الفصل السابع عشر

الصور الذهنية

يريد لنا أنصار المذهب السلوكي أن ننكر قيام الصور الذهنية، ولا بُدَّ لنا قبل التعليق على رأيهم هذا، من أن نمهد للموضوع بشيء من الشرح والتوضيح.

فما هي الصورة الذهنية في رأي القائلين بوجودها؟ إننا إذا ما أغمضنا عيوننا كانت لدينا صور بصرية للمناظر والوجوه التي سبق لنا أن رأيناها، وكذلك تكون لدينا صور سمعية عندما نستعيد نغمة كنا قد سمعناها؛ كما تكون لدينا صور لمسية حين ننظر إلى فِراء ثم نتصور كيف يكون ملمسه على الأصابع إذا ما مَسسْناه بالأيدي؛ هذه كلها تجارب لا سبيل إلى الشك في وجودها، لكن السؤال هو: كيف نصف أمثال هذه التجارب؟

وكذلك قل في مجموعة أخرى من تجربة الإنسان، ألا وهي الأحلام التي لا تختلف عن إحساساتنا أثناء الصَّحو إلا في عدم ارتباطها بالعالم الخارجي؛ إذ هي لا تتصل بهذا العالم الفعلي بنفس الصلات التي تكون بين عالم الأشياء وعمليات الحس إبان الصحو والوعي؛ فالأحلام حقيقة واقعة لا شكَّ فيها، لكن السؤال هنا أيضًا هو: هل تشتمل على «صور ذهنية» أو لا تشتمل على شيء من هذا القبيل؟

إن أنصار المذهب السلوكي لا يسلِّمون بوجود الصور الذهنية كما أنهم لا يسلمون أيضًا بالإحساسات والإدراكات الحسية؛ إذ تراهم يذهبون إلى رأي مُؤدَّاه أن لا شيء هناك سوى مادة وحركة، فلا يجوز لنا — إذن — أن نتحدث عن الصور الذهنية حديثًا نقارنها فيه بما يحدث لنا من إحساسات وإدراكات حسية إلا إذا أقمنا الدليل الواضح القاطع على وجود هذه الأخيرة، ثم حدَّدْنا خصائصها.

ولقد أسلفنا القول في الفصل الخامس بأن السلوكيين يحدِّدون الإدراك الحسي فيجعلونه «حساسية»؛ أي إنه إذَا ردَّ شخص ما ردًّا مستمرًّا مطردًا «ب» على مؤثر مُعيَّن «أ» قلنا عنه إنه «حسَّاس» للمؤثِّر «أ»؛ وبهذا يصبح الإدراك الحسي في جوهره علاقة سببية بين شخص معيَّن ومؤثِّر في البيئة المحيطة به، بحيث تقع الظاهرة وإدراكها في نفس اللحظة تقريبًا، وكل الفرق الزمني بين وقوع الظاهرة من ناحية وإدراكها الحِسِّي من ناحية أخرى، إنما يكون في الفترة التي يستغرقُها انتقال الضوء أو الصوت من الظاهرة إلى الحواسِّ المدرِكة لها، ثم انتقال الأثر الواقع على الحواس إلى مراكز المخ عن طريق الأعصاب، وهي فترة وجيزة إلا في حالة إدراك الإنسان للظواهر الفلكيَّة البعيدة التي يَستغْرِق انتقال الضوء منها إلى حواس الإنسان وقتًا طويلًا.

