حقيقة ما نعلمه عن الفيزياء
سنجيب في هذا الفصل عن سؤالين هما: (١) كيف نحصِّل علمنا بالعالم الذي يعالجه علم الفيزياء؟ (٢) وماذا نعلم عنه إذا فرضنا أن علم الفيزياء الحديث قد أصاب السداد؟
أما عن السؤال الأول فلقد رأينا فيما أسلفناه أن الإجابة عنه أمر عسير ما دمنا نبني استدلالنا عن العالم الطبيعي على أساس أحداث تحدث داخل رءوسنا، وبهذا يصبح عِلمنا بما هو واقع خارج رءوسنا عِلمًا لا يتَّصف باليقين، وسأفرض الآن جدلًا أنه يجوز لنا قبول شهادة غيرنا بعد أن نتخذ من التحفظات ما يعصمنا بقدر المستطاع؛ أي إنني سأفرض أنه حين يتحدث الناسُ إليَّ فأسمع حديثَهم، يكون المعنى الذي أفهمه من الصوت المسموع هو نفسه المعنى الذي يفهمه المتكلم من صوته المنطوق، وسأفرض شيئًا كهذا في المكتوب والمقروء أيضًا؛ أي إنني سأفرض أنني إذا فهمتُ من الرموز المرقومة شيئًا بعينه؛ كان هذا الشيء نفسه هو الذي قصد إليه الكاتب حين رقَم هذه الرموز في كتابته، ولكنني أترك هذا الفرض الآن لأبحثه فيما بعدُ، وحَسْبي في هذا الموضع أن ألْفِت الأنظار بقوة إلى أن هذا مجرد فرض نفرضه، وأنه من الجائر أن يكون فرضًا باطلًا؛ ألسنا نتوهَّم في أحلامنا أن أناسًا يتحدثون إلينا، فإذا ما استيقظنا؛ تبيَّن لنا أننا نحن الذين خلقنا هذا الحديث؟ وإنه لَمُحال علينا أن نقيم البرهان القاطع على أننا لا نعيش في حلم متصل، وأقصى ما نستطيعه من قول هو أن ذلك بعيد الاحتمال، لكن لنترك هذا الآن جانبًا، ولنفرض أن ما نسمعه عن الآخرين وما نقرؤه ممَّا كتب الآخرون، «يعني» ما كان ليعنيه لو كنا نحن الذين تكلمنا والذين كتبنا.
فيجوز لنا على هذا الأساس أن نقول إن العالَم الذي يدركُه هذا الفرد من الناس شبيه بالعالَم الذي يدركه ذلك الفرد الآخَر من بعض الوجوه، وإن اختلف عنه من وجوه أخرى. وخذ لذلك مثلًا: النظَّارة في مسرح، فنحن نزعم أنهم جميعًا يسمعون نفس الألفاظ ويرون نفس الحركات التي أراد لهم الممثلون أن يسمعوها وأن يروها، لكن أمْعِن النظر تجد أولئك الذين يجلسون على مقربة من المسرح يسمعون الألفاظَ أعلى صوتًا منها حين يسمعها هؤلاء الذين يجلسون بعيدًا عنه، كما يسمعها القريبون قبل أن يسمعها البعيدون بفترة وجيزة من الزمن، والذين يجلسون ناحية اليمين لا يرون ما يراه الجالسون ناحية اليسار أو الجالسون في الوسط. وهذه الاختلافات نوعان؛ فبعض الناس يرى ما لا يراه الآخرون من ناحية، ومن ناحية أخرى إذا رأى شخصان مختلفان شيئًا واحدًا بعينه؛ فإنهما يريانه في صورتين مختلفتين حسب قوانين الضوء وانعكاساتِه، وهذه كلها أمور يقررها علم الفيزياء لا علم النفس؛ لأننا لو وضعنا آلة تصوير في مقعد خالٍ من مقاعد المسرح لجاءت الصُّور التي تلتقطها مختلفة عن الصور التي يراها الجالس إلى يمينها والجالس إلى يسارها، وإننا لنتعلم في دروس الرسم مراعاة هذه الفروق؛ إذ نتعلم رؤية الشيء كما يبدو للعين لا كما نعلم عن حقيقته.
