التحليل الباطني للإدراك الحسي
كنا قد بحثنا الإدراك الحسي من وجهة نظر السلوكين ومن وجهة نظر العلم الفيزيائي، وها نحن أولاء نتناوله مرة ثالثة لننظر إليه من ناحية التأمل الباطني كذلك؛ لنرى ماذا يحدث في بواطن أنفسنا حين نقوم بعملية الإدراك الحسي، وسأبدأ بعرض طائفة من المذاهب التقليدية عن الأحداث العقلية، لأنتقل بعد ذلك إلى وجهة النظر التي أدافع عنها.
إن كلمتَي «عقل» و«مادة» تُستَعمَلان في غير دقة، عند عامة الناس وعند الفلاسفة على السواء، ولئن جاز الإغضاء عن عامة الناس، فعلى الفلاسفة يقع اللوم، والظن عندي هو أن العقل والمادة لا يتميزان بخط فاصل، بل إنهما ليختلفان في الدرجة وحدها لا في النوع، فالمحارة أقل عقلًا من الإنسان، لكنها لا تخلو من عقل، والرأي عندي هو أننا إذ نصف شيئًا بصفة «العقل» فإنما يكون ذلك أقرب إلى وصفنا له بأنه «متسق» أو «غير متسق»، وصفة الاتساق هذه لا تصدق على حقيقة واحدة بذاتها، بل تقال عن مجموعة من الحقائق في صلتها بعضها بعض، على أني قبل أن أدافع عن هذا الرأي، سأعرض الآراء التي كانت سائدة من قبل.
تقول الآراء التقليدية إن ثمة طريقين ندرك بهما أن شيئًا معينًا موجود؛ الطريق الأول هو الحواس، والطريق الثاني هو التأمل الباطني، أو هو ما أطلق عليه «كانْت» اسم «الحاسة الباطنية»، والأحداث التي نعلم بوجودها عن طريق التأمل الباطني تختلف اختلافًا بعيدًا عن الأحداث التي نعلم بوجودها عن طريق الحواس الخارجية؛ فما ندركه بالتأمل الباطني يوصف بأنه عقلي، كما يُوصف بهذه الصفة نفسها بقية الأحداث التي هي من قبيل الأحداث التي تُدْرَك بالتأمل الباطني.
والتقليد يقسم الأحداث العقلية ثلاثة أقسام؛ الإدراك والإرادة والوجدان، ونعني بالوجدان هنا الشعور باللذة وعدم الشعور باللذة، ولا نقول اللذة والألم؛ لأن «الألم» كلمة غامضة قد نعني بها إحساسًا مؤلمًا كما تقول: إن في ضرسي ألمًا، أو قد نعني بها ما يترتب على الإحساس من شعور غير سار، ونستطيع القول بصفة إجمالية إن اللذة هي تلك الصفة التي تجعلك أميَل إلى المضي في تجربتك التي أنت قائم بها، وأما عدم اللذة فهو — على خلاف ذلك — ما يجعلك تريدُ للتجربة القائمة أن تقف.
وأما جانب الإدراك فيتضمن المعرفة الصواب والخطأ، كما يتضمن الرأي والإدراك الحسي.
وأما الإرادة — أو النزوع — فيتضمن الرغبة والنفور، أو هي بصفة عامَّة تشتمل على شتَّى الحالات العقلية التي تؤدِّي إلى عمل.
وتذهب النظرية القديمة إلى أن الإدراك والنزوع معًا ينصبَّان حتمًا على «شيء» ما، فما تدركه أو تعتقد فيه، وما ترغب فيه أو تريده، هو شيء يختلف عن حالتك العقلية، فمثلًا إذا تذكرت حادثة ماضية، فتذكُّرُك هو حادثة واقعة الآن، أما الحادثة المتذكَّرة فقد مضت؛ وإذن فحادثة التذكر مختلفة عن الحادثة المتذكَّرة، وهذا يوضح ما قلناه من أن الحادثة العقلية الإدراكية (وهي التذكر في هذه الحالة) لا بُدَّ لها أن تشير إلى طرف آخر غيرها (وهو الحادثة المتذكَّرة في المثل السابق). وخذ مثلًا آخر: تريد أن تحرك ذراعك، فها هنا طرفان هما الإرادة من ناحية وحركة الذراع التي هي من قبيل الحوادث الطبيعية من ناحية أخرى، ومعنى ذلك أن الحالة العقلية (الإرادة) مختلفة في نوعها عن الشيء الذي انصبت عليه.
