الفصل الثالث والعشرون

بعض الفلسفات الكبرى الماضية

قد قَصَرنا البحث حتى الآن على الإنسان إلى حد كبير، لكن الإنسان ليس هو الموضوع الأساسي للفلسفة؛ لأن الذي يعني الفلسفة هو الكون باعتباره كلًّا واحدًا، فإذا ما بحثنا في الإنسان فلأنه الأداة لكسب المعرفة بالكون؛ لهذا جعلنا هَمَّنا في الفصول السابقة أن ننظر إلى الإنسان من حيث هو كائن عارف، ولم نهتم إلا قليلًا بجانبي الإرادة والانفعال؛ ولا أحسبنا نقف الوقفة الفلسفية الصحيحة لو أننا اهتممنا بالكون؛ لأنه مؤثر في الإنسان، إذ يتطلب الروح الفلسفي منا أن نهتم بالعالم لذاته، لكننا ندرك هذا العالم بحواسنا ونفكر فيه بعقولنا، فلا مناصَ من تلون الصورة المكتسبة باللَّون الذاتي لأشخاصنا، ومن هنا تَحتَّم علينا أن ندرس أنفسنا ما دمنا نحن وسيلة معرفة الكون؛ لنرى أي العناصر في الصورة التي كونَّاها عن العالم قد أُضيفت من عندنا، وأيها يُمثِّل حقيقة العالم الخارجي كما هو واقع وقائم. ولقد بحثنا الإدراك في الفصول السابقة من حيث هو استجابة يمكن ملاحظتها من خارج، وكذلك بحثناه من حيث هو حقيقة تبدو للتأمل الباطني، نريد أن نبحث في الفصول الآتية ما يمكننا معرفته عن العالم بعد أن عرفنا طبيعة هذه الأداة البشرية التي تُستخدم لاكتساب المعرفة، فلست أظن أن في مقدورنا أن نعرف عن العالم كلَّ هذا الذي ظن الفلاسفة السابقون أننا قادرون على تحصيله، وها هنا يجدر بنا أن نقف وقفةً نعرض فيها صورةً موجزةً لتلك الفلسفات الماضية، مكتفين في ذلك بالفلسفات التي تُمثِّل الاتجاهات الرئيسية في الفلسفة.

تبدأ الفلسفة الحديثة عادةً بديكارت الذي ازدهر في النصف الأول من القرن السابع عشر، ولقد سنَحتْ لنا فرصة في الفصل السادس عشر لمناقشة عبارته المشهورة: «أنا أفكر فأنا إذن موجود.» وأما الآن فسنعالجه على صورة أشمل؛ فديكارت هو نقطة البدء لحركتين؛ إحداهما في الميتافيزيقا والأخرى في نظرية المعرفة؛ فهو في الميتافيزيقا قد وسَّع هُوَّة الاختلاف بين العقل والجسم، وهو في نظرية المعرفة قد دعا إلى الدِّقَّة الصارمة في المقدِّمات التي نُرتِّب عليها النتائج، ولكل من هاتين الحركتين تاريخ.

فعلم الديناميكا كان يتقدَّم بخطوات سريعة في عهد ديكارت، وكان هذا العلم يَتَّجِه نحو القول بأن حركة المادة يمكن حسابُها حسابًا رياضيًّا إذا ما توافرت لدينا المعلومات الأولية الكافية، ولما كانت حركة المادة تشمل أفعالنا الجسدية — ومن بينها الكلام والكتابة — كانت النتيجة فيما يبدو نظرية مادِّيَّة في تفسير السلوك البشري، لكن هذه النظرية مَمقوتة عند كثير من الفلاسفة، ولهذا تراهم يلتمسون سُبل الفِكاك منها؛ فحتى ديكارت نفسه قد ذهب به الظن إلى أن الإرادة (وهي ليست ظاهرة جسدية) يمكن أن تُؤثِّر في الجسد تأثيرًا مباشرًا، فحسب أن في المخ سائلًا أسماه «بالروح الحيواني» وأن للإرادة القدرة على توجيه هذا السائل وإن لم يكن لها القدرة على تحديد سرعته، وهذا جعل للإرادة قوة تحريك الجسد فساير بذلك ما يسلم به الإدراك الفطري، لكن هذا الرأي لم يتسق مع بقية مذهبه الفلسفي الذي جَعل أساسه أن إلى جانِب الجوهر الأعلى (وهو الله) عنصرين مخلوقين هما العقل والمادة، أما العقل فجوهره التفكير، وأما المادة فجوهرها الامتداد، وقد فرَّق بين هذين العنصرين تفرقة تجعل الصلة بينهما أمرًا عسيرًا على الأفهام، ثم جاء أتباعه فأضافوا إلى ذلك أن العقل والجسم لا يؤثِّر أحدهما في الآخَر؛ إذ الصلة المباشرة بينهما أمر مُحال.

