ملاحظة الإنسان لنفسه
إننا خلال الجزء الأول لم نبحث إلا الحقائق التي تتعلق بالإنسان ممَّا يمكن مشاهدته بالملاحَظة الخارجية، وأرجأنا البحث فيما إذا كانت تلك الحقائق الظاهرة تشمل كل ما يمكن معرفته عن الإنسان، أم إن هنالك ما يخفى على الملاحظة الخارجية، والرأي الشائع هو أننا نعرف أشياء كثيرة عن الإنسان عن طريق التأمل الباطني وحده، لكن أنصار المدرسة السلوكية يعتقدون أن هذا الرأي باطل، ولقد كنتُ أجد نفسي أمْيَل إلى الأخذ بمذهب السلوكيين، لولا الاعتبارات التي اضْطُرِرْتُ إلى الاعتراف باستحالة إخضاعها للملاحظة الخارجية، عندما تناولتُ بالبحث — في الجزء الثاني — معرفتَنا بالعالم الطبيعي إذ خلَصْت من ذلك البحث إلى نتيجة، هي أنه لو صدق علم الطبيعة لكانت المعلومات الأولية التي نستند إليها في علمنا بالطبيعة، متأثرة بالجانب الذاتي، فيستحيل على شخصَيْن أن يشهدا ظاهرة بعينها بحيث يتفقان اتفاقًا كاملًا فيما يشهدانه، وما اتفاقهما في المشاهدة إلا اتفاقًا على سبيل التقريب؛ وهذا وحده كافٍ لهدم الموضوعية التي يزعمها السلوكيون في منهجهم العلمي، فيمكن القول — بصفة عامة — إنه لو صح علم الطبيعة، ولو أخذنا بتعريف السلوكيين للمعرفة — وهو تعريف بسطناه في الفصل الثامن — لكان الإنسان أدقَّ معرفة بما يحدث قريبًا من مراكز المخ، منه مما يحدث بعيدًا عنه، ولكانت أدق معارفه جميعًا هي معرفته بما يحدث له في مُخه هو، وربما «بدا» هذا القول بعيدًا عن الصواب؛ إذ يعتقد الناس أن ما يحدث في مخ الإنسان إنما هو أحداث في مستطاع الفسيولوجي أن يراها، لكن الفسيولوجي وهو يشاهد مخًّا إنسانيًّا، لا يزيد على كونه — بدوره — يُدرك ما يحدث في مخه هو نتيجة لتلك المشاهدة، كما سبق لنا أن ذكرنا في الفصل الثاني عشر، وبهذا يزول الاعتراض المُوجَّه نحو قولنا بأن أدق معرفة لدى الإنسان هي معرفته لما يحدث في مخه هو، وإذن فنحن مضطرون اضطرارًا إلى القول بأن التأمل الباطني هو أسلمُ الطرق إلى معرفةٍ موثوق بها، وهذا هو موضوع بحثنا في هذا الفصل.
كلنا يعرف أن يقين التأمل الباطني هو القاعدة التي أقام عليها ديكارت فلسفته التي تُعَدُّ فاتحة الفلسفة الحديثة كلها؛ فقد كان ديكارت حريصًا على أن يبني ميتافيزيقاه على ما هو يقينيٌّ يقينًا مطلقًا دون سواه، ولهذا تناول بالشك كل ما جاز له أن يجعله موضعًا للشك؛ حتى لقد شك في وجود العالَم الخارجي كله، فمن أدراه لعل شيطانًا شريرًا اضطلع بخديعته وجعله يصف بالوجود ما ليس موجودًا، ولكن ديكارت لم يستطع أن يشكَّ في وجود نفسه؛ لأنه قال: إني وإن كنتُ أشك في كل شيء، إلا أنني مهما شككتُ فلا أستطيع الشك في أني أشك؛ فشَكِّي هذا ليس مجالًا للشك، ولو لم أكن موجودًا لما شككت، ومن هذا استخلص عبارته المشهورة: «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» فلما بلغ هذا الأساس اليقيني أخذ يبني عليه العالَم من جديد، باستدلالات تلزم كل خطوة فيها عن الخطوة السابقة عليها، وإنه لمِمَّا يدعو إلى العجب أن عالَمه الجديد الذي بناه باستدلالاته اليقينية على تلك القاعدة اليقينية، لم يختلف كثيرًا عن العالَم الذي كان بادئ ذي بدء يعتقد في وجوده قبل أن يبدأ رحلته في التشكك.
