الفصل الثاني

الإنسان وبيئته

لو كانت معرفتنا العلمية تامَّةً وكاملةً؛ لَعلِمنا كلَّ شيء عن أنفُسنا وعن العالَم وعن علاقة أنفُسنا بالعالم، ولكن نَقْص هذه المعرفة العلمية قد أدَّى إلى أن يكون فَهْمُنا لهذه الجوانب الثلاثة ناقصًا، وسنُعنى الآن ببحث الموضوع الثالث، وهو العلاقة بيننا وبين العالَم؛ لأنه يدنو بنا من مُشْكلات الفلسفة، فضلًا عن أنه ينتهي بنا آخِرَ الأمر إلى الموضوعَين الآخَرَين؛ وهما العالَم من جهة، وأنفسنا من جهةٍ أخرى، وسيكون فَهْمُنا لهذين الموضوعين أكثر دِقَّة حين نبدأ البحث بدراسة الكيفية التي يؤثِّر بها العالم فينا، والتي نؤثِّر بها نحن في العالم.

فثمة طائفة من العلوم تجعل الإنسانَ مبحثها؛ فقد نبحث الإنسانَ في التاريخ الطبيعي، وذلك حين ننظر إليه على أنه حيوان من صنوف الحيوان، له موضعه الخاص من سلسلة التطور، ويتصل ببقية الأنواع الحيوانية بِصِلات مُعيَّنة، وقد نبحثه في علم وظائف الأعضاء باعتباره كائنًا عضويًّا قادرًا على أداء وظائف معيَّنة، ويردُّ على البيئة بطُرق يمكن تفسير بعضها — على الأقل — تفسيرًا كيميائيًّا، وقد نبحثه في علم الاجتماع على أنه وحدة من كائنات عضوية مُركَّبة كالأُسْرة والدولة، وقد نَدرُسه في عِلم النَّفْس؛ فنراه كما يبدو لنفسه من داخل، ولئن كان هذا البحث الأخير يقدِّم لنا ما يمكن أن نُسمِّيه بالنظرة الباطنية للإنسان؛ فالأبحاث الثلاثة الأخرى تنظر إليه نظرة خارجية؛ أي إننا في علم النفس نستخدم في بحثنا حقائق لا نحصل عليها إلا إذا كان الملاحِظ والملاحَظ شخصًا واحدًا، وأما سائر الطُّرق في دراسة الإنسان فتعتمد على حقائق أولية مما يمكن الحصول عليها من ملاحظتنا لسوانا من أفراد الإنسان؛ فالواحد منا يعرف أحلام نفسه بواسطة نفسه، وذلك بأن يَتذكَّر ما قد رآه في حُلمه، وأما أحلام غيره فلا سبيل إلى معرفتها إلا إذا أنبأه بها، والواحد منا يعلم متى يُحسُّ ألمًا في ضرسه علمًا مباشرًا، كما يعلم إنْ كان المِلْح في طعامه قد زاد عمَّا ينبغي أو نقَص، وكما يعلم أنه في لحظة مُعيَّنة قد تذكَّر حادثًا ماضيًا … كل هذه أمثلة لما يستطيع الواحد منا أن يَعْلَمه عن نفسه بنفسه، ولا يستطيع سواه أن يعلمه عنه إلا إذا أنبئ به، وبهذا المعنى يمكن القول بأنَّ لكلٍّ منا حياة باطنية هو وحده الذي يستطيع أن يتأمَّلها، ولا ريب في أن هذا هو مصدر الرأي التقليدي الذي يفرِّق في الإنسان بين العقل والجسم؛ فالجسم مِنَّا هو ذلك الجانب الذي يستطيع سوانا أن يشهده، وأما العقل منا فهو الجانب الخاصُّ الذي لا ينكشف لسوانا إلا عن طريق ما نقوله نحن عنه.

