدن نشيد النار).
المنظر الثامن
(يدخل رسول)
رسول
:
قيصر!
نيرون
:
ما وراءك؟
رسول
(يُذعَر الحاضرين)
:
رومه تحترق وقد أخذت النار بمعظم أطرافها.
نيرون
(ناهضًا بفرح)
:
وافرحتاه! لقد أتاحت لي الأرباب رؤية مدينة تلتهب!
بترون
:
لقد أرادت الآلهة أن تنظم قصيدتك بما يطابق الحقيقة.
نيرون
:
أتسهُل علينا مشاهدة النار من شرفة القصر؟
رسول
:
مولاي لقد صارت رومه نافذة من الجحيم، وقد صعد الدخان في أرجائها فاختنق
معظم السكان واحترق منهم عدد كبير، ولقد جُنَّ الناس من هول المنظر فتراهم
يلقون بأنفسهم في وسط النار، ومن بَقِيَت له مسحة من العقل يهيم على وجهه حتى
إذا قطع النهر سبيله ألقى بنفسه فيه فامتلأ التيبر بجثث الغرقى … لقد ضاعت
رومه فيالشقائها!
نيرون
:
لا أريد رسُلًا ينقلون إليَّ أخبار النار ويفسدون عليَّ جمال المنظر
بعويلهم. ابعثوا بمَن يأتي بالأخبار مجردة كأنها أخبار معركة … إننا في
معركة بين الآلهة والبشر لسنا في مأتم …
أحدهم
:
سنوفد مَن يأتي بالأخبار تباعًا ويلقيها بغير تعليق.
رسول
:
إن النار …
أحدهم
:
بغير تعليق.
رسول
:
النار اشتعلت في الحي المجاور للملعب الأكبر وقد غادرتها، وقد تفشَّت في وسط
المدينة، وهي تعدو على الأحياء حيًّا بعد حيٍّ بقوة لا تُقاوم.
نيرون
:
اذهب وعُدْ بجديد من أخبارها.
رسول
:
إن وادي التيبر مشتعل كأنه صفحة من المعدن المُحمَّى وقد سترته الغيوم، فأخفت
عن الناظرين مدن الوادي وقراه وغدرانه وحقوله وأشجاره، وفي طرف الوادي تبدو
رومه كأنها كتلة من اللهب، وقد رأيت في بعض جهات المدينة كتلًا سوداء متحركة
فاستبنتها فإذا هي جماعات من السكان تحاول الفرار ولا مفرَّ لها، ثم رأيت
الدخان المتصاعد وقد سدَّ على النظر أقصر المدى؛ فحجب جبال سابين فكأن المدينة
محصورة بجيش من النار لا تجد لها مخرجًا.
نيرون
:
أسرع ثم عد إلينا بأخبار جديدة (يخرج ثم يعود
بعد فترة وجيزة).
رسول
:
لم أرَ في سبيلي في هذه المرة إلَّا بغالًا وحميرًا وخيلًا محمَّلة أمتعة شتَّى
تماشي فقراء السكان، وقد ازدحمت بهم الطرق وكلٌّ يحمل على كاهله ما استطاع
إنقاذه من ألسنة اللهيب المندلعة، وقد بدأ بعضهم ينصب الخيام لإيواء النساء
والأطفال والمرضى ممن لا عائل لهم، وعلمت أن المصارعين والأرقَّاء ينهبون
المنازل التي اشتعلت فيها النار، ويستبيحون أعراض الضعفاء من أربابها، فإذا
قاومتهم امرأة أو عذراء قتلوها شرَّ قتلة، وقد رأيت بعضهم يلقون بالأطفال إلى
النار أحياءً يصطلونها، فرجوتهم أن يُجهِزوا عليهم قبل إحراقهم رحمة
بهم!
نيرون
:
لا أريد تعليقًا من عندك أيها الأبْلَه … لقد أفسدتَ عليَّ جمال المنظر … من
ذا الذي دعاك إلى تقييد حرية الناس وقد أطلقتْها الطبيعة؟ … ألا تعلمون يا
سادة أن عويل الطفل المحترق صوتٌ من الأصوات التي خلقتها الطبيعة، ينبغي أن
تسمع أصوات الألم. إن الموسيقى في احتياجٍ لها وأنا محتاج إلى
الموسيقى.
أحدهم
:
انقل الأخبار بغير تعليق.
رسول
:
إن صوت النار مرتفع في كل مكان، فهو أعلا من قرقعة المنازل المتهدِّمة، وأرفع
من صراخ الرجال وعويل النساء، لقد سقطت رومه حيال قوة النار، ودِيست شرائعها
تحت الأقدام، وذهبت رهبة القانون من قلوب السكان، وقد اختلط الحابِل بالنابِل،
وزالت أنظمة الاجتماع الروماني بل تفكَّكت روابط الحب الإنساني؛ فالزوج يضحِّي
بزوجه لينجو، والأم تهجر طفلها إذا عاقها عن الخلاص، وكلُّ إنسان لا يسأل إلا
عن نفسه، وقد رأيت أرقَّاء الشيخ دراكوس يضربونه بالهراوات على رأسه ليسلبوه
الثروة التي أراد الفرار بها، ورأيت فرقًا من المصارعين سكارى بالخمور التي
سلبوها يعتدون على أعراض النسوة على مقروعة الطريق، ورأيت أسواق الرقيق
تتهدَّم جدرانها وتحترق أبوابها، فتخرج رهائنها التي كانت بالأمس معروضة للبيع
وهم يباركون آلهة النار ويبتهلون لها لأنها كانت سببًا في إطلاق سراحهم
وخروجهم من نِير العبودية.
نيرون
:
هذا قانون الطبيعة، مصائب قوم عند قوم فوائد. ألم ترَ منهم مَن يضرب مَن كان
مولاه بالأمس، إن في هذا معنًى شعريًّا جميلًا.
رسول
:
رأيت هؤلاء الأسرى من سائر بقاع الأرض ينتقمون من رومه كلها، فهم ينفثون
سمَّ أحقادهم في كلِّ مَن يلقون في طريقهم، وإن لهم رطانة تصمُّ الآذان، فليس
بينهم واحد يعرف لغتنا، فهم بين آسيوي بهي الطلعة، وأفريقي منحوس السحنة
وبربري مفتول العضل أشقر، وإغريقي يصلح للفراش قد تواطئوا على السكان الآمنين
وصبُّوا عليهم جامَ غضبِهم وغضب شعوبهم الذليلة.
رسول
:
جئت بآخر أخبار النار.
نيرون
:
تكلَّم.
رسول
:
إنهم يقولون إن الآمر بها قيصر، وإنه لا يوجد في رومه مَن يقدُم على هذه
الجناية سواه ولا يجرؤ على تنفيذها غير تيجلان، وقد شاهدوه في الطرق معتليًا
صهوة جواده ينظِّم وسائل الحريق لا وسائل الإطفاء، وشاهدوا جندًا يشعلون النار
في جهات شتَّى من البلد، فإذا انتهرهم الناس أجابوا إنما هم ينفذون أمر قيصر،
وشاهدوا هؤلاء الجند يقتلون كلَّ من يقرب من النار أو يحاول إطفاءها.
نيرون
:
إنهم معذورون، إن الشعب الروماني محدد الذكاء فلا بدَّ له من أن ينسب هذا
الفعل الجليل لفاعل فلا يرى أمامه أقدر مني ولا أشجع من تيجلان.
رسول
:
وسمعتهم يهتفون: لِيمُتْ قيصر، لِيهلِك الأمر بالحريق بين اللهب، ليسقُط قاتل أمه
وأخيه!
نيرون
:
ما رأيكم يا سادة؟
بترون
:
لا بدَّ من نشر إشاعة تحوِّل التهمة عن قيصر.
نيرون
:
وكيف يكون ذلك؟
بترون
:
نطلق المنادين ينادون أن المشتري أمرَ بركانًا فأشعل النيران في بطن الأرض،
وأن فستا انتقمت من رومه على ما حل بروبريا، وبهذه الحيلة نخلي مسئولية
قيصر، ونحوِّل نظر الشعب الهائج نحو آلهته.
نيرون
:
هم وشأنهم مع الأرباب … ليس لقيصر دخل في هذا الموضوع … المشتري وبركان
فستا وروبريا … لا فُضَّ فوك. أطلقوا إذن أصوات المنادين بما أشار به بترون.
ألم أقل لكم منذ برهة إن هذه المعركة بين الآلهة والبشر. أما أنا وأنتم
فعلى الحياد.
أحدهم
:
ها هي النار قد دنت وأصبحنا نراها ظاهرة.
بترون
:
هذا حلمك يا قيصر قد تحقَّق! (يتناول نيرون
قيثارته ويغني).
نيرون
:
المدينة تشتعل. رومه تلتهب وعن قريب تختفي آثارها وتضيع معالمها. أيتها
المدينة الخالدة! أيها البلد المقدس لقد ظنُّوك باقية دهرًا فوق دهر، ولكن
الأرباب أرادت لك الزوال. أنت ملكة العالم ولكن ملكك لم ينقذك من الدمار.
لقد ذهبت رومه ونيرون باقٍ!
الجماعة
:
ليحيَ قيصر العادل الرحيم!
رسول
:
لقد أدركت النار جميع الهياكل فاحترق معبد هرقل، واشتعلت النار في معبد
المشتري وستانور وكذلك التهمت معبد القمران. رومه التي قضى الرومان عشرة
قرون في تأسيسها وتشييدها تختفي لحظة فلحظة.
نيرون
(يغني)
:
لقد ذهبت رومه ونيرون باقٍ! أيها البلد الخالد يا مهد آبائي وأجدادي. أيها
الوطن العزيز لقد أكلتك النار وذكراك تشعل قلبي!
الجماعة
:
لقد ذهبت رومه ونيرون باقٍ (تصفيق شديد من
الشيوخ والندماء والوزراء).
الشعب
(من أسفل شرفات القصر)
:
لِيسقط نيرون القاتل! ليسقط نيرون الآمر بالحريق!
نيرون
:
أرأيتهم يا سادة كيف يقدِّر الشعب مواهبي الفنية! أرأيتم كيف يقابلون أعظم
قصيدة نظمتها؟
أحدهم
:
إن القضاء عليهم عن آخرهم أخف علينا من غضبك وانفعالك.
نيرون
:
لقد ضاع شعري على هؤلاء الحمقى.
أحدهم
:
إن حرسك الإمبراطوري على قدم الاستعداد.
نيرون
:
ما رأيك أيها الصديق؟ ما رأيك أيها القائد؟
بترون
:
إن جندك بلا ريب موضع ثقتك.
روفوس
:
إذا وثقنا من الإخلاص يخوننا العدد.
الشعب
:
ليسقط نيرون! (تسمع أصوات حجارة
تُلقَى).
أحدهم
:
ها هم قد شهروا أسلحتهم.
رسول
:
إن الشعب الهائج سائر نحو القصر بسرعة، وكلهم مسلحون بالأسنة والرماح
والسيوف وقد حمل النساء سهامًا وأقواسًا وهِراوات وأحجارًا كبارًا (يُسمَع صوت الشعب والأحجار ويدخل
تيجلان).
نيرون
:
ما وراءك.