تلك كانت وجهة النظر القديمة في الإدراك والإرادة، وليس من شك في أنهما ينصبَّان على شيء ما، ولكن مع ذلك أختلف عن النظرية التقليدية في تفسير الموقف، وسأتناول فيما يلي بإيجاز شرح رأيي؛ لأنه بغير هذا الشرح لا نستطيع أن نفهم صفة «عقلي» التي نصف بها الأحداث العقلية|، وسأكتفي هنا بشرح جانب الإدراك.
إن الفلاسفة مهما اختلفوا في معنى الإدراك، فأحسبهم جميعًا يتفقون على ما يأتي:
أنواع الإدراك مختلفة، وأهمها الإدراك الحسي والذاكرة والإدراك العقلي والاعتقاد، وأما الإدراك الحسي فهو الشعور بوجود الأشياء التي يقع عليها الحس، كرؤيتك للمِنْضَدة أو سماعك لأصوات البيانو، وأما الذاكرة فهي إدراك حادثة ماضية إدراكًا مباشرًا، فلا هو مستدَلٌّ ولا هو مستمد من شهادة غيرك، وأما الإدراك العقلي فهو ما يحدث عندما نفهم معنى كلمة مجردة؛ فليس من الإدراك العقلي أن ترى قطعة من الثلج الأبيض، أو أن تستعيد صورة قطعة منه كان قد وقع عليها بصرُك في لحظة ماضية، لكنك إذا جعلت موضوع تفكيرك هو «البياض» إطلاقًا؛ فذلك هو الإدراك العقلي. وكذلك من الإدراك العقلي أن تفكر في «الاستدارة» إطلاقًا بعد رؤيتك لقطعة من النقود مستديرة؛ ففي هذه الحالات وأمثالها يكون موضوع التفكير «كليًّا» لا جزئيًّا، ولا بُدَّ في كل جملة من مدرك عقلي واحد على الأقل؛ أي إن كل فكرة يمكن التعبير عنها بكلمات لا بُدَّ أن تشتمل على إدراك عقلي.
ولكل من هذه الحالات الإدراكية مشكلاتها، ولكني سأقتصر هنا على نوع إدراكي واحد، هو الإدراك الحسي، وسأتناوله من زاوية التأمل الباطني وحده.
هَبْك قد مارست التجربة الحسية التي تُسوِّغ لك أن تقول «إني رأيت مِنْضَدة» ظانًّا بجملتك هذه أنك قد حكمت الحكم الصحيح على ما قد حدث في الواقع، لكن ما أبعد الشُّقَّة بين حكمك هذا الذي قررت به ما قد وقع لك في إدراكك الحسي، وبين حقيقة الأمر كما هي في الواقع؛ فقد تحسب أن المِنْضَدة التي رأيتها مستطيلة؛ على حين أن البقعة اللونية التي وقعت على بصرك لم تكن كذلك، وإنك لتعلم حقيقة أمرها إذا تصدَّيت لرسم ما ترى على ورقة، فعندئذٍ ستعلم أن سطحها المرئي ليس مستطيلًا، وإن حكمك عليه بالاستطالة هو من قبيل الاستدلال لا من قبيل الوصف المباشر لما يقع منه على الحس ساعة الرؤية، وكذلك قد تحسب أنك عندما «رأيت» المِنْضَدة رأيتها صلبة، مع أن الصلابة التي تحكم بها عليها لا تجيئُك إلا عن طريق اللمس؛ وقد ترى من المِنْضَدة ما تراه، ثم تلمسها بأصابعك فإذا هي من الورق الخفيف اللين، وكذلك تراك إذ ترى المِنْضَدة تتوقع لها ثقلًا معيَّنًا، على حين أن الثقل له حاسة أخرى تنبئك به غير حاسة البصر؛ أي إن حكمك عليها بالثقل هو أيضًا استدلال من خبراتك السابقة ولا يدخل ضمن الإدراك الحسي المباشر، وليس مستحيلًا أن ترى المِنْضَدة ثم تحملها فتراها أخف مما توقعت لها. وإذن فالإدراك الحسي يشتمل على أشياء كثيرة جدًّا ممَّا ليس يقع في عملية الإحساس المباشر.