ولقد جرى العرف التقليدي بأن «المعرفة» شيء يُنظَر إليه من داخل، شيء نُلاحِظه في أنفسنا وبأنفسنا أكثر منه شيئًا نشاهده مُتمثِّلًا في الآخَرِين، فهذا هو موقف الفلاسفة إزاءها، وأما في حياتنا اليومية المألوفة، فالناس أكثر موضوعية في فَهْمهم لمعنى المعرفة من الفلاسفة؛ إذ المعرفة في رأي عامَّة الناس شيء يمكن اختباره بالامتحانات مثلًا، أعني أنها في رأي هؤلاء الناس تَتألَّف من ردود مُعيَّنة لمُثيرات معيَّنة. وإني لأعتقد أن هذه النظرة الموضوعية في فَهْم المعرفة أفضل من نظرة الفلاسفة، فإذا أردنا فَهْم عملية «المعرفة» ما هي؟ كان علينا أن ننظر إليها على أنها هي الطرائق التي نَردُّ بها على البيئة المحيطة بنا، لا على أنها حالات عقلية باطنية يستحيل على غير صاحبها أن يشاهدها. وإذا كانت «المعرفة» — كما أراها — ظاهرة نشهدها في رُدود الإنسان على مؤثِّرات بيئته؛ فلا مناصَ — إذن — من البدء ببحث طبيعة هذه الرُّدود كما يراها العلم.

ولنضرب لذلك مثلًا من الحياة اليومية الجارية، فافرض أنك تشاهد سباقًا، وأنك في اللحظة الصحيحة قد صِحتَ: «لقد بدأ السباق»؛ فهذه الصَّيحة تجيء منك ردًّا على بيئتك، وهي معرفة لو كان ردُّك هذا شبيهًا بردود الآخَرِين، فما الذي حدث من وجهة النظر العلمية؟ حدثت عملية تقع في مراحل أربع:

(١) مرحلة تقع في العالم الخارجي بين المتسابقين من طرف، وعينيك من طرف آخر. (۲) ومرحلة تقع في جسمك بين العينين من طرفٍ، والمخ من طرف آخر. (۳) ومرحلة تقع حوادثها في المخ. (٤) ومرحلة تقع في جسمِك بين المخ في طرفٍ، وحركات حَلْقك ولسانك من طرف آخر، وهي الحركات التي أحدَثت الصيحة المذكورة.

أما المرحلة الأولى فمن شأن الفيزياء، والذي يبحثها هو علم الضوء بصفة خاصَّة، وأما الثانية والرابعة فمن شأن علم وظائف الأعضاء، وأما الثالثة فعلى الرغم من أنها من الوجهة النظرية تتبع علم وظائف الأعضاء أيضًا، إلا أنها في واقع الأمر تبحث في علم النفس؛ وذلك لقصور علم وظائف الأعضاء — كما هو اليوم — دون العلم الكامل بما يتصل بالمخ، وفي هذه المرحلة الثالثة — أي ما يحدث في المخ — يتم التعلم، وهي العلة في أن الإنسان يتكلم اللغة — وهو أمر يعجز الحيوان عنه — وفي أنه يتكلم اللغة الإنجليزية مثلًا بصفة خاصَّة — وهو ما يعجز عنه الفرنسي … فانظر إلى هذه الحادثة البسيطة، حادث صيحتك ببدء السباق عندما رأيت المتسابِقِين قد انطلقوا إلى شَوْطهم، انظر إلى هذه الحادثة البسيطة كيف أنها في الحقيقة شديدة التعقيد، لكنها على أي حال أبسط مَثَل للمعرفة يمكن أن نسوقه إليك.

وسنترك مؤقتًا تلك المرحلة من مراحل العملية المعرفية التي تحدث في مجال العالم الخارجي فيما بين الشيء الذي هو موضع المعرفة وبين الشخص العارف؛ وذلك لأن أحداث تلك المرحلة تَتْبع علم الفيزياء. سنترك هذه المرحلة لنعود إليها بالتفصيل فيما بعد؛ وذلك لنأخذ في الحديث الآن عما هو أيسَر، وحسبنا من تلك المرحلة الأولى أن نقول عنها هنا إن حادثة بدء السباق، وهي الحادثة التي ضربناها مثلًا، والتي فرضنا أننا قد أدركناها بحواسنا، إنما تنفصل بسلسلة قصيرة أو طويلة من الحوادث عن الحادثة التي وقعتْ على سطح العين الرائية، وهذه الحادثة الأخيرة التي مسَّت سطح العين، هي التي نسمِّيها بالمؤثر أو المُنبِّه؛ وإذن فليس المؤثِّر أو المُنبِّه هو الحادثة التي وقعتْ في الخارج والتي نقول إننا أدركناها عندما نُبصرها؛ إذ المؤثر هو حادثة أخرى خارجية لَمسَت العين الرائية، وبينها وبين الحادثة الخارجيَّة في الطرف الآخَر صلة على نحوٍ ما، يتطلب البحث، وقُلْ مثل هذا في كل ما يَطرُق السمع والشمَّ من أحداث، لكن هذا لا يحدث في حالة اللَّمس وفي حالة إدراكنا لحالات أجسادنا؛ إذ ها هنا تنعدم المرحلة الأولى — من المراحل الأربع التي أسلَفْنا ذِكْرها — وهي المرحلة التي تتوسط بين الشيء المُدرَك والحاسَّة المُدرِكة؛ أقول إني سأرجئ الحديث عن هذه المرحلة الأولى؛ لأبدأ البحث في المراحل الثلاث الأخرى من عملية المعرفة الإدراكية، وإني لأُفضِّل هذا الترتيب؛ لأن هذه المراحل الثلاث لا بُدَّ من وجودها في كل عملية إدراكية، على حين أنَّ المرحلة الأولى تقتصر على بعض الحواسِّ دون بعضها الآخَر.

