شعور؟
نشر وليم جيمس مقالًا بعنوان «هل الشعور موجود؟» فتحرك الناس لمقاله ذاك، وفيه يقول: «إن في العالم مادَّة أولية واحدة.» فإذا استخدمنا كلمة «شعور» فإنما ندل بها على ضرب من الأداء، لا على كيان مستقل قائم بذاته؛ فهنالك «أفكار» يتصل بعضها ببعض على نحو يكوِّن ما نسميه «بالمعرفة»، لكن هذه الأفكار ليست من «مادة» تختلف عن المادة التي تتكون منها الأشياء في عالَم الطبيعة المادية؛ وبهذا وضع وليم جيمس الأساس لما نسميه «بالواحدية المحايدة» وهي النظرية التي آخُذ بها في هذا الكتاب، كما أنها هي النظرية التي يأخذ بها أنصار المذهب الواقعي في أمريكا، وسأطرح في هذا الفصل هذا السؤال: هل هناك موجود يجوز أن نطلق عليه اسم «الشعور» (أو الوعي) بالمعنى الذي يتضمَّن أن قوام ذلك الشعور مادَّة خاصَّة به تُميِّزه من سائر الأشياء المادية في عالَم الطبيعة، أم إن وليم جيمس قد أصاب حين أزال الثنائية التي تشطر العالَم شطرين: مادة وعقل، وبذلك تكون الثنائية التي نُقيمها بين المعرفة من جهة والشيء المعروف من جهة أخرى لا تقتضي ثنائية في طبيعة كل من هذين الطرفين؟
إننا نستعمل كلمة «شعور» بمعنيَيْن: فنقصد بأحدهما العلاقة القائمة بين الشخص المدرِك والشيء المدرَك، كأن أقول مثلًا «إني» شاعر «بكذا»؛ أي إنني على وعي بوجوده، ونقصد بالمعنى الآخَر صفة تَصِف الحوادث العقلية، وهذا يكون الفرق بين الحادثة العقلية والحادثة الطبيعية أن الأُولى دون الثانية تَتَّصف بالوعي أو بالشعور، وسأبدأ بمناقشة المعنى الأول؛ لأن ذلك سينتهي بنا إلى رفض المعنى الثاني.
ما هي العلاقة التي نسميها «شعورًا» بشيء ما؟ قارِن بين الشخص في حالتَي صحوه ونُعاسه؛ ترَ الفرق بين الحالتين هو أن الشخص الصاحي يردُّ على المؤثرات الخارجية لكنه لا يستجيب لها وهو نعسان؛ ولهذا نقول عن النائم إنه «لا يشعر» بالحوادث التي تحدث له، وحتى إن استجاب النائم لأحد المؤثِّرات، كأن يُحوِّل رأسه بعيدًا عن الضوء الساقط عليه، فإننا عندئذٍ نقول عنه إنه فعل ذلك «لا شعوريًّا» ولا نعده «شاعرًا» إلا إذا استيقظ واستردَّ الوعي، أو إذا تذكَّر بعد يقظته حدوث هذا المؤثِّر واستجابته له بتحويل رأسه عنه.
بل إننا نرفض التسليم بوجود «الشعور»، حتى في حالات تتوافر فيها علامات كثيرة على وجوده، كما تحدث مثلًا في التنويم وفي الجَوَلان النومي، وعِلَّة إنكارنا لوجود الشعور في هذه الحالات هي فقدان الذاكرة وانعدام الذكاء في توجيه العمل الذي يؤدَّى؛ فلو أعطيت مُنَوَّمًا شرابًا من المِداد وأخبرتَه أنه شراب من النبيذ الجيد، ثم شربه مبديًا علامات التلذُّذ بما شرِب، لقُلتَ عنه إنه ليس «شاعرًا» بما يفعل؛ لأنه لا يستجيب للمؤثِّر بنفس الاستجابة التي يستجيب بها في حالة الصحو والوعي؛ فالشعور لا يكون إلا حين تكون هنالك عمليات «عقلية» معيَّنة إبان أداء العمل، فالمصاب بالجَولان النَّومي غير ذي «شعور» أثناء جولانه؛ لأنه لا يصدر فيما يعمل عن «عقل».
فإذا أردنا تعريف «الشعور» فلا بد لنا أن نحدِّد ما يقصده الآخذون بوجود كيان خاص اسمه «شعور»، حين يتحدثون عن الأحداث «العقلية» والذي يعنينا ها هنا من الأحداث العقلية هو ذلك الجانب منها الذي يكون ذا صلة «بشيء» ما، بحيث يكون هناك طرفان؛ الحادثة العقلية من ناحية، و«الشيء» المتعلق بتلك الحادثة من ناحية أخرى.