تيجلان
:
إن الخطر مُحدِق بالقصر.
نيرون
:
واخوفاه! يا لها من ليلة مشئومة. النار تأكل البلد والشعب هائج، إذن لا
مفرَّ لنا من الحرب! مُرْ الحرس الإمبراطوري بالهجوم عليهم من غير إنذار ولا
تهديد …
الشعب
(من أسفل)
:
بترون بترون رب البدع وصديق قيصر.
بترون
(يخطب في جموع الشعب)
:
أيها الشعب الروماني. إن قيصر يذرف الدمع السخين على ما لحقكم من غضب
الآلهة. لا تصدقوا ما يتهمه به أعداؤه وأعداؤكم. سننشأ المدينة من جديد.
ستُفتَح لكم حدائق لوسولوس ومسينا وأجربينا، وغدًا نبدأ بتوزيع القمح والزيت
فتشبع بطونكم وتدفأ أجسامكم، وبعد غد ستُقام حفلات الألعاب العامة وأثناء
الألعاب ستُولَم الولائم وتوزع الأموال فيصيبكم من الغنى ما لم تحلموا به قبل
اليوم.
الشعب
:
الخبز والألعاب!
بترون
:
سيكون لكم ما تطلبونه. أعدكم باسم قيصر بتوزيع الخبز وإقامة
الألعاب.
الشعب
:
ليحيَ قيصر!
نيرون
:
لقد هدأ الشعب … ها هم يهتفون! ما أسهل صنعة الملك في رومه!
تيجلان
(لنيرون)
:
لقد أمرنا بالهجوم، ولكن الجيش أضعف من الأمة.
نيرون
:
ما العمل إذن؟ ما العمل؟ أتشتركون معي في أحداث الكرب ولا تساعدونني في
تفريجه!
تيجلان
:
خاطب شعبك من شرفة القصر فلعل روعهم يهدأ.
نيرون
:
لعل وعسى؟ أتجعل حياتي أيها النذل رهينة لعل وعسى؟ ألا تخاف أن تصاب
حنجرتي بسهم يمزق أوتارها؟ ألا تخشى أن يهشم فمي حجر كبير فتفقد رومه في
يوم واحد ماضيها وسيدها ويفقد العالم أعظم متفنِّن؟ … لا أجرؤ أن أخاطبهم. لا
أستطيع الظهور أمامهم (الشعب يحدث جلبة وصراخ
وتهديد).
نيرون
:
أليس فيكم رجل رشيد؟ أليس فيكم خطيب شجاع؟
بترون
:
سأنوب عنك.
نيرون
:
لا عدمتك. أنزل بينهم وعُدْهم خيرًا. بشرهم بكل شيء (ينزل بترون ثم يعود) أحسنت أيها الصديق
(يضمه إلى صدره) … اسمحوا لي يا
سادة أن أغني النشيد الأخير من أغنيتي … لقد ضاعت رومه.
الملحنون
:
ولنيرون البقاء.
نيرون
:
الخلود لي وحدي.
الملحنون
:
وهذا نعم العزاء.
(ستار)
الفصل الخامس
المنظر الأول
أحدهم
:
تتساءل عن نبأ نيرون في مدينة نابلي؟ إن حب الأمير للظهور بمظهر
المتفنِّنين قد ملك عليه نفسه، وأمنيته الوحيدة أن يغني ويوقِّع على قيثارته
ويمثل دور أوديب على مرأًى ومسمع من الشعب الروماني.
آخر
:
علمت أن له مطمحًا آخر وهو الفوز في حلبة المصارعة، والسبق في امتطاء
الجياد وقيادة المركبات السريعة.
أحدهم
:
صدقْتَ إن للأمنيتين على نفسه سلطانًا؛ لذا عزم على أن يصارع ويجالد
ويسابق في أثينا ويغني ويطرب ويمثل في رومه، ولكنه شاء قبل أن يظهر أمام
الشعب الروماني في عاصمة ملكه أن يعجم عود جمهور مدينة نابولي، فسافر لهذه
الغاية منذ عشرين يومًا.
آخر
:
وكيف كان تمثيله؟
أحدهم
:
لقد سِيق أهل المدن والقرى المجاورة لذاك الاحتفال سَوْق الأغنام، وبُثَّت عليهم
العيون والأرصاد، ووُزِّعت الجند بين ظهرانيهم فكل مَن يُظهِر الاستياء أو سبق
لسان بكلمة قارصة أو لا يبالغ في إظهار الإعجاب بذلك المهرج الإمبراطوري
أَنَزلَ الجند به أشدَّ العقاب … إمبراطورنا يلهو وشعبنا يئنُّ من مظالمه! لذا
تراني أستنجد بالأرباب كلما اجتمعنا وأدعوها أن توفِّقنا في عملنا.
آخر
:
يظهر أن الآلهة قد أجابت دعاءك … فإننا لم نترك يومًا دون اجتماع هنا في
مقره.
أحدهم
:
هذه فرصة فريدة هيهات أن تسنح فرصةٌ تعادلها.
آخر
:
حقًّا إننا إن لم نفر ببغيتنا ونتمكَّن من القضاء على الطاغية، فقل علينا
وعلى رومه السلام … لقد أقبل الشريف المقنَّع الذي نعرفه جميعًا ولا يجرؤ على
ذكر اسمه.
المنظر الثاني
(يدخل المقنَّع)
المقنَّع
:
طاب ليلكما يا سيدي.
الاثنان
:
طاب ليلك أيها الشريف.
المقنَّع
:
عما قليل يصل سوبريوس فلافيوس وسولبيسيوس أسير.
أحدهم
:
علمت أن سولبيسيوس أسير مريض وقد يتعذَّر عليه الحضور.
المقنَّع
:
التقيتُ به منذ هنيهة ولا بدَّ من حضوره.
آخر
:
سمعت أنيوس لوكان الشاعر يقول إن في اجتماعنا في قصر قيصر خطرًا
عظيمًا.
المقنَّع
:
إن الشعراء يعيشون في الخيال، وهو يخشى أن يكتشف أحدٌ أمرنا وهذا أمر
مستحيل. من نحن؟ نحن سوبريوس فلافيوس وسولبيسيوس أسير نائبان منتخبان عن
الشعب الروماني، وأنيوس لوكان شاعر الإمبراطور ونديمه وبلوتيوس لانترنوس
قنصل روماني، وأنتما فلافيوسيفينوس وأفرانيوس نيتكانوس عضوان في مجلس الشيوخ،
وكلُّ مَن ذكرت من عظماء الدولة، ولهم حق دخول القصر في أي وقت شاءوا بنصِّ
الدستور وبأمر الأمير.
آخر
:
ولكن يوجد اثنان غيرنا.
المقنَّع
:
أما أنا فلا أحضر إلى هنا إلا في مَحْمِل على أعناق العبيد، وللمَحمِل ستور
تخفيني، وأما الآخر سيدنا ومولانا كايوس بيزو المرشح للإمبراطورية، فلا يراه
أحد وهو ملازم قصره كما أجمعنا رأينا.
آخر
:
ألا تخشى جاسوسًا أو مخبرًا. فقد علمنا أن شاطرًا منهم يقتفي أثرنا، وأن
له أعوانًا يمدُّونه بأخبارنا، وهو يعمل منفردًا دون الشرطة الرسمية.
المقنَّع
:
إن الجواسيس والمخبرين الذين يُخشَى أمرهم يصحبون نيرون أنى جلَّ، وأما خدم
القصر فكلهم في قبضة يدي، على أن اجتماعنا في مكان آخر قد يلفت الأنظار
وينبِّه الأذهان أكثر من لقائنا في القصر.
آخر
:
يُروَى عن طبيريوس الجبار أنه كان يقتل كلَّ مَن يلقاه في قصره بدون علمه أو
بدون إذنه، وكان يقول ليس في رومه مكان أفضل للمؤامرة على الإمبراطور من قصر
الإمبراطور ذاته.
المقنَّع
:
حقًّا لقد كان طيبريوس … هاكما رفاقنا (يدخل
كلٌّ من باب ويتبادلون التحية ويجلسون) أيها الأشراف والنبلاء
بلغتني اليوم رسالة تُنبئ بقرب عودة الطاغية؛ لهذا أرى أنه قد آن الآوان
للاتفاق على وسيلة للقضاء عليه. إن معايبه وذنوبه وجرائمه أمست لا تُعَد وفي
بقائه على عرش رومه مذلَّة لنا وحطة في شرفنا.
أحدهم
:
بل إن في ذلك خطرًا على حياتنا وأموالنا وأعراضنا يتهددنا في كل
لحظة.
المقنَّع
:
وقد انضم إلينا منذ جلستنا الأخيرة توليوس ستيسيوس أحد رجال البلاط
وسرناريوس بروكوليوس الضابط الشهير وأنطونيوس ناتاليس صديق الطاغية وفنيوس
روفوس.
كلهم
:
فنيوس روفوس! قائد الحرس البريتوري؟
المقنَّع
:
نعم فنيوس روفوس بعينه.
أحدهم
:
ألا ترى بين هؤلاء مَن قد يخون دعوتنا؟
المقنَّع
:
باركت فيكم الآلهة! أتحسبون يا سادتي أن واحدًا منا أو من هؤلاء الذين
ذكرت يضع يده في أيدينا ليتآمر على قيصر حبًّا في رضانا أو طمعًا في بدرة
مال نجود بها عليه؟ إن لكلٍّ منا نحن المتآمرين غرضًا نسعى إليه، فسيدنا
ومولانا كايوس بيزو من أشرف بيوتات المجد وأجدر الناس بالإمارة طامعٌ، وحق له
أن يطمع، في عرش رومه. وهذا المطمع وحده كافٍ لانضمامه إلينا وأنتما أيها
النائبان (يشير إلى سوبريوس سولبيسيوس)
مدفوعان بدافع حب الوطن وحب الخير لرومه، وأنت أيها الشاعر (إلى أنيوس) يسوقك حقدك على الطاعنين؛ لأنه
ضيَّق عليك سبُل المجد وأمر بمراقبة شعرك ومنع نشْرَ ديوانك؛ لأنك لم تعترف له
بالتقدم عليك، وأنت أيها القنصل النبيل (إلى
بلوتيوس) يأبى عليك مجد آبائك وشرف نفسك أن تعيش في ظلال
الظلم، ففي عروقك تجري دماء الأبطال الأُوَل، وأنتما أيها الشيخان الجليلان
(إلى فلافيوس وأفرانيوس) تعلمان ما
يشعل نار الحقد في قلبيكما على ذلك الطاغية الذي لم يحترم بيتًا ولم يصُن
عرضًا. أما أنا فلو ذكرت لكم كل ما يدعوني للتآمر عليه لقضينا الليلة دون
أن نصل إلى غايتنا من هذا الاجتماع، فلا تدهشوا إذن يا سادة إذا أتيتكم غدًا
بأسماء غير هذه، إن الأرض والسماء والهواء والنار لو استطاعت لتآمرت
عليه.
أحدهم
:
إن الصواعق تنقضُّ والسفائن تغرق والقبور تُبعثَر، ألا يكفي هذا دليلًا على
غضب الآلهة؟
آخر
:
إن ما تقوله حق لا يقبل الشك، إنما دهشتنا ناشئة عن خوفنا من
الخيانة.