والمرحلة الثانية هي التي تبدأ من عضو الحس وتنتهي في المخ، وليس يَعنينا الآن أن نتعرَّض لما يحدث أثناء الرحلة تعرُّضًا يذكر كل تفصيل بدقة، ويكفينا أن نقول إن حادثة طبيعية بحتة — وأعني بها وقْع الأثر الآتي من الخارج على الحاسة — تَحدُث عند طرف من أطراف الجسم، فيحدث سلسلة من الآثار تنتقل خلال الأعصاب إلى المخ، فلو كان المُنبِّه ضوءًا، كان حتمًا أن يسقط على العين لتنشأ عنه الآثار المطلوبة. نعم إن الضوء إذا سقط على غير العين من أجزاء الجسم؛ كان له بعض التأثير، ولكنه ليس هو التأثير المقصود الذي به يتميز الإبصار، وكذلك قُل في الصوت إنه لا بُدَّ أن يَطْرُق الأذن دون سائر أجزاء الجسم؛ لكي يحدث أثره المطلوب. إن عضو الحس يشبه آلة التصوير، فهو يتقبَّل مؤثِّرات من نوع مُعيَّن، وبالنسبة إلى حاسَّة البصر والضوء الساقط عليها، نقول إن الضوء الساقط على العين يُؤثِّر تأثيرًا يختلف باختلاف طول الموجة الضَّوئية وشِدَّتها واتجاهها؛ فإذا ما حدثتْ أحداث في العين نتيجة للضوء الساقط عليها، تبِعَتْها أحداث في عصب الإبصار تؤدِّي في نهاية الأمر إلى حادث يقع في المخ، وهو حادث يختلف باختلاف المؤثرات في شتَّى الحالات التي ندرك فيها اختلافًا؛ فنحن — مثلًا — نميِّز الأحمر من الأصفر في إدراكنا، وإذنْ فما يحدث خلال العصب البصري وفي المخ لا بُدَّ أن يكون في حالة إدراكنا للأحمر مختلفًا عنه في حالة إدراكنا للأصفر. وأما إذا كان الفرق بين الإدراكَين من الصِّغَر بحيث لا نستطيع إدراكه بالعين العادية، وبحيث نحتاج إلى أجهزة دقيقة لتُعِيننا على التَّمييز بينهما، فلسنا على يقين في مثل هذه الحالة أن ما حدَث في الأعصاب والمخ مختلف في إحدى الحالتين عنه في الأخرى.