ويفيدنا أن نقارن هذا البرهان ببرهان الدكتور واتْسُن؛ فهو — مثل ديكارت — يشك في كثير ممَّا يُسلِّم الناس بصحته تسليمًا لا يقبل الجدل عندهم، وقد اعتقد كما اعتقد ديكارت — أن هنالك بعض الحقائق اليقينية التي يصحُّ لنا أن نَتَّخذها أساسًا نبني عليه فلسفةً جديدةً؛ غير أن الحقائق التي اعتقد واتْسُن أنها يقينية لا يتناولها الشك، هي على وجه الدقة تلك الحقائق التي اعتقد ديكارت أنها موضع للشك، وما ظنه الدكتور واتْسُن حقيقًا بالرفض والإنكار هو بعينه ما رآه ديكارت يقينًا لا يتطرق إليه الشك؛ فالدكتور واتْسُن يؤمن بأن ليس هنالك هذا الذي نسميه «تفكيرًا» — نعم إنه يعتقد في وجود نفسه، لا لأنه — فيما يظن — قادر على أن يفكر؛ لأنَّ الأشياء التي يعتقد في يقينها اعتقادًا لا شكَّ فيه هي الفئران التي يشاهدها في المتاهات التجريبية، وهي القياسات التي يقيس بها الفترات الزمنية، وهي الحقائق الفسيولوجية عن الغدد والعضلات وما إلى ذلك؛ فماذا نحن قائلون إزاء عَلَمَيْن من أعلام الفكر نراهما على طرفي نقيض؟ ألا يجوز لنا إزاء ذلك أن ننتهي إلى أن «كل شيء» موضع للشك؟ وربما كان ذلك صحيحًا، وإن يكن شَكُّنا في الأشياء تتفاوت درجاته، ويجب الآن أن نعرف أي هذين الفيلسوفين على صواب — ذلك إن كان لا بُدَّ أن يكون أحدهما على صواب — ونعني بالصواب هنا أن تكون فلسفته معرضة لأقل درجة ممكنة من الشك.
ولنبدأ بمذهب ديكارت، إنه يقول: «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» ولكن هذا القول على صورته هذه لا يكفي؛ فمن وجهة نظر ديكارت نفسه، كان ينبغي ألا يعترف إلا بما هو على وعي مباشر به داخل طَوِيَّة نفسه، وكل ما يعيه هو «أن هنالك تفكيرًا» أما أن يقول «أنا» أفكر فمجاوزة منه لحدود إدراكه المباشر؛ لأنه لم يدرك «أنا» بل أدرك حالة راهنة من حالات التفكير؛ إنه يدرك حالة من الشك قائمة، فكل ما يجوز له أن يقوله عندئذٍ هو «أن ثمة حالةً من الشك»، ولما كان الشك تفكيرًا، فله أن يقول «إن ثمة حالةً من التفكير»، أما أن يصف هذه الحالة بقوله «أنا أفكِّر» فأمر يدخله كثير من التجوز، وكان ينبغي لديكارت — لمرانه الطويل في الشك — أن يعلم بأن قوله ذاك قائم على غير أساس؛ ربما أجاب ديكارت على مثل هذا الاعتراض بأن وجود الأفكار يقتضي وجود المفكر، لكننا نسأله: لماذا؟ لماذا لا يكون «المفكر» مقصورًا على سلسلة من الأفكار يرتبط بعضها ببعض بقوانين السَّبَبيَّة؟ لقد ذهب ديكارت إلى ضرورة قيام «الجوهر» في العالَمَين العقلي والمادي على السَّواء؛ لأنه لم يستطع أن يتصور حركةً بغير مُتحرِّك ولا تفكيرًا بغير مفكر. نعم إن معظم الناس يرون هذا الرأي نفسه، لكنه رأي تَبيَّن لنا بُطلانه عندما شرَحنا كيف أن «المادة» اسم يطلق على خيوط من حوادث، وأن ما نسميه بالحركة في المادة معناه في الواقع أن مجموعةً مُعيَّنةً من الحوادث في لحظة