النِّسْبيَّة
نشأت نظرية النِّسْبِيَّة من دراسة ما حدَث في المناطق التي تخلو من الإلكترونات والبروتونات؛ فلئن كانت دراستُنا للذرة قد انتهتْ بنا إلى أن الانتقال يكون على وثباتٍ لا اتصال بينها، فقد جاءتنا النِّسْبِيَّة بنظرية تجعل بين الطرفين طريقًا متصلًا، وما تزال هاتان الوجهتان من النظر متعارضتَيْن، لكني أحسب أنهما سيلتقيان عمَّا قريب؛ لأني لا أرى بينهما تناقضًا منطقيًّا، وكل ما يتطلبانه هو أن يجيء مَن يصل الواحدة منهما بالأخرى.
على أن ما تهتمُّ له الفلسفة في نظرية النِّسْبِيَّة هو تحطيم الزمان الواحد الذي يشمل الكون كلَّه، والمكان الواحد الذي لا يطرأ عليه تَغيُّر أو زوال، فالنِّسْبِيَّة تَستبدِل بالزمان والمكان المُطلَقَين شيئًا واحدًا يمزج بينهما نُسميه «الزمان–مكان»؛ ولهذا التغير أهميته العظيمة؛ لأنه يُغيِّر فكرتنا عن العالَم الطبيعي من أساسها، كما أنَّ له — فيما أظن — أثرًا على علم النفس؛ وإنه لَعبث من الفلسفة المعاصرة أن تمضي في حديثها دون أن تقف عند هذا الوضع الجديد، وسأحاول شرحه الآن بقدر المستطاع.
الإدراك الفطري وعلم الفيزياء فيما قبل نظرية النِّسْبِيَّة كلاهما يعتقد أنه إذا حدث حادثان في مكانين مختلفين، فلا بد أن يكون هناك جواب حاسم لهذا السؤال: هل حدث الحادثان معًا في وقت واحد؟ لكنه قد تبيَّن أن مثل هذا الاعتقاد يقوم على أساس خاطئ، فافرض وجود شخصين «أ» و«ب» في نقطتين بينهما مسافة بعيدة، لدى كل منهما مرآة وطريقة يرسل بها إشارات ضوئية إلى زميله؛ فالحوادث التي تحدث للشخص «أ» سيكون لها بغير شك ترتيب زمني معلوم، وكذلك الحوادث التي تحدث للشخص «ب»، لكن الصعوبة تنشأ عندما نحاول ربط الترتيب الزمني عند «أ» بالترتيب الزمني عند «ب»؛ فلنفرض أن «أ» سيرسل إشارة ضوئية إلى «ب» ستعكسها المرآة التي عند «ب» ثم تعود بعد زمن مُعيَّن إلى «أ»، وإذا فرضنا أن «أ» على الأرض وأن «ب» في الشمس، كان هذا الزمن طوله ١٦ دقيقة، فترانا عندئذٍ نقول إن الزمن الذي استغرقَتْه الإشارة في طريقها الأول من «أ» إلى «ب» هو نصف مجموع الزمن الذي تستغرقه في ذهابها وعودتها، غير أن الأمر ليس بهذه البساطة كلِّها؛ لأنه متوقف على تحرك «أ» و«ب» بالنسبة أحدهما إلى الآخر؛ لهذا كان كل ما حدث للشَّخص «أ» بعد إرساله للإشارة الضوئية وقبل أن تصل عائدة إليه، ليس هو على وجه التحديد قبل ولا بعد ولا مُتآنٍ مع حادث وصول الإشارة إلى «ب»، فتستحيل المقارَنة بين التتابع الزمني في المكانين المختلفين.
وكذلك قُل في فكرة «المكان» وغُموض معناها، فهل نعد مدينة لندن مكانًا؟ إذا أجبت بالإيجاب؛ كان الاعتراض هو أن الأرض تدور حول الشمس، وبهذا يتغير مكان لندن كلما تحركت الأرض في مدارها؛ فهل تعدُّ الشمس مكانًا ولكنها تتحرك بالنسبة إلى النجوم؛ وهكذا ترى أن منتهى ما تستطيعُه هو أن تتحدث عن مكان ما في لحظة زمنية معيَّنة، وها هنا يصدمك الغموض الذي يكتنف فكرة «الزمن» اللهم إلا إذا حدَّدت نفسك بنقطة مكانية واحدة، وهكذا تتبخر فكرة المكان المُطلَق الشامل.