وإذا وصلت الهزة إلى المخ؛ فقد تُحدِث مجموعة مُعيَّنة من الحوادث في المخ، وقد لا تُحدِث شيئًا، فإن لم تفعلْ كُنا على غير «وَعْي» بما قد حدث؛ لأنك لكي «تعي» رؤية اللون الأصفر لا بُدَّ أن يحدث نوع من ردِّ الفعل في المخ؛ لترد به على الرسالة التي نقلها عَصَب الإبصار، ويجوز لنا القول بأنَّ الأكثرية العظمى من الرسائل التي يُؤتى بها إلى المخ عن طريق الأعصاب لا تصادف منا انتباهًا — فما أشبهها عندئذٍ بالرسائل التي تُرسل إلى مكاتب الحكومة لتبقى هنالك بغير ردٍّ — ذلك لأن الأشياء التي تقع على هوامش مَجال الرؤية لا نلاحظها عادةً ما لم يكنْ لها من الجاذبية ما يدعونا إلى الانتباه إليها وملاحظتها، وعندئذٍ تحتلُّ مركز المجال البصري إلا إذا حاولنا مُحاولةً مقصودةً لمنع ذلك من الوقوع، هذه الأشياء التي تقع على هوامش مَجال الرؤية تكون مَرئِيَّة بمعنى أننا نستطيع أن نُدرِك وجودها إذا أردنا دون أن يحدث تغيُّر في البيئة الطبيعية أو في عضو الحس، وأما الذي يتغير فهو حالة المخ؛ لأن هذا التغير شرط ضروري لكي يحدث رد الفعل، ولكن هذه الأشياء الهامشية في العادة لا تُثير رد فعل؛ لأنَّ الحياة تكون مُضْنِية لو اضطررنا إلى الرد على كل ما يقع في مَجال الرؤية، وحيث لا رد فإن العملية تنتهي عند المخ، وتختفي من أشواط المعرفة مرحلتاها الثالثة والرابعة، وعندئذٍ لا يتم ما نسميه «بالإدراك».

على أن أهم ما يعنينا الآن هو الحالة الإدراكية التي تتم فيها الدورة بمراحلها الأربع؛ ففي هذه الحالة تَحْدث في المخ أحداث لا نعرف حتى الآن طبيعتها على وجه الدقة؛ ثم تنتقل العملية من المركز الخاص في المخ إلى مركز للحركة، ومن ثم تنشأ عملية تنتقل خلال أعصاب الحركة لتنتهي آخِرَ الأمر إلى عملية عَضَلية من شأنها أن تُحدِث حركة جسدية؛ ففي المثل الذي ضربناه لرجل يشهد السباق، ويصيح «لقد بدأ السباق»، تنتقل العملية من مركز المخ الخاص بالإبصار إلى المركز الخاص بالكلام، وهذا هو ما جعلناه المرحلة الثالثة من مراحل الإدراك، ثم تنتقل العملية خلال أعصاب الحركة لتحدث حركات هي التي تؤلِّف صَيحة المُشاهِد حين يصيح: «لقد بدأ السباق»، وتلك هي المرحلة الرابعة التي تتم بها دورة المعرفة.

وما لم تتم المراحل الأربع فلا معرفة هناك، هذا إلى أنه حتى بعد اكتمال المراحل الأربع، لا بُدَّ من استيفاء طائفة من الشروط الأخرى؛ لكي يكون هنالك «معرفة»، هذا كله كلام مُجمَل، وسنعمد الآن إلى تفصيل القول في المرحلتين الثالثة والرابعة.

فالمرحلة الثالثة تجيء على صورتين حسب الاستجابة المطلوبة: هل هي من قَبيل الفعل المنعكس أو هي من قَبيل الأفعال المُكتسَبة؟ أما إن كانت الاستجابة فعلًا منعكسًا، فذلك يكون كامل التكوين عند الولادة؛ إذ إن الطفل الوليد أو الحيوان يكون مخُّه قد رُكِّب على نحو يجعل فيه رابطة بين عملية مُعيَّنة في أعصاب الحس وأخرى في أعصاب الحركة، فالأولى تستدعي الثانية دون حاجة من الطفل أو من الحيوان إلى خبرة مكتسَبة سابقة. والعطس مَثَل جيد يُوضِّح الفعل المنعكس، فإن إحساسًا معيَّنًا في الأنف يحدث حركة ذات طابع خاص، والرابطة بين الإحساس والحركة موجودة في الطفل منذ ولادته، أما الفعل المكتسَب فهو لا يحدث إلا بعد أن يتأثر المخ على صورة مُعيَّنة بالأحداث السابقة، وسنوضح ذلك بمثال: صوِّر لنفسك صحراء لم يسقط عليها مطر، ثم افرض أن سيلًا جارفًا حدَث بها آخِر الأمر، فالمَجْرى الذي يسيل فيه الماء لأول مرة يقابل الفعل المنعكس. أما إذا استمرَّ المطر في السقوط، وأخذ يُعاود السقوط مُعاوَدة مُتكرِّرة؛ فعندئذٍ تستحدث على أرض الصحراء مَجارٍ ووديان هي التي يجري فيها الماء بعدئذٍ. فهذه القنوات المُستحدَثة هي بمثابة ما قد خطَّتْه «التجارب» الماضية على رقعة الأرض السالفة، وهو ما يُقابل الأفعال المكتَسبة. ومن أوضح الأمثلة على الأفعال المكتَسبة قدرة الإنسان على الكلام، فنحن نتكلم لغة معيَّنة، لا لأن المخ كان منذ البداية مُكوَّنًا على النحو الذي يجعل نُطق الكلمات في الصورة التي ننطقها بها، بل إن ذلك لَيجيء نتيجة تعلُّم واكتساب، والمعرفة كلها تقريبًا هي من هذا النوع المُكتسَب؛ أي إنها مُعتمِدة على روابط وصِلات في المخ لم تكن مجبولة في طبيعة تكوينه، بل هي نتيجة حادثات طرأتْ عليه خلال التجارب.

