علم الطبيعة والإدراك الحسي
كنا في الفصل الخامس قد عدَدْنا الإدراك الحسي ضربًا من «الحساسية» ثم عَرَّفنا الحساسية لإحدى ظواهر الطبيعة بأنها هي الاستجابة التي تتكرَّر كلما حدثَتْ تلك الظاهرة، وإن الحساسية بهذا المعنى لَتُوجد على أكمل درَجاتها في الأجهزة العلمية؛ إذ هي في هذه الأجهزة أدقُّ منها في الكائنات الحية، غير أن الجهاز العلمي يختلف في استجاباته عن الكائن الحي في أنه يستجيب لعامل واحد محدَّد، على حين يستجيب الكائن الحي لعدة عوامل دفعة واحدة؛ لذلك قلنا إن الإدراك الحسي عند الكائن الحي يختلف عن بقية أنواع الحساسية بعملية الترابط التي يربط بها شتى المنبِّهات، وهذه العملية الترابطيَّة هي ما يُسمَّى كذلك بقانون الأفعال المنعكسة المشروطة، وقد رأينا أيضًا أن معالَجة موضوع الإدراك الحسي من وجهة نظرٍ خارجية بحت تتضمن فرضًا سابقًا، وهو أننا على علم بالعالَم الطبيعي، وموضوعنا الآن هو أن نبحث هذا الفرض لنرى كيف نعرف الطبيعة، وإلى أي حد نستطيع معرفتها.
إننا ندرك الأشياء إدراكًا حسيًّا حتى حين لا تكون ملامسة لأجسامنا، والجانب الهام في عملية الإدراك الحسي هو الاستجابة التي نردُّ بها على ظاهرة مُعيَّنة من ظواهر البيئة الطبيعية، وقد تكون هذه الظاهرة بعيدة أو قريبة من جسم الشخص المدرِك لها بحواسِّه؛ فمثلًا نستطيع إدراك الشمس والنجوم؛ إذ كل ما يلزمنا للإدراك الحسي هو أن تكون هنالك علاقة مكانية بين أجسامنا من جهة وبين ظواهر البيئة من جهة أخرى، وأن تكون هذه العلاقة بحيث تمكننا من الاستجابة على المنبه؛ فلا بد أن نواجه الشمس لكي نراها، حتى إذا ما أدرنا لها ظهورنا لم تعد رؤيتها في حدود الإمكان.
ولا بد من ثلاثة أمور للبحث في موضوع الإدراك الحسي لحادثة خارجية: أولها هو ما يجري في العالم الخارجي في المسافة الواقعة بين الحادثة المدرَكة والجسم المدرِك، والثاني هو ما يجري في الجسم المدرِك بحيث يكون ظاهرًا لمن يريدُ أن يراه، والثالث هو الجانب الذي سنتناوله بالبحث بعد حين، وهو ما إذا كان في إمكان المدرِك أن يدرك بنفسه شيئًا ممَّا يجري في جسمه بحيث لا يستطيع أن يدركه معه سواه، وسنتناول هذه النقط الثلاث بهذا الترتيب.
إنه إذا كان في مُستطاع الشخص المدرِك أن يدرك حادثة لم تقعْ داخل جسمه هو، إذن لَتحتَّم أن تكون تلك الحادثة قد وقعتْ خارجه، ولَتحتَّم كذلك أن تتم عملية طبيعية في العالم الخارجي تكون هي الحلقة الواصلة بين الحادثة التي وقعتْ من جهة والأثر الذي تتركه على جسم المدرك من جهة أخرى، فافرض مثلًا أننا نعرض أمام مجموعة من الأطفال صُورًا لحيوانات مختلفة، ونطلب منهم أن يسمُّوا كل حيوان باسمه؛ فإذا نطق الأطفال بالأسماء الصحيحة في مناسباتها الصحيحة، زعمنا أنهم قد عرفوا تلك الحيوانات معرفة كافية لأن يُحدِّدوا كل واحد منها باسمه، لكننا كذلك لا بُدَّ أن نفترض في مثل هذه الحالة — ما دمنا قد سَلَّمنا مبدئيًّا بوجود العالم الخارجي — أن عملية طبيعية مُعيَّنة قد انتقلتْ من كل صورة إلى أعيُن الأطفال، بحيث ظلت محتفظة بخصائصَ مُعيَّنة حتى إذا ما لامستْ أجسام المشاهدين أنطقَتْهم بالكلمات التي نطقوا بها، وأن في نظرية الضَّوء في علم الطبيعة ما يكفي لتفسير هذا كله.
