القوانين السَّبَبيَّة في علم الطبيعة
تحدثنا في الفصل السابق عن إحلال فكرة «الزمان–مكان»، محل الزمان والمكان باعتبارهما حقيقتين منفصلة إحداهما عن الأخرى، وعن النتيجة التي تترتب على هذا التغيير، وهي أن نستبدل «بالأشياء» المتجسدة التي نتصورها وكأنما هي مواد لها صلابة؛ خيوطًا من أحداث، وسنتحدَّث في هذا الفصل عن السبب والمسبَّب — كما يُفهَمان على ضوء العلم الحديث؛ فقد كان الرأي القديم عن السبب — في علم الديناميكا مثلًا — هو أنه «قوة»، وما زلنا نتحدث عن القوى دون أن نعني بالكلمة معناها القديم، كما لا نزال نتحدث عن شروق الشمس رغم علمنا أن الشمس لا تُشرق، وإنما هي الأرض التي تدور؛ فلا ينبغي أن نخلط بين الطريقة التي ما زلنا نتحدث بها، وبين ما نعلمه عن حقائق الطبيعة.
وفكرة السَّبَبيَّة عميقة الجذور في طريقة تعبيرِنا اللغوي وفي إدراكنا الفطري للظواهر؛ فترانا نقول عن الناس إنهم يُشيِّدون المنازل ويُعبِّدون الطرق، عندما نريد أن نقول إن الناس سبب والمنازل والطرق مُسبَّبات لذلك السبب، وكذلك ترانا نقول عن شخصٍ معيَّن إنه «قوي» حين نعني أن إرادته سببية على نطاق واسع، وترانا إزاء المواقف السَّبَبيَّة نفرق بين نوعين: فنوع تكون العلاقة السَّبَبيَّة في رأينا أمرًا طبيعيًّا لا يحتاج إلى تفسير، ونوع آخر لا تبدو لنا هذه العلاقة فيه على هذه الصورة الطبيعية فنحتاج إلى تفسير يعلِّلها، فإذا حركت ذراعي بإرادتي لم تكن العلاقة السَّبَبيَّة هنا بين الإرادة وحركة الذراع أمرًا يدعو إلى التساؤُل، كذلك من الأمور الطبيعية التي لا تُثير فينا التساؤل أن نضرب كرة بالعصا فتتحرك الكرة، أو أن نرى حصانًا يجر عربة فتتحرك، أو أن نجر حملًا ثقيلًا بحبل فيتحرك … كل هذه أمثلة لأسباب ومسبَّبات نراها طبيعية، فلا نطالب بما يفسرها كأنما نحن على علم واضح بعلة الحدوث، وهي هي بعينها الأمثلة التي ألقت في روعنا أن ثمة بين الحوادث ارتباطًا سببيًّا، وأن هنالك من القوى ما يجعل شيئًا يُحدِث شيئًا.
هكذا ننظر إلى العالم وظواهره بإدراكنا الفِطري، لكن العالم أكثر تعقيدًا فما يبدو؛ وحقيقة الأمر هي أن هنالك ضربًا من التتابُع في الحوادث اعتدناه في غضون التجارب الماضية حتى اعتدنا أن نتوقع الحلقة اللاحقة إذا شهدنا الحلقة السابقة؛ فقد اعتدنا أن نرى ضربة الكرة بالعصا تتبعها حركة الكرة، حتى إذا ما شهدنا بعد ذلك عصًا تضرب كرة توقعنا حركة الكرة؛ كأنما هنالك بين الطرفين «ضرورة» تحتِّم أن يجيء اللاحق تابعًا للسابق، وإذا وضَعْنا هذا في صورة رمزية قلنا إننا إذا عرفنا أن «أ» تُسبِّب «ب» كان معنى ذلك عندنا أن «ب» تتبع «أ» بالضرورة المحتومة، لكن فكِّر في الأمر، تجد أن هذه «الضرورة» المزعومة ليست مما تشاهده الحواس بين ما تشاهده من ظواهر العالم الخارجي، وكل ما يُشاهَد هو أن حدوث الأحداث يتمُّ على اطراد معيَّن نصوغُه في قوانين، غير أن هذه القوانين تظل بغير تبرير؛ إذ ليس هنالك ما يحتم أن يكون ترتيب الحوادث على هذا النحو الذي شاهدناه، سوى أننا قد وجدناها هكذا، وكان يمكن أن تكون غير ذلك.