ومهما يكن من صعوبة التفرقة ودقَّتها بين الأفعال الفطرية والأفعال المُكتسَبة، فإن ما يهمنا من الأمر هو أنَّ الإنسان والحيوان عند الولادة يكون بفطرته مستعدًّا أن يستجيب لمنبِّهات مُعيَّنة بطُرق مُعيَّنة؛ أي بحركات جسديَّة خاصَّة، وكلما نما تَغيَّرت هذه الطرق في الاستجابة؛ إما نتيجة التطور في تركيب الجسم، وإما نتيجة لحوادث حدثت خلال التجربة على امتداد الحياة، وهذه الحالة الثانية إنما تَجيء وفق طائفة من قوانين سنتناولها بالبحث؛ لأنها تتصل بنشأة «المعرفة».

لكنَّ القارئ الساخط سيصيح هنا قائلًا: كلَّا، إن معرفة الإنسان بشيء ما لا تَكُون حركة جسدية، بل هي دائمًا حالة عقلية، وأنا أطالب مثل هذا الساخط بشيء من الصبر؛ فلستُ أنكر عليه أن له حالات عقلية غير حركاته الجسدية، ولكني أسأله سؤالين؛ الأول هو: ما نوعها؟ والثاني هو: أي دليل تقدمه على أنك تعرف عن تلك الحالات شيئًا؟ إنه سيجد الإجابة عن السؤال الأول عسيرة، فإذا أراد أن يبيِّن أن الحالات العقلية شيء يختلف كل الاختلاف عن حركات الجسد، عُدتُ إلى سؤاله: وما الحركات الجسدية؟ وعندئذٍ سيرى نفسه مضطرًّا أن يغوص في أدقِّ مسائل الطبيعة، وهي مسائل سأتناولها بالعرض فيما بعدُ، وأما السؤال الثاني فلا مناصَ للإجابة عنه من اللُّجوء إلى الكلام أو الكتابة، والكلام والكتابة حركات جسدية. إنني الآن لا أتعرَّض للمعرفة من وجهة نظر الشخص العارف نفسه، فذلك بحث سأرجئه إلى موضع آخَر، وأقصر البحث على المعرفة من وجهة نظر المُشاهِد الخارجي، وهي في هذه الحالة شيء يظهر في حركات جسدية.

كان الرأي فيما مضى هو أنَّ تأثير البيئة فينا يخلق ضربًا من المعرفة هو ما نسميه بالإدراك، وأما استجابتنا للبيئة فلم يكن يُعَدُّ معرفة، بل يُعَد إرادة، وكان الإدراك والإرادة معًا يُعَدَّان من العمليات العقلية، على أن الرابطة بينهما وبين الأعصاب والمخ كانت تُعَد لغزًا مُغلَقًا، ولكني أظن أنَّ اللُّغز ينكشف سِرُّه، وأن الموضوع ينتقل من مجال التَّخمين إلى مجال المعرفة المحدَّدة، إذا نحن بدأنا البحث من المنبِّه سائرين به إلى نهايته، وهي الحركة الجسدية التي نستجيب بها لذلك المنَبِّه. فبهذه الطريقة تُصبِح عملية المعرفة شيئًا فاعلًا، لا مُجرَّد تأمُّل سكوني؛ فالمعرفة والإرادة؛ أي إدراك المنبِّهات والاستجابة لها هما في الحقيقة مرحلتان من دَورة واحدة لا بُدَّ أن تُفهم على حقيقتها لو أريد لها أن تُفهم فهمًا جيدًا.

