الانفعال والرغبة والإرادة
قصَرنا حديثنا حتى الآن على جانب الإدراك، والواقع أنه أهم الجوانب من الوجهة الفلسفية، وبقي علينا الآن أن نتناول الأوجه الأخرى من الطبيعة البشرية، ونبدأ منها بالانفعالات.
تغيرت النظرية الخاصَّة بالانفعالات حين كشفنا عن الدور الذي تؤديه الغدد الصماء في هذا الصدد، فيظهر أن الشرط الضروري لحدوث العاطفة هو ما تفرزه الغدد في الدم؛ حتى ليقال إن التغيرات الفسيولوجية التي تنتج عن هذه الإفرازات هي نفسها الانفعالات، ولكني أرى وجوب الحذر عند الأخذ بهذا الرأي؛ فكلنا يعلم أن الغدد الأدرينالينية تفرز الأدرينالين الذي يُحدث في الإنسان تلك التغيرات الجسدية التي تصاحب الخوف أو الغضب، وقد حدث لي ذات يوم أن حقَنَني طبيب الأسنان بهذه المادة ليُحدِث عندي تخديرًا موضعيًّا، فاصفر وجهي وأخذَتْني الرعشة واشتدَّت ضربات القلب؛ وبذلك توافرت عندي العلامات الجسدية التي تصاحب حالة الخوف، ولكني لم أشعر قَطُّ بالخوف، نعم إن هذه هي نفسها الظواهر التي تحدث في حالة الخوف الحقيقي، لكن شيئًا آخَر لا بُدَّ أن يُضاف إليها إذا أريد إحداث الخوف، وذلك هو إدراك الإنسان عندئذٍ بأن ثمة شيئًا يبعث على الخوف؛ فإذا صادفت حيوانًا مخيفًا وحدثت لي نفس الظواهر الجسدية التي تحدث لي عند طبيب الأسنان حين يحقنني بالأدرينالين، ثم إذا أخذني انفعال الخوف في الحالة الأولى ولم يأخذني في الحالة الثانية؛ فما ذلك إلا لأنني في الحالة الثانية قد أضفتُ شيئًا إلى مجرد حدوث إفراز في الدم، ألا وهو علمي بأن هنالك شيئًا يُخاف خطرُه؛ وعلى ذلك فإذا قلنا إن انفعال الخوف هو نتيجة إفراز الأدرينالين، وجب أن نضيف إلى ذلك وجود الجانب الإدراكي في الموقف؛ في مجرى حياتنا العادية نصادف ما يعمل على إفراز الغدد فيحدث انفعال الخوف من ذلك المصدر نفسه الذي أثار تلك الغدد وأفرزها؛ فالخوف والغضب انفعالان عمليَّان يتطلبان من الإنسان سلوكًا مُعَيَّنًا إزاء المثير الخارجي الذي أحدثهما، وإذا لم يكن هناك مثل هذا المثير الخارجي فلن نشعر بانفعال الخوف أو الغضب مهما أدخلنا في الدم من إفرازات بطريق مصطنع.
لكن هنالك انفعالات أخرى لا تتصل بالسلوك مثل هذا الاتصال المباشر، وعندئذٍ يكفي لإحداثها أن نفرز بالطرق المصطنعة ما عساه أن يُحدثها من مواد؛ مثال ذلك الانقباض، ومن ثم فإن الشعور به يتم بأكمله لمجرد وجود العلَّة البدنية التي تُحدِثه؛ فالكَبِد العليلة كفيلة وحدها أن تحدث لصاحبها الضيق والكآبة اللذين لا يزيلهما أن يعلم الشخص أن العلة هي كذا وكذا.
والانفعالات قابلة للتكييف الاشتراطي، بحيث يمكن أن تتعدد بواعثها، وذلك بأن يقترن الباعث الفطري للانفعال المعيَّن بباعث آخر ليس من شأنه أن يحدث ذلك الانفعال، لكنه باقترانه بالباعث الفطري يصبح هو نفسه كافيًا بعد ذلك لإحداث الانفعال، وهكذا تكثر مع الزمن الأشياء التي من شأنها أن تثير فينا انفعالًا ما كالخوف؛ ويقول الدكتور واتْسُن: إن الأطفال بطبيعتهم لا يُثار فيهم الخوف إلا لمؤثِّرَين، وهُما الأصوات العالية وانعدام السَّنَّادة التي يَستَنِدون إليها، غير أن أي شيء يقترن بأحد هذين المُؤثِّرَين يصبح بعدئذٍ عاملًا يبعث على الخوف.