وعلَّة ذلك هي أننا إبان الطفولة نتعلم رَبْط المرئي بالملموس، بحيث نستجيب للمرئي استجابةً تَتفقُ مع حقيقته كما يدل عليها اللَّمْس، لا مع ظاهره كما تدلُّ عليه الرؤية البصرية وحدها، وبهذا نكون أكثر «موضوعية» في إدراكنا للشيء من آلة التصوير؛ لأن هذه تلتقط الصورةَ المرئيةَ وَحْدَها، غير مرتبطة بصورتها اللَّمْسية، فلو رأينا نحن قطعةً من النقود، قلنا عنها إنها دائرية، على الرغم من أنَّ بصرنا قد لا يكون عموديًّا عليها بحيث يراها دائريةً حقًّا، لكننا إذ نقول إنها دائرية، فإنما نتذكر حقيقتها اللَّمْسية كما وقعت لنا في خبراتنا الماضية. أما آلة التصوير فتلتقط لقطعة النقود نفسها ومن مكان رؤيتنا نفسه، صورةً بيضاوية كالصورة التي يرسمها لها الرسَّام لو جلس في المكان نفسه يرسم ما «يراه» دون أن يخلط به ما يتذكَّره عن صورتها اللَّمْسية، ومعنى ذلك كله أننا في سلوكنا العملي نستجيبُ للشيء المرئي على أساس حقيقته الموضوعية كما تحددها الرؤية واللَّمْس معًا، لا على أساس صورته الظاهريَّة كما يتأثر بها البصر وحده من زاوية النظر المؤقتة إليه.
والربط بين ما نراه وما نلمسُه من شيء معيَّن إذا ما استجَبْنا لذلك الشيء في حياتنا السلوكية، هو الذي يجعلنا نتصرَّف بالنسبة إلى الشيء البعيد على أن حجمه هو كذا وكذا بغضِّ النظر عن صِغَره في عين الرائي، ومثل هذا الربط إنما يجيء عن طريق «التعلم» وليس هو بالأمر الهيِّن عند الأطفال في مراحلهم الأولى؛ فعندما يبدأ هؤلاء الأطفال في تعلُّم الرسم المنظور يجدون عُسرًا شديدًا في رسم الأشياء البعيدة صغيرة بالنسبة لما يعلمونه عن حقيقتها الموضوعية، فمن العسير على الطفل الذي يرسم صورة لمنظر في أقصاه البعيد عمارة عالية وفي أدناه القريب شجرة صغيرة، أقول إنه من العسير على هذا الطفل أن يرسم العمارة البعيدة أصغر من الشجرة القريبة منه؛ لأنه «يعلم» علمًا سابقًا أن العمارة في حقيقتها أعلى من الشجرة، ويريد الآن أن يرسم على الورق ما «يعلم» أنه الحق، لا ما «يراه» بعينه في هذا الموقف الراهن. لكن الطفل سرعان ما يتعلم بالتدريب أن يميز المدرَكات، فيعلم أن الكبير يصغر في العين إذا ابتعد، لكنه إذا ما أراد أن يستجيب له بسلوكه؛ صدر في استجابته هذه عن مزيج مترابط من مدرَكاته البصرية واللَّمْسية لذلك الشيء.