وينبغي أن نُلِم إلمامة سريعة بما يقال عن آلية الجسم، فهو آلة مُعقَّدة التَّركيب إلى حدٍّ بعيد جدًّا، حتى ليحسب بعض العلماء أنَّ تفسيره بقوانين الفيزياء والكيمياء ضرب من المُحال، وأن الذي ينظمه «مبدأ حيَوي» له قوانين تختلف عن قوانين المادة الميتة. ويسمى هؤلاء العلماء بأنصار المذهب الحيوي Vitalists، وإني وإن كنتُ لا أجد ما يبرِّر الموافقة على رأيهم هذا؛ إلا أني أعترف في الوقت نفسه بأن علمنا لا يزال قاصرًا وعاجزًا عن إقناعهم بخطئهم إقناعًا حاسمًا. وكل ما يمكن قوله هو أن قَضِيَّتهم قائمة بغير برهان، وأن وجهة النظر المعارِضة لمذهبهم هي من الوجهة العلمية أجدى وأنفع. فخير لنا أن نبحث عن تفسير فيزيائي وكيميائي ما استطعنا إليه سبيلًا، ما دمنا نعلم أن كثيرًا من عمليات الجسد يمكن تفسيره على هذا النحو، ثم نحن لا نعلم عن عملية جسدية واحدة أن تفسيرها بهذه الطريقة أمر مستحيل استحالةً قاطعةً؛ على حين أننا لو ركَنَّا إلى فرض «مبدأ حيوي» لَانفسح أمامنا مجال التراخي؛ ولهذا فإني أختار لنفسي الفرض الذي يَفترض بأن الجسم البشري يعمل وفقًا لنفس القوانين التي تسير عليها المادَّة الميتة، وهي قوانين الفيزياء والكيمياء، وأنه إذا اختلف عن المادة الميتة، فهو لا يختلف عنها في القوانين التي تُسيِّره، بل في درجة التركيب في بنائه.

على أن في مُستطاعنا أن نقسم حركات الجسم البشري قسمين نطلق عليهما: حركات آلية وحركات حيوية، ومثال الأول: رجل يسقط من صخرة ناتئة على شاطئ البحر فيهوي في الماء، فلتفسير سقوطه هذا لا يلزمنا الفرض بأن الرجل كائن حي؛ لأنه يسقط بفعل الجاذبية كما يسقط الحجر، أما حين يصعد الرجل إلى قمَّة الجبل؛ فإنه عندئذٍ يفعل ما لا تستطيع فعله مادة ميتة تشبهه شكلًا وحجمًا، فهذه إذن حركة «حيوية»، ففي الجسم البشري مقدار كبير من الطاقة الكيميائية المخزونة، ويكفي دافع ضئيل ليخرج هذه الطاقة في كمية هائلة من الحركة الجسدية، والموقف هنا شبيه بصخرة ضخمة تَتَّزن في دقَّة على قمة جبل مخروطي الشكل، ودفعة يسيرة تكفي لدحرجة الصخرة حتى تبلغ أسفل الوادي في هذا الاتجاه أو ذلك، حسب اتجاه الدفعة التي دحرجَتْها. وكذلك تقول لرجل: «إن بيتك يحترق» فتراه عندئذٍ يجري مع أنَّ المُنبِّه لم يزد عن قدر ضئيل من الطاقة، وأعني به موجة الصوت التي نطقت بها العبارة السالفة، فانظر إلى الطاقة التي يُنفقها في الاستجابة لهذا المُنبِّه الضئيل، بل إنه لَيظل يزيد من طاقته المخزونة بعملية اللهث التي من شأنها أن يسرع جسده في عملية الاحتراق مما يزيد بدوره في مقدار الطاقة عنده، والأمر هنا شبيهٌ بمَن يفتح ثغرة ينفذ منها تيار الهواء داخل أتون مُسْتعِر؛ فالحركات «الحيوية» هي تلك التي تستهلك الطاقة التي تكون في حالة من التوازن غير المستقر. وهذه الحركات هي وحدها التي تهمُّ عالِم الكيمياء الحيوية وعالِم وظائف الأعضاء وعالِم النفس، أما الحركات الأخرى فلكونها شبيهة بِحَركات المادَّة الميتة فيمكن إهمالها حين يكون موضوع بحثنا هو دراسة الإنسان من حيث هو إنسان.

