الفصل الثاني والعشرون

الأخلاق

جرى العرف في الفلسفة أن تُعَد الأخلاق جزءًا منها؛ ولذلك أراني مضطرًّا إلى بحثها، وأما رأيي فهو أن تخرج الأخلاق من مجال الفلسفة، لكني إذا أردتُ إقامة البرهان على صدق هذه الدعوى، تَطلَّب ذلك منِّي بحثًا يساوي ما يتطلب بحث موضوع الأخلاق، فضلًا عن أنه سيكون أقل إمتاعًا من الحديث عن الأخلاق، فلأغض النظر عن رأيي في علاقتها بالفلسفة، ولأوجِّه إليها النظر.

أبدأ بتعريف مؤقَّت للأخلاق فأقول: إنها مجموعة من المبادئ العامة التي على ضوئها نُحدِّد القواعد التي يجري السلوك البشري على مقتضاها؛ فليس من مهمة الأخلاق أن تقول كيف ينبغي للإنسان أن يسلك في ظروف معينة؛ لأن هذه هي مهمة الوعظ، ولنضرب هذا المثل: في أي الظروف يحق لنا الكذب؟ هذا سؤال لو ألقيته على كثيرين لأجابوا في غير رَوِيَّة: إن الكذب لا يجوز كائنة ما كانت الظروف، لكنها إجابة فجَّة لا تحتمل الدفاع الجاد؛ فكلنا يسلم بأن الكذب أمر محتوم إذا قابلت سفَّاكًا يعدو في جنون ليلحق برجل معيَّن يريد اغتياله، ثم سألك السَّفَّاك: هل رأيتَ هذا الرجل؟ هذا إلى أن الكذب أمر مقبول في فن الحرب، وقد يكذب القساوسة؛ احتفاظًا بسر مَن اعترف لهم بسرِّه، وللطبيب أن يكذب ليُطمئن المريض. هذه كلها مسائل موكولة إلى الوعظ والفتوى، ولا تَدخُل في علم الأخلاق من حيث هو جزء من الفلسفة.

إنَّ علم الأخلاق بهذا المعنى الفلسفي لا شأن له بقواعد السلوك الفعلي في مجرى الحياة اليومية، فهو لا يقول لك إن كان ينبغي أو لا ينبغي لك أن تسرق؛ لأن هذه قاعدة سلوكية بعينها، وهو لا يُعْنى بالقواعد السلوكية الفرادى، ومهمتُه هي البحث عن الأساس أو عن المبدأ الأوَّلي الذي لو سلمنا به استطعنا أن نستنبط منه كلَّ ما يترتب عليه من قواعد السلوك؛ قواعد السلوك تختلف باختلاف العصر والجنس والعقيدة اختلافًا لا يتبين مداه مَن لزم داره ولم يسافر أو لم يقرأ عن مختلف الأجناس البشرية كيف تُرتِّب معاشها وتنظِّم حياتها، بل إنه حتى في المجتمع الواحد ينشأ اختلاف في الرأي عن قواعد السلوك؛ فمثلًا هل يجوز للزوج أن يقتل عاشق زوجته؟ هذا سؤال قد تجد داخل المجتمع الواحد من يجيب عنه بالإيجاب ومن يجيب عنه بالنفي، وما أكثر ما ترى رأي عامة الناس في ناحية وحكم القضاء في ناحية أخرى، أو أن ترى حكم الشرع في ناحية وحكم عامة الناس في ناحية أخرى وهكذا. وإن أمثال هذه الحالات التي يحيط بها الشك واختلاف الرأي لتزداد عندما تجتاز قواعد السلوك مرحلة من التغير، وأما علم الأخلاق فيُعنى بما هو أشمل من هذه القواعد، ولذلك فهو أقلُّ منها تعرضًا للتغير، وحتى إن تعارض علم الأخلاق مع قواعد السلوك السارية في مجتمع معيَّن، فلا يكون ذلك وحده دليلًا على بُطلان مبادئ ذلك العلم؛ إذ قد تكون هذه القواعد السائدة هي الفاسدة، فبعض القبائل لا تُبيح لرجل أن يتزوج إلا إذا قتل عدوًا وجاء برأسه في حفلة عرسه، فإذا شك شاكٌّ في سلامة هذا السلوك، كان في رأي أهل القبيلة إباحيًّا مستهترًا يهبط بمستوى الرجولة، أنجعل علم الأخلاق يبرر مثل هذا العرف عند هؤلاء؟