مُعَيَّنة من الزمن لا تتصل بمجموعة أخرى من الحوادث بنفس العلاقات المكانية التي تتصل بها في لحظة زمنية أخرى، فالحركة لا تعني أن هنالك شيئًا خارجيًّا مُحَدَّد المعالِم يكون الآن هنا وبعد حين هناك، وكذلك الحال في قولنا «أنا أفكر الآن بهذه الفكرة المعينة وبتلك الفكرة المعينة بعد حين» فليس معنى ذلك أن هنالك كيانًا جوهريًّا ثابتًا — هو ما نسميه «أنا» — يكون «في حوزته» فكرتان متعاقبتان؛ بل إن كل ما هنالك هو الفكرتان المتعاقبتان وبينهما من العلاقات السَّبَبيَّة ما يُبيح لنا أن نقول عنهما إنهما جزءان من تاريخ حياة واحدة، تمامًا كما تكون النغمتان المتعاقبتان جزأين من لحن. واحد. الحق أن ما استيقن ديكارت من حدوثه في نفسه، هو حالة مُعَيَّنة من الشك؛ أي حالة مُعَيَّنة من الفكر، فوصف هذا الذي حدث بقوله: «أنا أفكر» مع أن هاتين الكلمتين لا تصفان ما حدث له وصفًا دقيقًا، وفي رأينا أنه لم يكن على حق حين أدخل كلمة «أنا» في العبارة التي أراد أن يصف بها ما قد حدث، وبقي أمامنا أن ننظر هل كان على حقٍّ حين استعمل كلمة «أفكر» في تلك العبارة؟
إن كلمة «أفكر» كلمة كلية، وفي إطلاقنا لكلمة كلية على حالة جزئية راهنة مُجاوَزة للأصول المنطقية؛ بل إن مجرد إطلاقنا أية كلمة من كلمات اللغة على حالة جزئية فيه مجاوَزة للحقيقة الجزئية المدرَكة إدراكًا مباشرًا؛ وذلك لأننا في الحقيقة نطوي هذه الحالة الجزئية الواحدة مع مَثيلاتها التي مرَّت علينا في الخبرة الماضية تحت هذه الكلمة، فكأننا نجعل الكلمة بمثابة العنوان الذي يندرج تحته مجموعة الحالات الجزئية المتشابهة، فيكون هذا العنوان أوسع من أية حالة جزئية واحدة على حدة. أريد أن أقول إن كل ألفاظ اللغة مجردة إلى حد كبير، وأنه محال علينا أن نُعبِّر عن جزئية واحدة فقط بوساطة اللغة؛ فمثلًا لو رأيتَ كلبًا مفردًا، ثم أثار منظره في نفسك لفظة «كلب» فأنت عندئذٍ تشير باللفظة الكليَّة إلى كلبٍ واحد جزئي معين؛ أي إنك تشير إلى الخبرة الجزئية المعينة بلفظ أوسع منها؛ لأنه ينطبق عليها وعلى سواها من مثيلاتها؛ ولهذا ترى أن كلمة «كلب» وحدها لا تكفي لبيان المميزات الخاصَّة التي يتميَّز بها الكلب المعيَّن الذي رأيته، فلا تدري أي نوع من الكلاب هو؛ وإذن يجوز لنا القول بأن استجاباتنا اللفظية التي نرد بها على خبراتنا الجزئية محتوم عليها أن تأخذ جانبًا من تلك الخبرات وأن تهمل جانبًا؛ أي إنها استجابات فيها من الاطراد ما ليس موجودًا في حقيقة الواقع؛ فكل جزئية تختلف عن كل جزئية أخرى من مجموعة الجزئيات التي نطلق عليها لفظًا واحدًا، وإذن فمن شأن هذا اللفظ أن يهمل الجوانب التي تخص كل جزئية على حدة، وتجعلها متميزة من زميلاتها؛ ولكوننا نستعمل لفظًا واحدًا، قد نظن أن الخبرات الفردية المشار إليها بذلك اللفظ هي واحدة في شتى حالاتها، مع أنها متعددة بتعدد مفرداتها وحالاتها.