ويكبر الطفل ويتعلم الكلام بعد أن تكون قد تكوَّنت لديه تجربة بالأشياء، فتأتي استجاباته اللفظية لتلك الأشياء متضمنة لموضوعية أكثر جدًّا ممَّا كانت لتشمله لو جاءت تلك الاستجابات اللفظية في مرحلة مبكِّرة من عمره، حين لا يكون قد حصَّل تجربة كافية بحقائق الأشياء. ونتيجة ذلك أنه لو شاهد عدد من الناس منظرًا واحدًا بعينه؛ فإنهم يستجيبون له بنفس الألفاظ، على الرغم من أن رؤية المنظر قد تختلف عند أحدهم عنها عند الآخرين. فيقولون مثلًا: «هنالك رَجُل»، ولا يقولون: «هنالك شكل ملوَّن أبعاده البصرية هي كذا وكيت …» مع أنهم في الحقيقة لا يرون إلا بقعة لونية ذات شكل مُعيَّن، قد يكون انطباعها مختلفًا على الأعيُن المختلفة التي تراها؛ لاختلاف زوايا الرؤية عند هذه الأعيُن، لكن الرَّائين على اختلافهم عندئذٍ يستخدمون خبراتهم الماضية، «ويستدلون» من البقعة اللونية المرئية أنها «رجل»؛ ولهذا تراهم يستجيبون بهذه اللفظة استجابة يتشابهون فيها، والواقع أننا لم نتبين أن في قولنا عن تلك البقعة اللونية إنها «رَجُل» استدلالًا إلا بعد تفكير وتحليل. وربما تبين لنا ذلك أيضًا بسبب ما نقع فيه أحيانًا من خطأ في الاستدلال، فترى البقعة اللونية المعينة، فيقول أحدنا إنها «شجرة»، ويقول الآخر إنها «رَجُل»؛ على الرغم من أنهما يريان البقعة اللونية ذاتها، وكثيرًا ما يحدث أن يكون على زجاج النافذة بقعة ملونة فنظنها رَجلًا في حقل بعيد، ولا نتنبه إلى أنها بقعة على الزجاج نفسه إلا حين نفتح النافذة أو حين نحرك رءوسنا قليلًا، فعندئذٍ ندرك أن حُكمَنا بأن المرئي رجل في حقل بعيد هو حكم استدلالي ممَّا تراه العين، وليس هو الانطباع الحسي المباشر، وأننا في هذه الحالة قد أخطأنا الاستدلال أول الأمر، ثم تَبيَّن لنا الصواب بفتح النافذة أو بتحريك الرأس. والحق أن ألفاظ اللغة التي نسمي بها الأشياء تُوهِمُنا بوحدانية العالَم الذي نعيش فيه مع غيرنا؛ إذ تُوهِمُنا بأننا ما دمنا جميعًا نقول عن بقعة لونية معينة لفظة «رَجُل» أو لفظة «شجرة»؛ فلا بد أن يكون إدراكنا مشتركًا ومتشابهًا؛ أعني أن اشتراكنا في لفظة معينة ينسينا ما بين انطباعاتنا الحسية من فُروق، كما ينسينا أن إطلاقنا هذه الكلمات على مسمَّياتها المرئية هو دائمًا من قبيل الاستدلال، لا من قبيل الإدراك الحسي المباشر.
ويجدر بي في هذا الموضع من سياق الحديث أن أحدد ما أعنيه بكلمَتَي «موضوعية» و«ذاتية» عندما أستخدمهما؛ للتفرقة بين الانطباع الذاتي الذي ينطبع به كل واحد منا على حدة بما يَرِدُ إليه من ألوان وأصوات ولَمْس، وبين الصفة التي أصفُ بها الشيء في حقيقته الخارجية مستدلًّا إياها من انطباعاتي الحسية الذاتية. افرض أن عددًا كبيرًا من المتفرجين في مسرح كانوا يشاهدون في آنٍ واحد ما يجري على خشبة المسرح، وكذلك كان في المسرح عدة آلات للتصوير تلتقط في آنٍ واحد صُور ما يحدث على خشبة المسرح؛ فعندئذٍ تكون الصور التي تلتقطها آلات التصوير، وكذلك الصور التي يتلقَّاها المُتفَرِّجون، متفقةً في وجوه ومختلفةً في وجوه؛ وسأصف بكلمة «موضوعي» ذلك الجانب الذي يشترك فيه المتفرجون جميعًا — أو آلات التصوير جميعًا — كما أني سأطلق كلمة «ذاتي» على الجوانب التي ينفردُ بها هذا المتفرج دون غيره، أو هذه الآلة المصورة دون غيرها. فسيبدو الممثل على خشبة المسرح أطول عند المتفرج القريب — أو الآلة المصورة القريبة — منه عند المتفرِّج البعيد، أما إذا وقف الممثلون في صفٍّ واحد في صورة ما أو عند متفرج ما؛ فسيكونون في صفٍّ واحد في سائر الصور، وعند سائر المتفرجين، وإذن فما دام وقوفهم في صفٍّ واحد أمرًا اتفقت عليه كافة آلات التصوير وجميع المتفرِّجين على السواء؛ فهو — إذن — جانب «موضوعي» من المنظر المرئي، على حين أن اختلاف طول الممثلين عند القريبين منهم بالنسبة إليه عند البعيدين عنهم أمر «ذاتي». وعلى ذلك «فالذاتية» عندي أمرٌ يتعلق بالطبيعة لا بالنفس، ومعناها أن المؤثِّر الواحد لا يبدو للأعين المختلفة في أوضاعها ولا للآلات المصورة المختلفة في أوضاعها، على صورة واحدة، أما إذا كانت في هذا المؤثِّر جوانب لا تتغير صورتها عند مختلف الأعين أو آلات التصوير مهما اختلفتْ أوضاعها، كانت تلك الجوانب المشتركة «موضوعية» بالمعنى الذي أريده لهذه الكلمة.
