الإدراك الحسي والقوانين السَّبَبيَّة في الطبيعة
قلنا في موضع سابق إن الفكرة التقليدية عن السَّبَبيَّة فكرة ناقصة، وها نحن أولاء نشرح القوانين السَّبَبيَّة التي حلَّتْ محلَّ الفكرة القديمة في العلوم، وبهذا الشرح نضع الإدراك الحسي في موضعه الصحيح من السلسلة السَّبَبيَّة في الطبيعة.
خلاصة النظرية القديمة هي أن معنى السَّبَبيَّة هو أنَّ حادثة ما «أ» تظل دائمًا متبوعة بحادثة أخرى «ب»، وأن الكشف عن القوانين السَّبَبيَّة إن هو إلا محاولة للكشف عن الحادثة «أ» التي تسبق الحادثة «ب» دائمًا، ما دمنا نعرف «ب»، أو العكس؛ أي إننا إذا كنا نعرف «أ» فعلينا أن نبحث عن الحادثة «ب» التي تلحقها دائمًا، وهي نظرية نافعة عندما يكون العلم في أولى مراحله؛ لأنها تكشف لنا عن قوانين يغلب أن تكون صحيحة وإن لم يكن ذلك محتومًا دائمًا، وكثيرًا ما تكون هذه القوانين التي نكشف عنها بهذه الطريقة بمثابة القاعدة التي نستند إليها في إيجاد قوانين أخرى صحيحة، وهكذا، غير أن هذا الاتجاه في البحث ليس له قيمة فلسفية، ولا يكاد العلم يجد قوانينَه الدقيقة حتى يَتنحَّى عن مثل هذا الاتجاه، وأقصد بالقوانين الدقيقة في العلوم المتقدمة القوانين الكمية التي تدل على ما في الظواهر المُعيَّنة من «ميل» نحو أن تكون كذا وكذا، وسأحاول توضيح ذلك بأبسط ما أستطيع ضربه من أمثلة في علم الطبيعة.
تخيل ذرةً هيدروجينيةً، الإلكترون فيها لا يدور في أضيق الأفلاك، بل في الفلك الذي يليه، والذي يكون نصف قُطْره مساويًا لنصف القطر في أضيق الأفلاك أربع مرات؛ فلو بقيت الذرة على حالتها هذه، لم يكن لها آثار خارجية اللهم إلا ما لها من جاذبية متناهية في الصغر؛ فلا يكون لدينا أي دليل على وجودها إلا إذا تغيَّرَت حالتها؛ إذ الواقع أن معرفتنا بالذرَّات هي كمعرفة مُحصِّل التذاكر لأهل بلده، فهو لا يعرف من هؤلاء إلا المسافرين، وأما الذين هم قارُّون في ديارهم فلا سبيل لديه إلى معرفتهم، غير أن الإلكترون في الذَّرَّة التي نحدثك عنها، قد يقفز إلى فلك أضيق من الفلك الذي كان يدور فيه، فتنتقل الطاقة التي تفقدها الذَّرَّة على صورة موجة ضوئية، وليس لدينا علم بقانون سببي يبين لنا متى سيقفز الإلكترون من فلَك إلى فلك، وإن كنا نعلم مدى قفزته إذا قفز، كما نعلم بالدِّقَّة ما عساه أن يحدث فيما يجاوره عند قفزته، وأقصد بقولي إننا نعلم بالدقَّة ما يحدث عند قفزة الإلكترون من فلكه إلى فلك آخَر، أننا — على الأقل — نعرف القوانين الرياضية التي تضبط هذا الذي يحدث عندئذٍ؛ فستنتقل أحداث متتابعة — يجيء تتابعها وفق معادلات رياضية معلومة — إلى خارج الإلكترون متَّجهة في شتى الاتجاهات، وستظل تلك الأحداث المتلاحقة سائرة في نظام دقيق كموجات البركة إذا أَلْقَيت فيها حجرًا، حتى تصطدم في الطريق بمادة أخرى، وعندئذٍ يعمل قانون سببي هامٌّ نراه قانونًا أساسيًّا فيما يبدو؛ لأنه هو الذي ينظم انتشار الضوء، وتلخصه معادلات ماكسويل التي تمكِّنُنا من حساب انتشار الهزة الكهرومغناطيسية التي تنبعث من مصدر مُعيَّن. فهذه المعادَلات تبين لنا ما يحدث إذا تلاقت هزتان من هذا النوع.
ما الذي يحدث حين يحدث للموجة الضوئية التي انتقلتْ من ذرة الهيدروجين بسبب انتقال إلكترونها من فَلك إلى فَلك؟ أقول ما الذي يحدث لتلك الموجة الضوئية إذا لمسَت مادة؟ تحدث أشياء كثيرة يهمُّنا منها أنَّ هذه المادة تمتص طاقة الموجة الضوئية كلَّها أو بعضها، وقد يترتَّب على هذا الامتصاص أن تتحرَّك الإلكترونات في أفلاك أوسع، وعندئذٍ تحدث ظاهرة الضوء الملون، أو قد يترتب عليها ارتفاع درجة حرارة الجسم، أو حركة الجسم حركة مرئية للعين؛ فكل ما يحدث للجسم يتوقف على الجسم نفسه من جهة وعلى موجة الضوء من جهة أخرى.