إنه لَمِن الخطأ أن نتحدث عن الكون كله فنقول إنه يكون في حالة معيَّنة عند لحظة زمنية مُعيَّنة، وفي حالة أخرى عند لحظة زمنية أخرى، كأنما اللحظة الزمنية الواحدة تشمل الكون بأسره، أو كأنما الكون كله يَتآنى معًا في لحظة بعينها. وهذا هو ما أشَرْنا إلى موضع الخطأ فيه، وكذلك محال علينا أن نتحدث — إلا بصُورة غامضة — عن المكان الكائن بين جسمين في زمن مُعيَّن؛ لأننا إذا أخذنا الترتيب الزمني لما يطرأ على الجسم الأول من أحداث؛ كان لدينا بهذا ترتيب زمني خاص بهذا الجسم وحدَه، وإذا أخذنا الترتيب الزمني لما يطرأ على الجسم الثاني من أحداث؛ كان لدينا بهذا أيضًا ترتيب زمني خاص بالجسم الثاني وحده، وليس في مقدورنا بعد ذلك أن نعرف العلاقة بين حدث يحدث في الجسم الأول وحدث يحدُث في الجسم الثاني، من حيث زمن وقوعهما بالنسبة أحدهما إلى الآخر؛ أهو قبله أم بعده أم إن الحدثين متآنيان؟ وهذا هو ما يجعل قانون الجاذبية النيوتوني غامضًا غموضًا استوجب مراجعتَه من جديد.
ويترتب على التغير الذي طرأ على تصورنا للطبيعة، تغيُّر مقابل له طرأ على الهندسة؛ فقد كان المفروض في الخط المستقيم — مثلًا — أنه مسار معين في مكان موجود بأجزائه كلها في آنٍ واحد، لكننا سنرى أن ما يبدو خطًّا مستقيمًا لمُشاهد، لا يكون كذلك بالنسبة لمشاهد آخر، وإذا كان «العقل» الإنساني هو الذي يجعل الخط المستقيم على استقامته المفروضة؛ فليس حتمًا أن يكون المشاهد «عقلًا»، بل قد يكون لوحة فوتوغرافية، وعندئذٍ يخضع المشاهد لقوانين علم الفيزياء لا لقوانين علم النفس.
ومصدر الخطَأ والخَلط والارتباك هو افتراضُنا بأن الوجود قوامه «أجسام» تتحرك في المكان؛ ولا سبيل إلى النجاة إلا أن نبدأ النظر من وجهة جديدة، فنجعل الوجود «أحداثًا» لا «أجسامًا» فلمعة البرق حادثة، وانتقال موجة ضوئية من الذرة حادثة، ووصول الموجة الضوئية إلى نقطة مكانية أخرى حادثة وهلم جرًّا، وبهذا يصبح أي شيء مصدر أحداث تخرج منه وملتقى أحداث تصل إليه، ويكون في هذه الحالة عبارة عن خيطٍ من الحوادث أو شبكة من خيوط الحوادث؛ أي إن الشيء في هذه الحالة يصبح تاريخًا، ولا تكون وحدته إلا وحدة تاريخية لحدوث الأحداث التي هي قوامه؛ أي إن وحدة الشيء تكون عندئذٍ كوحدة النغم الذي يتطلب عزفه فترة من الزمن، فلا يكون النغم كله موجودًا في آنٍ واحد، على أن تتابع أجزائه أو أحداثه لا تنفي وحدتَه.
والفجوة التي تقع بين الحادثتَيْن المتجاورتين هي شيء موضوعي؛ أي إن تقديرها الكمي أمر مستطاع لأكثر من مشاهِد واحد؛ فالجسم الواحد الذي ينتقل من إحدى حوادثه إلى حادثة تالية من حوادثه، يقطع بين الحادثتين فجوة زمنية يمكن قياسها بآلة قياس الزمن لو أنَّ هذه الآلة أُتِيح لها أن تصاحب الجسم في انتقاله من الحادثة السابقة إلى الحادثة اللاحقة، أما إذا كان الموقف بين الحادثتين ممَّا يستحيل معه على آلة قياس الزمن أن تنتقل من إحداها إلى الأخرى، كان معنى ذلك أنهما حادثتان مُتآنِيَتان لا يفصِلُهما زمن بل تفصلهما مسافة من مكان.
وإذا أردنا أن نحدِّد موضع حادثة ما من العالم؛ احتجنا في هذا التحديد إلى أربعة أرقام، رقم منها يدل على الزمن، وأما الأرقام الثلاثة الأخرى فهي الدالَّة على الأبعاد الثلاثة المكانية كما كانت تُحْسَب قديمًا، فافرض — مثلًا — أن طائرة حدث لها حادث، ثم أردنا تحديد موضع هذا الحادث من العالَم الخارجي، فعندئذٍ يلزمنا أربعة أرقام؛ خط الطول وخط العرض والارتفاع عن سطح البحر، ثم الزمن مقيسًا بالوقت في جرينتش.