ولعل خير مدخل إلى موضوع الأخلاق أن نسأل: ماذا يعني القائل بقوله: «يجب أن تفعل كذا وكذا …» ماذا عسى أن يكون معنى «الوجوب» هنا؟ ومن ذا الذي «أوجب» الفعل وجعله أمرًا محتومًا على الناس؟ إن الناس لَيَتقبَّلون أمثال هذه العبارة بعواطفهم لا بعقولهم، فالأرجح أن يكون الفعل الذي يُقال عنه إنه «واجب» الأداء فعلًا يَشعُر الناس إزاءه بالراحة النفسية؛ لأنه يوافق هواهم، لكن الفيلسوف الأخلاقي لا يُرضيه أن يقف بالأمر عند حد العواطف الشخصية، وهو يبحث عن مبدأ ثابت يكون أكثر موضوعية واطِّرادًا ودوامًا من الأهواء والعواطف؛ ولذا تراه يسأل لماذا يجب أداء هذا الفعل المُعَيَّن دون سواه؟ فما انفك الفلاسفة منذ القدم يسألون هذا السؤال ويحاولون الإجابة عنه، لم يشغل سقراطَ سؤالٌ مثل ما شغله هذا السؤال، وتناول أفلاطون وأرسطو موضوع الأخلاق في إسهاب، وأقام كونفوشيوس وبوذا قبل أفلاطون وأرسطو مذهبين دينيَّيْن قوامهما التعاليم الأخلاقية، وإن يكن المذهب البوذي قد تطوَّر بعدئذٍ في طريق لاهوتي، وللأقدمين نظرات في الأخلاق جديرة بالدراسة، فهي أجدى من مذاهبهم في غير ذلك من الميادين كعلم الطبيعة مثلًا، ومع ذلك كله فلا يزال موضوع الأخلاق مستعصيًا على المنطق الدقيق، وليس للمُحدَثين فيه ما يَبزُّون به الأقدمين، فليس العلم الحديث في الأخلاق بناسخ للعلم القديم.

بدأت الفضيلة — من الوجهة التاريخية — طاعة لأصحاب السلطان، سواء كانوا آلهة أو حكامًا أو كان ذلك السلطان مستندًا إلى التقاليد؛ فكان جزاء من يعصي مصدر السُّلطة عذابًا أليمًا، ولم تزَل تلك النظرة القديمة مأخوذًا بها عند فيلسوف حديث مثل هيجل الذي فسَّر الفضيلة بأنها إطاعة الدولة، على أن لهذه النظرية صورًا عدة، وعليها مآخذ كثيرة؛ فهي في صورتها البدائية لم تفطن إلى أن السلطات المختلفة تتباين وجهات نظرها في تصوير الفضيلة، فترى السلطة الواحدة في المجتمع الواحد تعمِّم الرأي الذي تأخذ به حتى لَيظن أفراد مجتمعها أن ما قد تواضَعوا هُم عليه هو الصورة المثلى، والويل لأي مجتمع آخَر يأخذ برأي آخَر، حتى إذا ما جَمعت الأيام بين أفراد الجماعتَيْن رمى كل فريق منهم فضائل الفريق الثاني بالبطلان.

وأول نقطة أتناولها بالنظر هي هذه: هل يمكن أن تكون هنالك قواعد ثابتة تحدد الفضيلة في شتَّى مواقف الحياة، بحيث إذا رُوعِيَت تلك القواعد كلها أصبحت الفضيلة كاملة، وبحيث يُوصف بالرذيلة مَن يخرج على قاعدة منها؟ إن أول ما نعارض به هذه الوجهة من النظر هو أنه يوشك أن يستحيل على أية مجموعة من القواعد أن تشمل السلوك البشري بأسره، خذ لذلك مثلًا الوصايا العشر التي هي مجموعة من القواعد تُتَّخذ أساسًا للأخلاق، فهل تنص هذه الوصايا على ما يفيد إن كان من الخير للناس أن يتبعوا قاعدة الذَّهَب في معاملاتهم الاقتصادية؟ فإن لم يكن فيها ما يهدي في هذا الصدد، كان معنى ذلك أن على الناس أن يقسموا سلوكهم قسمين؛ أحدهما تُراعَى فيه شرائع الأخلاق، والآخَر يُترك للمصادفات والتجربة، وهو انقسام لا يُرضي الفيلسوف.