وجدير بنا في هذا الموضع أن نُشير إلى نقطة تهمُّنا وتسترعي انتباهنا، وهي نقطة خاصَّة باللغة واستعمالها؛ فبناءً على نظرية الضوء نفسها ستكون المُنبِّهات الضوئية التي تقع على أعيُن الأطفال الذين يجلسون بطبيعة الحال في مواضع مختلفة من مصدر الضوء، أقول إن هذه المنبِّهات الضوئية ستختلف عند مختلف الأطفال حسب اختلافهم في البعد أو القرب من مصدر الضوء، وحسب زاوية اتجاههم للصورة المرئية، وحسب سقوط الشعاع الضوئي على أعينهم، وإذن فنحن إزاء منبِّهات مختلفة فيما بينها؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن استجابات الأطفال حين ينطقون — مثلًا — بكلمة «قِط» (عندما يرون صورة القِط) ليست بدورها كاملة التشابه؛ فمن الأطفال مَن ينطق الكلمة بصوت جهير، ومنهم من ينطقها بصوت خفيض، وهكذا … فحقيقة الموقف إذن هي أن ثمة مجموعة مختلفة من المنبِّهات رغم ما بينها من أَوجُه الشبه أيضًا، على أن الاختلاف في مجموعة الاستجابات بصفة عامة أقل منه في مجموعة المُنبِّهات، وإن اختلاف المنبهات ليزداد حِدَّةً إذا عرضنا على الأطفال صورة مختلفة للقِطط، ومع ذلك نرى الأطفال يُجِيبون بكلمة «قط» في جميع الحالات، ومعنى ذلك كله أن اللغة وسيلة نستجيب بها استجابات تقل في اختلافها عن اختلاف المنبهات التي استثارتها، وذلك في الحالات التي نهتمُّ فيها بما بين المنبهات من أوجه الشبه أكثر من اهتمامنا بما بينها من أوجه الاختلاف، ممَّا يجعلنا نغضُّ النظر عن أوجه الاختلاف الكائنة في المنبِّهات ما دامتْ تستثير فينا استجابة لغوية تكادُ تكون واحدة عند الأفراد الذين يتأثَّرون بها، فلا علينا أن تختلف صور القِطط التي تُعْرَض أمامنا، ما دامت كلها مُنبِّهات تستخرج من كافَّة مشاهدها كلمة بعينها، وهي كلمة «قِط».
ونعود الآن إلى ما كنا قد بدأنا الحديث فيه، وهو أن الأطفال إذا رأوا صورة القِط فنطقوا بكلمة «قِط»، قد كان ذلك ليستحيل عليهم ما لم تكنْ هناك عملية طبيعية حدثت في المسافة الواقعة بين الصورة وأعينهم، بحيث تظل تلك العملية محتفظة أثناء عبورها تلك الفجوة بخصائصَ رئيسية، وأهم هذه الخصائص هو أطوال الموجات الضوئية (في حالة الرؤية) أو الموجات الصوتية (في حالة السمع) ودرجة التردُّد فيها، وإن هذا ليعلل لنا تعليلًا بيولوجيًّا لماذا يكون السمع والبصر هما أدق حواسِّنا حساسية؛ إذ قد أُعِدَّا بحيث يتأثران للاختلافات الموجية في حالتي الضوء والصوت، إعدادًا يجعلهما قابلتَيْن لإدراك اللون والصوت على اختلاف درجاتهما، ولو لم يكن هنالك عمليات طبيعية تحدث في العالم الطبيعي بادئة من مراكز مُعيَّنة ومحتفظة بخصائصها الرئيسية إلى أن تنتهي إلى حاسة الشخص المدرِك، لاستحال على عدة أشخاص أن يدركوا الشيء الواحد من وجهات نظرٍ متعددة، بل لاستحال على الناس أن يدركوا بأنهم يعيشون معًا في عالَمٍ واحد مشترك.