المقنَّع
:
أصبت … إنني أشدكم حذرًا، وحيث قد وكلتم لي أمر انتخاب الأعضاء وقبولهم
فلا تخشوا شرًّا (ينظر) لقد أقبلت
حليفتنا الجديدة.
آخر
:
نحن مقتنعون بصدق نظرك.
المنظر الثالث
(تدخل امرأة مقنَّعة.)
المقنَّع
:
أيها السادة أقدِّم لكم السيدة أبيكاريس امرأة شريفة بمبدئها ومقصدها، محبة
لوطنها مخلصة في أقوالها حازمة في فعلها.
المرأة
:
أيها الأشراف والنبلاء، الواقفة بين أيديكم جارية ليس لها من شرف المَحتِد
ما يجعل لاسمها في نفوسكم هيبة، ولكن قلب المرأة موضع سرِّ الآلهة، وقد جعلت
الآلهة من قلبي معبدًا لحب الوطن. انظروا إلى وجهي (تكشف عن وجهها) إنني في مقتبل العمر وعلى
نصيب وافر من الحسن، وأستطيع أن أعيش سعيدة بحب الرجال لو رضيت، ولكنني وقفت
شبابي وحسني على محاربة الظلم. إنني أضحي بحياتي في سبيل رومه، إن صوتي
الضعيف قد يصل إلى قلوبكم ويفعل ما لا يفعل صوتُ قائدٍ عظيم أو أمير كريم؛
لأن صوتي خارج من أعماق قلبي، ولأن الإخلاص رائدي ولأن فؤادي خلو من
المطامع، فلست أرمي إلى العرش أو إلى المال أو إلى المجد، إنما أرمي إلى غرض
واحد وهو إنقاذ الوطن من الطاغية نيرون. وقد علمت باجتماعكم من حيث لا خطرَ
يتهددكم فصحَّت عزيمتي على أن أمثُل بين أيديكم وأضع روحي تحت تصرُّفكم، فمُرُوا
بما شئتم في هذا السبيل.
المقنَّع
:
أيتها السيدة النبيلة، ليس للمرأة مفخرة بغير قلبها، وقلبك كبير وغرضك سامٍ
ونفسك عالية وعواطفك شريفة، حديثك كقطر الندى جدَّد في نفوسنا ما جدَّد، وقد
فكَّرت أثناء خطبتك التي ستبقى ما بقيت لغتنا، في أن نعهد إليك بأمر الاستيلاء
على أسطول ميسنيوم الذي يقوده القبطان فولوسيوس بروكيلوس. لقد كان هذا
القبطان لدى مقتل أجربين بحارًا، وقد اشترك في الجناية، فكافأه نيرون
بمنصبه الحالي ولكنه غير راضٍ عن هذه المكافأة.
أبيكاريس
:
سأسعى في هذا السبيل من غداة غد، ولست أسأل عن الغرض، إنما لكم أن تسألوني
عن التنفيذ … لقد أحييتم آمال نفسي وأدعو لكم أن تحيي الآلهة نفوسكم. إن في
موتي حياتي ما دام جهادي في سبيل رومه (تخرج).
أحدهم
:
لم أرَ امرأة أصدق منها لهجة!
آخر
:
ولا أقوى منها قلبًا.
آخر
:
ولا أسمي غرضًا.
المقنَّع
:
قد نخون بعضنا بعضًا، ولكن هذه المرأة تبقى كتومًا إلى آخر نسمة من حياتها
… قد آن أوان عودة نيرون، فلنبارح هذا المكان للاتفاق على خطتنا (يخرجون).
أحدهم
:
لدينا الآن ثلاث خطط؛ أولاها أن يُقتَل الطاغية وهو يغني على الجمهور في
محفل عام، والثانية أن ننتهز فرصة خروجه للنزهة ليلًا فنشعل النار في القصر،
ثم نأخذه على غرَّة وهو بلا حرس ولا حاشية، والثالثة الخطة التي أوكلنا أمرها
إلى تلك الفتاة.
المقنَّع
:
أليس لدينا خطة أخرى؟
أحدهم
:
لقد تعوَّد الطاغية أن ينزل في أحد قصور سيدنا كايوس بيزو في أرباض بابا،
ويكون إذ ذاك بغير حرس ولا حاشية، ويستطيع أحقر الأرقاء أن يخمد أنفاسه وهو
في سُكْرِه.
آخر
:
إن سيدنا ومولانا يأبى علينا هذه الخطة، إن نفسه أرفع من أن تقبل إهراق
دم ضيفه على مائدته وفي بيته حتى ولو كان الدمُ دمَ قيصرٍ. أتؤذون كايوس بيزو
في ضيفه؟ أنسيتم كرم الرومان؟
أحدهم
:
صدقت أن عاصمة الدولة هي أليق مكان بالقضاء على الظالم. إن رومه مهد
الحرية فلا يصحُّ أن تُحرَم من مشهد مصرع الطاغية، إن الرجال الذين يبذلون
نفوسهم في سبيل الوطن ينبغي لهم أن يُتمُّوا عملهم على مرأًى ومسمع من سائر
أهل الوطن.
المقنَّع
:
إنني أرى أن ننتهز فرصة الاحتفال بالألعاب العامة في عيد سريس، وقد تعوَّد
نيرون أن ينزوي في قصره في ذلك العيد، فيستأذن عليه رفيقنا لاترنوس الشجاع
الحازم ثم يدنو منه كمن يلتمس مرحمة أو شفاعة ثم يجثو أمامه علامة الخضوع
حتى يبلغ قدميه فيقلبه رأسًا على عقب، فإذا حاول النهوض منعه وحينئذ نهجم
جميعًا ونقضي عليه بخناجرنا.
سيفنيوس
:
أريد أن أكون أول مَن يطعن بخنجري الذي استحضرته من معبد إلهة القوة في
إتروريا، فها أنا أحمله حتى أقضي به حق الحرية.
أحدهم
:
لقد طال عليه القِدَم وعلاه الصدأ.
سيفنيوس
:
الليلة يشحذه رقيق جديد اشتريته منذ بضعة أيام، وهو أدنى مَن وثقت بهم من
خَدَمي؛ لِما أرى فيه من الطاعة والذكاء.
المقنَّع
:
ما رأيكم في هذه الخطة؟
الجميع
:
موافقون.
المقنَّع
:
أما سيدنا ومولانا كايوس بيزو، فيكون في ذلك الوقت في هيكل سيريس نفسه حتى
يحضر إليه فينوس ورفاقه ليأخذوه إلى معسكر الحرس البريتوري، فيخطب فيهم
ويُنادَى به إمبراطورًا على رومه.
الجميع
:
ليسقط الظالم. ليهلك نيرون الطاغية وليحي بيزو ولتحيَ الحرية!
المقنَّع
:
والآن يخرج كلُّ واحد من باب، وحذار يا سادتي من الاجتماع في الطريق
(يخرجون).
المنظر الرابع
(تُسمَع أبواب وأصوات وجلبة ويدخل نيرون باحتفال عظيم وعلى رأسه أكليل الغار ومعه
الحاشية.)
نيرون
:
ألم أقل لكم يا سادة، إن الشعب الروماني شديد الغيرة، لقد عزَّ عليهم أن
يحظى أهل نابولي بسماع صوتي ومشاهدة تمثيلي قبلهم، وهذه المظاهرة تدل على
ذلك. إنهم فرحون بعودتي وساخطون لحرمانهم من فنِّي، ولكن فرحهم يربو على
سخطهم.
أحدهم
:
ليس في الإمكان أحسن مما كان.
آخر
:
لقد جمعت الآلهة سائر الفنون في شخصك.
نيرون
:
لقد كنت تعبًا من وعْثاء السفر على أنني أستطيع أن أبلغ من الإتقان مدًى
أقصى مما شاهدتم، ولا تحبطوا همتي بهذا الثناء، بل شجعوني واطلبوا المزيد، إن
في هذه الحنجرة أنغامًا لم يُسمَع لها مثيل في الكون ولكل مجتهد نصيب. لقد
أنهكت قواي، ولكنني جنيت الثمرة التي كنت أرجوها. والآن أشكركم يا سادة، قد
آن لنا أن نستريح من تلك السياحة المجيدة. وستكون حجتي إلى أثينا أحفل من
هذه وأبهى.
رسول
:
يحيا قيصر!
نيرون
:
ما وراءك؟
رسول
:
غريب عن رومه عليه سيماء اليسار والعظمة، يريد المثول بين يدي
قيصر.
نيرون
:
فليقابل أيبافروديت كاتم أسراري.
رسول
:
أبى إلا أن يلقاك بذاتك؛ لأن لديه أسرارًا ذات شأن لم يشأ أن يُفضي بها
لأحد سواك.
نيرون
:
ولكنني قادم من السفر وحنجرتي متعبة.
رسول
:
قال إن أبطأتَ في لقائه فرت الفرصة.
نيرون
:
إذن فليدخل ولكن إلحاحه يريبني. فتِّشُوه أولًا لعله يكون حاملًا سلاحًا
خفيًّا. اعلموا أن حياتي منذ اليوم ليست لي إنما هي لأبناء المستقبل؛ لأن
حنجرتي …
تيجلان
:
سأقف على حقيقة حاله ثم أعود به.
نيرون
:
حسنًا تفعل (يخرج تيجلان ثم يعود بالرجل. ينظر
إليه نيرون شزرًا).
نيرون
:
ما وراءك أيها الغريب؟ أراك مرتديًا ثيابًا أفريقية، أمن مصر أنت؟
الغريب
:
كلا بل أنا من قرطاجنة يا صاحب الجلالة.
نيرون
:
ما الذي تريد من لقاء قيصر؟
الغريب
:
إن لدى سرًّا عظيمًا، لا أبوح به إلا على انفراد.
نيرون
:
هذه حاشيتي ولا يخفى على أحد منهم شيء من أسراري.
الغريب
:
إذا أمر قيصر عدت أدراجي دون أن أبوح بكلمة مما أنا حامل.
نيرون
:
تيجلان هل حييت هذا الضيف؟
تيجلان
:
لقد وفقت في تحيته فلا خوف عليه من الانفراد بك.
نيرون
:
إذن يا سادة اسمحوا لنا بالانفراد (يخرجون) تكلَّم لا يسمعك أحد سواي.
الغريب
:
يملك عبدك أرضًا واسعة الفضاء في قرطاجنة، وقد عثرتُ بها على كهف عميق،
فلما نزلت إليه ألفيتُه مملوءًا بالقطع الضخمة من الذهب الخام، ورأيت فيه
أعمدة من ذلك المعدن النفيس تعلو على أعمدة هذا القصر، فلما رأيت ذلك الكنز
العظيم كدت أُجَنُّ من الدهشة والفرح، فثبت نفسي إلى أن أفقت من غشيتي ثم بادرت
إلى إخفاء مدخل الكهف وعدتُ إلى منزلي تنتابني الحيرة وتتناهبني المخاوف،
فنمت فرأيت فيما يرى النائم شيخًا وقورًا فسألته عن حقيقة هذا الكنز لعلي
أهتدي بحكمته، فقال لي: اعلم أن ديدون ملكة فينيقيا لمَّا فرَّت من صور وأسَّست
مدينة قرطاجنة، دفنت ثروتها في أعمق بقعة من الأرض؛ خشية أن يطمع فيها أمراء
نوميديا. فقلت له: ولمن يكون ذلك الكنز الدفين؟ فأجابني على الفور: إنه لسيدك
ومولاك نيرون إمبراطور رومه ليزداد مجده ويعظم شأنه ويكون أغنى ملوك الأرض.