إننا لأَمْيَل بفطرتنا إلى توكيد الجانب الموضوعي من الأشياء التي تقع لنا في مجال الإدراك الحسي، اللهم إلا إذا كان هنالك من الظروف الخاصَّة ما يحفِّز صاحب الإدراك إلى توكيد الجانب الذاتي، كما هي الحال — مثلًا — عند المصور الفنان، فهذا الفنان — على خلاف الميل الفطري العام — يهتم بالجانب الذي يراه «هو» من موقفه المعين الذي يرى منه المنظر المصوَّر؛ أما سائر الناس بصفة عامة فيطرحون من إدراكاتهم الحسية جوانبها الخاصَّة الذاتية ليؤكدوا الجوانب الموضوعية التي يشتركون فيها مع سواهم؛ حتى يعيشوا جميعًا في عالَم واحد ومشترَك. وتجيء اللغة فتزيد هذا الميل الفطريَّ شِدَّة؛ لأن استعمال الناس جميعًا للفظةٍ واحدةٍ يطلقونها على مختلف الصور المرئيةِ التي ترِدُ إليهم من شيء ما، يؤكد وحدانية الشيء المدرَك؛ أي إنه يبرز الجانب الموضوعي من حالات الإدراك الكثيرة المختلفة، ثم يجيء بعد ذلك علمُنا بالفيزياء فيزيد بدوره من إبراز الجانب الموضوعي من المدرَكات الطبيعية؛ إذ يدلُّنا على حقائق الأشياء كما هي واقعة خارج أنفسنا؛ ممَّا يمكِّننا من طرح الجوانب الذاتية الخاصَّة في إدراكاتنا كلما أردنا التحدث عن الأشياء حديثًا موضوعيًّا مشتركًا، وأخيرًا جاءتْ نظرية النِّسْبِيَّة فكانت آخِرَ محاولة لحذف العناصر الذاتية من الصور الحسيَّة، ورغم ذلك كله فيُخطئ من يظن أن الجوانب الذاتية أقل «واقعية» من الجوانب الموضوعية، وكل ما في الأمر أن الأولى أقلُّ أهمية من الثانية، وهي أقل أهمية؛ لأنها لا تدلنا على شيء خارج نفسها كما تفعل الجوانب الموضوعية حين نستطيع أن نستدل منها أشياء عن الطبيعة الخارجية، فلا شكَّ أن الإنسان لا يريد أن يقفَ عند حدود اللقطة الحسيَّة التي يلتقطها عن الأشياء، بل يريد أن يتخذ منها مصدرًا للاستدلال الذي يُزوِّدُه بمعلومات أخرى خارج حدود اللقطة الحسيَّة المباشرة الراهنة. ومثل هذا الاستدلال مُستَطاع في حالة الجوانب الموضوعية وغير مُستَطاع في حالة الجوانب الذاتية من الصور الحسية التي تنطبع بها حواسنا عن الأشياء الخارجية، لكن الجوانب الذاتية واقعية كالجوانب الموضوعية سواء بسَواء، ويدل على ذلك أنَّ لآلة التصوير جوانبها الذاتية في التقاطها للصور، شأنها في ذلك شأن الإنسان في إدراكه، وليس لآلة التصوير «نفْس» حتى نعزو لها الجوانب الذاتية في صورها؛ بحيث نقول عنها إنها حقائق نفسية طبيعية، فالذاتي والموضوعي كلاهما طبيعي على حد سواء.