ولنضرب مثلًا لذلك حالة من حالات الإدراك الحسي، وهي الحالة التي أقول فيها: «أرى مِنْضَدة» معتقدًا بأن رؤيتي حادثة عقلية في داخلي، والمِنْضَدة المرئية شيء خارجي؛ ففي هذه الحالة أقول إني «شاعر» أو «على وعي» بالمِنْضَدة، هذا ما يذهب إليه الإنسان بإدراكه الفطري؛ إذ يعتقد الإنسان العادي بسليقته الفطرية أنه لا يَرى إلا إذا كان هنالك ما يُرى؛ أي إنه مُحال على الحادثة العقلية أن تحدث في حالة الرؤية إلا إذا كان هنالك الشيء الخارجي المقابل لتلك الحادثة العقلية، وإذن فعلاقة الرائي بالمرئي أمر جوهري لتتم عملية الرؤية، ومثل هذه العلاقة التي تصل ما بين الحادثة العقلية و«الشيء» هو من الخصائص التي تُميِّز الشعور.
لكننا لا نكاد نُمعن النظر في هذا الرأي بشيء من الدِّقة حتى تنهض أمامنا المشكلات؛ فقد رأينا فيما سبق أنه بناء على علم الطبيعة لا يجوز اعتبار المِنْضَدة موضوعًا للإدراك الحسي؛ إذ في مقدورنا أن نهيئ الظروف التي تجعل الإنسان يدرك نفس هذا الإدراك الحسي بغير وجود المِنْضَدة في الخارج، فالحق أنه ليس ثمة حقيقة خارج العقل لا بُدَّ من قيامها كلما «رأينا مِنْضَدة»؛ إذ قد يكفي أن تتوافر الظروف الداخلية الخاصَّة؛ لكي تتم الحالة الإدراكية التي يقول فيها المدرِك إنه يرى مِنْضَدة؛ إذ الواقع هو أننا حين نظن أننا نرى مِنْضَدة في الخارج، فإنما نرى في الحقيقة حركةً تحدث في المخ؛ وبهذا يتبين أن «الشيء» الذي يتحتم وجوده لكي تتم عملية الإدراك الحسي، هو أيضًا «عقلي» كعملية الإدراك نفسها سواءً بسواء، وهكذا تكون العملية الإدراكية — التي هي عملية عقلية — مشتملة في نفسها على العلاقة بين المدرِك والمدرَك؛ لأن طرفَي العلاقة كليهما عقلي على حد سواء.
فلا مسوغ لافتراضنا وجود علاقة بين طرفين؛ أحدهما عقلي داخلي والآخَر مادي خارجي، في الموقف الإدراكي، وإنما نشأ هذا الخطأ نتيجة للواقعية الساذجة التي يتوهم أصحابها أن رائي المِنْضَدة يرى مِنْضَدة شيئية خارجية؛ مع أنه في حقيقة الأمر يرى حركة مخِّيَّة نستطيع استحداثها بغير المِنْضَدة الحقيقية؛ فإذا كان ما يراه الرائي هو نفسه عقلي كعملية الرؤية نفسها، فلماذا نفرق بين الطرفين؛ المرئي والرؤية؟ إن البقعة اللونية التي تراها ليست في الخارج بل هي في رأسك أنت، وعمِّمْ هذا القول تَجِد أن الطبيعة التي تدركها هي من قبيل الحوادث العقلية، كعملية الإدراك سواءً بسواء.
فإن صح هذا؛ كان تحليلنا لما يحدث حين أكون «شاعرًا» بالمِنْضَدة هو كما يأتي: تقع أحداث في الطبيعة خارج الجسم، هي التي تكوِّن المؤثِّر الذي يؤثر في العين، ثم تَحْدُث في العين أحداث، ويتبع ذلك أحداث في الأعصاب فالمخ، وأخيرًا تتكون لديَّ البقعة اللونية المدرَكة، وحسب قوانين الترابط ترتبط هذه البقعة اللونية المدرَكة بتوقُّعات وتصورات لمسية وغير لمسية، وقد ينشأ عنها تَذكُّرات وتتكون عادات، لكن كل حلقة من حلقات هذه السلسلة مؤلَّف من أحداث يتصل بعضها ببعضها اتصالًا سببيًّا في المكان-زمان، وليس لدينا ما يُسوِّغ القول بأن الحوادث التي تقع في داخلنا مختلفة في طبيعتها عن الحوادث التي تجري خارجنا؛ فمحتوم علينا الجهل بهذه الحقيقة ما دام علمنا بالأشياء الخارجية مقصورًا على خصائصها الرياضية، وهذه الخصائص في ذاتها لا تبين إن كانت تلك الأشياء شبيهة بأفكارنا عنها أو غير شبيهة بها، ونتيجة هذا كله هي أن «الشعور» لا يجوز تعريفه بأنه ضرب من العلاقة متميز، كما لا يجوز القول بأنه صفة تتصف بها بعض الأحداث دون بعضها الآخر، بحيث نسمي ما يتصف بها أحداثًا عقلية.
وخلاصة القول أن وليم جيمس قد أصاب فيما ذهب إليه من أن الحوادث العقلية لا تقتضي بالضرورة أن تتميز بخاصَّة تفصلها عن بقية الأحداث، وأن هذه الخاصَّة المُميِّزة هي الشعور أو الوعي، فذلك كله زعم زعمه الذين أرادوا التفرقة بين الذات العارفة والشيء المعروف.