وقد يكون الحافز إلى الحركات الحيوية آتيًا من خارج الجسم، أو من داخله، أو من خارجه ومن داخله معًا، فالجوع دافع من الداخل ولكن الجوع — مضافًا إليه رؤية الطعام — حافز مزدوج من الداخل والخارج معًا، وتأثير المُنبِّه في الإنسان قد يكون — من الوجهة النظرية — مُسايَرة لقوانين الفيزياء والكيمياء، لكن مشاهداتنا تدل على أن سلوك الإنسان يتعدَّل بالتجربة؛ أي إنه إذا تَكرَّر حدوث المُنبِّه الواحد في لحظات مختلفة؛ أحدث استجابات مختلفة؛ لأن السلوك في اللحظة التالية يكون قد تعدَّل بالسلوك في اللحظة السابقة، مع أن المنبه واحد في كلتا الحالتين. وهذا التعديل في الاستجابة تبعًا للخبرة السابقة هو ما يُميِّز الحيوان كلَّه عامَّةً، والحيوان الأعلى خاصَّةً، والإنسان بصفة أخص وأوضح، والأمر هنا متصل اتصالًا وثيقًا بالذَّكاء، فلا بدَّ من بحثه قبل أن نتمكن من فهم مُقوِّمات المعرفة منظورًا إليها من الخارج، وسيكون هذا موضوع البحث المُفصَّل في الفصل التالي.

إن أفعال الكائنات الحية لتميل بطبعِها — بصفة عامة — إلى العمل على البقاء من الوجهة البيولوجية؛ أي إنها تميل إلى الإنسال الكثير. على أننا حين نهبط إلى أبسط الكائنات العضوية التي تكاد تخلو من مميزات الشخصية الفردية، والتي تنسل بالانقِسام؛ نجد للمادة الحية خاصَّة كيميائية تُديم لها البقاء وتَخْلَع تركيبها الكيميائي على مادة أخرى إذا كانت هذه المادة مركَّبة من عناصر بعينها، فإن بذرة صغيرة تَسقُط في بركة راكدة من الماء، قد تُنشِئ ملايينَ الأحياء النباتية، وهذه بدورها تُمكِّن حيوانًا صغيرًا أن يَنْسِل نسله بالملايين فتعيش على ذلك النبات الصغير، ثم تُهيِّئ هذه بدورها أسباب الحياة لحيوان أكبر كالأسماك وهلم جرًّا. ولا شك أن تفسير هذا ممكن إذا قلنا إنه نتيجة للتركيب الكيميائي للمادة الحية، وإنك لترى هذا الاحتفاظ بالنفس، الذي هو كيميائي مَحْض، كامنًا في صميم كل شيء آخَر، وهو ما يُميِّز سلوك الكائنات الحية. فكل كائن حي هو بمثابة المُستعمِر الذي يحاول — ما أمكنه — أن يُحوِّل بيئته إلى نفسه وإلى بذوره التي يبذرُها، حتى لَنستطيع أن نفسر التطور كله بأنه عملية انبثقتْ من هذا «الاستعمار الكيميائي» الذي هو طابع المادة الحية. والإنسان في ذلك هو آخِر مثال، فهو يتناول سطح الأرض بالرَّي والزراعة والتعدين وقَطْع الأحجار وحفر القنوات ومَد السكك الحديدية وتربية أنواع معيَّنة من الحيوان وإهلاك أنواع أخرى، ولو سألنا أنفسنا من وجهة نظر المتفرِّج الخارجي: ما الغاية من كل هذا النشاط؟ لوجدنا الجواب ملخَّصًا في عبارة موجزة، هي: أن يُحوِّل الإنسان ما أمكنه تحويلُه من مادة الأرض إلى أجساد بَشرية. فاستئناس الحيوان والزراعة والتجارة والصناعة كلها مراحلُ في هذه العملية، «فالاستعمار الكيميائي» هو الهدف الأساسي الذي انصرف إليه الإنسان بذكائه. نعم قد يكون الذكاء البشري الآن قد أخذ يتحوَّل إلى البحث عن الكيف لا عن مُجرَّد الكَم، لكن هذا التحول ما يزال مقصورًا على قلَّة قليلة من الناس، وليس هو الذي يسيطر على توجيه الحركات الكبرى في شئون البشر، ولا أستطيع التنبؤ بما إذا كان من المُنتظَر لهذه الحال أن تتغير قط، لكننا على كل حال نَجِد العزاء في أننا حين نستهدف الإكثار من الحياة البشرية فإنما نُساير حركة الأحياء كلها بشتَّى صنوفها منذ أول نشأتها على سطح هذا الكوكب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