تؤدي بنا هذه الملاحَظات كلها حتمًا إلى النظرة العلمية القائلة بأن شيئًا ما إذا شاهده عدَّة مشاهدِين أو صَوَّرَته عِدَّة آلات مصوِّرةِ من وجهات للنظر مختلفة، نتجت لنا مجموعة حوادث مرتبط بعضها ببعض (والحوادث هنا معناها موجات ضوئية) ومنبعثة من مركز مُعيَّن، وتكون هذه الحوادث كلها متشابهةً في بعض وجوهها ومختلفةً في وجوهها الأخرى، وإنما نقول عنها إنها «حوادث»؛ لأن الموجة الضوئية لا يجوز أن تُعَد شيئًا، بل ينبغي أن تُعَد مجموعةً مترابطةً من حوادث متناسقة بعضها مع بعض، وما دام أمرها كذلك ففي مقدور علم الفيزياء أن يصوغ لها خصائصها في صِيَغ رياضية، وأما خصائصها الذاتية التي يختلف فيها المشاهدون — أو آلات التصوير — فهي ممَّا لا يمكن استدلاله؛ ذلك لأن الحوادث التي منها تتألف الموجات الضوئية لا تُعرف لنا إلا عن طريق آثارها على العين وفي أعصاب البصر والمخ، لكن هذه الآثار ليست هي نفسها الموجات الضوئية في وجودها الخارجي؛ وإذن فلدينا مجموعتان من الحوادث؛ مجموعة خارج أجسادنا ومجموعة أخرى داخل أجسادنا، وهذه المجموعة الأخرى الداخلية صنفان؛ صنف يشترك فيه المشاهدون جميعًا، وصنف ينفرد به كل مشاهد دون سائر المشاهدين، ومن الصنف الأول — وهو ما نصفه بأنه موضوعي — نستدل علمنا بالظاهرة الطبيعية الخارجية، وأما الصنف الثاني — وهو ما نصفه بأنه ذاتي — فليس في وسعنا أن نستدل منه شيئًا، ويتضح من هذا أن علمنا بالطبيعة إن هو إلا «استدلال» من الحوادث التي تحدث داخل كياننا العضوي، وليس لدينا ما يدل على أن ثمة تشابهًا بين الحوادث الداخلية المستدَل منها والحوادث الخارجية المُستدَلَّة.
وقد يعترض علينا ساذج بقوله: لكني أعرف الشيء الخارجي — أعرف هذه المِنْضَدة التي أمامي مثلًا — لأنني أراه بعيني وألمسه بيدي، فتدلني العين على أن بقعة لونية معينة أمامي، ويدلني اللمس على أني إزاء جسم صُلب؛ فإن جاز لي أن أقول عن الانطباع البصري إنه ربما لا يكون دالًّا على حقيقة الشيء الخارجي، فلا يجوز مثل هذا القول عن الانطباع اللَّمسي؛ لأننا جميعًا نعلم أن شهادة اللمس أدلُّ على «واقعية» الشيء من شهادة البصر؛ فما قد تَتوهَّم العين وجوده — كالأشباح وقوس قُزَح — يحسم اللمس بأنه ليس بذي وجود مُتجسِّد كالذي تتوهمه له العين، لكننا نَردُّ على المعترض اعتراضه بأن شهادة اللَّمْس لا تسوغ لنا أن نقول إن الأثر اللَّمْسي للشيء شبيه شَبَه التطابق بالشيء الملموس على حقيقته الخارجية، وما تزال حقيقته تلك نتيجة نستدلُّها من انطباعنا اللَّمسي، وليست بالحقيقة التي تُدرَك إدراكًا مباشرًا.