والذي أوحى بهذه الإضافة عوامل عدة، قد يكون أهمها تقدُّم علم الطبيعة بعد حياة ديكارت مباشرة، فقد اكتشف علماء الطبيعة قانونًا أَسمَوه بقانون الاحتفاظ بقوة الدفع، وخلاصته أنه إذا كان هناك مجموعة من أجسام تتحرك حركةً ما، ولا يقع عليها تأثير من خارجها، فإن مقدار الحركة في أي اتجاه لها يظلُّ ثابتًا، ومؤدَّى ذلك بطلان ما كان ديكارت قد أخذ به حين جعل للإرادة قدرةً على تحريك «الروح الحيواني» كما يَؤدِّي ذلك أيضًا إلى استحالة أن يكون للعقل تأثير أي تأثير في حركة الجسم؛ لأنه لو حدث هذا أو ذلك كان معناه أن مادةً تَحرَّكت حركةً ليس لها مصدر من المصادر التي يعترف بها علم الديناميكا؛ وإذن فإذا كان هنالك عنصران جوهريان؛ عقل وجسم، فلكل منهما قوانينه الخاصَّة، دون أن يتدخل أحدُهما في سير الآخر بأي وجهٍ من الوجوه؛ فإذا رأيت نفسي «أريد» تحريك ذراعي، فتتحرك الذراع على إثر ذلك، كان تفسير الموقف عندهم بأنه أشبه بساعتين دقيقتين مضبوطتين تَدقَّان معًا في لحظة واحدة دون أن يكون لإحداهما تأثير في الأخرى، وهكذا العقل والجسم، قد يساير أحدهما الآخر في ضبط ودِقة، لكن أحدهما رغم ذلك لا شأن له بالآخَر، وبهذا نتصور سلسلة الأحداث العقلية من جهة وسلسلة الأحداث الطبيعية من جهة أخرى متوازيتَيْن، كل منهما تصاحب الأخرى مصاحَبة دقيقة حتى لتتطابق الأحداث هنا مع الأحداث هناك، على الرغم من أن كل سلسلة منهما مستقلة بذاتها عن الأخرى.

وأراد اسبينوزا أن يقلِّل ممَّا في هذه النظرية من شطَطٍ فأنكر التثنية بين العناصر، وأدار مذهبه حول واحدية العنصر الذي يكون الفكر والامتداد جانبين من جوانبه، لكن مذهب اسبينوزا هذا لم يحل الإشكال القائم، وهو: لماذا تجري أحداث هذين الجانبين في توازٍ تام، بحيث يكون لكل حدث من حوادث العقل حدث يقابله من حوادث المادة؟ والرأي عندي هو أن اسبينوزا من أعظم الفلاسفة الذين شهدهم تاريخُ الفكر، لكن عظمته قائمة على فلسفته الأخلاقية أكثر منها على فلسفته الميتافيزيقية.

ولبثت الفكرة القائلة باستحالة الاتصال المباشر بين العقل والجسم إلى يومنا هذا؛ إذ لا نزال نجد من يقول إن لكل حادثة تحدث في المخ (وهو من مادة الجسد) حالة عقلية تقابلها، والعكس صحيح أيضًا، دون أن يكون لأحد الجانبين تأثير مباشر في الجانب الآخر. فهذا رأي — كما ترى — بدأ عند ديكارت الذي استمده من الدين ومن العلم ومن الميتافيزيقا، لكنني لا أجد — ما يحملني على التسليم بصوابه.

وأبدأ بالنظر إلى الجَبْرية المحكمة التي سادَت علم الطبيعة منذ القِدَم، ولقد أدرك اسبينوزا بحق أن الجبرية لا تقتصر على الطبيعة وحدها، بل تشمل العالم العقلي كذلك؛ لأنه لو كانت كل كلمة ينطق بها المتكلم تحدِّدها أسباب طبيعية (إذ الكلمة واقعة مادية) لَنَتَج عن ذلك ألا تكون أفكارنا حرَّة إلا حين نكذب؛ فما دمنا ننطق تعبيرًا عمَّا نفكر فيه، ثم ما دام النطق محكومًا بما يحكم ظواهر الطبيعة المادية الأخرى، لزم أن تكون أفكارنا هي الأخرى محكومة بالأسباب نفسها.