إلى هنا قد انتهينا من الجانب الأول من جوانب الموضوع، وهو ما يحدث في المسافة الواقعة بين المنبه الخارجي وبين الجسم المدرِك، ونبدأ الآن في بحث الجانب الثاني، وهو العملية التي تجري في جسم الشخص المدرِك بحيث يستطيع مَن شاء أن يلاحظه من الخارج، وهو أمر ليس من شأنه أن يثير مشكلات فلسفية؛ لأننا ما نزال هنا معنيِّين — كما كنا في بحث الجانب الأول — بإدراك الحوادث خارج جسم الشخص الذي يشاهد؛ إذ المفروض في هذا المشاهِد الآن أن يكون عالمًا من علماء الفسيولوجيا، يلاحظ ما يجري في العين — مثلًا — عندما يسقطُ عليها الضوء؛ فوسيلتُه إلى المعرفة هي هي بعينها الوسيلة التي يتخذُها عندما يوجه ملاحظته إلى المادة الجامدة؛ إذ الحادثة التي طرأتْ على عين الرائي عندما يسقط عليها الضوء، هي الآن الحادثة التي تنبعث منها موجات ضوئية على صورة معينة حتى تصل إلى عين الفسيولوجي فيرى ما يراه، وهنالك تحدث عملية فسيولوجية في عين عالِم الفسيولوجيا نفسه، ثم عملية تتبعها في عصبه البصري، وعملية أخرى تحدث في مخِّه، إلى أن ينتهي الأمر به إلى أن يتحرَّك لسانُه بعبارة كهذه: «أرى كذا وكذا في العين التي أُشاهدها»، وواضح أن هذه الحادثة التي تحدث في عين الفسيولوجي أثناء قيامه بملاحظاته، ليست هي الحادثة التي حدثت في العين التي يلاحظها، بل هي حادثة أخرى ترتبط بالحادثة الأولى ارتباطًا سببيًّا لا أكثر، وإذن فمعلوماتنا الفسيولوجية (الناشئة من إدراكنا لسوانا وهُم في حالة القيام بعملية الإدراك الحسي) ليستْ أكثر مباشَرةً ولا أكثر في درَجات اليقين من معلوماتنا عمَّا يحدث في المادة الجامدة؛ أي إننا لا نعلم عن أعيُننا أكثر ممَّا نعلمه عن الأشجار وعن السحاب وعن سائر ما نراه بتلك الأعين. بعبارة أخرى إن الحادثة التي يدركها الفسيولوجي في عين غيره، هي في الحقيقة حادثة في عينه هو لا في العين التي يلاحظها.
وننتقل الآن إلى الجانب الثالث من جوانب الموضوع، وهو ما يلاحظه الإنسان في نفسه أثناء قيامه بعملية الإدراك الحسي، ممَّا يستحيل على سواه أن يلاحظه معه، وسنكتفي الآن بذكر حقائق أولية في الموضوع، مُرجئِين التفصيل إلى الفصل السادس عشر.