هذا هو السر يا مولاي، وقد جئت أضع تحت أقدامك تلك الثروة التي حَبَتْك بها
الآلهة منذ القدم، ولا أريد أن يكون لي فيها نصيبٌ ويكفيني رضاك.
نيرون
(ينهض)
:
مرحى! مرحى! ما أكرمك أيها الغريب وما أشد وفاءك! إن إمبراطور رومه لا
ينكر الجميل. ستكون وزيرًا لي. أتظن هذا الأمر سرًّا ينبغي كتمانه.
الغريب
:
خفت أن يبادر إلى الكنز أحدٌ فيسلبه شيئًا فشيئًا.
نيرون
:
تخشى أن يسرقوا كنزي، أيجرؤ أحدٌ على أخذ مالي؟ أيُسرَق ذهبي وأنا في رومه؟!
لقد صحَّ نبأ لوكاست وصدق المنجِّمون. لقد تكهَّنوا لي بثروة طائلة أنالها. فلتكن
تلك الثروة على يديك.
الغريب
:
برئت ذمتي واستراح ضميري، فالسرُّ سرُّك والمال مالك.
نيرون
:
إلي يا سادة، أطلقوا أصوات المُنادِين في المدينة، وبشِّروا شعب رومه بالخير
العميم، طالما ناءوا بالضرائب، وفُجِعوا من مصادرة أموالهم في مصلحة الدولة.
ليتهم صبروا، فإن نجم نيرون في صعود. لقد وجدت الكنز الذي كنت أبحث عنه.
هاكم الذهب الذي كنت أنشده. إن الثروة الطائلة التي أريدها مدفونة على
مسيرة يوم واحد من رومه، لقد جعلت هذا الغريب … ما اسمك أيها الحبيب؟
الغريب
:
كاسيليوس باسوس القرطاجني.
نيرون
(مستطردًا)
:
لقد جعلت السيد كاسيليوس باسوس الروماني أمينًا على خزائني مدبِّرًا لبيت
المال ووزيرًا لديوان الدخل والخرج … تيجلان اخلع عن هذا القنصل الروماني
ثيابه الأفريقية ولفِّعْه بحلَّة أرجوانية، وأمر أن يُرفَع له تمثال في هيكل
المشتري وأن يُؤرَّخ يومُ ميلادِه في التقويم واهتفوا أيها السادة (يهتفون معه) ليحيَ كاسيليوس باسوس … مروا
رجال الأسطول أن يُعِدُّوا سفائن خفيفة لتُقِلَّ سبائك الذهب من قرطاجنة إلى رومه،
وافتحوا حدائقي للشعب وأولموا وليمةً كبرى، ومروا أن تُقام الصلاة في الهياكل،
ومروا الشعراء أن ينظموا القصائد في هذا المعنى، إن الآلهة لم تكتفِ بما
منحتني من المجد والقوة، فأمطرت عليَّ سبائك الذهب. أرأيتم حسن حظي؟ أرأيتم
بركتي؟ أرأيتم علوَّ نجمي. سطِّروا صحيفة بأسماء الأشراف الذين قعد بهم الدهر.
سأمنح كلًّا منهم ما يغنيه وأسرته جيلًا بعد جيل. سأهدم هذا القصر وأشيد
مكانه قصرًا دعائمه ذهب. سأصنع لنفسي تماثيل من ذلك المعدن النفيس. سأضرب
نقودًا جديدة باسمي وصورتي كلها من الذهب. مُروا بمصادرة نقود الفضة
والبرونز فليست رسومه بعد اليوم في حاجة إليها. الذهب شعارنا منذ اليوم.
وأنت يا تيجلان وهبتُك مائة ألف قطعة من الذهب كذلك أنت يا بترون، انقلوا
هذا الخبر السار إلى الإمبراطورة بوبيا واطلبوا إليها أن تتفضل بالحضور
لتشاركني في فرحي. واأسفاه على أن أعدائي ماتوا قبل أن يعلموا بهذا الخبر
فيزدادوا غيظًا على غيظهم، مَن لي بإخبارهم في قبورهم أن نيرون أصبح أغنى أهل
الأرض كما هو أعظم متفنِّن تحت السماء (تُسمَع أصوات
من تحت القصر).
الشعب
:
بشرى لقيصر! ليحيَ قيصر! نريد الألعاب والحدائق.
نيرون
:
هل نشرتم الخبر؟ ها هو الشعب ينادي ويهتف سأخرج لهم هذه المرة. (يطل من الشرفة ويسمع الهتاف بصوت عالٍ) لقد
مات الفقر. سأوزع عليكم الذهب. لقد وجدت الكنز الدفين. طِيبوا نفوسًا وقروا
عيونًا. سأنشئ لكم حمامين أفخر من حمام كاراكلا (تدخل بوبيا ويضمها إلى صدره) زوجتي المحبوبة لقد فُرِجَت
الأزمة وزال الضيق.
بوبيا
:
لازال نجمك في صعود وحظُّك في سعود.
نيرون
:
سأضع لك ولابنتنا تماثيل من الذهب.
بوبيا
:
إن تخليد ذكرك هو أعظم ما تصبو له نفسي.
نيرون
:
أيبافروديت أيها الكاتب الحاذق، ها هي الإلهة أولما ربة الحساب والأعداد
قد أمطرت أرقامًا لا نهاية لها. عليك بإعداد دفاتر ضخمة تُقيَّد فيها قيمة
الذهب الذي عثرنا عليه. دوِّن ديوانًا جديدًا وسمِّه ديوان الكنوز وانْتَقِ عشرة
أو عشرين أو ثلاثين من أمهر الرياضيين ليكونوا تلاميذ إقليدس بل أيقظ
إقليدس من رقاده، إن عظامه لَتطرَب في قبرها من ذكر هذه الأرقام.
المنظر الخامس
(نيرون – مليكوس (الذي هو لوسيوس) – سيفنيوس – ناتاليس)
رسول
:
يحيا قيصر.
نيرون
:
ما وراءك؟
رسول
:
رجل بالباب يريد أن يمثُل بين يدي جلالتك.
نيرون
:
عَلِيَّ به لعله اكتشف كنزًا آخر (يخرج الرسول
ويعود بالرجل).
مليكوس
:
مولاي! إن لديَّ سرًّا أريد أن أفضي به إليك.
نيرون
(بسرعة للرجل)
:
هل اكتشفت كنزًا فقد غاض المال في خزائني.
مليكوس
:
كلا بل اكتشفت ما هو أكبر شأنًا من الكنز. اكتشفت مؤامرة!
نيرون
:
ماذا تقول؟ … اتركوني مع هذا الرجل وتبقى الإمبراطورة وتيجلان (يخرج الجميع مندهشين).
نيرون
:
تكلَّم الآن بإيضاح ولا تخف شيئًا.
مليكوس
:
تزيَّيت بزي رقيق فاشتراني سفينيوس، وكسبت ثقته، وبالأمس حضر إلى دار سيدي
السيد أنطانيوس ناتاليس وخلا به زمنًا طويلًا، فلما انصرف أخذ سيدي يدوِّن
وصيته ثم ختمها وأمر بإعداد عشاء ممتع، وأعتق على المائدة عددًا كبيرًا من
أرقَّائه وأعطى مَن استبقاه في الرق عطايا من المال، وكان السرور باديًا عليه
على غير عادته، ثم أخذ يقبِّل زوجته وأولاده بشغف وانفعال كأنه يودِّعهم؛ فتبدو
عليه الكآبة إذ ذاك ثم يعود إلى ما كان عليه من الانشراح المُصطنَع، ولما أن
نهض عن المائدة، ونام أهل البيت دعاني إليه وأمرني أن أُعِدَّ أربطةً لتضميد
الجراح ولفائف لقطع النزيف، ثم سلَّم إلي ذلك الخنجر وأمرني أن أشحذه وسمعته
يقول كمن يناجي نفسه: تباركت الآلهة التي أبقت على هذا الخنجر.
نيرون
(باضطراب)
:
ما رأيكم؟
تيجلان
:
يُعتقَل سيفنوس ويُستحضَر فورًا.
نيرون
:
قم أنت بهذا العمل (يخرج تيجلان) …
وعند صفو الليالي يحدث الكدر. مجد عظيم ومؤامرة جسيمة (إلى مليكوس) أيها الثعلب العتيق حذارِ أن
يكون بلاغك كاذبًا. إني أعاقب المفتري عقابَ الجاني. احذر أن يكون طمعك في
مرضاتي دافعًا لك على هذا البلاغ. إن إذاعة هذا الخبر مضرة بسمعة
الإمبراطور والدولة.
مليكوس
:
هاكم الخنجرَ الذي تسلَّمته من سيفنيوس لشحذه، وقد وقع كلُّ ما رويته وأنا مصمِّم
على بلاغي.
نيرون
:
حسن سنرى إن كنت كاذبًا فستلقى عقاب الكاذبين، وإن كنت صادقًا فلك عندي
جزاء عظيم (يدخل تيجلان وخلفه سيفنيوس الذي تبدو
عليه الدهشة عند مشاهدة رقيقه الخائن).
نيرون
:
أيها السيد سيفنيوس أتعرف من هذا؟
سيفنيوس
:
هذا رقيق جديد اشتريته.
نيرون
:
أيها الرقيق لوسيوس أتعرف من هذا؟
مليكوس
:
هذا سيدي سيفنيوس.
نيرون
:
إن رقيقك يتهمك بالتآمر على قتلي، ويؤيد دعواه بهذا الخنجر الذي أمرته
بشحْذِه.
سيفنيوس
(بعد إطراق طويل)
:
إن هذا الخنجر أثر مقدَّس ورثته عن آبائي، وقد احتفظت به تخليدًا لذكراهم،
وكان في غرفتي إلى أن سرقه هذا الرقيق.
نيرون
:
هل حررْتَ أمس وصيتك وختمتها؟
سيفنيوس
:
تعودت التغيير والتبديل في نصِّ وصيتي، وكلما عدَّلت فيها أعدْتُ تحريرها وختْمَها
بغير قَيْد للأيام والمواقيت.
نيرون
:
هل أعتقت عددًا من أرقَّائك أمس، ومنحت سواهم منحًا كبرى من المال، وكنت تقبل
أهل بيتك بشغف وانفعال كأنك تودِّعهم؟
سيفنيوس
:
لقد عوَّدت أرقَّائي الكرم، فما هذه بالدفعة الأولى التي أعتقت فيها مَن أعتقت
ووهبت ما وهبت، أما تقبيل أولادي فأمر فطري ولم أعلم أنه دليل أو قرينة على
الإجرام.
نيرون
:
لقد أسرفْتَ في نفقة بيتك وأعددت عشاء فاخرًا.