واعتراض آخر يتفرع عن الاعتراض السابق، وهو أن أفعال الناس تختلف في نتائجها بين المفيد والضار، ولما كانت قواعد الأخلاق المفروضة لا تأبه للنتائج كيف جاءت، نتج عن ذلك أن مراعاة تلك الأخلاق قد تعود على الناس بالضرر؛ خذ مثلًا لذلك القاعدة القائلة: لا تقتلْ، فهل نكفُّ عن قتل العدو في الحروب؟

واعتراض ثالث وهو إذا سأل سائل: من أين نزلت علينا تلك القواعد الأخلاقية؟ فإذا قيل إنها جاءت وحيًا أو جاءت بحكم التقاليد، لم يَسَع الفيلسوف إزاء ذلك سوى أن يقول: لكنَّ هنالك في مختلف العصور والأقطار ألوانًا شتَّى من الوحي وألوانًا شتَّي من التقاليد، فما الذي يُرَجِّح وحيًا على وحي وتقليدًا على تقليد؟ وربما قيل جوابًا عن سؤال السائل: من أين جاءتنا قواعد الأخلاق؟ بأن الضمير الإنساني هو مُمْلِيها على الناس، فكأنما إملاؤه وَحْي لكنه نابِع من داخل الإنسان لا هابِط عليه من خارج. لكن هل فاتَ القائلين بالضمير الإنساني أنه هو أيضًا متغيِّر عصرًا بعد عصر؟ ألم يكن الضمير الإنساني يُمْلِي ذات يوم على الناس أن يُلْقُوا في النار كل خارج على هذه العقيدة أو تلك؟ فهل نحس اليوم مثل هذا الأمر تُمْلِيه علينا ضمائرنا؟ أم إن الضمير الإنساني قد تغيَّر بِتغيُّر الظروف وأصبح ما يُمْلِيه اليوم هو أن يترك الناس أحرارًا في عقائدهم؟ لهذا كله لا أجد مناصًا من رفض أية مجموعة من قواعد السلوك تُقدَّم إلينا على أنها أساس الفضيلة الذي لا أساس لها سواه، لكل إنسان وفي كل الظروف.

وللرأي القائل بأن الفضيلة قوامها طاعة السلطان صورة أخرى، يحق لي أن أسميها «بأخلاق القابضين على مقاليد الحكم»، فأصحاب هذا الرأي قد يحددون الفضيلة بأنها طاعة القانون الأخلاقي السائد في الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، فلا يعنينا — إذنْ — أن تختلف القوانين الأخلاقية في الجماعات المختلفة، ما دام الفرد مطالبًا بأن يطيع أخلاق قومه وعصره وعقيدته؛ فلا يُعدُّ المسيحي صاحب رذيلة إذا أطاع شريعة دينه، كما لا يُعدُّ المسلم خارجًا على الفضيلة إذا التزم شريعة دينه وهكذا، فهذه الوجهة من النظر تجعل جوهر الفضيلة اتساق المجتمع، أو قُل إنها تجعل الفضيلة طاعة الحكومة — كما فعل هيجل — غير أن صعوبة الأخذ بأمثال هذه الآراء تنشأ من استحالة تطبيق القواعد الأخلاقية على من بيدهم السلطان أنفسهم؛ فهي وجهة من النظر تلائم الطغاة ورعاياهم العبيد، ومُحال عليها أن تسود في ديمقراطية تخطو نحو الارتقاء أبدًا.

ولعلنا ندنو من الصواب إذا حددنا السلوك الصحيح بالحافز الذي يدفع صاحب الفعل إلى فعله؛ فعندئذٍ تكون الأعمال بالنيات، فالفعل طيب ما دام صادرًا عن نية طيبة، وخبيث ما دام صادرًا عن نية خبيثة. والمتصوفة يأخذون بهذا الرأي؛ ولذلك تراهم لا يعبئون بحرفية القانون؛ فيجوز لنا القول — بصفة عامة — إن الأعمال الصادرة عن الحب طيِّبة، والصادرة عن الكراهية خبيثة، وهي نظرة — في رأيي — صحيحة من الوجهة العملية، وهي من الوجهة الفلسفية نتيجة تَلزَم عن مبدأ أعم منها وأعمق.