والفلسفة التي أدعو إليها تتخَلَّص من هذه النتيجة بطرق عدة؛ فأولًا: ليس معنى السَّبَبيَّة جَبْريَّة تلزم النتيجة عن سببها، بل معنى السَّبَبيَّة هو إحصاء التتابع في حدوث الأحداث، فما تدل التجربة على أنه مُتلازِم في الوقوع مع غيره، عَدَدْنا الحادثتين المتلازمتين مرتبطتين برابطة سببية، وجعلنا من تلازُمِهما قانونًا مطردًا؛ وبناء على ذلك فلو كانت حوادث الطبيعة وحوادث العقل متوازيَيْن؛ لأمكن اعتبار كل منهما سببًا في الآخَر بهذا المعنى للسببية، وثانيًا: قد أصبحت الطبيعة في نظر علمائها المعاصرين أقل جبرية منها في نظر علمائها السابقين، فلسنا ندري — مثلًا — لماذا تتفجر الذَّرَّة، ولا لماذا يقفز الإلكترون في الذَّرَّة من فلك أكبر إلى فلك أصغر، وما علينا إلا أن نشاهد ما يقع، ونسجله، ونستخرج متوسطاته بطريقة الإحصاء، فيكون لنا بذلك ما يُسمَّى بقوانين الطبيعة.

ثم انتقل بعد ذلك إلى الفكرة التي تفصل بين العقل والمادة فصلًا حادًّا، وهي فكرة تقوم على الاعتقاد بأن المكان الذي تقع فيه الطبيعة، هو نفسه المكان الذي تقع فيه التجربة الحسية عند إدراك تلك الطبيعة، وإنك لَترى هذا الخطأ ماثلًا عند «كانْت» الذي جعل مكان التجربة الحسية ذاتيًّا، ثم استدل من هذا أن يكون مكان الطبيعة ذاتيًّا كذلك، ولا أظن أن أحدًا تناول فكرة المكان بالتفكير الواضح منذ «كانْت» إلا أينشتين ومنكوفسكي، ولو سِرْت في المنطق الذي يفصل المكان الطبيعي عن المكان الإدراكي إلى نتائجه؛ لَتبيَّن لك ضَعْف الفكرة القديمة الخاصَّة بالعقل والمادة.

أما الجانب الثاني من فلسفة ديكارت، فهو التزام الشك المنهجي التزامًا صارمًا، فهو جانب أكثر نفعًا من فلسفته الميتافيزيقية؛ لأن نقطة البدء في تكوين النظرة الفلسفية السليمة، هي التَّحقُّق من أننا نعلم حقًّا ما ندعي أننا نعلمه، ولقد نجح ديكارت في بيان أن الإنسان قد لا يكون لديه السند فيما يزعم أنه على علم به؛ ولهذا فقد أخذ يشك في كل ما جاز له أن يشك فيه، حتى انتهى آخر الأمر إلى الشك في معارفه جميعًا إلا معرفته بوجود نفسه، فلم يستطع أن يجعل وجوده نفسه موضع شك؛ لأن عملية الشك نفسها تقتضي وجود الذات التي تشك؛ ومن ثم فقد جعل وجوده نقطة ابتداء يبدأ منها السير في بناء فلسفته بناء إيجابيًّا، وقد كان الفرض الأولي الذي أقام عليه البناء حقيقة جعلها أشد الحقائق. يقينًا، ألا وهي «أنا أفكر» وكان هذا الافتراض منه حظًّا سيئًا للفلسفة الحديثة كلها، لأنه نزع هذه الفلسفة منزعًا ذاتيًّا، والواقع أن «أنا» التي ورَدَت في مُقدِّمَته مُكوَّنة من سلسلة أحداث طويلة، وكل حادثة في هذه السلسلة أشد يقينًا في العلم بها من الكل مأخوذًا جملة واحدة، وكذلك أخذ ديكارت كلمة «أفكر» مأخذه للحقيقة البسيطة التي لا تُعرَّف بما هو أبسط منها، مع أنها تشتمل على مجموعة مُعقَّدة من الروابط بين الحوادث، وهل من اليسير علينا أن نقرر متى تكون الحادثة المعينة «فكرة»؟ أيكون في الحادثة المعينة صفة ذاتية تجعلها «فكرة»؟ هنا يجيب ديكارت — ومعه أكثر الفلاسفة — بالإيجاب، وأجيب أنا بالنفي؛ فخذ لذلك مثلًا إحساسًا بصريًّا وآخر سمعيًّا، فكلاهما «فكرة» بالمعنى الذي قصد إليه ديكارت، ولكن ما هي الخصائص المشتركة بين هذين الإحساسين، ممَّا يجعلهما ينضويان معًا تحت مقولة واحدة هي مقولة «الأفكار»؟ لا شيء إلا في قابلية كل منهما أن يُعرَف مباشرة وبغير استدلال؛ وإذن فبدل أن نجعل «أنا أفكر» نقطة الابتداء مع أن وراءها ما هو أبسط منها، نتحذ نقطة الابتداء من الحادثات الجزئية الأولية التي تدرَك إدراكًا مباشرًا ولا تكون معتمدة على مقدمة سابقة عليها بحيث تجيء تلك نتيجة مترتبة على هذه، وما تلك الحادثات الجزئية إلا الإحساسات (أو قل على الأصح إنها الإدراكات الحسية). ولقد سبق لنا القول بأن هذه الحادثات الأولية يمكن اعتبارها جزءًا من الطبيعة واعتبارها جزءًا من العقل على حد سواء، والأمر في هذا مُتوقِّف على السياق الذي تَرِد فيه كل واحدة من هذه الحادثات الأولية، فلو وضعتها في سياقها السببي من أحداث الطبيعة كانتْ طبيعة، وإذا وضعتها في سياقها من الآثار الإدراكية كانت عقلًا.