والانفعالات هي التي تُكْسِب الحياة لذَّتها وهي التي تُشْعِرنا بأهميتها، ومن هنا كانت الانفعالات أهم عناصر الحياة الإنسانية على الإطلاق، ومع ذلك فالظاهر أنها هي العائق الذي يحول دون فهمنا للعالَم فهمًا موضوعيًّا غير متأثر بالميول الذاتية، وهو ما يحاول الفلاسفة أن يحقِّقوه لأنفسِهم؛ وذلك لأن الانفعالات هي التي تجعلنا ننظر إلى العالَم في مرآة الأمزجة والأهواء، فتراه مشرقًا حينًا، وقائمًا حينًا حسب ما تكون عليه مرآتنا، ولو استثنينا من الانفعالات انفعالًا واحدًا، هو حب الاستطلاع، لجاز بنا القول إجمالًا بأنها تعوق الحياة العقلية، على الرغم من أن الدفعة القوية المطلوبة في قيامنا بالتفكير الناجح متصلة على الأرجح بخضوع الباحث لانفعالاته إلى حد كبير.
وأنتقل الآن إلى موضوع الرغبات، وهو موضوع بحثناه من وجهة نظر السلوكيين في الفصل الثالث، وأريد الآن أن أرى هل يمكن أن أضيف إلى ما ذكرته هناك شيئًا نستمده من التأمل الباطني.
ولنذكر مرة أخرى أنَّ عزلنا للعناصر التي تتكون منها عملية واحدة متصلة تبدأ من المثير وتنتهي بالاستجابة، هو أمر نصطنعه اصطناعًا؛ لأن تلك العناصر في الواقع لا توجد فرادى، فإذا كنا إزاء مثير واستجابة، جاز لنا أن نعد هذه الاستجابة نتيجة للمثير، أو أن نعدها سببًا لنتائج تأتي بعدها؛ أما الحالة الأولى — وأعني بها اعتبار الاستجابة نتيجة لمثير — فهي الطريق الطبيعي للنظر إلى الاستجابة عندما نكون بصدد موقف إدراكي، وأما الحالة الثانية فتكون عندما يكون موضوع البحث هو الرغبة والإرادة، في حالة الرغبة نَتَّجه إلى تغيير شيء في أنفسنا أو في البيئة أو فيهما معًا، وسؤالنا الآن هو: ماذا ينكشف لنا في حقيقة الرغبات عن طريق التأمل الباطني؟
ورأيي هو أن نظرية السلوكيين في الرغبة — كنظريتهم في الإدراك — أهم من النظرية التي تقيم نتائجها على التأمل الباطني، وأوسع منها مجالًا في عالَم التطبيق؛ ذلك أن الرغبة إذا عُدَّت صفة تميز السلوك — وقد كان ذلك أساس نظرنا إليها عندما بحثناها في الفصل الثالث — رأيناها تبدأ من مرحلة دُنْيا في سُلَّم التطور، ووجدناها في شتَّى مدارج الكائنات الحية — حتى الكائنات البشرية نفسها — العامل الأوحد في كثير جدًّا من مواقف الحياة، ومن الرغبات ما هو لا شعوري كتلك التي أشار إليها فرويد وفسر بها كثيرًا من أفعال الإنسان، غير أن تلك الرغبات اللاشعورية لا وجود لها إلا باعتبارها سبلًا للسلوك، ولكن هنالك إلى جانب الرغبات اللاشعورية رغبات شعورية يكون صاحبها على وعي بها، فما الذي يفرق هذه من تلك؟
ولنضرب مثلًا للرغبة حين تكون شعورية ظاهرة في وعي صاحبها؛ ديموستنيز عندما أراد أن يصير خطيبًا عظيمًا؛ فتلك رغبة كان صاحبها شاعرًا بها وأخذ يُوجِّه أفعاله تبعًا لها، وقد تنظر إلى رغبته تلك نظرة سلوكية فتقول: إن ديموستنيز أراد أن يبدي من سلوكه ما يكون له الأثر في رفاقه، وتلك خاصَّةٌ عامَّة في طبائع البشر، تراها في سلوك الأطفال على صورة ساذجة، وإذا ما توافرت لدينا هذه الرغبة تبعَتْها مُحاوَلات لبلوغ الهدف، كمُحاوَلات الفئران في المتاهات، فترانا نتَّجه الاتجاه الخاطئ حينًا حتى لنكون موضع السخرية، ونتجه الاتجاه الصحيح حينًا آخر فنبلغ من إعجاب الناس مبلغًا يشبه قضمة الجبن التي يبلغها الفأر بعد مُحاوَلاته في طُرُق المتاهة؛ بغية أن يحقق هدفه. على أن رغبة الإنسان في أن يظفر باستحسان الآخَرِين قد تكون خافية عليه، لكنها كذلك قد تكون ظاهرة له، وبخاصَّة إذا كان ممن يحسنون تحليل أنفسهم وملاحظتها من داخل؛ وعندئذٍ يكون الإنسان بمثابة من يقول لنفسه صراحة: أريد أن أظفر من الناس بالإعجاب، وعندئذٍ تكون الرغبة شعورية، وعندئذٍ أيضًا نستطيع أن نستخدم عِلْمنا في رسم الخطة التي تحقق لنا الهدف المنشود. على أن الترابط بين الهدف ووسائله كثيرًا ما ينحرف بالرغبة من اتجاهها نحو الهدف إلى اتجاهها نحو الوسيلة، فهذا هو ديموستنيز — وهو المثل الذي ضربناه — أراد أول الأمر أن يكون موضع الإعجاب، ثم اختار الخطابة في الجماهير وسيلة لبلوغ هدفه، ثم تَحوَّلت الرغبة من الهدف إلى الوسيلة، فأصبحت الخطابة هي الأمر المرغوب فيه لذاته.