فقولك إن «أ» تتبعها «ب» بالضرورة لا ينبغي أن يزيد معناه على أن كل الأمثلة التي وقعت لك في مجال الخبرة دلَّت على أن «أ» تتبعها «ب»، فلا «إلزام» هناك، وليسَ في السبب ما «يستوجب إلزامًا» أن تتبعه النتيجة؛ ولكي تتصور الأمر على حقيقته فاقلب الوضع نتيجة لسبب؛ إذ في مقدورنا دائمًا أن نسير في العملية الاستدلالية من النتائج إلى أسبابها تمامًا كما نسير من الأسباب إلى نتائجها؛ فإذا جاءك خطاب؛ كنت على حق في استنتاجك بأن شخصًا ما كتب هذا الخطاب، لكنك في الوقت نفسه لا ترى أبدًا أن وصول الخطاب إليك هو الذي قد «ألزم» كاتبه أن يكتبه؛ فكما أن فكرة الإلزام لا تنطبق في حالة الانتقال من النتيجة إلى سببها، فكذلك هي لا تنطبق في حالة الانتقال من السبب إلى نتيجته؛ أي إن قولنا: إن السبب قد استلزم حدوث النتيجة قول مضلِّل تضليل قولنا: إن النتيجة قد استلزمت سببها؛ والحق أن فكرة الإلزام هذه إنما نشأت حين خلع الإنسان شخصيته على الأشياء؛ فحين يكون الإنسان مضطرًّا إلى أداء عمل معين لا يتفق مع رغبته، قلنا إنه «مُلْزَم» بذلك الأداء، لكنه إذا ما أدَّى العمل الذي ينبعث من رغبته؛ أصبحت فكرة الإلزام غير ذات معنًى بالنسبة إلى الإنسان نفسه، وإذن فمعنى الإلزام لا يتوافر إلا إذا كانت هنالك رغبة ما وكان على صاحب الرغبة أن يقاومها، أما وعالَم الطبيعة خالٍ من الرغبات؛ فهو بالتالي خِلوٌ من الإلزام؛ هذا إلى أن العلوم إنما تُعنى بما يَحدُث فعلًا في الطبيعة، لا ما «يجب» أن يحدث.
وإن الإدراك الفطري عند الإنسان ليخطئ في نظرته إلى تتابع أحداث الطبيعة وما يزعمه له من ضرورة محتومة؛ فبالإدراك الفطري يقول الإنسان إن رؤية البرق يتبعُها صوت الرعد، وإن هبوب الريح يتبعه اضطراب موج البحر وهكذا، لكن هذه القواعد وأمثالها إن صلحت للحياة العملية، فهي عند العلم لا تزيد على أقوال تقريبية تنقصها الدقة؛ ذلك لأن السبب ونتيجته إن كانا يتعاقبان على الزمن، فهنالك بينهما فترة مهما قلَّت في قصرها فهي على كل حال فترة ذات طول زمني معيَّن، وهنالك احتمال أن تحدث خلال هذه الفترة ما يحول دون أن تظهر النتيجة تابعة لسببها؛ على أنه كلما كانت الفترة بالغة في القصر، وكانت النتيجة أشد التصاقًا بسببها، قلَّ ذلك الاحتمال بطبيعة الحال؛ خذ هذا المثل: ها أنا ذا الآن جالس في غرفتي، فهل تستطيع أن تقول ماذا سيحدث لي بعد ثانية من الزمن؛ كلا لست تستطيع أن تقطع بالقول على وجه اليقين؛ إذ ما الذي يمنع أن تنفجر قنبلة فيحدث لي ما يحدث من تمزيق أو من ارتفاع إلى أعلى وهكذا، لكن خُذْ قطعتَيْن صغيرتين متجاورتين متلاصقتين من جسمي، يكن حكمك قريبًا من اليقين إذا قلت إنهما سيظلان على تلاصُقهما وتجاورهما بعد ثانية من الزمن، وإذا كانت الثانية الزمنية أطول أمدًا من أن تبيح مثل هذا الحكم القاطع، فلك أن تُقصِّرها، وهكذا — كما أسلفنا لك القول — كلما صغُرت الفترة بين السبب والنتيجة، وكلما قصرت المسافة المكانية بين النقطتين؛ كان الأرجح جدًّا أن تتبع النتيجةُ سببَها، أو الحالة اللاحقة سالفتها.