وجاء ليبنتز بعد ديكارت، فلفَتَ الميتافيزيقا الديكارتية لفتةً جديدة؛ فقد كان — مثل ديكارت — ممتازًا في الرياضة وفي الفلسفة على السواء، ولم يأخذ بمذهب اسبينوزا القائل بوحدانية العنصر، كما أنه لم يأخذ بمذهب ديكارت القائل بالثنائية بين العقل والمادة، وكان له رأي آخر وهو أن هنالك عناصر لا عدد لها، كلها متميز بأنه عقلي، مع تفاوتها في درجة العقلية، لكن ليس بينها عنصر واحد مادي صرف خالٍ من العقل، وكل هذه العناصر أَبدِي لا يفنى، ولا سبيل إلى اتصال هذه العناصر بعضها ببعض بحيث يُؤثِّر عنصر منها في عنصر أو يتأثر به، فكأنما وسَّع مبدأ التوازي بين العقل والمادة الذي كان سائدًا بين أتباع ديكارت، حتى جعله منطبقًا على ما لا حصر له من العناصر، فكل هذه الكثرة تسير في خطوط متوازية لا تماسَّ فيها بين خطين، وقد أطلق ليبنتز على عناصره تلك اسم الذرات الروحية «الموناد Monads» وقال: إن كل ذرة روحية منها تعكس في نفسها صورة الكون كله؛ كأنما هي عدد كبير من المرايا، كل مرآة منها تعكس ما عداها بأجمعه، على تفاوُت الوضوح في الصور المعكوسة بتفاوُت تلك المرايا، وعقل الإنسان — أو روحه — ذرة من تلك المجموعة، وجسده مجموعة ذرات، وكل ذرة من المجموعة الجسدية هي بدورها ذات عقل بدرجة ما، لكنها لا ترقى إلى درجة العقلية التي تكون عليها ذرة الروح، ومجموعة الذرات في الكون كله تتدرج كمالًا، فأبعدها عن الكمال يُصوِّر الكون تصويرًا يشوبه الخلط والغموض، وأقربها إلى الكمال يصوره في نُصوع وجلاء، على أنه مهما بلغت الذَّرَّة من درجة كمالها، فما يزال في تصويرها للكون شيء من الغموض والخلط، وبديهي أنه ما دامت الذرات مختلفة الأوضاع بالنسبة إلى المجموعة، فكل منها يُصوِّر الكون من زاويته حسب وضعه.

ولفلسفة ليبنتز هذه حسنات وعيوب؛ فنظريته القائلة بأن «المادة» ما هي إلا طريقة في تصوير ما ليس بمادي في حقيقته وغاية ما في الأمر أنه تصوير يشوبه الخلط والغموض، هذه النظرية في رأيي قد مَيَّزته وفوَّقَتْه على أسلافه جميعًا؛ لأنه أدرك هذا — وإن يكن إدراكًا غامضًا — الفرق بين المكان الطبيعي والمكان الإدراكي؛ ففي كل صورة تعكسها كل ذرة في العالم مكان، وهنالك أيضًا مجموعة من «وجهات النظر» تختلف باختلاف الذرات في أوضاعها بعضها بالنسبة إلى بعض، فالأولى تقابل ما أسميتُه بالمكان الإدراكي، والثانية تقابل ما أسميتُه بالمكان الطبيعي؛ فقد ذهب ليبنتز — على خلاف في ذلك مع نيوتن — إلى أن المكان والزمان إنما يَتألَّفان من علاقات وليسا هما بالكائنَين القائمَين بذاتهما، وهو رأي قطعَت بصوابه نظرية أينشتين في النِّسْبِيَّة، لكن نقطة الضعف في فلسفة ليبنتز هي ما أسماه «بالتناسق الأزلي» الذي زعم أنه العلة في أن تسير الذرات مُتَّسقة، فلا تتعارض ولا تتناقض على الرغم من أن كل ذرة منها مُغلَقة على نفسها وتخلو من النوافذ التي تطلُّ منها على سواها؛ فهي مجموعة مُنسَّقة مُتناغِمة مع أن بعضها لا يُؤثِّر ولا يَتأثَّر ببعضها الآخر؛ فإذا حدث لذَرَّة أن أدركَت شيئًا ما؛ فليس ذلك نتيجة اتصالها بما قد أدركَتْه، بل إن إدراكها هذا حادث باطني في تاريخها، جاء متوافقًا في الحدوث مع الشيء المدرَك رغم انعدام الصلة بين الطرفين، اللهم إلا ما رُسِم لهما منذ الأزل من تناسق وتوافُق في مراحل السير، لكننا نسأل ليبنتز كيف استطاع أن يقرر وجود ذرات أخرى غير الذرة التي تُكوِّن حقيقته هو؟ فلو كان ذرة قائمة بذاتها مستقلة عمَّا عداها؛ لأدرك كل ما أدركه من داخل نفسه، ولَمَا وجد ما يُسوِّغ له أن يثبت وجودًا خارج ذاته.