فما الذي يحدث عندما لا يكون المؤثِّر الخارجي قائمًا، ثم «نتصور» الصورة مرتسمة في الذهن كما لو كان ذلك المؤثِّر موجودًا بالفِعل يرسل الضوء أو الصوت إلى الحواس؟ بعبارة أخرى: ما تحليل الصورة الذهنية التي نستعيد بها شيئًا كنا قد رأيناه أو سمعناه في لحظة سابقة من حياتنا؟ يجيب الدكتور واتْسُن على هذا السؤال بقوله: إن الذي يحدث عندئذٍ هو أحد أمرين، فإما أن تعود إلى شبكيَّة العين نفس الآثار التي كانت قد حدثت لها فيما سبق عندما كانت تتلقَّى المرئي ساعة رؤيته، وبذلك تكون العملية العضوية واحدة في حالة الحس الفعلي وفي حالة التصور الذهني على حدٍّ سواء، وإما أن يكون ما نستعيده مقتصرًا على صورة لفظية، ومعنى ذلك أن الألفاظ تَتمثَّل في حركات بدنية حقيقية ولكنها خفيفة، ولو ضَخُمَت تلك الحركات وطال أمدها لأدَّت إلى نطق صحيح مسموع لتلك الألفاظ، والذي يحدث عند اكتساب الإنسان لخبراته المرئية والمسموعة والملموسة … إلخ، هو أن تلك الخبرات ترتبط بكلمات، فإذا ما حدث فيما بعد أن تحرَّك البدن بالحركات التي تقتضيها كلمة مُعيَّنة؛ جاء في إثر تلك الحركة البدنية ما كان قد ارتبط بها من تغيرات عضوية في العين أو في الأذن، فلقد أسلفنا القول في هذا الترابط كيف يكون بين مؤثِّرين، بحيث إذا اقترَنا كان كل منهما كافيًا وحده أن يستحدث رد الفعل الذي يستحدثه المؤثِّر الآخر، ومن ذلك أيضًا أنه إذا تأثَّرت العين بأثر ضوئي في نفس اللحظة التي تتأثر فيها الأذن بأثر صوتي، لكان الصوت وحده فيما بعد كفيلًا أن يُحدِث في العين نفس الأثر الذي كانت تأثرتْ به عند رؤية الضوء؛ مثال ذلك أن من طبيعة إنسان العين أن يضيق للضوء الشديد، فإذا ما اقترن هذا الضوء الشديد بصوت مرتفع، ثم أحدثنا هذا الصوت وحدَه فيما بعدُ؛ ضاق إنسان العين كما لو كان الضوء الشديد واقعًا عليه. هذه حقيقة تجريبية لا سبيل إلى إنكارها، ويمكن — في رأي السلوكيين — أن تُفسَّر الصور الذهنية على هذا الأساس، فافرض أنك قد شهدتَ منظرًا معينًا في إيطاليا، ثم حدث لك فيما بعدُ أن جلست في دارك، وأغمضتَ عينيك وارتسمَت في ذهنك صورة لذلك المنظر، فالحقيقة هنا هي أن «لفظ» إيطاليا — وهو أثر سمعي — قد اهتزت به الأعضاء البدنية الخاصَّة بنطق الألفاظ، وإن تكن قد اهتزت هزة خفيفة لم تبلغ أن تكون صوتًا مسموعًا، ولما كانت هذه الاهتزازة الحركية اللفظية مرتبطة بأثر مُعيَّن على شبكية العين، وفي عصب الإبصار — وهو أثر كان قد تمَّ حدوثه عندما أبصرت المنظر المذكور — فإنك عندئذٍ ستكون في حالة عضوية تشبه حالة مَن يرى المنظر قائمًا بالفعل أمام عينيه — وقد يستتبع هذا الأثر العضوي أثرًا آخر كان قد ارتبط به، فأثرًا ثالثًا فرابعًا، فتتصور بذلك أنك تستعيد صورة ذهنية لرحلة طويلة قمت بها، مع أن الذي يحدث لك فعلًا هو حركات عضوية خفيفة هي نفسها الحركات التي كانت تحركت بها حواسك وأعصابك عند ممارسة الإحساس في ساعته.