لقد استطاع الإنسان أن يتخلَّص من فكرة «الإلزام» أو «القوة» أو «الضرورة» بالنسبة إلى أجرام السماء في حركاتها، فلم يَعُد يقول إن شيئًا يُلزم الجرم الفلاني بالحركة على نحو ما يتحرك، بل يقول إن هذه هي طبائع الأشياء، وأما بالنسبة إلى الحوادث على الأرض فما يزال الإنسان متأثرًا بفكرة الضرورة المُلزِمة بين السَّبَب ونتيجته؛ لأنه يرى نفسه يدفع الأشياء ويجرُّها ويلمسها، وهو في هذا كله يبذل جهدًا عضليًّا فيحسب عندئذٍ أن بذل «القوة» أمر لا بد منه لكي يستتبع السبب نتيجته، ثم ينقل هذا التصور إلى الأشياء فيتصوَّرُها تدفع بعضها بعضًا وتؤثر بعضها في بعض ممَّا يستوجب قوة كالقوة البشرية التي بذَلَها عندما نفذ إرادته في أفعاله، لكن إذا أراد الإنسان أن يفهم كيف تتلاحق الحوادث وكيف تتحرَّك الأجسام في الطبيعة دون حاجة إلى افتراض قوة تلزمُها بذلك، فلينظر — مثلًا — إلى الأجرام السماوية منعكسة على سطح مرآة؛ فعندئذٍ سيرى صورَها تتحرك في المرآة، ولن يجد في نفسه ما يميل به إلى افتراض قوة دافعة بين تلك الصور … فعلى هذا النحو ينبغي له أن يتصور أحداث الطبيعة.
الموقف الصحيح — إذن — هو أن نستلَّ «القوة» من القوانين الطبيعية، لنحل محلها مجرد الارتباط، فما لوحظ مرتبطًا من الحوادث جَعلناه قانونًا؛ ذلك أن الحوادث تحدث جماعات جماعات، كل مجموعة منها بينها ارتباطٌ، وهذا الارتباط بين مجموعة معيَّنة من الأحداث هو الذي يجعل منها «شيئًا» معيَّنًا، وقد نجد أنفسنا على استعداد فطري أن نقول عن شعاع الضوء إنه مجموعة أحداث تتلاحق مترابطة على نحو معيَّن، على حين نتصور الإلكترون كائنًا مفردًا ذا كيان قائم بذاته. والواقع ألَّا فرق من حيث الأساس بين الإلكترون وشعاع الضوء، فكلٌّ منهما خيط من حوادث ارتبطت وتلاحقت على صورة معينة، ومجموعات الحوادث المترابطة على هذا النحو هي المادة، كما تقع لنا في معرفتنا؛ فإن كانت لها حقيقة ذاتية وراء هذه الأحداث التي نتلقَّاها، كان ذلك ممَّا يستحيل على الإنسان معرفته.
