الخيال والذاكرة
سبق لنا أن بَحَثْنا الذاكرة في الفصل السادس، لكننا عندئذٍ قد نظرنا إليها من الخارج المشهود، وأما ها هنا فسنسأل إن كان هنالك جانب آخر من الذاكرة نستمد العلم به ممَّا يدركه الشخص المتذكِّر نفسه من مشاهدة نفسه من داخل، ممَّا لا يدركه سواه.
ولست أظنُّ أن التصور الذهني يؤدي دورًا هامًّا في عملية التذكُّر، فقد يكون التذكر تذكرًا لصور ذهنية وقد لا يكون؛ فأحيانًا أتذكَّر صورًا لما قد مر بي كالمنزل الذي نشأت فيه صغيرًا، وأحيانًا أخرى لا يكون الشيء المتذكَّر إلا ألفاظًا فقط، تقوم مقام الخبرات الماضية.
لقد رد السلوكيون أمر الذاكرة إلى عاداتٍ سلوكية وكفى، فالكائن الحي «يتذكر» بمعنى أنه يكرِّر في الحاضر سلوكًا أداه في الماضي، وهذا التكرار المحفوظ هو العادات، وإذن فالذاكرة هي نفسها العادة، وهذا صحيح بالنسبة لبعض الحالات؛ كالسباحة وركوب الدراجة وتسميع قصيدة من الشعر، لكني لا أرى هذا التحليل للذاكرة يستوعب كلَّ جوانبها، من ذلك فكرة «الماضي» التي نكون على وعي بها عندما نكرر في اللحظة الحاضرة عملًا أدَّيْناه فيما مضى، فقد يكون العمل هو نفسه، لكنني إذ أؤدِّيه «الآن» أعلم أنه فعل حاضر، حتى إذا ما مضى عليه الزمن، كنت على وعي بأنني قد أدَّيْته فيما مضى، ومن هنا كان في اللغة اختلاف بين استعمال الفعل المضارع والفعل الماضي، فأقول إني «آكل» عندما يكون الأكل راهنًا، وأقول إني «أكلت» عندما يكون الأكل فعلًا تمَّ في الماضي، فمن أين إذن تأتي فكرة الماضي هذه عند الإنسان إذا كانت الذاكرة مجرد تكرار للفعل بحكم العادة الجسدية، كما يكرر الفأر طريقه في المتاهة؟
نعم إن الذي يستثير التذكر هو بغير شكٍّ شيء ماثل في نطاق الحس في اللحظة الحاضرة، لكن استجابتنا لهذا المؤثر الحاضر — في حالة التذكُّر — إنما تتمُّ برجوعنا إلى حادثة معينة وقعت في الماضي أكثر ممَّا تتعلق بالمؤثر الحاضر؛ فالارتباط بين رد الفعل من جهة والمؤثر الذي استثاره من جهة أخرى، لا يكون ارتباطًا مقصورًا على الظُّروف الراهنة وحدها — دون الرجوع إلى أية حادثة ماضية — إلا في حالة الأشياء الجامدة، كقُرص الحاكي تديره وتضع عليه الإبرة فيردُّ بأحداث معيَّنة. فإذا كان الإنسان عندما يتذكر شيئًا حدَث له في الماضي، يُعيد الآن ما قد حدث، كما يعيد قُرص الحاكي الآن ما قد نطق به مرة سابقة، إلا أن الإنسان يختلف بكونه يعلم عند تَذكُّره أنه يفعل الآن ما قد فعله من قبل، وإذن فهنالك فرقٌ بين حالَتَي الفعل؛ الحالة الماضية والحالة الحاضرة، وهذا الفرق هو أن الحالة الحاضرة قد أضيف إليها علم بفكرة الحدوث الماضي، ونحن الآن معنيُّون لا بوجه الشَّبه بين الفعلين، بل مَعنيُّون بوجه الاختلاف؛ فنسأل: من أين يأتي الشعور بالماضي عند الإنسان في حالة التذكر، لو كان الأمر كله أمر عادة سلوكية تعيد الآن ما قد وقع ذات مرَّة ولا شيء أكثر من ذاك؟ افرض أنك قد قلتَ لحبيبتك ذات يوم: «إني أحبك» ثم سجلت هذه العبارة على قُرص الحاكي، وجئت بعد خمسة أيام مثلًا لتعيد العبارة نفسها، فها هنا ستجد عندك فرقًا بين الحالتين، لكنك لن تجد مثل هذا الفرق في القُرص؛ لأن القُرص عندئذٍ لن يستطيع — كما تستطيع أنت — أن يقول: «إني أحببتك يوم الأربعاء الماضي» إن القُرص سيظل يعيد العبارة نفسها «إني أحبك» بغير إضافة وبغير تبديل أو تعديل ممَّا يَقتضيه مرُّ الزمن الذي يجعل ماضيًا ما كان حاضرًا، وأحسب أن هذا الاختلاف مردُّه عند الإنسان ما يحدث في داخله من ترابط بين الحادثة المعينة وسواها؛ فهذا الترابط هو الذي يتميَّز به الإنسان في عملية التذكُّر، وهو الذي يجعل التذكُّر أمرًا لا يقتصر على مُجرَّد رد الفعل الحاضر لمؤثِّر حاضر بغير الرجوع إلى حوادث أخرى كانت قد ترابطت مع هذه الاستجابة، وأصبحت مصاحبة لها في حدوثها، فإذا تحدَّثتَ مع صديقك حديثًا جميلًا في مكان معيَّن، ثم مررت بهذا المكان بعد زمن؛ كانت رؤيتك للمكان كفيلة أن تُذكِّرك بالحديث الجميل الذي مضى يومه، مع أنه لا صديق هناك يحدثك الآن، ولا كذلك قُرص الحاكي الذي لا يعيد الآن ما فعله أمس إلا إذا عاد له الآن نفسُ المؤثِّر الذي وقع له بالأمس.