وإني وإن كنت أوافق على أن الصور الذهنية قد لا تكون شيئًا أكثر من تكرار حدوث الحركات العضوية التي كانت قد حدثت ساعة الإحساس الفعلي، إلا أنني لا أرى ضرورة تقتضي أن تسبق الحركات اللفظية حدوث الحركات البصرية؛ فربما استعدت صورة مرئية سابقة دون أن يسبق ذلك عندي استعادة للفظة مرتبطة بها؛ ففي مستطاعي أن أسترجع صورًا ذهنية غاية في الوضوح عن البيت الذي نشأت فيه طفلًا، فإن سُئلت سؤالًا عن الأثاث الذي كان في إحدى حجراته، لما استطعت الجواب إلا بعد أن أستعيد صورة الحجرة أولًا، ثم أستعرض محتوياتها لأجيب؛ كما يحدث تمامًا حين أكون بالفعل في حجرة حقيقية وأُسأل عن محتواها فلا أجيب إلا بعد أن أستعرض بالنظر ذلك المحتوى، وإذن فالصورة البصرية تأتي أولًا والكلمات تأتي ثانيًا، بل إن هذه الكلمات قد لا ترِدُ إطلاقًا مع الصورة البصرية، وإن كنت لا أدري ماذا يحدث في شبكيَّة العين أو في العصب البصري في اللحظة التي أستعيد فيها الصورة البصرية.

كانت الفكرة التقليدية في مبدأ الترابُط أنه ترابط بين الأفكار، ثم جاء السلوكيون فحَوَّرُوه إذ جعلوه ترابطًا بين الحركات؛ أي بين أجزاء السلوك، وبهذا تَرتدُّ الأفكار نفسها إلى وحدات سلوكية، ولقد ذكرنا فيما سبق أن المدرَكات الحسية تنحلُّ إلى مجموعات من حوادث تختلف عن الأشياء الخارجية المدرَكة التي تكون تلك المدرَكات الحسية مدرَكات عنها، ولا ترتبط الأولى بالثانية إلا بالروابط السَّبَبيَّة؛ ولهذا فلست أرى ما يمنع أن يكون الترابط في قطاع الحوادث — التي هي قوام المدركات الحسية — شبيهًا في أثره بالترابط الذي يحدث في مجال العضلات والغدد، وبعبارة أخرى ليس هنالك ما يُسوِّغ لنا إنكار ما كان يسمَّى من قبل «بترابط الأفكار»، على الرغم من أن التغيرات الجسدية هي الأخرى تترابط، وإذا كان لا بُدَّ لترابط الأفكار من أساس عضوي نقيمُه عليه، فيجوز لنا أن نقول إن ترابط الأفكار يحدث في المخ، فحالة المخ التي تؤدي بنا إلى نطق كلمة «نابليون» تكون مرتبطة بحالة المخ التي تؤدي بنا إلى رؤية «صورة» نابليون؛ وبهذا يمكن للكلمة والصورة أن تستدعي إحداهما الأخرى.

وقد نقول عند التفرقة بين الإدراك الحسي والتصور: إن الأول يكون حين يكون الشيء المدرَك ماثلًا أمامك، فأنت تدرك المِنْضَدة إدراكًا حسيًّا حين تكون المِنْضَدة المدرَكة ماثلة في متناول البصر، وعندئذٍ يرتبط الشيء المدرَك بالإدراك الحسي له بسلسلة سببية يمكن السير فيها من الشيء إلى الإدراك أو من الإدراك إلى الشيء؛ أما في التصوُّر فلا يكون الشيء المتصوَّر ماثلًا حاضرًا؛ أي إن الصورة الذهنية لا تكون جزءًا من الإحساس المباشر بالأشياء الراهنة، فإذا شممتَ رائحة طعام جاءتك من محيطك الخارجي، ثم استدعت هذه الرائحة المشمومة صورة لأيرلندا؛ لأنك كنت قد شممت مثل هذه الرائحة أثناء مقامك بأيرلندا فيما مضى، فإنَّ تَصوُّرك لأيرلندا لا يكون جزءًا من الإحساس الشمِّي الراهن؛ أعني أنك لا تستطيع أن ترتد من الصورة الذهنية إلى مؤثِّر خارجي حاضر ساعة التصور، ولكن لا يفوتنا أن هذا التصور ما كان لينشأ لو لم يكن هنالك في خبرتك الماضية أصل حسي له، ومعنى ذلك كله هو أن ما يتكون في داخلنا عند إحساسنا لشيء ما خارج أجسامنا، فيه جزء آتٍ عن طريق الإحساس المباشر، وفيه جزء آخَر منضوح من خبراتنا السابقة، وهذا الجزء الآخَر يشتمل فيما يشتمل عليه، على ما نسميه بالتصور.