لقد أسلفنا لك القول في موضع سابق كيف أن عملية اللَّمْس بالِغة التعقيد من وجهة نظر الفيزياء والفسيولوجيا، وكذلك قلنا إن في مُستطاعنا أن نُحْدِث أوهامًا لمسية بطرق مصطَنعة، بأن نُجْري في الأعصاب عمليات معيَّنة تُوهِم مبتور الذراع أنه يلمس بأصابعه (التي لا وجود لها) شيئًا صلبًا، ومعنى ذلك أن الإحساس اللمسي لا يكشف عن طبيعة الشيء الخارجي أكثر ممَّا يكشف عنها الإحساس البصري؛ لا بل إن البصر إذا استُخدم استخدامًا صحيحًا؛ أمدَّنا بمعرفة أدقَّ من المعرفة التي يمدنا بها اللمس؛ فبالبصر نستطيع أن نرى صورًا فوتوغرافية لمسار الإلكترون الواحد، وأن نرى الألوان التي تدل على ما يحدث في الذرات من تَغيُّر، والنجوم الخافتة الضوء على الرغم من أن الطاقة الضوئية الواصلة إلينا منها هي غاية في الضآلة؛ نعم إن البصر يخدع الغافل أكثر ممَّا يخدعه لَمْسه، لكن البصر في مجال المعرفة العلمية الدقيقة يفوق سائر الحواس بدرجة لا تسمح بالمقارنة.
فبفضل الأفكار التي استمدها علماء الطبيعة من البصر، عرفوا أن الذَّرَّة مركز ينبعث منه إشعاعات، ولئن كان الإدراك الفطري قد أوحى لنا — معتمدًا على حاسة اللمس — بأن ذلك المركز صلب صغير، وهو ما يُطلَق عليه اسم الإلكترون أو البروتون، إلا أن ذلك فرض ليس لدينا ما يُسوِّغه من الناحية العلمية، وكل ما نعلمه عن الذرة هو إشعاعاتها، فيجوز لنا — إذن — أن نقول إن قوامها هو هذه الاشعاعات نفسها، ولا يُجدينا شيئًا أن نقول مع الإدراك الفطري إن هذه الإشعاعات يستحيل أن تنبعث من لا شيء؛ لأنَّ عِلْمَنا منحصر فيها وحدها، ولا يزيدنا علمًا أن نقول إنها صادرة عن مركز صلب صغير.
فعلم الفيزياء الحديث — إذن — قد رد المادة إلى مجموعة أحداث (هي الإشعاعات الذرية) وحتى لو كانت هذه الإشعاعات منبثقة من مراكز صلبة صغيرة، فلسنا ندري من أمر هذه المراكز شيئًا، كلا ولا يهم علم الفيزياء أن يعلم عنها شيئًا، وهذه الأحداث التي حَلَّت محل المادة بمعناها القديم، إنما تُستدل من آثارها على عين الرائي أو على اللوحات الفوتوغرافية وغيرها من أجهزة العلم؛ فما نعرفه عنها ليس هو صفاتها الذاتية؛ أي ليس هو حقائقها كما هي واقعة في الخارج، بل بِنْيَتها وقوانينها الرياضية؛ أما بِنْيَتها فقد استَنَدْنا في معرفتها إلى القانون السببي الذي يقول إنه «إذا تكرر نفس السبب تكرر نفس المسبَّب» فإذا وجدنا مسبَّبًا مختلفًا عن مسبب آخر؛ عرفنا أنهما لا بُدَّ راجعان إلى سببَيْن مختلفين، مثال ذلك أن نرى لونين؛ أحمر وأزرق، فنستدل بأن مبعث اللون الأحمر مختلف عن مبعث اللون الأزرق، وبمثل هذا المنطق يتم لنا علم الفيزياء. على أننا بهذا لا نعلم عن حقائق الطبيعة إلا خصائصها الرياضية، وأما سائر خصائصها فمعرفتُنا منها معرفة سلبية، فإذا انعدمت الأعين والآذان والأعصاب؛ انمحت بالتالي الألوان والأصوات، فهنالك في الطبيعة أحداث تنشأ عنها الألوان والأصوات لو صادفت أعينًا وآذانًا وأعصابًا، وليس في مستطاعنا العلم بعالَم لا إنسان فيه، فمثل هذا العالم لا ندري كيف يكون؛ لأننا لو ذهبنا إليه لندركه كان فيه «إنسان» يدركه.
فلا مندوحة لنا عن اطِّراح فكرتنا عن المادة كما يفهمها إدراكنا الفطري، وكما كان يفهمها علم الفيزياء إلى عهد قريب، وقد كانت الفكرة القديمة عن «المادة» مرتبطة بفكرة «العنصر»، وهذه بدورها مرتبطة بفكرة الزمان الذي يشمل الكون كله في آنٍ واحد، وهي فكرة بدَّدَتْها نظرية النِّسْبِيَّة.