ونعود بعد ذلك إلى ديكارت عندما أطلق الكلمة الكلية «أفكر» على الحالة الجزئية الواحدة التي كانت قائمة في وعيه، نعم إن ديكارت كان على يقين من أن «فكرة» ما كانت قائمة في نفسه عندئذٍ، لكن هل كل فكرة ككل فكرة أخرى من سلسلة الأفكار؟ وإذا كانت الأفكار المتتابعة مفردات لكل منها خصائصها المميزة، فهل تكفينا كلمة «أفكر» لنعلم منها طابع الفكرة الجزئية المُعَيَّنة التي كان ديكارت على يقين بوجودها؟ ومعنى ذلك كله أن ديكارت كان متيقنًا من فكرة جزئية خاصَّة — وليس في ذلك من بأس — لكنه مطَّ هذا اليقين ليشمل به النوع بأسره، أعني مجموعة الحالات الفكرية كافَّةً، مع أن يقينه بالجزئي لا يقتضي يقينه بالكلي الذي يطويه.
ومن هنا جاز لنا أن نوجه إليه هذا السؤال: ماذا تقصد بكلمة «تفكير»؟ واضح أنه استعمل الكلمة بمعنًى أوسع من المعنى الذي نستعمل الكلمة به اليوم؛ إذ ضمَّنَها كل إدراك وكل عاطفة وكل إرادة، ولم يقصرها على العمليات العقلية الإدراكية وحدها؛ أي إن «التفكير» الذي كان يجوز له أن يستيقن منه هو حالاته الداخلية التي يعيها وعيًا مباشرًا؛ فلو قال إنه «يرى القمر» — مثلًا — لكان الأمر اليقيني عنده هو الإدراك الذي أَحسَّه إحساسًا مباشرًا، وليس هو الشيء الخارجي الذي يُسمَّى بالقمر؛ أي إنه موقن من «إحساساته» لا من «الشيء» الموجود في الخارج، وهذا موقفٌ لا غُبار عليه من وجهة النظر الفيزيائية والفسيولوجية التي عرضناها فيما مضى؛ لأن الحادثة المُخِّية التي يقول عنها صاحبها إنها «إدراك حسي للقمر» يجوز إحداثها بطرق مصطنَعة غير رؤية القمر؛ إذ يجوز أن نؤثر في أعصاب الرؤية وفي المخ بنفس الآثار التي تحدث عند رؤية القمر، وعندئذٍ لا يستطيع مَن أحدَثْنا فيه ذلك الأثر المصطنَع أن يفرِّق بين حالته الإدراكية عندئذٍ، وبين حالته الإدراكية المألوفة عند رؤيته للقمر فعلًا؛ لأن الإدراك واحد في كلتا الحالتَين. ولعل ديكارت كان يتصور برهانًا كهذا حين قال إنه من الجائز أن يكون هنالك شيطان يخدعه فيوهمه بأنه يدرك أشياء لا وجود لها في الواقع.
نقول: إنه لا بأس في أن يقصر ديكارت يقينه على حالاته الإدراكية الباطنية دون أن يسوغ لنفسه أن يستدل منها وجود الشيء الخارجي المدرَك، لكننا نستطرد من هذه النقطة لنسأله كيف يمكنه أن يعبر عن إدراكه الباطني ذاك بعبارة من اللغة؟ إن التعبير اللغوي يأتي بعد الإدراك ذاته، وإذن فالتعبير اللغوي إنما يشير إلى حالة إدراكية مضَتْ، وبهذا يكون الأمر كله مرهونًا بذاكرة لا تخدعه، لكن ألا يجوز أن يكون هناك نفس الشيطان الخادع الذي افترضه، وخديعته هذه المرة تكون في جعله يركن إلى صدق الذاكرة بينما لا تكون الذاكرة صادقة؟ ألسنا في أحلامنا نتذكر ما لم يحدث قط من قبل؟ إذن حين قال ديكارت «أنا أفكر»، فقد جاء هذا القول تاليًا في الزمن لحدوث الحالة نفسها التي يشير إليها بتلك العبارة، وإذن فلا يقين هناك من صدق العبارة، حتى وإن كان ديكارت على يقين من الحادثة العقلية لحظة حدوثها، ثم يزداد الأمر خطورة حين يكمل ديكارت جملتَه بقوله: «إذن أنا موجود»؛ لأنه يستنبط وجوده الحاضر من وجوده الماضي معتمدًا على ذاكرته التي تذكر له أنه «كان» موجودًا عندما كان يفكر. وهكذا ينتهي بنا تحليل الكوجيتو الديكارتية إلى الشك لا إلى اليقين، وهو شكٌّ لا خلاص لنا منه إلا إذا حاولنا إقامة البرهان على أساس جديد.