وربما ازددت وضوحًا في عرض الرأي الذي أعرِضُه إذا سُقت بعض الأمثلة ممَّا يظن الناس أن صدقه بديهي وهو في حقيقة الأمر — أو هو في رأيي على الأقل — باطل أو يؤدي إلى البطلان؛ فمن ذلك مثلًا قولهم إننا لا نستطيع أن نتصور الحركة بغير وجود «شيء» يتحرك، ولو صحَّ قولهم هذا لأبطل زعمنا بأن الشيء هو مجموعة أحداثه؛ لأن المعترض عندئذٍ سيقول إن هذه الأحداث لا يمكن تصوُّرُها بغير «شيء» تطرأ عليه تلك الأحداث، لكنه قول خاطئ، فها هي ذي المسرحية أو المقطوعة الموسيقية — مثلًا — نتحدث عن «الحركة» فيهما دون أن يكون هنالك «شيء» بذاته يتحرك؛ إذ ليس هنالك الموجود ذو الكيان الكامل الذي يوجد في كل لحظة من لحظات الأداء، حيث نقول عنه إنه هو الذي يتحرَّك خلال المسرحية أو المقطوعة الموسيقية، وهكذا ينبغي لنا أن نتصور العالَم الطبيعي، فكل ما فيه خيوط من أحداث يرتبط بعضها ببعض على نحو مُعيَّن، وهو الارتباط الذي نَصِفه بأنه الرِّباطُ السببي بينها، ويكون لكل خيط من خيوط الأحداث من الوحدة ما يُبرِّر لنا أن نطلق عليه اسمًا واحدًا دالًّا عليه، وبمجرَّد إطلاقنا اسمًا واحدًا على مُسمَّاه، ترانا نبدأ في الانزلاق إلى الخطأ؛ إذ نقول لأنفسنا ما دام الاسم واحدًا، فالمسمَّى كذلك لا بُدَّ أن يكون «شيئًا» متعينًا بذاته لا مجموعة أحداث مترابطة، وحين نرى مجموعة الحوادث غير منحصرة في مكان واحد، نقول عن «الشيء» المزعوم إنه «تحرَّك»، لكن إن كان هذا الأسلوب في التحدُّث عن الأشياء نافعًا ومفيدًا في التفاهم بين الناس، لما فيه من إنجازٍ واختزال عند التحدث عن العالم الطبيعي وحوادثه، فلا يجوز أن نعمى عن حقيقة الأمر بسبب الضرورة اللغوية التي تضطرنا إلى تخصيص كلمة واحدة لمجموعة بأَسْرها من أحداث. انظر — مثلًا — إلى شاشة السينما عندما يُعرض عليك فيها رجل يسقط من عمارة عالية، فيمسك بسلك التلغراف وهو في طريق سقوطه فيقع على الأرض سليمًا؛ ستقول عندئذٍ إن «شيئًا» واحدًا تحرَّك من مكان إلى مكان بطريقة معيَّنة، ولكنك تعلم أن حقيقة الأمر هي عدد كبير من الصور الفوتوغرافية تلاحقَتْ وترابطَتْ على النحو الذي خدَعك وأوهمك بوحدانية الجسم الساقط وحركته وطريقة سقوطه، وهكذا العالَم الطبيعي: أحداث تترابط عقودًا عقودًا فَنتوَهَّمها «أشياء» تتحرك.
مصدر الخطأ هو خلطنا الشديد بين ما يقع لنا في خبرتنا المباشرة فعلًا وبين ما «نظن» أنه يقع لنا في الخبرة مع أنه في الحقيقة نتيجة نصل إليها بالاستدلال الذي قد يخطئ وقد يصيب. فافرض — مثلًا — أني أنظر إلى هذه المِنْضَدة التي أمامي، فعندئذٍ تكون الخبرة المباشرة هي هذه اللمعة الضوئية المُعيَّنة التي ترِدُ إلى عيني، فإذا غادرت الغرفة لحظة ثم عدتُ إليها وعاودتُ النظر إلى حيث نظرت أول مرة؛ فعندئذٍ تراني أظنُّ أني أنظر إلى نفس المِنْضَدة التي نظرتُ إليها أول مرة. وأظن أن «الخبرة» الحسية هي هي واحدة في الحالتَيْن، لكن دقق النظر تجد هنالك خبرتَيْن حِسِّيتين؛ بالأولى جاءتك لمعة ضوء، وبالثانية جاءتك أيضًا لمعة ضوء، ثم أنبأتْك الذاكرة وأنت إزاء الخبرة الثانية أن هذه اللمعة الضوئية شبيهة كلَّ الشبه باللمعة الضوئية التي خَبرْتَها منذ حين، ولِشدَّة الشبه بينهما تقول إنهما خبرة واحدة، والذي يوضح لك في جلاء أنهما خِبرتان هو أن تستخدم آلة فوتوغرافية بدل عينيك، فعندئذٍ ستكون لديك صورتان لا صورة واحدة؛ فما الذي يجعلك تقول إنها هي المِنْضَدة بعينها في كلتا الحالتين؟ الذي يجعلك تقول هذا هو أنك «تستدل» من التشابه الشديد أن الثانية هي نفسها الأولى، ولكن ألا يجوز أن تكون المِنْضَدة الأولى قد اسْتُبْدِل بها مِنْضَدة ثانية شبيهة بها كلَّ الشبه في الحالة الثانية، وعندئذٍ يكون استدلالك خاطئًا؟ … ربما سألتني: ماذا تريد أن تقول؟ أتريد أن تقول إن الشيء الخارجي لا يدوم له بقاء، وأنه مجزأ بعدد خبراتنا الحسية به كما يتجزأ صورًا عدة على شريط السينما؟ وجوابي على ذلك أني لا أدَّعي العلم إن كان الشيء الخارجي يدوم بقاؤه أو لا يدوم. ولست أنا في حاجة إلى هذا الادعاء، إذا استطعت تفسير خبرتي الحسية مستغنيًا عن هذا الفرض — فرض دوام وجود الشيء الخارجي — فما الذي يضطرني إليه؟
نريد — إذن — أن نقتصر على خبراتنا الحسية وما تجيء به، فإذا لم يكن بين هذه الخبرات خبرة مباشرة بما يُسمَّى «قوة» فلا داعي لافتراضها عند تفسير الطبيعة وظواهرها؛ إنها أحداث تتلاحق وتترابط مجموعات مجموعات؛ فإذا اطَّرد حدوث مجموعة منها؛ كان ذلك واحدًا من قوانين الطبيعة، فالأمر كله حوادث وارتباطها بالتجاور، ولا شيء غير ذاك في علمنا إلا ما نتبرع به ظنًّا ووهمًا؛ فإذا اعترض علينا معترضٌ بأن «القوة» الرابطة بين السبب ونتيجته هي ممَّا يرِدُ في خبراتنا، أجبناه بأنه يخلط بين ما «يَخْبُرُه» وبين ما «يستدله»؛ إنه قد يرى الريح تقتلع الشجرة، فيظن أنه قد رأى بعينيه «القوة» التي فعلت بها الريح ما فعلت، لكنه أحسَّ الريح وأحس الشجرة تُقتلع، ثم «استدل» من عنده «قوة»؛ لأنه يميل بفطرته أن يسأل «لماذا». على حين أن النظرة العلمية تسأل كيف ولا تزيد على ذلك؛ إننا لا نلاحظ إلا الأحداث في تتابعها المطرد، ومن اطِّراد التتابع تتألَّف القوانين الطبيعية، أما «لماذا» كانت هذه القوانين على نحو ما كانت؟ فشيء لا يأتي بين ما يأتينا عن طريق الخبرة الحسية، ولو حاولنا تعليل القوانين بقولنا «لماذا» لاحتاج التعليل إلى تعليل، وهذا إلى ثالث وهلم جرًّا، وعندئذٍ نكون كالهندي الذي سأل «لماذا» لا تسقط الأرض في الفضاء؟ وأجاب نفسه بقوله: لأنها تستندُ إلى فيل، ثم سأل مرة أخرى: ولماذا لا يسقط الفيل في الفضاء؟ وأجاب نفسه بقوله: لأنه بدوره يستند إلى سلحفاة، لكنه سُئل ولماذا لا تسقط السلحفاة في الفضاء؟ فأخذَتْه الربكة، وقال إنه قد مَلَّ البحث الميتافيزيقي ولا يريد المُضِي فيه.
نريد أن نحصر أنفسنا في حدود الخبرة الحسية المباشرة دون أن نخلط بينها وبين ما نستدله منها، وعلينا بعد ذلك أن ننظر كيف يقوم علم الفيزياء على هذا الأساس وحده … ذلك ما سنتناوله في الفصل التالي.