إن أحدًا لا ينكر أن الإنسان يعرف عن نفسه أشياء مُحال على غيره أن يعرفها عنه إلا إذا أخبره بها؛ فهو يعرف عن نفسه متي يحس ألمًا في ضرسه المعطوب، ومتى يحسُّ الظمأ، وأي حلم كان يحلمه قُبيل يقظته وهكذا؛ قد يقول الدكتور واتْسُن زعيم المدرسة السلوكية إن طبيب الأسنان قد يعرف ألَم الضرس في مريضه إذا رأى ما فيه من عطب، ولن أعترض على ذلك بقولي: إن طبيب الأسنان كثيرًا ما يخطئ؛ لأني أفترض أن يتقدم طب الأسنان إلى الدرجة التي تمكن الطبيب من هذه المعرفة، ولكني أقول إن معرفة الطبيب تختلف عن معرفة المتألِّم نفسه، فمعرفة الطبيب استدلال استقرائي مقدماته حالات لوحظت في الأضراس المعطوبة عند مختلف المرضى، ونتيجته هي هذا التعميم: إذا كان في الضرس كذا وكذا من الظواهر أحس صاحبُه بألم من نوع معين، غير أن هذه النتيجة كانت ستستحيل معرفتها إذا اقتصرنا على ملاحظة الظواهر البادية في الأضراس المعطوبة وحدَها، بل إنه ليتطلب كذلك أن يخبرنا أصحاب هذه الأضراس المعطوبة بأنهم يتألمون، على شرط أن يكونوا صادقين فيما يخبروننا به، وإذا اقتصرنا على الملاحظة الخارجية وحدَها؛ كان كل ما في وسعنا أن نقوله هو: إن من أُصيبَتْ أضراسهم بالعطَب الفلاني «يقولون» إنهم يحسون ألمًا؟ غير أن الملاحظة الخارجية وحدها لا تقطع بصحة قول كهذا.
وقد يُعترض على هذا بأن ألَم المريض بضرسه هو حالة بدنية، وأن إحساس هذا المريض بما لديه من الألم إن هو إلا ردٌّ على ذلك المؤثِّر البدني، وما دام الأمر كذلك، فحالة البدن حين ينتابه ألَم الضرس شيء يمكن ملاحظتُه ملاحظةً خارجية، وجوابي على هذا الاعتراض هو أن المُشاهِد الخارجي حين يعلم من حالتي البدنية التي يُشاهدها أنني لا بُدَّ أن أكون متألمًا فهو في موقف المستدل الذي يبني استدلالَه على خبرة ذاتية، فلعله أحسَّ مثل هذا الألم ذات يوم عندما انتابت بدنَه حالة شبيهة بحالة بدني، فاستدل أن يكون عندي من الألم مثل ما كان عنده؛ أما طب الأسنان في ذاته فيستحيل أن يَهدي طبيبًا إلى معرفة ألم الضرس كيف يكون ما لم يكن هذا الطبيب قد أحسَّ ألمًا شبيهًا به، وخلاصة القول هي أنه حتى على فَرْض أن الألم شيء بدني — وهو ما لا أعارضه ولا أؤيده في هذا الموضع — فهو حالة بدنية لا يدركها إلا صاحبها، ومُحال على من لم يُعانِ حالة مثلها أن يعرف طبيعتها.
وخذ مثلًا آخر هو علمنا بأحلامنا؛ فالدكتور واتْسُن — فيما أعلم — لم يعالج موضوع الأحلام، لكنني قد أتصوره يقول عنها شيئًا كهذا: تحدُث أثناء الحلم حركات خفيفة في الحنجرة، بحيث لو زادت هذه الحركات قوة لكانت كلامًا كالكلام المسموع، بل كثيرًا ما يحدث لأناس أن يَصيحوا في أحلامهم صياحًا مسموعًا، وكذلك قد يحدث أن تتأثر حواس النائم بمؤثِّرات مُعيَّنة تستتبع استجاباتها المألوفة تبعًا للحالة الفسيولوجية التي يكون عليها مخُّ النائم عندئذٍ، وأمثال هذه الاستجابات تكون خفيفة بحيث لا تُشاهَدُ من الخارج، لكنها لو زادت قوة لشُوهدت. هذا كله جميل، ولكنه على كل حال كلام افتراضي لا يُقاس إلى معرفة الحالم لأحلامه معرفة مباشرة؛ أنقول عن الحالم إنه يعرف هذه الحركات البدنية الخفيفة التي تحدث في جسده أثناء الحلم، ثم يظن أنه يعرف شيئًا آخَر هو الحلم كما رآه رؤية مباشرة؟ ربما كان هذا ما يقوله واتسن في الأحلام، وربما أيَّد قوله هذا بحجة من عالَم اليقظة؛ فهذه المِنْضَدة التي أراها كما أراها، إن هي في حقيقتها الطبيعية عند علماء الفيزياء إلا كومة هائلة من كهارب سالبة وموجبة، أو من خيوط موجية ضوئية تتلاقى وتتصادم، غير أن الرائي يراها مِنْضَدة ولا يرى شيئًا من هذا الذي يقوله عنها علماء الفيزياء، وعلى هذا القياس يمكن أن نقول عن الحالم إنه وإن يكن يظن أنه يرى ما يراه، إلا أن حقيقة الأمر هي حركات طفيفة في جسده، ولو كان لدينا من أجهزة المشاهدة الدقيقة ما نستطيع به أن نرى تلك الحركات لشاهدناها من الخارج كما نشاهد أية ظاهرة أخرى في الطبيعة الخارجية.