إننا في حقيقة أمرنا نبدأ بشعور الموقن بأن كلَّ شيء موجود، ولا يدعونا إلى التشكك في هذا الشعور إلا حين يتبين لنا بالبرهان القاطع أنه شعور قد يؤدي بنا إلى الزَّلَل؛ فإذا كانت لدينا مجموعة من الحقائق اليقينية الأولية التي لا تؤدي أبدًا إلى خطأ، تمسكنا باعتقادنا في يقين تلك المجموعة؛ أي إننا نشعر إزاءها في بواطن أنفسنا شعور الموقن بصدقها، وعندئذٍ نكون بحاجة إلى البرهان الذي يدعونا إلى الشكِّ فيها، لا إلى البرهان الذي يدعونا إلى الاعتقاد في صوابها، ومعنى ذلك أن في مستطاعنا أن نتخذ من أية مجموعة من الحقائق اليقينية الأوليَّة أساسًا نبني عليه سائر اعتقاداتنا، فإذا كانت تلك المجموعة الأولية صادقة، كنا بمأمن من الوقوع في الخطأ بالنسبة إلى ما نستنبطه منها، وهذا هو ما فعله ديكارت.
أضف إلى ذلك أننا إذا كشفنا عن موضع للخطأ في شيء؛ كنا على يقين من صوابه، فإننا — على وجه العموم — لا ننبذ الاعتقاد الخاطئ نبذًا تامًّا، بل ترانا نبحث — إذا استطعنا — لعلنا نجد وسيلة إلى تعديله بحيث يتخلص ممَّا فيه من أوجُه الخطأ الظاهر، وهذا بعينه هو ما حدث لإدراكنا الحسي؛ ذلك أننا إذ نظن بأننا نرى بأعيننا شيئًا خارجيًّا، فقد نكون عندئذٍ مخطئين في هذا الظنِّ لأسباب عدة؛ فقد يحسب الرائي أنه يرى ماء، عندما يكون المرئيُّ سرابًا أو انعكاسًا ضوئيًّا، وفي هذه الحالة يكون مصدر الخطأ هو العالَم الخارجي نفسه، ولو كانت آلة فوتوغرافية هي التي التقطت المرئي لالتقطت نفس الصورة التي التقطتها عين الرائي، وقد يظن الرائي أنه يرى بقعًا سوداء بسبب علَّة في كبده، وفي هذه الحالة يكون الجسم نفسه هو مصدر الخطأ؛ أي إن الخطأ لم ينشأ عن جهاز الإبصار بما في ذلك المخ، لكننا قد نرى في حالات أخرى أحلامًا مليئة بكل صنوف الصور، وعندئذٍ يكون المخ هو مصدر الخطأ، فلما تبينت لنا مصادر هذه الأخطاء التي نتعرض لها في الإدراك الحسي، أخذنا حذرنا كلما أردنا التحدث عن الأشياء على حقائقها الخارجية، فلم نعد نسلِّم بصواب ما تُصوِّره لنا إدراكاتنا الحسية عن تلك الأشياء تسليمًا بغير تدقيق وتحليل. نعم إننا ظللنا على يقيننا بأن ما ندركه هو ما ندركه؛ إذ ليس في ذلك سبيل إلى الشكِّ، لكن الذي تغيَّر هو تَفسيرنا لهذا الذي ندركه، فعلى أي شيء يدل هذا الإدراك المُعيَّن؟ وعلى أي شيء يدلُّ ذلك الإدراك الآخر؟ وبعبارة أخرى، فإننا ما زلنا على يقين بصواب شيء ما، وأما الذي تغير فهو هذا الذي نجعله موضع اليقين؛ فنحن على يقين بأن لدينا الإدراكات الفلانية، لكن الذي يستوجب الحذر والتريث هو تفسيرها؛ أي هو ما تدل عليه تلك الإدراكات بالنسبة إلى الوجود الخارجي، فإذا نحن وقفنا عند حدود إدراكاتنا لم يكن ثمة موضع للزلل، لكن يبدأ الخطأ عندما نستدل من تلك الإدراكات أن كذا وكذا موجود في العالم الخارجي على الصورة الفلانية. هذا هو الأساس الصحيح للرأي الذي ذهب إليه ديكارت بأن «الفكر» أرسخ يقينًا من الأشياء الخارجية؛ فإذا فسَّرنا «الفكر» بالتجارب التي نعدُّها عادة مدركات لأشياء خارجية؛ كان رأي ديكارت — إلى هذا الحد — مقبولًا.