فاعرض صورة رجل أمام حشد مختلف من الناس تتساوى عندهم جميعًا ظروف الرؤية؛ تجد الأطفال الرضَّع من هؤلاء لا يرون «صورة» لرجل، بل يَتلقَّون إحساسات ضوئية خالصة؛ إذ ليس في تجاربهم الماضية ما يجعل تلك الإحساسات عندهم «رجلًا»، وتجد أن مَن بلغ من العمر بضعة أشهر قد يرى الصورة صورة رجل، لكنه يراها ذات بُعدين كما تقع على شبكيَّة عينيه؛ لأن تجاربه اللَّمسية لا تُسعفه بعدُ في إضافة البُعد الثالث من تَصوُّره إلى البُعدين اللذين ينطبعان عن طريق الحس المباشر، وتجد مَن جاوز منهم عامًا، استطاع تفسير ما يراه بأنه صورة لكائن ذي ثلاثة أبعاد؛ لأن له من تجاربه الماضية ما يضيف البُعد الثالث الذي كان قد جاءه في تجربة سابقة عن طريق اللمس، إلى البُعدين اللذَيْن يجيئانه الآن عن طريق البصر. وهكذا يظل يزداد تأثير التجربة الماضية في إدراك الشيء المدرَك، على أن كل زيادة تضاف إلى الإحساس الخالص المباشر هي من قبيل التصور.

فالحادثة العقلية تكون «تصوُّرًا» حين تكون من نفس النوع الذي نسميه إحساسًا، وغاية ما في الأمر أن الشيء المحَسَّ عندئذٍ لا يكون موجودًا في المحيط الخارجي الماثل، ومادة معظم الأحلام — سواء منها أحلام النوم وأحلام اليقظة — هي من هذا القبيل.

ومن هذا يتبين أن الصور الذهنية تأتينا بطرقٍ مختلفة وتؤدي وظائفَ مختلفة؛ فهنالك الصور الذهنية التي تأتي مرتبطة بالإحساس الراهن، كالصفة اللمسيَّة التي نضيفها إلى شيء نراه ولا نلمسه، أو الصفة البصرية التي نضيفها إلى شيء نلمسه ولا نراه، وبعض الأحلام — فيما أظن — يرجع إلى هذا النوع من التصوُّر؛ إذ إن بعض الأحلام ينشأ نتيجة لتأثر حاسَّة بمؤثِّر معيَّن، نخطئ في تفسيره، في هذه الحالة يكون الإحساسُ — أي تأثر الحاسة بالمؤثر المعين — هو الذي استثار الصورة الذهنية، على الرغم من أن تلك الصورة تأتي بعيدة الصلة بالإحساس الذي أثارها، وذلك لانعدام القدرة على النقد عند النائم، وهي القدرة التي يستطيع بها أن يصحح إدراكه الأشياء أثناء صَحْوه، وهنالك أيضًا صور ذهنية لا تستثيرها واقعة راهنة، بل تستثيرها واقعة ماضية أثرت على الحواس فيما مضى، وبقي أثرها في الذاكرة، وهنالك صور حسية نستدعيها بالإرادة والاختيار كالصور التي نستدعيها إلى أذهاننا إذا أرَدْنا أن نزخرف غرفة، ولهذا النوع من الصور الذهنية أهمية خاصَّة، لكنني سأتركه حتى نعرف ماذا نقصد بقولنا «اختيار».

وسأتناول في الفصل الآتي الدور الذي تؤدِّيه الصور الذهنية في الذاكرة والخيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