وهذا أيضًا كلام جميل، لكنه لا يوضح لنا هذه النقطة الآتية؛ ماذا نعني بكون الشيء في ظاهره كذا وفي حقيقته كيت؟ إذا كان الحلم — أثناء النوم — وإذا كانت المِنْضَدة — أثناء اليقظة — «تظهر» لنا شيئًا وهي في «الحقيقة» شيء آخر؛ فلا مناص من التسليم بأن هذا في حد ذاته حقيقة من الحقائق، فهذا الذي «يظهر» هو حق لا تقل درجة الحقيقة فيه عن الأمر في «حقيقته» لا بل إننا نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فنقول إننا لا نعرف ما هو «حقيقي» إلا عن طريق الاستدلال، سواء أصاب استدلالنا أو أخطأ؛ أعني أننا نستدل من الأمر كما يظهر لحواسنا ماذا عسى «حقيقتُه» أن تكون؛ فإذا كنا نخطئ في إدراكنا كما يظهر، فلا بُدَّ أن يكون خطؤُنا مضاعفًا في معرفتنا لما نسميه «بحقائق» الأمور، ما دامت هذه المعرفة قائمة على أساس ما يظهر لحواسنا؛ فالأساس الوحيد الذي نبني عليه علمنا بأن المِنْضَدة في «حقيقتها» هي كهارب موجبة وسالبة، هو المِنْضَدة كما نراها؛ أي المِنْضَدة كما «تظهر»؛ وإذن فلا بد لنا من معالَجة هذا «الظاهر» في غير استخفاف.
لننظر في أمر الدكتور واتْسُن وهو يراقب فأرًا في متاهةٍ فهو يريد لبحثه أن يجيء موضوعيًّا خالصًا، وألا يسجل إلا ما يحدث في الواقع، فهل يتاح له التوفيقُ فيما يريد؟ ربما كان ذلك مُستطاعًا إلى حدٍّ ما، فهو يستعمل ألفاظًا لغوية ليصف بها ما يراه، وهذه هي نفسها الألفاظ التي يستعملها أي باحث مدرَّب على المشاهدة إذا كان يلاحظ الفأر نفسه في الوقت نفسه، لكن موضوعية الدكتور واتْسُن لا تنحصر في مجرد استعماله للألفاظ التي يستعملها سواه في الموقف نفسه، ففَضْلًا عن أن العبارات الوصفية قلَّما تَتَّحِد بنصها عند شخصين لاختلاف المحصول اللغوي عندهما، فليس اتفاق الناس في أمثال هذه العبارات الوصفية للواقع الموضوعي هو مقياس الحقيقة الذي لا مقياس سواه؛ فكم حدث في تاريخ البشر أن قال إنسان شيئًا لم يقله أحد سواه من قبل، ثم ثبت أن قوله هذا هو القول الصحيح، على حين أن مَن أخذوا يُعيدون حكمة الأسلاف لم يكونوا يقولون إلا خرافة، وإذنْ فليست الموضوعية التي يريدها الدكتور واتْسُن عندما يشاهد الفأر في المتاهة هي أن يتشابه مشاهدان في عباراتهما الوصفية لما يَرَيانه، ولا بُدَّ أن يكون مرادُه هو امتناعه عن استدلال أي شيء عن الفأر إلا ما يشاهده من حركات جسدية، وهذا كلُّه كلام جميل، غير أني أحسبه قد فاته أن المعرفة الكاملة بحركات الفأر الجسدية تكاد تحتاج من الاستدلال الطويل الشاقِّ ما تحتاجه معرفته للحالة «العقلية» الداخلية عند الفأر وهو يؤدِّي تلك الحركات الظاهرة؛ هذا فضلًا عن أن المُعطَيات التي هي عند المُشاهِد نقطة البداية حين يلاحظ حركات الفأر، هي نفسها حقائق من النوع الذي يريد الدكتور واتْسُن أن يتجنَّبه؛ إذ هي حقائق ذاتيَّة خاصَّة لا يعرفها المُشاهِد إلا بملاحظة نفسه بنفسه ملاحظةً ليست في مُستطاعِ أحدٍ سواه؛ ذلك لأنه حين يقول إني «رأيت» كذا وكذا عندما شاهدتُ الفأر يتحرَّك في متاهته، فهو إنما يقول عمَّا حدَث له هو نفسه من عمليات تمَّت في داخله ممَّا يَستحيل على غيره أن يُدركها معه، وهذه هي — في رأيي — النقطة التي تتحطم عندها السلوكية إذا أُريد لها أن تكون فلسفة تبلغ من الطريق نهايته.