وننتقل بعد هذا إلى مناقشة رأى الدكتور واتسن، وسنرى أن موقفه هو الآخر سليم إلى حد كبير، فإذا كان الأمر كذلك، حاولنا أن نلتمس مذهبًا وسطًا بين ديكارت من ناحية، وواتسن من ناحية أخرى، فنأخذ الصواب من كلَيهما، ونجتنب من كل منهما ما هو موضع للشك.
فللدكتور واتسن رأى فيما هو يقيني يطابق تمام المطابقة الرأي الذي يأخذ به الإدراك الفطري عند عامَّة الناس؛ فالرجل من عامة الناس قد يشك فيما يقوله علماء النفس، لكنه لا يشك أبدًا في مكان عمله وفي وسيلة المواصلات التي ينتقل بها إلى عمله في الصباح، وفي جاني الضرائب وفي حالة الجو وفي سائر هذه الأشياء التي تصادفه في حياته العملية، نعم إنه قد يلهو أحيانًا في أوقات فراغه بالاستماع إلى مفكِّر يحدثه بأن الحياة ربما كانت من قبيل الأحلام، أو يحدثه بأن الأفكار التي تدور في رءوس رُكَّاب القطار أصدق وجودًا من القطار نفسه، ولكنه — إن لم يكن مُحاضرًا في الفلسفة بحُكم مهنته — لا يُلقي بالًا إلى أمثال هذه الآراء في ساعات عمله؛ إذ من ذا الذي يتخيل موظفًا في مكتبه تأخذه الشكوك الميتافيزيقية في وجود رئيسه؟ أم هل يقبل المشرفون على السكك الحديدية — مثلًا — أن يقال لهم إن السكة الحديدية ليست سوى فكرة في عقول الناس، وليست هي بالموجود الخارجي الواقع؟ فعَلى من يشك في وجودها الخارجي أن ينظر إليها بعينيه، أو أن يمشي عليها بقدميه — على أساس أنها غير ذات وجود خارجي واقع — ليدهمه القطار! ألا إن اعتقاد الإنسان في أن المادة غير ذات وجود حقيقي ليُودي بحياته قبل أوانها، لو أنه سلَك على نحو ما يعتقد، إن الإدراك الفطري عند عامة الناس يفرض علينا قبوله ما دام يؤدي بنا إلى البقاء وإلى النجاح في حياتنا اليومية، وإذا تبين لنا بالتحليل أنه إدراك خاطئ، وأردنا أن نستعيض عن أوجه الخطأ منه بأوجه الصواب، وجب ألا يكون هذا الصواب أقل رسوخًا وصلابة من الخطأ المنبوذ، ومقياس الصلابة والرسوخ هو أن يصبح الإدراك أنفع وأنجع في حل مشكلاتنا العملية.