هذه الفلسفات الثلاثة التي أسلفنا ذكرها؛ فلسفات ديكارت واسبينوزا وليبنتز — على ما بينها من وجوه الاختلاف — تتفق على رأي واحد في وجود ما يسمونه «بالعنصر» أو «بالجوهر»، وهو رأي ناتج عن فكرة الإنسان بإدراكه الفطري من أن «الشيء» من الأشياء له وجود متصل متماسك ثابت، فإذا أنت بلغت بهذه الصفات أكملها، كان لك هذا «العنصر» المزعوم له الثبات والدوام والأصالة والاستقلال. والرأي عندي أن الفكرة من أساسها باطلة؛ لأن أي «شيء» من هذه الأشياء التي نخلع عليها الثبات والدوام على حالة بعينها، ما هو إلا سلسلة طويلة من الأحداث المتعاصرة والمتعاقبة، ولعل فكرة «العنصر» قد سيطرت على الميتافيزيقا؛ لِما كان يُظَن في المادة والروح من أنهما لا يفنيان، ولأن الإنسان قد حسب مخطئًا بأن خصائص اللغة التي يصف بها العالم هي نفسُها خصائص العالم؛ فما دام للجملة الواحدة «موضوع» نحمل عليه هذه وتلك من الصفات، فلا بد أن يكون هنالك في العالم الخارجي «شيء» يقابل هذا الموضوع، ويتصف بما نلصقه به من صفات، كأنما الموضوع شيء غير صفاته اللاصقة به؛ فترانا — مثلًا — نقول عن زيد من الناس جُمَلًا كثيرة، فنقول «زيد يجري»، و«زيد يأكل»، و«زيد يرتدي ثيابه» وهكذا، فسرعان ما نظن أن ثمة حقيقة ثابتة اسمها «زيد» وأن صفاته الخارجية إن تغيرت بين الجري والأكل ولبس الثياب، فهو نفسه ثابت، تطرأ عليه هذه التغيرات، أما هو فلا يَتغيَّر في جوهره، وأنه لولا وجود هذا الجوهر الثابت لما وُجِد مَن يقوم بعمليات الجري والأكل وغيرهما، وقد كان يمكن لزيد هذا ألَّا يأكل وألَّا يجري وألَّا يلبس الثياب، ويظل زيدًا كما هو، وكذلك ترانا نُلْصِق بزيد مجموعة من الصفات، فنقول: إنه عاقل وطويل القامة وأشقر الشعر … إلخ، ونظن أن هذه الصفات ما كانت لتقوم بمفردها في الخلاء بغير سند يسندها ومحور تدور عليه، والسند والمحور هما «زيد» بجوهره الثابت، وقد كان يمكن لزيد أن يكون أحمق وقصير القامة وأسود الشعر، ومع ذلك يظل زيدًا كما هو. هكذا ترانا نُفرِّق بين الشيء أو الشخص وصفاته، فهو ثابت وهذه الصفات طارئة عليه، هو مُحتفِظ بذاتيته وهذه الصفات مُتغيِّرة، أو بالمصطلح الفلسفي هو «جوهر» وهي «أعراض»، وقد كنا في عالم الطبيعة — إلى عهد جد قريب — نفرض أن الذرة الواحدة كيان ثابت يحتفظ بذاتيته خلال الزمن مهما امتد به الأمد؛ فلتتحرك في هذا الاتجاه أو ذاك، ولتجتمع مع هذه المجموعة من ذراتٍ غيرها أو تلك المجموعة لِيتكوَّن باجتماعها ما شئت من صور، لكنها في ذاتها ثابتة الذاتية؛ ففكرة «الحركة» التي كان يرتكز عليها عِلْم الطبيعة كله، لم تكن تصدق إلا على عنصر يحتفظ بذاتيته بينما يغير من علاقاته المكانية ببقية العناصر؛ ولهذا فقد استبَدَّت فكرة العنصر بعلم الطبيعة أكثر ممَّا استبدت بما بعد الطبيعة.