إنه إذا شاهد عدد من الناس فأرًا في متاهة في لحظة بعينها، أو شاهدوا أي شيء آخر غير الفأر من الأجسام المتحركة، فلن يكون بين هؤلاء الناس اتحاد تام كامل في الأحداث الطبيعية التي تحدُث في أعينهم عندما يرون بها ما يرون، وهي الأحداث التي تنتهي عند كل منهم بما يُسمَّى إدراكًا حسيًّا؛ فهنالك بينهم فروق في الضوء والظل، وفي البعد والقرب بالنسبة إلى الشيء المُشاهَد بحيث يختلف حجم المرئي عند كل منهم عنه عند سواه، إلى آخِر هذه الفروق التي تظهر واضحة إذا أحللنا آلة مصورة مكان كل منهم، فعندئذٍ نرى بين الصور المأخوذة فوارق ظاهرة، وهي فوارق إن أخطأَتْها العين العابرة غير المدرَّبة، فلا تخطئها عين الفنان الذي دُرِّب على ملاحَظة الفروق اللونية التي تنشأ عن اختلاف وضع الشيء وانعكاس الضوء عليه؛ فإذا كانت المؤثرات المرئية مختلفةً؛ فلا بد أن تختلف تبعًا لها الاستجابات، والنتيجة هي أن ثمة جانبًا ذاتيًّا لا بُدَّ منه في كل حالات المشاهدة الخارجية.
على أن هذا الجانب الذاتي في الإدراك الحسي يتفاوت كبرًا وصغرًا؛ فالناس أكثر ذاتية في إدراكهم الحسي وهم سُكارى أو حالمون، منهم وهم أيقاظ وفي وعيهم الكامل، وهم أكثر ذاتية في إدراكهم للبعيد منهم في إدراكهم القريب؛ فالقمر البعيد يرونه صغيرًا، ولا يتحققون من حقيقة حجمه إلا استدلالًا، لا عن طريق الانطباع الحسي المباشر، ثم هم أكثر ذاتية كلما أصابَتهم علة في المخ والأعصاب، فالمصاب باليرقان يرى الأشياء صفراء، ومن أصاب العطبُ إصبع قدمه إصابة يحس معها الألم يظل يحس نفس الألم من نفس الموضع بعد بترِ قدمه، وهكذا. وحين أقول عن إدراك معيَّن إنه ذاتي، فإنما أعني بذلك أن الاستدلال الذي يستدلُّه صاحبه من حالته الفسيولوجية عن حقيقة الواقع الخارجي، ينتهي به إلى نتيجة يختلف بها عمَّا ينتهي إليه سواه، وإن هذا الاختلاف قائم في كل إدراك حسي، وغاية ما في الأمر أنه يزيد في حالة عنه في حالة أخرى.
ولما كان علمُنا بالعالَم الطبيعي لا بُدَّ أن يبدأ بمعطيات حسية وإدراكات حسية ثم استدلالنا من هذه الإدراكات شيئًا عن طبيعة العالم الخارجي، كان علم الطبيعة مَشُوبًا حتمًا بظل من الذاتية لا مفرَّ منه.