يقول ديكارت: «أنا أفكر فأنا إذن موجود» ويقول واتسن: «أرى الفئران في المتاهات، فأنا إذن لا أفكر» (على أساس أن وجود الإنسان — كوجود الفأر — قوامه السلوك المنظور لا الفكر المستور)؛ فمذهب واتسن يتلخص في النقاط الآتية: (١) أرسخ الحقائق يقينًا هي تلك التي يراها الناس إذا أرادوا رؤيتَها وكانت لهم القدرة على مشاهدتها، وليست هي الحقائق التي يقتصر إدراكها على أصحابها؛ فمثل تلك الحقائق العامة المشاهَدة من خارج هي أساس العلوم الطبيعية من: فيزياء وكيمياء وعلم حياة وتشريح وعلم وظائف الأعضاء وغيرها. (٢) وهذه العلوم الطبيعية نفسها قادرة على تفسير الحقائق المشاهَدة في مجال السلوك البشري. (٣) وليس هنالك ما يُسوِّغ لنا أن نقول إن ثمة حقائق تتصل بالإنسان ممَّا يستحيل معرفته إلا بطريقة أخرى غير المشاهدة الخارجية. (٤) فالتأمل الباطني — أو الاستبطان — على وجه الخصوص، باعتباره طريقة نلجأ إليها في ملاحظة ما ليس يمكن ملاحظته من الخارج، هو وَهْم وخرافة لا بُدَّ من مَحوها إذا أردنا أن نحصِّل عن الإنسان علمًا صحيحًا. (٥) ونتيجة هذا كله أنه لا مسوغ للظن بأن شيئًا اسمه «الفكر» ذو وجود من حيث هو شيء يختلف عن السلوك الجسدي بكل أنواعه.
- (١)
نعم إن الحقائق التي تنبني عليها العلوم الطبيعية هي ممَّا يشاهده الناس مشاهدة خارجية، وإن هذه العلوم ليتأيَّد صدقها على أساس تلك المشاهدة؛ وإذن فلا مندوحة للإدراك الفطري عن قبول القضية الأولى، لكنه لا بُدَّ لنا كذلك من القول بأن الناس قد يُجمعون على حقيقة مُدرَكة بالملاحظة الباطنية، كأن يجمعوا — مثلًا — على أن زهرة معيَّنة كريهة الرائحة، ولا فرق بين إجماع ينبني على مشاهَدة خارجية وإجماع ينبني على ملاحَظة باطنية.
- (٢)
هنالك جوانب من السلوك البشري لا تزال مجهولة التفسير، فكيف نقطع بأن هذا السلوك البشري كلَّه ممكن التفسير على أساس العلوم الطبيعية وحدها؟ وإني لأوافق السلوكيين على رأيهم هذا لو أضيف إليه تحفُّظ واحد، وهو أن نقول إن العلوم الطبيعية تتَّجِه في طريق تنحو به نحو أن تجد الحلول لكل مظاهر السلوك.
- (٣)
يمكن وضع القضية الثالثة على الصورة الآتية: «كل الحقائق التي نستطيع معرفتها عن الإنسان، يمكن معرفتها بنفس الطريقة التي نعرف بها حقائق العلم الطبيعي.» وإني وإن كنت أوافق السلوكيين على هذا الرأي، إلا أني أبنيه على أساس يناقض الأساس الذي يبنونه عليه؛ ذلك لأني أرى أن حقائق العلم الطبيعي هي كحقائق علم النفس تُحصَّل بالملاحظة الباطنية، على حين أن السلوكيين — ومعهم في ذلك الإدراك الفطري — يرون أن حقائق العلم الطبيعي إنما تُشاهَد بملاحَظة خارجية، ثم يرى السلوكيون أن حقائق علم النفس هي كذلك من هذا القبيل نفسه؛ فقد أسلفنا لك القول في الفصل الثالث عشر بأن كل الإدراكات البصرية والسمعية وغيرها، هي إدراكات في رأس مُدرِكها حتى من وجهة نظر علم الطبيعة نفسه؛ فأنت إذ «ترى الشمس»؛ فإنما أنت في حقيقة الأمر تدرك شيئًا قائمًا في طويَّة نفسك.