فعلينا أن نصمَّ آذاننا عن فكرة «العنصر» هذه، العنصر الذي معناه الدوام، هذا إذا أردنا أن نظفر بفلسفة تلائم علم الطبيعة وعلم النفس المعاصرَيْن، فعلم الطبيعة الحديث الذي يتمثل في نظرية النِّسْبِيَّة وفي نظرية بناء الذرة، قد حَوَّل «المادة» إلى مجموعة من أحداث، كل حادثة منها لا تدوم إلا فترة من الزمن بالِغَة القِصَر، ولو نظرت إلى الإلكترونة الواحدة أو إلى البروتونة الواحدة (وهي الكهارب السالبة والموجبة التي تتألف منها الذرة) أقول: إنك لو نظرت إليها على أنها شيء ذو كيان مستقل متماسك؛ لأخطأتَ نفس الخطأ الذي تخطئه لو أنك نظرتَ إلى سُكان مدينة لندن أو مدينة نيويورك على أنهم يكونون شيئًا واحدًا ذا كيان مستقل متماسك، وكذلك حدث في علم النفس أن تلاشت فكرة «الذات» إذا نُظِر إليها على أنها كيان قائم بذاته، وأصبحَت وحدة الشخصية الإنسانية مرتكزة على الروابط السَّبَبيَّة التي تصل أحداث السلسلة التي منها يَتألَّف تاريخ هذا الفرد أو ذلك من أفراد الإنسان، فهذا القصور في فكرة «العنصر» هو الذي يحملنا على القول بأن فلسفات ديكارت واسبينوزا وليبنتز بعيدة عن علم الطبيعة الحديث، لكنَّ في فلسفاتهم تلك جانبًا لا يرتكز على فكرة العنصر، وهو جانب لا يزال صحيحًا وله قيمته، غير أن فكرة العنصر أساسية في فلسفاتهم، ولذلك فهَدْمُها يصيب تلك الفلسفات بضربة قاضية.

وأنتقل إلى الفلاسفة البريطانيين: لُكْ الإنجليزي، وباركلي الإيرلندي، وهيوم الاسكتلندي، ولقد أرى في فلسفات هؤلاء كثيرًا ممَّا أقبله، وأعدها أهم من فلسفات زملائهم في القارة الأوروبية، ولكني ربما كنتُ في ذلك متحيزًا لبني وطني، أو مشاركًا لهم في مزاج نشأ عن اشتراكنا في بيئة واحدة؛ فَهُم أقرب إلى النظرة العلمية الحديثة في تواضعهم من حيث ضخامة البناء الفلسفي الذي يحاولون إقامته، وفي كثرة التفصيلات التي أوردوها توضيحًا للفكرة التي يسوقونها، وفي ميلهم إلى التجربة في المنهج الذي اصطنعوه، أضف إلى هذا كله أن «لُكْ» و«هيوم» — إن لم نُضِف إليهما باركلي أيضًا — قد دَخلا ميدان الفلسفة من جانب علم النَّفْس، واهتمَّا بدراسة الإنسان أكثر من اهتمامهما بدراسة الكون.

كان «لُكْ» معاصرًا وصديقًا لنيوتن، وقد أخرج كتابه العظيم «مقالة في العقل البشري» في نفس اللحظة التي أخرج فيها نيوتن كتابه «أصول العلم الطبيعي»، فكان كتاب «لُكْ» عميق الأثر فلسفيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا؛ لأنه أحد العوامل الهامَّة التي خلقت الحرية إبان القرن الثامن عشر، فهو الذي خلق الحرية والديمقراطية والتسامح الديني والحرية الاقتصادية والتطور التقدمي في التعليم، وجاءت ثورة إنجلترا عام ١٦٨٨م بمثابة الأداة التي جسدت أفكاره وعَبَّرت عنها، وكذلك قُل في ثورة أمريكا عام ١٧٧٦م، وفي الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م؛ لأن هاتين الثورتين الأخيرتين كانَتا تُعبِّران عن أفكار تولَّدتْ من تعاليمه خلال قرن كامل، ولقد سارت الفلسفة والسياسة في كل هذه الحركات جنبًا إلى جنب؛ ولذلك فقد كان النجاح العملي الذي صادفتْه آراء «لُكْ» نجاحًا غير مألوف.