فالإحساس المجرد عن كل إدراك، يوشك ألَّا يكون له وجود، ونقصد به الأثر الذي يحدثه المؤثِّر في الحاسَّة خلوًا من كل تجربة سابقة، لكن إدخال التجارب السابقة أمر يكاد يكون محتومًا؛ فأنت حين نظرت إلى المِنْضَدة وقلت عنها إنها مستطيلة، كنتَ تستعين في ذلك بخبراتك السابقة، ولو كنتَ قد وُلدتَ مكفوف البصر، ثم انفتح بصرك فجأة ونظرتَ إلى المِنْضَدة لَما قلتَ عنها إنها مستطيلة، بل كنتَ عندئذٍ لَتَصف شكل سطحها كما تراه فعلًا في الرؤية المباشرة، فتقول إنه متوازي أضلاع؛ لأنك هكذا تراه فعلًا، وكذلك لو لم تقع لك المناضد في خبراتك السابقة، لَما توقَّعتَ لهذه المِنْضَدة التي تراها أن تكون صلبة على اللمس وثقيلة الوزن عند حملها، فلو اقتصرنا على التأمل الباطني وحده في الإحساس المجرَّد الذي تمارسه؛ لَما استطعنا أن نجد في ذلك الإحساس كل هذه الجوانب التي نضيفها إليه إضافة ينشأ عنها ما نسميه بالإدراك الحسي. ولو اقتصرنا كذلك على التأمل الباطني وحده في تحليل الإدراك الحسي؛ لَما عرَفنا أين هي العناصر التي جاءتنا من المؤثِّر الخارجي مباشرة، وأين التي أضفناها من الخبرة السابقة؟ فسبيل معرفتنا لهذه التفرقة إنما هو دراسة الموضوع دراسة سببية، وليس هو الدراسة التأملية الباطنية.
إننا في مجرى الحياة الواعية نرى ونسمع ونلمس وقد نشمُّ ونذوق في لحظة واحدة؛ فمُحال أن تمر علينا لحظة نخلو فيها من إحساسات، كما أننا لا ننفك شاعرين باللذَّة أو بعدمها، وشاعرين بالرغبة في هذا والنفور من ذلك، ولكننا في العادة لا نكون على وعي بهذه الإحساسات كلها، فلا يدخل الإحساس المعين في نطاق الوعي إلا إذا وجَّهْنا إليه الانتباه.
ولست أنوي أن أبحث في طبيعة الانتباه، ولكني أكتفي هنا بالقول بأن الانتباه هو الذي يهيئ لنا الخطوات الأولى في طريقنا إلى التجريد؛ فمن الأشياء الكثيرة التي تتزاحم على حواسنا، ترانا نوجه الانتباه إلى بعضها دون بعضها الآخر، وبهذا يتم لنا التجريد؛ أعني تجريد أحد جوانب الحقيقة الواقعة على حواسِّنا؛ ليقوم وحده مستقلًّا عن بقية الجوانب، وإذن فاختيارنا لما نوجه إليه الانتباه هو الخطوة الأولى في عملية التجريد؛ مثال ذلك أن نجرد اللون من الشيء الملوَّن، وأن نجرد من المثلث أضلاعه وزواياه.