- (٤)
يقول أنصار التأمل الباطني إن ثمة مصدرًا آخَر لمعرفة الإنسان غير المشاهدة الخارجية، فهل أصابوا؟ لقد أسلفتُ رأيي وهو أن كل المعرفة كائنة ما كانت تعتمدُ على ما يجوز لنا تسميُته «بالإدراك الباطني»، لكنني مع ذلك لا بُدَّ أن أنبِّه إلى شيء من التفرقة؛ فأول وجه للتفرقة هو درجة الارتباط بين ما يشاهده الإنسان داخل نفسه من جهة، والحوادث التي تقع خارج جسمه من جهة أخرى، فافرض — مثلًا — أن سلوكيًّا يلاحظ فأرًا في متاهة، قال لصديق يقف إلى جواره: هل ترى هذا الفأر؟ فإن أجابه الصديق بالإيجاب كان المرئي للسلوكي وصديقه حوادث طبيعية خارجية، وأما إن أجابه الصديق بالنفي، ظن السلوكي أنه إذن واهم فيما يرى، وأن وهمه هذا ربما كان مرجعه إلى شرب الخمر مثلًا؛ لأنه يظن أنه ما دام الصديق لا يرى ما يراه هو؛ فلا بد أن يكون الفأر الذي يراه وهمًا أدركه بالتأمل الباطني، فليس من شكٍّ بأن حادثًا قد حدث، وهو صورة مرئية لفأر في متاهة، وإما أن تكون هذه الصورة مطابقة لشيء في الخارج يشاهده معه سواه، وعندئذٍ يكون الفأر المرئي حقيقة واقعة، وإما أن تقتصر الرؤية عليه هو وحده دون سائر المشاهدين، وعندئذٍ يكون الفأر وهمًا منتزعًا من خياله؛ وإذن فالذي يُميِّز الفأر الحقيقي من الفأر الوهمي هو دليل خارجي آخر (غير صورة الفأر المرئي)؛ ومعنى ذلك أن الإدراك في كلتا الحالتين واحد، والفرق هو أن الإدراك في حالة الحقيقة الخارجية الواقعة يكون مؤيَّدًا بشواهد خارجية أخرى؛ أي إن إدراك الفأر الحقيقي وإدراك الفأر الوهمي هما على السواء إدراك باطني.
- (٥)
وإنا لنصل أخيرًا إلى عُقدة الموضوع كله، وهي هذا السؤال: هل «يفكر» الإنسان؟ إنه سؤال غاية في الغموض، ما دام معنى «التفكير» لم يتحدد في وضوح، ويجوز لنا أن نضع السؤال نفسه على هذه الصورة: هل يعرف الواحد من الناس حوادث في نفسه لا تدخل في مجال المعرفة الطبيعية الشاملة؟ وجوابي على هذا السؤال هو أن الإنسان — فيما أظن — يعرف أشياء لا تقع من العلم الطبيعي في شيء، فقد يلمُّ الأعمى بالعلم الطبيعي إلمامًا كاملًا، ومع ذلك فهو لا يعلم كيف تبدو الأشياء للمُبصرين فلا يعرف الفرق بين الأحمر والأزرق كما تدركه العين. نعم؛ إنه يعرف أطوال الموجات الضوئية ماذا تكون في حالة الأحمر وفي حالة الأزرق، لكن التمييز بين الأحمر والأزرق في رؤية العين أمر لا شأن له بأطوال الموجات، وقد عرف الإنسان كيف يميز هذا اللون من ذاك قبل أن يعرف شيئًا عن موجات الضوء وأطوالها؛ فهذا التمييز اللوني لا يدخل جزءًا من علم الطبيعة، وقل شيئًا كهذا فيما نعلم أنه «لذيذ» أو أنه «مؤلم»؛ فلا يتوقف إدراكُنا للذة أو للألم على معرفتنا للآثار العضوية التي تحدث في جسم الإنسان في حالة اللذة وفي حالة الألم، وإذن فالعلم بما هو لذيذٌ وبما هو مؤلم لا يدخل جزءًا من العلم الطبيعي ولا يتوقَّف عليه.
وحسبي هذا لأقول: إن ديكارت قد أصاب حين جعل الحقيقة تُدرَك من الباطن، وأن واتسن، قد أخطأ حين جعلها تُدرَك من الخارج، ولقد بني واتسن مذهبه على واقعية ساذجة عن العالم الطبيعي، واعتقادي هو أن الإنسان بملاحظته لنفسه من الداخل يحصِّل معرفة لا تكون جزءًا من العلم الطبيعي.