فإذا عرفت هذا كله ثم أخذتَ تقرأ «لُكْ» في مؤلفاته، أصابك شيء من خَيْبة الرجاء؛ فهو حسَّاس ومستنير وذو دقة، ولكنه ليس ملهَمًا ولا ملهِمًا لنا نحن أبناء العصر الحاضر؛ لقد عارض مذهب فطرية الأفكار الذي يزعم أن الإنسان وإن يكن يكتسب إبان حياته بعض المعرفة بطريق التجربة التي يمارسها، إلا أن معرفته المُجرَّدة قد جاءته من تركيبه الفطري، أقول إن «لُكْ» قد عارَض هذا المذهب، وعَدَّ العقل عند الولادة صفحةً خالية، ثم تأخذ التجارب تخط فيها آثارها، وليس عندي من شك في أن «لُكْ» كان بهذا الرأي أقرب إلى الصواب من معارضيه الآخذِين بفطرية الأفكار، وإن كنتُ على بَيِّنَة بأن المناظَرة بين الفريقين قد جرَت في أسلوب لا نألفه نحن اليوم، فلو أردنا تقدير الرأي المعارِض لنظرية «لُكْ» كان علينا أن نسوقه في لغة اليوم لنرى كم فيه من الصواب، فنحن اليوم قد نقول إن الجهاز الفطري في الإنسان يتألف من «أفعال منعكسة» أكثر ممَّا نقول إنه مؤلَّفٌ من «أفكار»، وكذلك نقول اليوم إن الحواس والغدد والعضلات تَؤدِّي إلى استجابات معينة يقوم فيها تكوينُنا الفطري بدورٍ لا يَقِلُّ أهميةً عن الدور الذي تقوم به المؤثِّرات الآتية إلى الإنسان من خارجه.

أما فلسفة باركلي فرأيي أنها لم تَلقَ ما هي جديرة به من عناية وتقدير، وليس معنى هذا أني مُتَّفِق معه في مذهبه، ولكني أراها أصعب على التفنيد ممَّا يحسب الناس عادة؛ فلقد أنكر باركلي وجود المادة وذهب إلى أن كل شيء عقلي في طبيعته، وأنا أوافقه على الشطر الأول لأسباب غير أسبابه، وأُخالفه في الشطر الثاني، وسأرجئ رأيي في ذلك إلى فصل تالٍ، مكتفيًا الآن بعرض الفكرة الباركلية.

يقول باركلي: إنك إذا رأيت شجرة، فكل ما تعرفه أنت عنها معرفة حقيقية هو حادث حدث في داخلك أنت؛ ولذلك فهو حادث عقلي في طبيعته؛ فلون الشجرة كما تراه ليس في العالم الطبيعي الخارجي — وهكذا أيضًا كان رأي لُكْ — ولكنه أَثَر في نفسك أنت لمُؤثِّر جاءك من خارجك؛ فقد كان الرأي عند «لُكْ» هو أن للأشياء نوعين من الصفات؛ صفات مكانية خالصة للشيء المدرَك نفسه، وهذه تكون في الشيء الخارجي ولا شأن للإنسان بخلقها، بل إنه يتلقاها كما هي قائمة هناك، وصفات أخرى كاللون والملمس والصوت والطعم، وهذه تتكون في داخلنا على إثر مؤثِّرات خارجية ليس لها نفس الخصائص التي نكونها نحن بأنفسنا فتكون لونًا أو طعمًا … إلخ. وجاء بعد ذلك باركلي فخَطا خطوة أخرى، وقال: إنه في الحق لا اختلاف بين الصفات المكانية التي قال عنها «لُكْ» إنها تكون في الشيء المُدرَك نفسه، وبين الصفات الثانوية كاللون والطعم التي قال عنها «لُكْ» إنها من خَلْقِنا نحن، لا اختلاف بين هاتين المجموعتين من الصفات في رأي باركلي؛ لأن كلتيهما وليدة أنفسنا؛ ولذا فالشيء المدرَك بكل جوانبه يتألف من مُقوِّمات «عقلية» وليس لدينا ما يُسوِّغ لنا أن نعتقد في وجود شيء خارج العقل ممَّا لا يكون عقليَّ الخصائص؛ فالشجرة التي أراها إنما هي عندي أثر عقلي، ولا يبطل وجودها إذا أغمضتُ عنها عيني؛ لأن وجودَها عندئذٍ يكون قائمًا في العقل الإلهي فكرة من أفكاره، ولكنها هناك — كما هي عندي ساعة رؤيتها — «فكرة» فقط، وليست هي هناك خشَبًا صلبًا.

والاعتراض الرئيسي على مذهب باركلي هذا، طبيعي أكثر منه ميتافيزيقي، ذلك أن الضوء والصوت يستغرقان زمنًا؛ لينتقلا من مصدرَيْهما إلى حواس المدرِك، فلا بد لك من افتراض حدوثِ أحداث على طُول طريق انتقالها من المصدر إلى الحواس المدرِكة، وليست تلك الأحداث «عقلية»؛ لأن الأحداث العقلية هي التي تترك أثرًا في الذاكرة، وترتبط بالنسيج الحي للكائن العضوي.