سيفنيوس
:
يعلم الناس والجانُّ أنني لا أدخر وسعًا في إتقان ما يُقدَّم على مائدتي، ولديَّ
طاهٍ إغريقي أدفع له ألفي درهم في العام.
نيرون
:
هل أعددت أربطةً ولفائف لتضميد الجراح وقطع النزيف؟
سيفنيوس
:
لا علم لي بهذا.
نيرون
:
إذن تُنكِر ما يَنسُب إليك ذلك الرقيق من تآمُرك على مولاك؟
سيفنيوس
:
إن التهمة كاذبة والمُبلِّغ جاسوس دنيء، أعْوزَتْه الحجة فاخترع تلك القرائن
وليس لديه على صدق ما يقول أقلُّ دليل، فضلًا عن أنه فاسق فلا تُقبَل
شهادته.
نيرون
(إلى مليكوس الذي هو في الحقيقة لوسيوس)
:
ما قولك في دفاع مولاك؟
مليكوس
:
يُسأَل عن اجتماعه بأنطونيوس ناتاليس.
نيرون
:
لا بدَّ أن تُحقَّق هذه المسألة على انفراد … تيجلان علينا بأنطونيوس ناتاليس
(يخرج تيجلان)، (إلى سيفنيوس) هل التقيت بأنطونيوس
ناتاليس؟
سيفنيوس
:
إنه صديقي وكثيرًا ما ألتقي به.
نيرون
:
ماذا دار بينكما من الحديث في اللقاء الأخير؟
سيفنيوس
:
تحدثنا عن عيد سريس وحفلة الألعاب العامة، وذكرتُ له أنني لا أستطيع مشاهدة
هذه الألعاب وأفضِّل قضاء العيد في داري.
نيرون
:
هل هذا كلُّ ما دار بينكما؟
سيفنيوس
:
لا أذكر غير هذا الحديث (يدخل تيجلان ومعه أنطونيوس ناتاليس).
نيرون
:
متى التقيت بصاحبك هذا لآخر مرة؟
ناتاليس
:
لا أذكر يا مولاي.
نيرون
:
يقول إنكما التقيتما أمس في منزله.
ناتاليس
:
نعم لقد نسيت.
نيرون
:
أي حديث دار بينكما؟
ناتاليس
:
تكلمنا في أمور شتَّى.
نيرون
:
مثلًا؟
ناتاليس
:
مجلس الشيوخ.
نيرون
:
وغيره؟
ناتاليس
:
وعن سياحة جلالتك المباركة إلى نابولي وقدومك السعيد.
نيرون
:
ألم تذكر شيئًا عن حفلة الألعاب العامة في عيد سريس؟
ناتاليس
:
كلا يا مولاي كلا لم يدُر بيننا هذا الحديث.
نيرون
:
تذكَّر جيدًا.
ناتاليس
:
لم تُذكَر تلك الحفلة بشيء مطلقًا.
نيرون
:
يقول رفيقك إنها كانت موضوع حديثكما دون سواها.
ناتاليس
:
كلا كلا لقد خانته ذاكرته.
نيرون
:
الآن ظهر الحق. إن اختلافكما نقمةٌ عليكما … تيجلان قيِّدْهما بالحديد
وعذِّبْهما أو يعترفا (يُستحضَر الحديد وتستحضر آلات
التعذيب).
ناتاليس
(وقد خارت قواه)
:
أريد الاعتراف على شرط العفو؛ لأنني واقف على تفصيل المؤامرة ومُلِمٌّ بها
وأستطيع أن أخدم التحقيق.
نيرون
:
تكلَّم إذن … مَن رأس مؤامرتكم؟
ناتاليس
:
كايوس بيزو المُرشَّح للعرش وسنيكا رأس الفتنة، والمحرِّك لنا رجل مقنَّع لا
يعرفه أحد.
نيرون
:
ما شأن سنيكا؟
ناتاليس
:
ليس بيزو إلا آلة في يد سنيكا؛ لأن الحكيم هو الطامع في عرشك دون سواه،
يريد أن يكون فيلسوف رومه وملكها في آن واحد.
نيرون
:
اكتب يا تيجلان كايوس بيزو والحكيم سنيكا (إلى
ناتاليس) ومَن أيضًا؟
ناتاليس
:
وسيفنيوس وسبريوس وأنيوس لوكان والمرأة أبيكاريس.
نيرون
:
ومن أيضًا؟
ناتاليس
:
إن الرجل المقنَّع يحمل بيانًا بأسمائهم.
نيرون
:
ومَن من رجال الجيش أو الحرس البريتوري؟
ناتاليس
:
قيل إن فريقًا من الضباط قد انضمَّ إلى الجماعة، وسمعت اسم فينوس روفوس
همسًا.
نيرون
:
ومن أيضًا؟
ناتاليس
:
إذا ذُكِرَت أمامي أسماءٌ غير هذه، أو رأيت وجوهًا فلعلي أذكر ذويها
لساعتي.
نيرون
:
سيفنيوس لقد شهد عليك شاهدان؛ رقيقُك ورَفيقُك، ألا تزال مصرًّا على
الإنكار؟
سيفنيوس
:
الاعتراف أنفع. اكتبوا عدا مَن ذكر كنكتيانوس وسينو.
نيرون
:
والرجل المقنَّع؟
سيفنيوس
:
رأيته ولا أعرفه، ولعل سواي يدلك على حقيقة أمره.
نيرون
:
ومَن أيضًا؟
سيفنيوس
:
لا أعرف غير هؤلاء.
نيرون
:
اكتب أسماءهم وأرسل في طلبهم جميعًا دون الأولين، وابعث إلى بيزو وسنيكا
مَن ينبئهما بأن سرَّهما عُرِف ومؤامرتهما افتُضحَت، وأن الأفضل لهما أن يموتا
لساعتهما!
المنظر السادس
رسول
:
مولاي! إن بالباب قبطانَ أسطولِ ميسنيوم، يريد المثول بين يدي
جلالتكم.
نيرون
:
عليَّ به (يدخل القبطان) ما وراءك
يا كليسيوس بروكليس؟
بروكليس
:
إن امرأة تدعى أبيكاريس وأظنُّها معتَقة، حاولت أمس الاستيلاء على قلبي، فلما
استسلمتُ لها أفضت إليَّ برغبتها في الاستيلاء على الأسطول للإيقاع
بقيصر.
نيرون
:
وأين تلك المرأة؟
بروكليس
:
أحضرتها مُقيَّدة وهي في حراسة بحَّارَيْنِ بباب القصر.
نيرون
:
علينا بها وانشر الجند في أنحاء رومه … سدُّوا سبلها بالخيل والجند، وانشروا
الحرس البريتوري في شوارعها وأزقَّتها، وهدِّدوا كل عابر سبيل بالقتل واقتلوا كلَّ
مَن يُبدِي مقاومةً عليكم بالإرهاب. إن الدولة وحياة الإمبراطور في خطر. افتحوا
أبواب السجون وسلُّوا سيوفكم من أغمادها، وانصبوا آلات التعذيب، فقد آن
أوانها (تدخل المرأة).
نيرون
:
أيتها المرأة أبيكاريس، يتهمك القبطان فوليوس بروكلوس بأنك حاولت
الاستيلاء على أسطول مسينيوم.
أبيكاريس
:
ومَن يكون فوليوس بروكلوس؟
نيرون
:
هو قبطان ذلك الأسطول الحاضر لدينا الآن.
أبيكاريس
:
إن هذا البحَّار قاتل، ويداه لا تزالان ملطختين بالدماء، ولا تُقبَل شهادة جانٍ
على امرأة بريئة، ثم انظر أيها الإمبراطور أي خير في الاستيلاء على
أسطولكم؟
نيرون
:
تقصدين الإيقاع بي؟
أبيكاريس
:
إن رجلًا أعظم من كلِّ رجل في رومه قد استعان بالبحر والأسطول وبمئات من
الرجال، ولم يستطع أن يُوقِع بامرأة، فكيف بي وحدي أستطيع الإيقاع بك أيها
الإمبراطور؟
نيرون
:
الاعتراف أو التعذيب … ستُعذَّبين أيتها المرأة.
أبيكاريس
:
إن التعذيب لا يخيفني ما دمت أقول الحق.
نيرون
:
أين روفوس رئيس الحرس؟ (يحضر روفوس)
ابعث إلى سنيكا … قد آن له أن يموت، وخير له أن يكون مصرعه بيده لا بيد
سواه (يبدو اضطراب في الحاضرين. يدخل تيجلان
وخلفه أعضاء المؤامرة فيزداد الهرج والمرج وينظرون جميعًا شزرًا إلى
فنيوس روفوس).
تيجلان
:
الشاعر أنيوس لوكان. السيد سبريوس … السيد … السيد …
نيرون
:
مرحى مرحى يا سادة! مَن المُخلِص من شعبي إذا كنتم قادة المؤامرة؟ ومَن يكون
لي سواكم؟ كلكم عظيم وكلكم صديق. هل فعلتُ بكم ما فعل يوليوس قيصر ببروتوس
وسنيا؟ أم سلبتُ رومه حريتها وحقوقها؟ أم سقت الشعب سَوْق الأنعام لتشييد هرم
أو تحويل نهر؟ هل هتكتُ أعراضكم أو سلبت أموالكم؟ هل انتهكت حرمة الأرباب أم
أغلقت في وجوهكم أبواب المجد؟ هل اضطهدتكم أو خنت وطنكم؟ … إن الآلهة تعلم
وأنتم تشهدون أن رومه لم تحظَ بمَن هو أعدل مني وأرحم. لقد ظلمتموني وغدرتم
بي. إن الغدر وخيم العاقبة.
أبيكاريس
:
لقد فعلت كل هذا!
نيرون
:
صمتًا يا امرأة … أيها القائد روفوس باشِرْ تحقيق التهمة مع كلٍّ على انفراد،
ودوِّن أقوالهم في سجل لتكون حجَّة عليهم.
سيفنيوس
:
ابْدَأْ بي أيها القائد، فأنا أول المتآمرين وقد اعترفت بعد رفيقي ناتاليس،
دقِّق في تدوين قولي ولا تخُنْ أمانة التحرير (الكل
ينظرون إليه بدهشة).
روفوس
:
أيها المتهم سيفنيوس أكمِلْ اعترافَك.
سيفنيوس
:
لا يعرف سواك مِن تفصيل هذه المؤامرة أكثرَ ممَّا تعرف، وتستطيع الآن أن تُظهِر
إخلاصك لعرش أميرك بالاعتراف.
بعض المتهمين
:
تكلَّم يا فنيوس روفوس، أنت تعرف أكثر منا (يبدو
على روفوس اضطراب شديد).
نيرون
:
ما لك قد اضطربت أحقًّا ما يقولون؟ كاسيوس اقبض على القائد وكبِّله بالحديد
(يتمُّ هذا الأمر) … إذن أباشر
التحقيق بنفسي وأنت يا سبريوس فلافيوس.
سبريوس
:
أتظن أيها الأمير أن رجلًا مثلي تعوَّد خشونة الحرب وشجاعة الجند، يجتمع إلى
نفر من المخنَّثين أمثال هؤلاء الذين اعترفوا بجرمهم قبل أن يمسهم أقل
أذًى؟
نيرون
:
تدَّعي الشجاعة وأنت أجبنهم. ألم تُقسِم لي يمين الطاعة؟ لقد ساءك اعترافهم
عليك.