إن الأحداث التي تحدث في المكان الخلاء أثناء وَثَبات الإلكترونات من فلك إلى فلك، وانبعاث موجات الضوء تبعًا لذلك، أقول إن هذه الأحداث ليست معلومة لنا إلا من حيث هي خصائص رياضية مجردة؛ فليست «المادة» إلا رياضة مجردة نَصِف بمعادلاتها الحوادث التي تحدث في المكان الخلاء؛ فإذا كنا في واقع الأمر نعرف الأشياء المُحسَّة بأعضاء الحس كالرؤية والسمع؛ فحقيقة الأمر هي أننا لا نعرف إلا حلقة واحدة من سلسلة سببية طويلة بدأت حين أخذتْ موجة الضوء في سَيرها خلال المكان الخلاء حتى وصلت إلى العين الرائية، وكل ما يحدث بعد ذلك إنما يحدث داخل جسم الرائي؛ فالإحساس البصري بالشيء مسبوق بحلقات أعقَب بعضُها بعضًا في الطبيعة الخارجية، لا علم لنا بها، لكننا نتَّخِذ من إحساسنا البصري أساسًا نبني عليه اعتقادَنا بوجود تلك الحلقات المتتابعة كلها.
لقد كان من المشكلات العسيرة المحيِّرة أن نفسر إدراك الإنسان بعقله شيئًا ماديًّا في الخارج، فكنا نسأل: كيف أمكن الاتصال بين مادة مدرَكة وعقل مدرِك على اختلاف ما بين المادة والعقل؟ وكان مصدر الإشكال هو الظنُّ بأننا نعلم عن حقائق الطبيعة الشيء الكثير، وأننا على يقين بأن تلك الحقائق الطبيعية مختلفة في كَيْفها عن العقل وحالاته، لكن ها نحن أولاء قد رأينا كيف نجهل كيفيات الظواهر الطبيعية في حقائقها الذاتية، وأننا لا نعلم عنها إلا إحساسات نحسها؛ فلماذا لا نقول عن الظواهر الخارجية إنها من قبيل الإحساسات التي نتلقَّاها؟ وإن كان أمرها كذلك فقد سُدَّت الثغرة التي تفصل العقل عن المادة.
وهاك تحليل ما يحدث عندما ترى شيئًا: هبْ أن المرئي جسم مضيء، ففي هذا الجسم عدد من الذَّرات تفقد طاقتَها بالإشعاع، وكل جزء من كل موجة ضوئية منبعثة يتكوَّن من أحداث تحدث في منطقة مُعيَّنة من «المكان-زمان»، وحين تلامس حاسَّتك تتحوَّل طاقة الموجة الضوئية إلى صور جديدة، لكن الاتصال السببي ما يزال قائمًا بين حالتها السابقة وحالتها اللاحقة التي تحوَّلَت إليها، وأخيرًا تصل سلسلة الأحداث إلى المخِّ فيَتكوَّن ما نسميه بالإدراك الحسي بالبصر، وهو ما نسمِّيه برؤية الشيء الذي انبعثت منه موجات الضوء.
وهكذا يكون الإدراك الحسي مرتبطًا بالشيء المرئي ارتباطًا قائمًا على أساس القوانين الطبيعية، فعلاقة الإدراك بالشيء المدرَك هي علاقة سببية يمكن صياغتُها رياضيًّا، وليس في وسعنا أن نقول إن كانت الأحداث الداخلية التي منها يتألَّف ما نسميه بالإدراك الحسي شبيهة بالأحداث الخارجية التي منها تتألف الظاهرة الطبيعية المدركة، أو لم تكن، وكل ما نعرفه هو أنَّ الإحساس والشيء كليهما مجموعتان من الحوادث تحدث في «المكان-زمان».
وفي فهمنا للرابطة التي تصل موجات الضوء بالإحساسات البصرية، نستطيع أن نبدأ بالشيء المُدرَك أو بالإحساس، وسنجد أن النتيجة واحدة في كلتا الحالتين؛ فإذا بدأنا بالشيء المدرَك قلنا إنه حين تنتقل موجات الضوء من هذا الشيء، تحدث أحداث متتابعة في أمكنة متعاقبة، حتى تلمس العين فتستمر سلسلة الأحداث في الجسم المدرِك حتى تنتهي عند حادثة في المخ نسميها بالإدراك (وهذه الحادثة الأخيرة هي الوحيدة في السلسلة كلها التي يستطيع صاحبها أن يقول عنها شيئًا ليس مجردًا ولا مصاغًا في صيغة رياضية)، وأما إذا بدأنا من الإحساس، قلنا إن هذا الإحساس حادثة من سلسلة طويلة من حوادث مرتبطة، كانت بدايتها انبعاث موجة ضوئية من جسم معيَّن، وهي سلسلة يمكن حسابها حسابًا رياضيًّا مجردًا، وبفضل هذه الحادثة — حادثة الإحساس — يستطيع الإنسان معرفة أشياء كثيرة عن بقية الحوادث المرتبطة معها في سلسلة واحدة، ومن ثمَّ يكون الإحساس مصدرًا لعلم الإنسان بالطبيعة.
هكذا يزول الإشكال في تفاعل الجسم والعقل. فما الإحساس (وهو حقيقة عقلية) إلا حلقة من سلسلة حلقات ترتبط بسببية طبيعية، فإذا عددناه نهاية لهذه السلسلة؛ كان لدينا ما نسميه أثر الجسم على العقل، وأما إذا عددناه أول السلسلة؛ كان لدينا ما نسمِّيه أثر العقل على الجسم، وبهذا يكون «العقل» مقطعًا رأسيًّا في مَجرًى متصل من السَّبَبيَّة الطبيعية، فلا غرابة في أن يكون نتيجة وسببًا في آنٍ واحد؛ نتيجة لما سبقه في الحدوث من حلقات السلسلة، وسببًا لما يتلوه من تلك الحلقات.