بقي لي أن أقول كلمةً قصيرةً في الإرادة، فالإرادة قد تُفهم بمعنًى يجعلها شيئًا خاضعًا للملاحَظة وقد تُفهم بمعنًى آخر يجعلها خرافةً ميتافيزيقيةً، فإذا فُهِمَتْ بالمعنى الأول؛ كانت أمثلتها من قبيل أن أقول لنفسي: سأحبس أنفاسي نصف دقيقة ثم أبدأ في تنفيذ ذلك، أو أن أقول: سأذهب إلى أمريكا ثم أبدأ في تنفيذ ذلك، وهكذا. فهذه حالات من الإرادة ظاهرة للعين ويمكن مشاهدتها، أما إذا فُهِمَت الإرادة على أنها مَلَكة قائمة بذاتها أو كيان مستقل منفصل، فعندئذٍ تكون في رأيي خرافة؛ ولهذا فسأقتصر في بحث الإرادة على المعنى الأول وحده، أي على أنها ظاهرة تشاهدها العين.
يبدو لي أن ليس للصغار ما يمكن أن نسميه إرادةً، فلهم بادئ الأمر أفعال منعكسة، ثم من هذه الأفعال المنعكسة الأولية تتركب فيما بعدُ أفعال مشروطة، ولا تبدأ الإرادة إلا عندما يأخذ الطفل في محاولته ضبط أصابع يديه وقدميه، فبعد أن يمر الطفل بمرحلة تكون حركاته فيها لا إرادية، يدرك أن في إمكانه أن يفكر في الحركة أولًا ثم يؤديها، وهو يستشعر في هذا لذَّة غاية اللذة! وبعدئذٍ تكون هذه السِّمة هي طابع العمل الإرادي عند الراشدين، وأعني بها أن يكون التفكير أولًا ثم الحركة ثانيًا، وبديهي أننا لا نفكر في حركة إلا إذا كانت قد سبقت في تجاربنا على صورة لا إرادية، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن كل حركة إرادية كانت لا إرادية في مرحلة سابقة، فالحركة الإرادية هي — كما قال وليم جيمس — حركة سبقَتْها فِكرَتها، وفِكرَتها هذه جزء جوهري من علة حدوثها.
ولست أريد أن أورِّط نفسي هنا في رأي خاص بمعنى «التفكير» ما هو؟ فقد لا يكون التفكير سوى الألفاظ التي نستخدمها — كما ذهب الدكتور واتْسُن — وقد يكون أكثر من ذلك بحيث تكون له حقيقة غير مجرَّد الألفاظ التي تعبر عنه؛ فليس التفكير وطبيعته هو موضوع بحثي الآن، واختر لنفسك أية فلسفة شئت في ذلك، فلن يغير هذا من الحقيقة التي ذكرتُها عن الإرادة وهي أن حادثًا عقليًّا ما — أسميته تفكيرًا — يسبق الحركة، وإنك لَتلحظ هذا في حديث الرجل العادي حين يقول: أفكر في أن أعمل كذا وكيت؛ فما دام قد أسبق الحركة الجسدية بحادث حدث في رأسه فتلك الحركة الجسدية فعل إرادي.
وإن كان أمر الإرادة هكذا، فليست هي بالشيء المُلغز الغامض، وإن صادفتك أمثلة من الأفعال الإرادية التي تجيء بعد طول رويَّة وإمعان فِكْر، فلا يغير ذلك من حقيقة الأمر شيئًا؛ إذ تكون هنالك في هذه الحالات أفكار متضاربة متعارضة، تتفاوت لذَّةً وألمًا، ممَّا يؤدي إلى التأرجح والتردد قبل أن ترجح من بين الأفكار فكرة واحدة فيعقبها فعلها، ولستُ أرى قط ما يُسوِّغ لنا افتراض أي شيء آخر غير ما ذكرناه في تحليل الفعل الإرادي.