سبريوس
:
أتجرؤ على ذكر يمين الطاعة وأنت لا تعرف ما هو القسم؟ اعلم أنه لا تجب
طاعةٌ لمثلك. لقد جاء حينٌ من الدهر على جيشك وكل جندي فيه يودُّ لو يبذل نفسه
في سبيلك، وكنت إذ ذاك صبيًّا مُحبَّبًا محترمًا، ثم أبغضناك منذ رأيناك جانيًا
تقتل أمَّك وخائنًا حين تشين سمعة زوجك ثم تقتلها بغير ذنب ولا علة، واحتقرناك
مذ جعلت من نفسك سائقًا للخيل في حلبة السباق، وممثِّلًا على مرأًى ومسمع من
الجمهور، ومجرمًا لا يُرضِي غريزتَه الشيطانية إلا إحراقُ المدائن، وعاقًّا تقتل
أستاذك بغير دفاع، وسلَّابًا نهَّابًا لا يقف طمعك في مال الأمة عند حد.
نيرون
:
سأذبحك.
سبريوس
:
إنك قادر على إهراق دمي، ولكنك عاجز عن إخماد صوتي.
نيرون
:
أنت يا سمبسيوس أسير لماذا تآمرت على قتلي؟
سمبسيوس
:
لأن في القضاء على حياتك قضاءً على الشر.
نيرون
:
وأنت أيها الرفيق العزيز لوكان، ألست نديمي وشاعري، هل أدركتْك غَيْرة من
نظمي؟ ماذا تقول الأجيال القادمة إذا علمت أن لوكان الشاعر تآمر على مولاه
نيرون؟
لوكان
:
إن أمي هي التي حسَّنت إليَّ التآمر على قتلك … قاتل الله الأمهات!
نيرون
:
بالوالدة إحسانًا حتى ولو كانت سببًا في هلاكك.
أحدهم
:
أنت أحق بهذه النصيحة من سواك، ولكن وقتها قد مضى لأنك لا أمَّ لك (يدخل رسول).
رسول
:
لقد بلَّغنا رسالة جلالتك إلى الحكيم سنيكا.
نيرون
:
قصَّ عليَّ بالتفصيل كلَّ ما حدث له.
رسول
:
قال لأصحابه الذين كانوا حوله: ترون أيها الرفاق عجزي عن شكركم. إنني أترك
تاريخ حياتي نموذجًا تنسجون على منواله، وهو أثمن ما لديَّ فاعتزوا به. لقد
حاولت أن أكون مثال الفضيلة والصداقة والإخلاص. فبكى الحاضرون وهمُّوا
بتقبيله، فقال لهم: أين مبادئ الفلسفة وأين تعاليم الحكمة؟ ألم تتعلموا بعدُ
كيف تقابلون المصائب بصدر رحب، وعزم ثابت، ونفس مطمئنة؟ هل كانت قسوة نيرون
مجهولة لديكم؟ لقد قتل أمه وأخاه ولم يبقَ له إلا أن يقضي على أستاذه
ومُشِيره.
نيرون
(مقاطعًا)
:
فلسفة وكلام فارغ. أكمِلْ حديثك.
الرسول
:
ثم ضم زوجته إلى صدره وقبَّلها قبلة الوداع، ثم أمر فَفُتِحَت شرايينه فلم تقطر
دمًا، فأعددنا له جرعة من الساج، فقال وهو في النزع: وافرحتاه إنني أموت
بالكأس التي مات بها سقراط. وأمر فنقلناه إلى حمام البخار فأخذ يرشُّ أرقَّاءه
بالماء، ويقول: ها أنا أتوضأ إكرامًا للمشتري إلهي ومُنقذِي من آلام
الحياة.
نيرون
:
هذه جملة جميلة. لقد عرف كيف يموت.
أبيكاريس
:
ليتك تتلقَّى عنه هذا الدرس الأخير، فتريح العالم من شرِّك.
نيرون
:
تيجلان، خذ هؤلاء جميعًا واقطع رءوسهم … أما هذه المرأة فاقطع لسانها قبل
إعدامها … أما لوسيوس صاحب الفضل في إذاعة هذا السرِّ فقد اتخذته أمينًا على
حجرتي.
أبيكاريس
:
إن لسانك أحق بالقطع من لساني؛ لأنك لم تقل الصدق يومًا.
سيريوس
:
أما وقد حُمَّ القضاء في أنيوس سنيكا، فاعلم أنه بريء، وسوف تعلم براءته إذا
علمت من هو الرجل المقنَّع.
نيرون
:
وما قولك في شهادة ناتاليس؟
سبريوس
:
إن الذي وشى به بنفسه طمعًا في رضاك وخوفًا من عقابك، لا يضنُّ على سواه
بالوشاية.
ناتاليس
:
أهذا ثمن اعترافي وخدمتي للعرش؟
أحدهم
:
لقد خنت رفاقك عبثًا.
لوكان
:
أستحلفك بآلهة الشعر … ألا تربطنا حرفة الأدب؟ (يخرج المتهمون المتآمرون على نيرون).
المنظر السابع
(نيرون يدق نحاس الاستدعاء.)
رسول
:
مولاي!
نيرون
:
ادعوا جميع رجال القصر وأعضاء مجلس الشيوخ (إلى
تيجلان) وأقيموا معالم الأفراح وانصبوا أقواس النصر، وقدِّموا
الضحايا للإلهة إيزيس المنقذة، فقد نجوتُ ونجت المدينة الرومانية وسَلِمَتْ أغنى
وأجمل حنجرة في العالم (إلى لوسيوس) أما
أنت أيها الصديق المخلص، فقيصر عاجز عن شكرك. إنني مدين لك ببقائي. لقد
خاطرت في سبيلي بحياتك، ولكن لا يهدأ بالي إلَّا إذا وقع الرجل المقنَّع.
لوسيوس
:
مولاي (يدخل رجال القصر ومجلس
الشيوخ).
نيرون
:
هنا في رومه في عاصمة ملكي، وبين رجال الحاشية والبلاط، تُغرَس بذور مؤامرة
جهنمية وتنمو ولا ينقذني من خناجر أعدائي الحاقدين الطامعين في عرشي
الناقمين على عهدي …
أحدهم
(مقاطعًا)
:
عهد العدل والرخاء والمجد الخالد!
نيرون
(مستطردًا)
:
لا ينقذني من هؤلاء الجاحدين إلَّا رجل صغير القدر، ليس قاضيًا ولا خطيبًا
ولا قنصلًا ولا عضوًا في مجلس الشيوخ، إنما دفعه إلى اقتفاء أثر أعدائي حبُّه
لي وتفانيه في الإخلاص لعرشي.
أحدهم
:
كلنا ساهرون على سعادة جلالتكم.
نيرون
:
لا ريب في أن الموت في نظركم من صنوف السعادة. إن كلًّا منكم لاهٍ عن خدمة
العرش بخدمة ذاته. إنكم تحبون أنفسكم أكثر من حبِّكم إياي، مع أنكم تستمدون
حياتكم وهناءكم وقوتكم مني.
لوسيوس
:
كان المتآمرون يجتمعون هنا في القصر.
نيرون
(لرجال القصر)
:
حقًّا يا سادة، لقد بلغت عنايتكم بي مبلغًا عظيمًا، وبلغ حرصكم بحيث كنتم
تبيحون للمتآمرين الاجتماع هنا في قصري، لتكون المؤامرة تحت إشرافكم
العالي!
أحدهم
:
مولانا.
نيرون
:
مولاك كاد يكون نهب الخناجر لولا هذا البطل.
رسول
:
القبطان بالباب.
نيرون
:
هذه أخبار الكنز لقد أنستْنِيه المؤامرة. ليدخل (يدخل أنيستوس).
أنيستوس
:
مولاي!
نيرون
:
ما وراءك؟
أنيستوس
:
وصلت أخبار من أفريقيا.
نيرون
:
ما قيمة الكنز؟ وكم يقتضي من الوقت لنَقْلِه؟
أنيستوس
:
لا حاجة بنا لحساب الوقت.
نيرون
:
كيف؟ ولماذا؟!
أنيستوس
:
الكنز حديث خرافة وباسوس القرطاجني نصَّاب وملفِق ماهر.
نيرون
(بضعف وتخاذُل)
:
الكنز خرافة وباسوس أمين الخزائن الإمبراطورية ملفِق ماهر!
أنيستوس
:
وقد اختفى ولم نقف له على أثر. فإننا أخفينا الأخبار حينًا لنعتقله ونقف
على حقيقة أمره، فذهب تنقيبنا أدراج الرياح.
نيرون
:
لوسيوس.
لوسيوس
:
مولاي!
نيرون
:
جعلتُ حياتَك وقفًا على البحث عن باسوس القرطاجني، فإن لم تأتني به قطعت
رأسك.
لوسيوس
:
سأفعل يا مولاي، إنما أنا في حاجة إلى المال.
نيرون
:
خذ هذا السوار وبِعْه في السوق.
لوسيوس
:
سوار قيصر.
نيرون
:
نعم … لقد خَلَتْ خزائني من الذهب والفضة، ولم يبقَ لي إلا تلك الحلي.
لوسيوس
(لا يأخذ السوار)
:
إن لديَّ من سابق عطائك ما يكفيني (يقبِّل
يده)، (لنفسه بصوت منخفض)
خزائن نيرون خاوية! هذه بداية نهايته (يخرج).
نيرون
(إلى تيجلان)
:
ما رأيك لقد أحيينا الآمال في قلوب الشعب، ووعدنا بتوزيع الأرزاق وإقامة
الألعاب.
تيجلان
:
هؤلاء الشيوخ والأعيان أغنياء، إن ابتزاز أموالهم أفضل من إخلاف وعودك
للشعب الروماني.
نيرون
:
لا سيما وأنهم لم يبذلوا مجهودًا في كشف المؤامرة.
تيجلان
:
والولايات قد أتت من الضرائب الأخيرة، ولا بدَّ لنا من تركها حينًا بغير
مطالبة.
نيرون
:
لقد استنزف تشييد قصر الذهب معظمَ ما في الخزانة.
تيجلان
:
سيقضي تشييد رومه بعد إحراقها مالًا كثيرًا.
نيرون
(إلى الشيوخ والأعيان)
:
أيها السادة تذكرون جميعًا إحساني إليكم.
الجميع
:
كيف ننسى جمائل قيصر.
نيرون
:
وقد اقتضت حال الدولة أن يبذل كلٌّ منكم نصف ما يملك ليُصرَف في الشئون
العامة.
أحدهم
:
نصف ما نملك؟ (يحدث هرج).
نيرون
:
ألا يرضيكم هذا؟ إذن لِيكُن كل ما تملكون رهن خزائني.
أحدهم
:
كلا يا مولانا ليس قولنا احتجاجًا إنما استصغارًا للطلب. إننا نهب الكل عن
طيب خاطر.