وها هنا نصل إلى مسألة هامة يتوقف عليها رأينا في علاقة العقل بالمادة إلى حد كبير، وتلك المسألة هي: ما الفرق بين القضيتين الآتيتين: «هنالك مُثلَّث» و«أرى مثلَّثًا»؟ إنهما قضيتان مختلفتان؛ فقضية «أرى مثلثًا» تُقرِّر حادثة في حياتي، وربما كان لهذه الحادثة أثر في توجيه تلك الحياة، وأما قضية «هنالك مُثلَّث» فتُقرِّر أن في العالم الخارجي حادثة ما، وهي ليست جزءًا متمِّمًا لمجرى حياتي أنا الخاصَّة، فلكل إنسان — إذا شاء — أن يقع على تلك الواقعة القائمة في الخارج كما وقعتُ عليها أنا، ولكن متى يجوز لك أن تقول: «هنالك مثلَّث»؟ يجوز لك ذلك إن كنتَ قد رأيتَه منذ لحظة قصيرة ثم أغمضتَ عينيك، فعندئذٍ لا تقول: «أرى مثلَّثًا» بل تقول: «هنالك مثلَّث»؛ ارتكانًا إلى رؤيتك السابقة، وإلى الذاكرة التي حفظت لك الصورة المرئية ثم إلى الاعتقاد بأن شيئًا لم يحدثْ في اللحظة القصيرة الماضية ممَّا عساه أن يمحو المثلَّث من الوجود الخارجي، ومعنى ذلك أن قضية «هنالك مثلَّث» معتمدة على قضية «أرى مثلَّثًا» إذ لا بُدَّ أن تسبق هذه تلك في ترتيب الحدوث، ومما يدل على استقلال هاتين القضيتين إحداهما عن الأخرى، أنه قد يجوز لك أن تقول إحداهما ولا يجوز لك أن تقول الأخرى؛ فمثلًا قد تُصاب بسوء الهضم أو بالإجهاد فترى بقعًا سوداء سابحة في الهواء، وعندئذٍ يحق لك أن تقول: «أرى بقعًا سوداء»، لكن لا يجوز لك أن تقول: «هنالك بقع سوداء»؛ لأن ما تراهُ مقتصر على كيانك دون أن يكون له مقابل موجود في العالم الخارجي، ويدل هذا على أن قضية «هنالك بقع سوداء» أقوى من قضية «أرى بقعة سوداء»؛ لأنه إذا تَحقَّقت الأولى تحققت الثانية بالضرورة، أما إذا تحققت الثانية فلا يلزم عنها تحقق الأولى.
فأنت إذ تقول: «هنالك مثلث» معتمدًا في ذلك على رؤية وقعت منذ لحظة قصيرة، فإنما تجتاز ثلاث مراحل؛ في المرحلة الأولى توكيد لك من الذاكرة بأنك قد رأيتَ مثلَّثًا منذ حين، وفي المرحلة الثانية توكيد منك بأنه قد كان هنالك مثلَّث منذ حين، وفي المرحلة الثالثة انتقال من توكيد الماضي إلى توكيد الحاضر؛ فتقول: هنالك مثلث الآن (حتى وإن كنت لا أراه) وبهذا نكون قد ابتعدنا خطوات عن المعرفة اليقينية المباشرة إلى المعرفة الاستدلالية المحتملة.
ومن هذا يتضح أن ألصق القضايا باليقين، هي القضية الأولى «أرى مثلَّثًا»؛ لأن كل القضايا الأخرى متوقِّفة على هذه ومُترتِّبة عليها بطريق الاستدلال، هذا على شريطة ألا يكون قولنا «أرى مثلَّثا» هو من قبيل قولنا «أرى بقعًا سوداء» ممَّا يُسبِّبه الإجهاد أو سوء الهضم، ومما يجعل الرؤية أمرًا ذاتيًّا خاصًّا لا أمرًا عامًّا شائعًا يستطيع كل إنسان آخر أن يراه.
فجدير بنا — إذن — أن نركِّز البحث في هذه القضية الأولية التي هي أقرب من أخواتها إلى اليقين، وأعني قضية «أرى مثلَّثًا». وإنَّا لنتساءل إزاء هذه القضية قائلين: هل هي بأَسْرها حقيقة أولية مباشرة، أم إن فيها عناصر ليست أولية ولا مباشرة؟ إن نظرة عجلى لتكفيك أن تعلم أن كلمتَي «أنا» و«أرى» (لاحظ أن كلمة «أنا» متضمنة في الفعل «أرى» فكأنما نقول: «إني أرى» أو «أنا أرى») أقول إن نظرة عجلى تكفيك لتعلم أن كلمتَي «أنا» و«أرى» بعيدتان عن أن تكونا مُشِيرتَيْن إلى حوادث راهنة مباشرة؛ فكلمة «أنا» رمز يشير إلى سلسلة طويلة من الأحداث، بعضها ماضٍ وبعضها متوقَّع الحدوث في المستقبل؛ فإذا كان المُتكلِّم يشير إلى نفسه بكلمة «أنا» فهو إنما يضيف إلى اللحظة الراهنة من سلسلة كيانِه لحظات مَضت يعتمد في حفظها على الذاكرة، ولحظات مُستقبَلة يعتمد في الإشارة إليها على التوقع، وإذن فكلمة «أنا» أبعد ما تكون الكلمة عن الإشارة المباشرة إلى واقعة راهنة، ما دامت تشير إلى ذخيرة ضخمة من التجارب الماضية المحفوظة في الذاكرة، وإلى مجموعة كبيرة أخرى من التجارب التي لم تقع لي بعد لكني أتوقع حدوثها، ولما كان هدفنا الآن هو تحديد المدرَك المباشر اليقيني في الموقف الذي أمارس فيه تجربة أقول عنها: «إني أرى مثلَّثًا» فلا مندوحة لنا عن حذف كلمة «أنا»؛ لأنها ليست ممَّا يُدرَك إدراكًا مباشرًا في اللحظة الراهنة؛ فتصبح القضية بعد حذف ضمير المتكلم: «إنَّ مثلَّثًا يُرى».