نضيف إلى مجموعة النظريات الأخلاقية التي ذكرناها مجموعة أخرى تجعل صواب الفعل مرهونًا بنتائجه، فهو فعل حسن ما دامت نتائجه نافعة، وهو فعل سيئ ما دامت نتائجه ضارَّة؛ وأشهر نظرية في هذه المجموعة هي مذهب المنفعة الذي يُوحِّد بين الخير والسعادة، وأن واجب الناس أن يعملوا ما عساه أن يحقِّق لهم السعادة بقدر المُستطاع في هذه الدنيا، وأنا وإن كنت لا أوافق على توحيد الخير والسعادة وجعلهما اسمَيْن على شيء واحد، فما يجلب السعادة خير، وما هو خير مَجْلبة للسعادة، إلا أنني أوافق على أن خيرية السلوك أو شرِّيَّته يجب أن تتحدد بما لذلك السلوك من نتائج، ولست أعني بالطبع أن نقف عند كل طارئة من طوارئ الحياة اليومية لنحسب حساب نتائج هذا السلوك أو ذاك؛ لأننا لو فعلنا لذهبت فرصة العمل السانحة قبل أن ننتهي من هذا الحساب، ولكن الذي أعنيه هو أن القانون الأخلاقي القائم الذي نُعَلِّمه في المدارس والذي يتجسَّد في الرأي العام أو في قانون الجنايات، يجب أن يُعاد فحصه جيلًا بعد جيل؛ لنرى إن كان ما يزال هو الطريق إلى أطيب النتائج الممكنة، فإذا لم نجده كذلك بحَثْنا عن خير وسيلة لتعديله وإصلاحه. واختصارًا فإني أرى أن يُغيِّر الناس من قوانينهم الخلقية كما يغيرون من قوانينهم القضائية، بحيث يجعلونها ملائمة لظروفهم المُتبدِّلة، وليس عليهم أن ينشدوا إلا الصالح العام وحده، لكن هذا الصالح العام نفسه يلزمه التعريف والتجديد.

وهنالك رأي في الأخلاق يؤيده جورج مور، وهو أن الخير فكرة غير قابلة للتعريف؛ لأنها فكرة أولية تُدرَك إدراكًا مباشرًا، فالناس يعرفون بالفطرة ما هو الخير، ولا حاجة بهم في ذلك إلى شرح وتحديد، ومن ذا الذي لا يَعرِف بفطرته أن السعادة خير، والمعرفة خير، والجمال خير، وأن أضدادها شر: الشقاء والجهل والقبح؟ ومَن ذا الذي لا يعرف بفطرته أن من الخير أن نعمل العمل الذي من شأنه أن يزيد الخير ويحد من الشر؟ وقد كنتُ فيما سبق آخُذ بهذا المذهب حتى تركته لأسباب، منها ما قرأتُه لِسَانْتَيانا في كتابه «مذاهب الناس شتي Winds of Doctrine» ورأيي الآن هو أن الخير والشر ليسا فكرتين أوليتين بسيطتين تُدرَكان مباشرة بالفطرة، بل هما نتيجتان تتفرعان عن الرغبة، ولست أعني بذلك أن الخير هو ما نرغب فيه؛ لأني أعلم أن رغبات الناس مُتعارِضة، على حين أن الخير — في رأيي — هو أساسًا فكرة اجتماعية يراد بها أن تقضي على ما بين الناس من تعارُض؛ على أن هذا التعارُض لا ينشأ بين الأفراد فحسب، بل إنه كذلك لينشأ بين مختلف الرغبات داخل الفرد الواحد في لحظات مختلفة، بل في اللحظة الواحدة، حتى وإن يكن فردًا وحيدًا مثل «روبنسن كروسو»، فلننظر كيف تنشأ فكرة الخير من التفكير في الرغبات المُتعارِضة.

ونبدأ بروبنسن كروسو؛ ففيه تعارُض بين التعب والجُوع مثلًا، أو قل إن التعارض كائن بين الجهد المتعب الآن والجوع المُنتظَر غدًا؛ فالجهد الذي يتعرض لمشقته في هذه اللحظة الراهنة لكي يُوفِّر لنفسه القوت في ساعة مستقبلة، هذا الجهد تتمثل فيه كل خصائص ما نسميه بالجهد الخلقي، فترانا نُعلِي من شأن شخص يبذل مثل هذا الجهد ونحط من شأن من لا يبذله؛ لأن بذل الجهد في وقت حاضر بغية ثمرته المرتقبة في وقت آتٍ، يحتاج إلى ضبط النفس حتى لا نجري وراء نزواتها الراهنة؛ فلا شك أن روبنسن كروسو قد تَبيَّن في نفسه عدة رغبات، كل رغبة منها تكون أقوى في وقت معيَّن منها في وقت آخر، كما تَبيَّن أنه لو عمل بمقتضى الرغبة التي تكون لها الغلبة الآن، فوَّتَ على نفسه رغبات أخرى لو حُسِب حسابها لرجحت تلك الرغبة المُحقَّقة، وهو إذ يوازن هكذا بين رغباته ليعلم أيها يُحقِّق وبأيِّها يضحي، فإنما يستخدم ذكاءه، وهذا الذكاء إذا ما نما وتقدَّم، نمتْ معه الرغبة في حياة متسقة الجوانب، أعني حياةً يخضع فيها النشاط الإنساني لرغبات دائمة لا يناقض بعضها بعضًا؛ ذلك لأن بعض الرغبات بطبيعتها أقرب إلى أن تحقق هذا الاتساق المنشود من غيرها؛ خذ مثلًا لذلك حب الاستطلاع العقلي من شأنه أن يشيع في النفس الرِّضا في اعتدال، على حين أن تعاطي المخدرات يسبب سعادةً مُفرِطةً في اللحظة الراهنة ولكنها سعادة يعقبها ندم؛ فلو رَسَونا فجأةً على الجزيرة التي كان يسكنها روبنسن كروسو، ووجدناه يقضي وقته في دراسة النبات، كان ذلك في رأينا أفضل ممَّا لو وجدناه مخمورًا مخدَّرًا، ومَرَد هذا الاستهجان وذلك الاستحسان إلى قواعد الأخلاق.