فعملية التذكُّر عند الإنسان — إذن — تتضمَّن وعيًا بمر الزمن، ويؤيد ذلك أن هذا الوعي حين يخبو أثناء النوم فتخمد تبعًا لذلك مَلَكة النقد؛ عندئذٍ قد يحيا النائم في ذكريات ماضية معتقدًا — وهو في الحلم — أنه يحيا حاضرًا، دون أن تطوفَ به فكرة أن ما يحيط به ماضٍ مُعاد، ومعنى ذلك أننا أثناء ساعات اليقظة عندما نتذكر الماضي ونحن على وعي بأنه ماضٍ، فإنما نعتمد في ذلك على قوانا العقلية الصاحية، وعلى عكس ذلك قد حدث أحيانًا أن يدرك الإنسان موقفًا حاضرًا فيتوَّهم أنه قد مر به في خبرته الماضية، ولقد كثر الحديث في تعليل مثل هذا الوهم، ولعله يرجع إلى استغراقه عندئذٍ في حالة شعورية من شأنها أن تأتيه الحوادث الخارجية فاترة واهنة، فيختلط أمرها عليه بحيث تحسها صورة ذهنية حالة كونها إحساسات مباشرة.
ولو كان هذا الرأي صحيحًا، لكان شعورنا بالماضي شعورًا مركبًا، فقد يكون الشيء المدرك بالحس الآن مرتبطًا بشيء آخر ممَّا قد خبرناه فيما مضى، فيستدعي الأول الثاني، حتى إذا ما مَثُل أمام الذهن وجدناه مختلفًا عمَّا هو راهن أمام الحواس في اللحظة الحاضرة، فضلًا عن أنه لا يتسق مع بقية الحاضرات في مجرى الحوادث التي تحيط بنا، فها هنا ترانا بين أمرين؛ فإما أن نقول إن هذه الصورة المستدعاة صورة لما حدث في الماضي، وعندئذٍ يكون الأمر تذكرًا، أو أن نقول عنه إنه من خلق الخيال، ويبقى علينا أن نسأل: لماذا ننسب الصورة المستدعاة إلى الماضي حينًا ونسميها تذكرًا، وننسبها إلى خلق الخيال حينًا آخر؟ وإن هذا السؤال لينقلنا إلى الحديث عن الخيال، والرأي عندي هو أن الذاكرة أعمق جذورًا من الخيال، فما الخيال إلا مجموعة من تَذكُّرات اجتمع بعضها إلى بعض. على أننا لكي نبين صدق هذا الزعم، ينبغي أولًا أن نتناول الخيال بالتحليل؛ فتتبين طبيعته من جهة، ويزداد علمنا بالذاكرة دقة من جهة أخرى.
وما الموهبة الأدبية إلا هذا الربط الجديد لعناصر حسِّيَّة لم تكن قد جاءت أول الأمر على هذا الترتيب، وتدل الطريقة التي يربط بها الكاتب عناصر خبرته الماضية في قطعته الأدبية، على حياته العاطفية؛ لأن ما يربط لفظين أحدهما بالآخر في عقل الكاتب هو أنهما — في الغالب — متشابهان في العاطفة التي يثيرانها، وهكذا تظل الحالة العاطفية المستولية على الكاتب ساعة تأليفه الأدبي، تستثير من العناصر الماضية ما يوائمها بحيث ينتهي الأمر إلى تركيب جديد تتردد فيه نغمة عاطفية واحدة.
وكما أن الخيال هو تركيب جديد لعناصر قديمة، فكذلك يتميز بخاصَّة أخرى، وهي أن التركيب الجديد لا يحمل معه عند صاحبه اعتقادًا بصدق تطابقه مع حالات الواقع كما يقع فعلًا، على أن هذه التفرقة بين الصورة الخيالية من جهة وصورة الواقع من جهة أخرى، لا تتوافر إلا لمن كان في حالة الوعي الكامل؛ إذ هي تنعدم في الحالات التي يضعف فيها الوعي، كحالات النوم، وحالات الانفعال الشديد، وعند الأطفال؛ ففي كل هذه الحالات يخلط الإنسان بين صوره المتخيَّلة وبين الواقع.