وقُل شيئًا كهذا في كلمة «أرى»؛ لأنها كلمة تتضمن علاقات سببية؛ إذ تتضمن فيما تتضمنه أن شيئًا ما مَعتمِد على العين الرائية، ولا بُدَّ أن يسبق الموقفَ الراهنَ مجموعةٌ من التجارب الماضية تمكنني من القول على ضوئها: «إنني أرى …» فالطفل الحديث الولادة لا يعرف أن ما يراه معتمِد على العين؛ وإذن فلا مناصَ من حذف كلمة «أرى» من مجال الإدراك المباشر، فتصبح القضية بعد هذا الحذف الجديد: «هنالك مثلَّث مَرئِي». على أنَّنا نَغض النظر هنا عن حقيقة كون الكلمتين «مثلَّث» و«مرئي» بدورهما يحتاجان إلى خبرة سابقة تمكِّن القائل من استعمالهما في هذا الموقف.
ولو شاء المتكلم أن يقف عند حد إدراكه المباشر في دقة وصرامة، لأشار إلى خبرته الراهنة بقوله: إن حادثة لها الخصائص الفلانية تحدث الآن في مجال البصَر، وعندئذٍ لا يكون هنالك فرق بين أن تكون هذه الحادثة في وَهْم المتكلم وحده، أو أن تكون ممَّا يقع في العالم الخارجي بحيث يُتاح لغيره أن يدركه مثل إدراكه، ولا يكون هنالك فرق بين أن تكون هذه الحادثة ممَّا يمكن إدراكه بحاسَّة أخرى غير البصر — كاللمس مثلًا — أو أن تكون مقتصرة على المجال البصري، وكذلك لا يكون هنالك فرقٌ بين أن تكون هذه الحادثة عقلية أو مادية. فاحذف كل هذه الإضافات التي تعودنا أن نضيفها إلى إدراكاتنا الحسية حاسبين أنها ترِدُ ضمن ما يرد في الإدراك المباشر، يَبْقَ لك ما هو مباشر ويقيني.
ولو حصرنا أنفسنا فيما هو يقيني مباشر ممَّا ندركه، لَما وجدنا عندئذٍ فرقًا بين الذات المدرِكة والموضوع المدرَك، أو بعبارة أعم: لَما وجدنا فرقًا بين عقل ومادَّة؛ فالحادثة التي تحدث عندئذٍ هي حادثة طبيعية ونفسية في آنٍ واحد، وبحثها يكون موضعًا يلتقي فيه علم الفيزياء وعلم النفس معًا؛ فلا هي بالحقيقة الطبيعية وكفى، ولا هي بالحقيقة النفسية وكفى، فهي تكون هذه أو تلك حسب السياق الذي ترِدُ فيه، شأنها في ذلك شأن الاسم الواحد تراه قائمًا وحده، فلا تقول عنه عندئذٍ إنه موضوع في ترتيب أبجدي، كما لا تقول عنه إنه موضوع حسب الجدارة؛ لأن كلا الترتيبين لا يتقرَّران إلا إذا أُضيفت إليه أسماء أخرى ووُضعت كلها في قائمة واحدة؛ وهكذا قُل في الحادثة الواحدة، فلا هي طبيعية ولا هي نفسية ما دامت قائمة وحدها خارج السياق، لكن ضعها مع غيرها من الأحداث في سياقٍ يتبين مِن وضعها في سياقها إن كانت من زُمرة الأحداث الطبيعية أو من زمرة الأحداث العقلية، وتلك هي وجهة النظر التي تسمى «بالواحدية المحايدة»؛ أي وجهة النظر التي تردُّ الأحداث كلها لا إلى مادة ولا إلى عقل، بل تجعلها أحداثًا محايِدة لا يتقرر مصيرُها من مادة أو عقل إلا بعد دخولها في نسيج مع غيرها، وهي وجهة النظر التي أذهب إليها وأدافع عنها.