فإذا انتقلنا بالبحث من الفرد الواحد المتفرد إلى المجتمع الذي تتشابك فيه رغبات أفراد كثيرين، ألفينا مسائل الأخلاق أهم وأصعب؛ لأن التعارض بين رغبات أفراد كثيرين أعسر على الحل من التعارض الكائن بين مختلف الرغبات عند الفرد الواحد، وإن المجتمع يتخذ لتهذيب رغبات أبنائه طريقين؛ القانون والتربية؛ فبالقانون يُشذَّب السلوك الشاذ بالبَتْر، وبالتربية يُهذَّب الأفراد تهذيبًا يميل بهم نحو توجيه رغباتهم فيما يخدم صالح الجماعة كلها … ولا بُدَّ لنا هنا من التفرقة بين الشعور والعمل؛ فلا شكَّ أن العمل الذي يؤديه الفرد هو الجانب الذي يهم الدولة، ولا يهمها أن يكون هذا العمل المطلوب مبطنًا بالرضا أو بالضِّيق، لكنه يستحيل — من جهة أخرى — أن يفعل الإنسان الفعل الصواب دائمًا وفي كل الظروف ما لم يسبق ذلك توجيه سليم لرغباته.

وألخص وجهة النظر التي أسلفتُها في مذهب أخلاقي أصوغه صياغة مجرَّدة فأقول: اعمل بحيث ينشأ عن عملك اتساق في الرغبات أكثر ممَّا ينشأ عنه تنافُر فيها، هذه هي القاعدة الخلقية التي ينبغي مراعاتها في كل حين وفي شتَّى الحالات؛ ينبغي مراعاتها عند الفرد الواحد بينه وبين نفسه؛ لتصبح رغباته متآزرةً لا متنافرةً، وينبغي مراعاتها داخل حدود الأسرة، والمدينة، والوطن، ثم بالنسبة إلى البشرية كلها ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلًا.

ولتحقيق هذه الغاية وسيلتان؛ الأولى: أن ننشئ من النُّظم الاجتماعية ما يعين على إحداث التناسق بين رغبات الأفراد، حيث نحصر تنافرها في أضيَق نطاق ممكن، والثانية أن نُنَشِّئ الأفراد في عملية التربية على نحو يُوجِّه رغباتهم وجهةً من شأنها ألا تتنافر رغبات الفرد الواحد مع رغبات الآخَرِين، ولن أقول شيئًا عن الوسيلة الأولى؛ لأن أمرها مُتَّصل بعلم السياسة وعلم الاقتصاد. وأما عن الوسيلة الثانية — وسيلة التربية — فأقول: إن دور التكوين هو مرحلة الطفولة التي يجب أن تسودها الصحة والسعادة والحرية والتدريب المتصل على أن يوجه الفرد حبَّه للسيطرة نحو البيئة، فنُعوِّد الطفل أن يمارس غريزة السيطرة تجاه الأشياء لا تجاه غيره من الناس.

وبديهي أنه ما دامت الرغبات المُتَّسقة هي هدفنا، فالحب أفضل من الكراهية؛ لأنه من اليسير على حبيبين أن يُشبِعا رغبتَيْهما معًا، وأما المتخاصمان فأحدهما فقط على الأكثر هو الذي سيحقق رغبته، وسيُخذَل الآخر، إن لم يُخذَل الاثنان معًا، وواضح كذلك أن تشجيع الرغبة في المعرفة يصبح واجبًا علينا؛ لأن الزيادة من المعرفة لا تكون على حساب الآخَرِين، وأما الرغبة في الامتلاك فهي على نقيض ذلك قلَّما تتحقق عند واحد إلا على حساب إحباطها عند آخر، وأُلخِّص مذهبي في الأخلاق في عبارة واحدة هي: «الحياة الخَيِّرة هي حياة يوحي بها الحب وتهديها المعرفة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