نيرون
:
حسن … إذن يكفي النصف مؤقتًا ريثما يصل الكنز الدفين من أفريقيا. إن
الأخبار تنبئ بخير جزيل ستملأ كنوزي رومه ذهبًا (إلى تيجلان) مُرْ بعض الموظفين المكلَّفين بالحساب بحصر أموال
هؤلاء السادة، وفرز نصيب الخزانة في أقرب فرصة.
تيجلان
:
يتمُّ هذا فورًا، وإذا وجدنا عقارًا لا يمكن قسمته؟
نيرون
:
يقوم ويدفع لنا صاحبه نصف ثمنه وإلا يُباع مزايدة.
تيجلان
:
ومَن يُخفِي لدى الإحصاء عينًا أو منقولًا؟
نيرون
:
يُعاقَب بالقتل بدون محاكمة. موافقون أيها السادة؟
الكل
:
موافقون من أعماق قلوبنا.
المنظر الثامن
رسول
:
الأمير أنيستوس (يدخل ويسلم إلى نيرون خطابات
فيفضُّها ويقرؤها ويبدو عليه تغيُّر عظيم).
نيرون
(إلى الأعيان والشيوخ)
:
نيرون يحيِّيكم (يخرجون)، (إلى تيجلان وأنيستوس) لقد ثارت جيوش
إسبانيا بقيادة جالبا، وجيوش الغال بقيادة فندكس، وجيوش لويزتانيا بقيادة
أوتون، وجيوش أفريقيا بقيادة كلوديوس، ولم يبقَ لنا مُخلِصًا إلا
فرجينوس.
تيجلان
:
إن هذه الأخبار ذات شأن عظيم.
نيرون
:
أين سنيكا الحكيم؟ أين بوروس؟ أين بترون؟ بل أين فضلى الأمهات؟ إن رأيًا
من واحدِ من هؤلاء كان كفيلًا بإنقاذنا من هذا المأزق. لقد ذهب المخلصون
النابغون المدبِّرون، وبقيتم أنتم أيها العجزة. إن هذه الأخبار ذات شأن عظيم.
إنني أعلم عِظَمَ شأنها، ولكنني أريد تدبير أمور الدولة.
تيجلان
:
إن عقولنا القصديرية لا تصل إلى ما يصل إليه عقل جلالتك الذهبي.
نيرون
:
يا لكم من ضعاف تضرُّون في الشدة ولا تنعمون في الرخاء.
رسول
:
رسول من الغال.
نيرون
:
ليدخل.
رسول
(يقدم خطابًا)
:
البريد الأخير.
نيرون
(يكفَهِرُّ وجهه)
:
هذا ما أذاعه القائد فندكس في طول البلاد وعرضها أيها الشعب عبثًا
تحاولون الوقوف على علَّة خراب وطنكم. إن علة الخراب في رومه والجاني هو
أنيوباربوس، فإنه هو الذي أضاع حقوقكم، وأشقى بلادكم وأفقر شعبكم، وهو الذي
نشر ألوية الحداد على بيوتكم بأنِ انتزع شبابكم وشيوخكم بالقتل ظلمًا تارة،
وبالنفي طمعًا في المال طورًا. إن هذا الطاغية لا يهاب شيئًا لأنه الوحيد
والأخير في بيت قيصر؛ فلا يخشى مزاحمًا ولا مقاومًا وقد أطلق لنفسه العنان،
واستباح كلَّ مظلمة في عاصمة ملكه وفي الولايات التي شَقِيَتْ في عهده المُكفهِر،
ليس أميركم أميرًا إنما هو ممثِّل ومهرج ومغنٍّ يحاول إطراب العاطلين من أهل
رومه، ولا يستطيع إلى ذلك سبيلًا لعجزه ورداءة صوته، فكيف تحلونه بألقاب
العظماء من القياصرة والقواد؟ إنه أحق بأن يُدعَى أديب دارست لأنه استباح قتل
الوالدين. ولم يستقبح تدنيس فراش الأم، لا تحسبوا أنَّني أرشِّح نفسي للسيادة
عليكم، إنما أرشدكم إلى عظيم ذي أصل ملكي امتاز بشجاعته وقوة خلقه، ألا وهو
الأمير جلبا قائد جيوش إسبانيا، إنه رجل لا يشغله الغناء ولا يستميله
التمثيل، وقد أظهر …
نيرون
(وقد أشرق وجهه)
:
كفى وجدت حلًّا لهذه المعضلة. لقد أخطأت إذ جعلت لها شأنًا، كيف يستطيعون
خلعي ألا يكون ذلك بالحرب؟
تيجلان
:
طبعًا.
نيرون
:
فلنحارب إذن، السيف أصدق أنباءً من الكتب.
أنيستوس
:
ولكن جيوش رومه محتاجة للمال والسلاح والتدريب، وجيوش الولايات التي
تقاومنا لا يعوزها شيء مما ذكرت.
نيرون
:
هذا ما كنت أريد الوصول إليه. علينا يإعداد الجيوش ولا نستطيع إعدادها
إلَّا إذا فرضنا ضرائب جديدة.
تيجلان
:
للدفاع عن الوطن والعرش.
نيرون
:
والمدينة الرومانية.
تيجلان
:
وحياة الإمبراطور نيرون العظيم هذه أعظم دعوة.
نيرون
:
ابعثوا إلى مجلس الشيوخ بهذه الكتب، وبلِّغوه أنني أطلب عقاب فندكس على قذفه
في حقِّي بصفتي متفنِّنًا.
أنيستوس
:
ومعدات الحرب؟
نيرون
:
اجمعوا المال أولًا، ثم أكثروا من شراء آلات الموسيقى؛ لأن للأنغام أثرًا
في نفوس المحاربين فتشجِّع جيشنا وتثبط همة أعدائنا.
أنيستوس
:
والجند؟
نيرون
:
اجمعوا ما استطعتم من أقوياء الأرقَّاء، وادعوا القبائل الرحَّالة المقيمة حول
العاصمة.
أنيستوس
:
إن هؤلاء وأولئك لم يتعودوا حمل السلاح ولا خوْضَ غمار المعارك.
نيرون
:
سيخلع عليهم ثيابًا زاهية تبهر أبصار أعدائنا. إن ثياب الجندي إذا كانت
فنية تفعل بالعدو ما لا تفعله الشجاعة والعلوم الحربية. اجمعوا مَن تستطيعون
من هؤلاء ثم أعدوا لي أربعمائة راقصة وقصوا شعورهن بحيث يصرن كالغلمان
واجعلوهن حرسًا لي.
أنيستوس
:
أيكون هذا الجيش كفيلًا بالحرب والنصر؟
نيرون
:
إنك أبله … لن نحتاج للحرب، إنني إذا ما وطئت قدمي أرض الغال، سأظهر لأهل
هذه الولاية أنني أعزل، ثم أبكي لهم فتنهمر دموعهم على محاجرهم ويلقون
بأسلحتهم تحت قدمي، وننشد جميعًا نشيد السلم والانتصار.
تيجلان
:
لقد ذهبت آمالنا أدراج الرياح! فقد فاز فندكس في موقعة فاصلة ونُودِي
بجالبا إمبراطورًا.
نيرون
:
إني أستنجد بالشعب الروماني.
تيجلان
:
إن الشعب الروماني هائج لأن السفن التي تحمل المُؤَن لم تَعُد من صقلية ومصر،
وقد مضى على ميعاد عودتها أكثر من أسبوع، فالقحط بالمدينة والحرب على
الأبواب.
نيرون
:
ما الحِيلة إذن؟
تيجلان
:
لا بدَّ لنا من حلٍّ سريع (يُسمَع صوت الشعب من
أسفل).
نيرون
:
والشيوخ والأعيان؟
تيجلان
:
أبَوا أن تقاسمهم ثروتهم، فقد وقفوا على سرِّ الكنز، وعلموا أنه كان وهمًا
وتلفيقًا ونشروا هذا الخبر في الشعب.
نيرون
:
احرقوا رومه من جديد، وأطلقوا الوحوش الضارية على المدينة والنار تأكلها،
وادعوا الشيوخ والأعيان لوليمة كبرى، ودسُّوا لهم السم في الدسم فيهلكوا عن
بكرة أبيهم ولا يستطيعوا خلعي.
أنيستوس
:
إن هذه الخطط محفوفة بالمخاطر في حالتنا هذه.
نيرون
:
لا تترددوا (يخرج تيجلان). لا أظن
الدنيا تضيق بمتفنِّن مثلي. إنني إذا أُرْغِمت على التنازل عن العرش سأرحل إلى
الإسكندرية فأحترف التمثيل والغناء في تلك المدينة العريقة في الفنون
الجميلة والذوق الرقيق.
المنظر التاسع
(يدخل تيجلان)
تيجلان
:
لقد تجمهر الشعب عند الكابيتول، وعقد السناتو جلسة استثنائية، وأذاعوا
بلاغًا.
نيرون
:
ماذا جاء في بلاغهم؟
تيجلان
:
إنك عدوُّ الوطن، وقد حكموا عليك بالإعدام!
نيرون
(يقع على الرض)
:
بالإعدام عليَّ أنا كلوديوس قيصر؟ (يدخل رجل
مقنَّع). المقنَّع! المقنَّع! اقبضوا عليه … اعتقلوه … تيجلان …
أنيستوس (يتحركان).
المقنَّع
:
لستَ منذ اليوم كلوديوس قيصر، إنما أنت دوميثيوس أنيوباربوس، خائن الوطن
وقاتل أمك وأخيك. لقد حُكِمَ عليك بعقوبة الخيانة!
نيرون
:
وما تكون تلك العقوبة؟
المقنَّع
:
يطاف بك عاريًا ثم تُجلَد حتى تموت.
نيرون
:
ومَن تكون أنت أيها المقنَّع؟ لقد ألحقت بي أضرارًا لا تُعَد، وها أنت تشهد
مصرعي (يزوغ أنيستوس وتيجلان).
نيرون
:
لقد ذهبا دون أمري!
المقنَّع
(يكشف عن وجهه)
:
أنا بالاس.
نيرون
(راكعًا)
:
بالاس؟ عزيزي بالاس، اذكر العهد القديم، ارحمني إكرامًا لأمي.
المقنَّع
:
لم ترحم أحدًا.
نيرون
:
لا أريد أن أموت.
المقنَّع
:
لقد أعدت لك لوكستا بأمرك ما ينقذك في مثل هذا الوقت، فسارع
بتناوله.
نيرون
:
نعم، ولكن قواي خارت ولا أستطيع تناوُل السم بيدي.
المقنَّع
:
أحضر كلَّ مَن يعاونك على تناوله (يبعث برسول
فيعود بأكتيه وأيبافروديت وسبوروس).
أكتيه
:
مولاي!
نيرون
:
لست مولاكِ ولا مولى أحدٍ … لقد انتهى كل شيء وهجرني كلُّ مَن كان بي لائذًا …
لقد فرَّ من وجهي الأصدقاء والأعداء معًا. وهذا بالاس السيد بالاس الأمير
بالاس أتى بك.
بالاس
:
لتعاونيه على الموت.
نيرون
(يسقط ويأخذ بعض الوسائد ويدق رأسه في الجدران)
:
الموت! الموت! (يسمع صوت الشعب
هائجًا).
بالاس
:
لقد أزف الوقت وحان حينك.
نيرون
:
أكتيه توسَّلي إليه … سبوروس … أيبافروديت.