لقد أسلفت لك القول بأن الجسم من الأجسام لم يعُدْ في علم الفيزياء الحديثة إلا خيوطًا من حوادث متعاقبة أو متآنية، وأحب هنا أن أضيف أنه ما كل خيط من خيوط الحوادث يُنشئ جسمًا نستطيع أن نصفه بالحركة من مكان إلى مكان؛ بل إن هنالك من خيوط الحوادث ما يكوِّن أجسامًا ومنها ما لا يكوِّن أجسامًا، وستكون التفرقة بين النوعين موضوع حديثنا في الفصل الآتي.
لكننا ها هنا — على سبيل التمهيد لقبول الآراء الجديدة في طبيعة الأجسام — يجدر بنا أن نتناول خيالنا بشيء من التدريب على وجهة النظر الجديدة؛ لكي يسهل علينا بعدئذٍ أن نطَّرِح فكرتنا القديمة عن المادة، وهي أنها شيء فيه صلابة وتماسك؛ فنحن بطبيعتنا أميَل إلى تصور الذرة على نحو ما نتصور كرة البلياردو، والأصوب أن نتصورها أقرب إلى الشبح الذي ليس له شيء من تماسُك المادَّة، ومع ذلك فهو ذو وجود يكفل له أن يُحفِّزك إلى الفرار؛ نعم إنه لا بُدَّ من تغيير فكرتنا عن المادة وعن السَّبَبيَّة؛ فإذا قلنا عن الذرَّة المادية إنها موجودة، كان ذلك مماثلًا لقولنا عن اللَّحن إنه موجود؛ فهل يطوف ببالنا عن اللحن الذي يستغرق عزفه خمس دقائق أنه كيان قائم بأكمله في كل لحظة من تلك الفترة أم نتصوره سلسلة نغمات يتصل بعضها ببعض على نحوٍ يجعل منها شيئًا واحدًا دون أن يكون ذلك الشيء الواحد متشيِّئًا مجسمًا؟ هكذا نريد لك أن تتصور أي شيء — هذه المِنْضَدة مثلًا — على أنه سلسلة من الأحداث يستغرق حدوثها زمنًا، ومع ذلك فتظل لها وحدتها بحكم نوع العلاقات التي تربط الأحداث، وكل الفرق بين اللحن والمِنْضَدة هو أن الوحدة التي تربط أجزاء اللحن وحدة جمالية، والوحدة التي تربط أجزاء المِنْضَدة وحدة سببية.
وإذا قلت «سببية» فإنما أعني شيئًا مختلفًا عمَّا تعوَّدْنا فَهْمَه من هذه الكلمة؛ فقد تَعوَّدنا أن نفهم السبب على أنه شيء له من «القوة» ما يلزم بها المسبَّب بالحدوث، لكن الفكرة تغيَّرت، فلم يَعُد في الطبيعة إجبار ولا قوة ملزمة، كنا نتصور هذه القوة على صورتين، فإما أن يلامس جسم جسمًا فيؤثِّر فيه كما تُلامِس كرة مُتحرِّكة كرة ساكنة فتحركها، وإما أن يكون الجسمان على مَبعَدة لا يتماسَّان، لكن أحدهما يفعل فعله السببي في الآخَر كما يحدث في الجاذبية حين تؤثِّر الشمس في الأرض، أو تؤثِّر الأرض في القمر وهلم جرًّا، لكن الصورة تبدلت، وأصبح كل ما هنالك من علاقة بين الأحداث هو التتابع الملحوظ بين حادثتين متجاورتين، فحادثة تقع في لحظة ما، وأخرى تقع في اللحظة المجاورة اللحظة الأولى، على أن هذه الأخيرة يكون حسابُها بالنسبة إلى الأولى، وبهذا التتابع من الحادثة المعينة إلى جارتها تنشأ خيوطُ الحادثات التي نسميها أجسامًا، فالخلاصة هي أن أية قطعة مادية عبارة عن خيوط من أحداث بينها علاقة سببية، على أن تفهم السَّبَبيَّة بمعنى التجاور الذي يطرد ويمكن حسابه، فيكون لدينا من هذا التجاور المحسوب ما نسمِّيه بالقوانين الطبيعية، على أني سأعود إلى تناول هذا الموضوع في شيء من الإسهاب في الفصول التالية.