أكتيه
:
ليتني مت قبل هذا! ليتك قتلتني كما قتلت أمك وامرأتيك أوكتافيا وبوبيا …
(إلى بالاس) سيدي لا تطل تعذيبي
بتعذيب هذا الأمير.
بالاس
:
طالما أذاق الناس كأس الردى، فلْيذوقنَّها مرة.
نيرون
:
وإذا لم أجرع السم؟
بالاس
:
أسلمك إلى الشعب فيوقع بك عقاب الخونة.
نيرون
:
الجلد حتى الموت … أنقذني … أتوسَّل إليك (تُسمَع
أصوات).
بالاس
(مُتردِّدًا)
:
لذ بالفرار … إنني أنقذك إكرامًا لأمك.
نيرون
(فرحًا)
:
شكرًا لك ولفضلى الأمهات.
المشهد الأخير
(طريق خلوي فيه بيت مهجور هو بيت فارون. أشخاص هذا المشهد نيرون، أيبافروديت،
معتق أول، معتق ثان، سبوروس، أكتيه وكلُّهم متزيُّون بأزياء غريبة ونيرون مقنَّع.)
نيرون
(متعثِّر في سيره)
:
أين نحن الآن يا أيبافروديت؟
أيبافروديت
:
لقد وصلنا إلى بيت فاون يا مولاي.
نيرون
:
أيستطيع المارة اكتشافنا؟
أيبافروديت
:
يسترنا الجبل المقدس، ونحن في درب غير مطروق.
نيرون
:
مهما ندُر المرور فإنها طريق يقصدها السابلة.
أيبافروديت
:
لقد لجأنا إليها مضطرين ريثما يصحُّ عزمُ جلالتِك على أمرٍ تقصده.
نيرون
:
لم يبقَ لي إلا الموت … أين أكتيه؟
أكتيه
:
مولاي!
نيرون
:
إليَّ أتوكأ عليك (تقرب منه فيتوكأ
عليها) … انظري ما وصلت إليه حال أعظم متفنِّن في المدينة
الرومانية.
أيبافروديت
(لمعتق أول)
:
خير له أن يصمِّم على الموت، إن في حياته تعذيبًا له.
معتق
:
وخطرًا علينا.
سبوروس
:
لماذا نتردَّد في الإشارة عليه بذلك؟
أيبافروديت
:
إنه جبان ولن تطاوعه يده على قتل نفسه (تُسمَع
أصوات وجَلَبة).
نيرون
:
إليَّ يا أيبافروديت. يا سبوروس يا لوسيوس، ما تلك الأصوات؟ ألم أقل لكم
إن السبيل غير مأمونة؟ (يظهر جند على رأسهم
ضابط).
أيبافروديت
:
الأوْلَى أن تتمارض وأن لا تجيب إذا سُئِلت.
ضابط
:
أيها المجدون في السير من أين وإلى أين؟
أيبافروديت
:
من نابلي إلى رومه.
ضابط
:
إذن تجهلون ما حدث في المدينة المقدَّسة.
أيبافروديت
:
لم نبلغها بعد فنقف على أخبارها.
ضابط
:
لقد سقط نيرون الظالم، ونُودِي بالأمير غالبا إمبراطورًا.
أيبافروديت
:
وماذا وقع للإمبراطور القديم؟
ضابط
:
فرَّ وها نحن نقتفي أثره لننفِّذ فيه حكم مجلس الشيوخ (نيرون يرتجف) مَن هذا الذي معكم؟
أيبافروديت
:
هو أبي شيخ أدركه المرض، فوقفنا به قليلًا ريثما يفيق من غشيته.
ضابط
(يدنو منه)
:
إنه مقنع.
أيبافروديت
:
أمرَنا الطبيب ألَّا نعرضه للضوء والهواء.
ضابط
:
إذا عثرتم بنيرون فاقبضوا عليه، وإذا قاومكم فاقتلوه فقد أُهْدِر دمه، وجُعِلَت
لمن يقطع رأسه جائزة عشرة آلاف درهم.
معتق
:
عشرة آلاف درهم؟
ضابط
:
أليست جائزة حسنة؟ لعلك تفوز برأسه وتستحق الجائزة. والآن أودِّعكم.
أيبافروديت
:
مع السلامة (ينصرف الضابط
والجند).
معتق أول
:
جائزة عشرة آلاف درهم؟
معتق ثانٍ
:
إنها جائزة حسنة، ولكن أنَّى لنا أن ننالها؟
معتق أول
:
الأمر سهل.
لوسيوس
(الذي كان يتسمَّع إلى حديثهما)
:
حذار أيها الدنيئان أن تفكرا في شيء من ذلك، فإننا نحمي قيصر للَّحظة
الأخيرة من حياتنا.
نيرون
(ينهض)
:
أيبافروديت.
أيبافروديت
:
مولاي!
نيرون
:
إن الشوك أدمى قدمي، وتلك الحفر التي أقع فيها دقَّت مفاصلي دقًّا. وها هي
ملابسي قد تمزَّقت من أغصان الشجيرات النامية على جانبي الطريق.
أيبافروديت
:
أسمعت حديث الضابط؟
نيرون
:
سمعت كلَّ شيء وأرى الموت أفضل لي من الحياة.
أيبافروديت
:
لقد بَلغْنَا فاون حيث يمكنك أن تستريح من وَعْثاء السفر. سأدخل الدار فأفحصها
لعلها لا تليق بإقامتك أو لعلَّ بها مانعًا.
نيرون
:
افعلي ما بدا لك (يدخل الجميع ما عدا نيرون
وأكتيه)، (نيرون مستطردًا) لقد دخلوا جميعًا وتركوني
وحيدًا.
أكتيه
:
تشجَّع يا مولاي ها أنا بجانبك.
نيرون
:
ماذا أرى هناك في ظلِّ الجبل؟
أكتيه
:
لا شيء.
نيرون
:
ها هي أمي، إنها تناديني ألا تسمعين صوتها؟
أكتيه
:
لا أرى شبحًا ولا أسمع صوتًا.
نيرون
:
لقد رمتك الآلهة بالعمى والصمم. وهذا بريتانيكوس يحاول الصعود على العرش.
وها هي بوبيا، لقد حضروا جميعًا إلى هذا المكان ليزيدوه إيناسًا أو وحشة …
أوكتافيا أوكتافيا أيضًا يحييها سنيكا ويبتسم، يا لك من حكيم جاهل!
أكتيه
:
مولاي.
نيرون
(يفيق)
:
أكتيه أريد جرعة ماء.
أكتيه
:
لا ماء في هذا المكان.
نيرون
:
أرى الماء في تلك البركة.
أكتيه
:
إنه ماء آسن لا يصلح للشرب.
نيرون
:
لا بدَّ لي من الماء … إن في جوفي نارًا مشتعلة (يُلقِي بقَبَائه ليَقِي أقدامه فعل الشوك، ثم ينبطح ويأخذ الماء بكفه ويشرب
ثم ينهض، وينظر إلى السماء ويستطرد قائلًا) هذا آخر عهد نيرون
بالشراب (يجلس ينقى قَبَاءه من
الشوك).
أيبافروديت
:
مولاي!
نيرون
(بانزعاج شديد)
:
ما وراءك … لقد أزعجتني … إنني فقدت شجاعتي وأصبحت أخاف من لا
شيء.
أيبافروديت
:
إن الغرف مغلقة ولا يمكن الدخول إليها.
نيرون
:
إذن لا سبيل إلى البقاء.
أيبافروديت
:
لا بدَّ لنا من البحث عن مخبأ آخر (يظهر
سبوروس).
سبوروس
:
مولاي!
نيرون
:
ما وراءك يا أخي؟
سبوروس
:
منشور من فاون.
نيرون
:
اقرءوا ما به.
سبوروس
:
لقد أعلن مجلس الشيوخ أنك عدوُّ الوطن، وأن البحث عنك متواصل ليوقعوا بك
عقاب الخونة.
نيرون
(ينهض)
:
عقاب الخونة بي أنا كلوديوس قيصر؟
سبوروس
:
ما أنت بكلوديوس قيصر، إنما أنت دومتيوس أينوباربوس، خائن للوطن ومحكوم
عليك بالإعدام كما يُعدَم الخونة!
نيرون
:
وكيف يُعدَم الخونة في قانون الرومان؟
سبوروس
:
يُطاف بك في الأسواق والميادين عاريًا، ثم تجلد حتى تموت.
نيرون
:
لا أزال قادرًا على الفرار، أسافر إلى غابة لاريس، فإذا بلغتها دنوت من
بحيرة متورن، ومن هناك أُبحِر في سفينةٍ ما إلى صقلية أو مصر.
سبوروس
:
ومن ذا الذي يسهِّل عليك سبيل الفرار؟
نيرون
:
أنتم.
سبوروس
:
كلا لن تفر ونحن نضيِّق عليك الخِناق.
نيرون
:
ولماذا؟
سبوروس
:
لنسهِّل عليك الموت.
نيرون
:
الموت؟ إذن كلكم تنتظرون موتي وترغبون فيه. لقد هجرني كل الناس. لقد تخلَّى
عني الأصدقاء والأعداء.
سبوروس
:
نعم كلنا نريد أن تموت وسنموت معك.
نيرون
:
إذا صدقتم فالموت أفضل … أيبافروديت… أكتيه … لوسيوس.
معتق أول
:
الأوْلَى لنا أن نربح الجائزة.
معتق ثانٍ
:
إنني لا أجرؤ على قتله، وأولى بنا أن نرشد عنه الباحثين (يجريان).
لوسيوس
:
إن هذين المعتقين لاذا بالفرار ليُرشِدا عنك الباحثين.
سبوروس
:
الأولى أن تعجِّل بالموت … إنك باخِعٌ نفسك لا محالة.
أكتيه
:
الأفضل لك يا مولاي أن تموت، تشجَّع!
نيرون
(يأخذ خنجرًا ويضعه على قلبه متردِّدًا)
:
أليس من العار أن أجبن عن قتل نفسي وقد لفَظَتْني الحياة؟ … لقد عشت عيشة
مشينة ولن أموت ميتة الجبناء. أيها الكون لقد أضاعوا عليك أعظم متفنِّن
(يسمع صوت خيل).
نيرون
:
أكتيه!
أكتيه
:
مولاي.
نيرون
:
أقسمي بالآلهة أنك لا تسلمين رأسي لأحد، وأن تحرقي جسدي قبل أن يدركه
العطب (يضع الخنجر على عنق نفسه. يدخل
سبوروس).
سبوروس
:
لما تمت بعد! ما أجبنك! (يضغط سبوروس على يد
نيرون فيغور الخنجر في عنقه، ويقع على الأرض ويحاول قطع النزيف، يدخل
قائد).
قائد
:
هذا نيرون! … لقد قتل نفسه.
نيرون
:
ألم تقسموا يمين الطاعة؟ (يقع
ميتًا).
قائد
:
لقد عفا عنه الإمبراطور الجديد.
أكتيه
:
لقد جاء العفو بعد الأوان.
(ستار)
(الأهرام في ١١ سبتمبر سنة ١٩١٨
الساعة ١٢ ونصف صباحًا
محمد لطفي جمعة)