وبدأ هيوم من حيث بدأ «لُك» و«باركلي»، ولكنه انتهى إلى نتائج تشككية جعلَت مَن جاء بعده من الفلاسفة ينفرون منها، فقد أنكر وجود «النفس» وتشكك في سلامة الاستقراء، وشك في أن تكون القوانين السَّبَبيَّة منطبقة على شيء فيما عدا العمليات العقلية؛ أما عن النفس فلا شك في صواب ما ذهب إليه، فليس الشخص — كما أسلفنا القول — كيانًا واحدًا مُفردًا دائم البقاء، بل هو سلسلة من أحداث يرتبط بعضها ببعض بقوانين سببية، وأما عن الاستقراء فالأمر فيه عسير، وسأُخَصِّص له فصلًا تاليًا، وأما عن القوانين السَّبَبيَّة فأمرُها — كما سنرى — هو أمر الاستقراء، وعلى كل حال لا يجوز لنا أن نرفضَ رأيه في الأمرين في سذاجة واستخفاف.

والنقد الحديث الذي يوجَّه عادة إلى «لُكْ» و«باركلي» و«هيوم»، هو أنهم تحليليُّون يُفتِّتون العقل إلى «ذرَّات» بلا موجب؛ إذ نظروا إلى العقل على أنه مجموعة «أفكار» كل منها وحدة منفصلة قائمة بذاتها كأنها إحدى كُرات البلياردو، ولم تكن لديهم فكرة التغير المتَّصل أو العمليات التي تتماسك حلقاتها؛ بحيث لا يجوز حلُّها؛ لأنها في مجموعها وحدة واحدة، والحق أن الفلسفة البريطانية كانت ذرِّية في تحليلها للعقل، وربما جاوزت في ذلك الحد المعقول؛ لأن المركَّب الواحد كثيرًا ما يفقد خصائصه السَّبَبيَّة إذا حلَّلناه إلى عناصره، غير أن النقاد المحدَثين يغالون في نقدهم؛ لأنه وإن صح أن الشيء يفقد خصائصه إذا حُلِّل، إلا أنه مركَّب من هذه العناصر التي نحلِّله إليها؛ فتحليل الشيء إلى «ذرَّاته» عملية سليمة جائزة لا غبار عليها ما دمنا لا نزعم أن سببية الشيء وهو كلٌّ واحد — أي ما ينتج عنه من نتائج — مؤلَّفة من مجموع النتائج المنفصلة التي تنتج عن كل ذرَّة على حدة، وإني لَمِمَّن يأخذون بالتحليل؛ ولذلك أُطلق على الفلسفة التي آخُذ بها اسم «الذرية المنطقية»، فأنا أميل إلى جانب «لُك» و«باركلي» و«هيوم» ضد نقَّادهم المُحدَثين، لكني أترك هذا الحديث الآن لأستأنفه في فصل تالٍ.

كان نقد هيوم لفكرة السَّبَبيَّة هو الذي حَفَّز «كانْت» إلى نهوضه بما قد نهض به من بحثٍ فلسفي، ومؤدَّى ما ذهب إليه «كانْت» هو أننا بفضل ما قد جُبِلت عليه عقولنا ترانا نعالج المادَّة الخامة التي هي الإحساسات الواردة إلينا عن طريق الحواس المختلفة، نعالجها أولًا بأن ننظِّمها في زمان ومكان، وثانيًا وفق مقولات معينة فُطرت عليها عقولنا؛ فهذه المقولات وصُورَتَا الزمان والمكان هي من طبائعِنا المفطورة فينا، وليست هي جزءًا من حقيقة العالَم الواقعي، ومن بين المقولات المذكورة مقولة «السَّبَبيَّة» وهي أهم المقولات، فلئن كان العالم الخارجي — كما هو قائم في الواقع — يخلو من الأسباب؛ فمقولة السَّبَبيَّة التي في طبيعتنا نحن هي التي تتولَّى ربطَ السبب بمسبَّبه، وكذلك إن كان العالَم الخارجي — كما هو قائم في الواقع — لا زمانَ فيه ولا مكان، فنحن الذين نرتِّب الأحداث ترتيبًا يجعل بعضَها «قبل» أو «بعد» بعضها الآخَر، وبهذا نصُوغها في زمن، ونحن أيضًا الذين نُرتِّب الأشياء ترتيبًا يجعل بعضها إلى يمينٍ أو إلى يسارٍ أو فوق أو تحت بعضها الآخر، وبذلك نخلق لها العلاقات المكانية التي تصلها فيما نسميه بالمكان، ولما كان علم الهندسة علمًا مختصًّا بدراسة المكان، ثم لَمَّا كان المكان مِن خَلْق فطرتِنا؛ كان في مقدورنا الوصول إلى حقائق علم الهندسة من دخيلة أنفسنا دون حاجة منا إلى دراسة العالم الخارجي، ففي رأي «كانْت» أن هندسة إقليدس صحيحة عند العقل وصحيحة على الطبيعة أيضًا؛ لأن ما يهتدي إليه العقل بفطرته عن المكان، ينطبق على الواقع الخارجي من تِلقاء نفسه.

وكان موضوع علم الهندسة هذا هو أول ما أظهر مواضع الضَّعف في فلسفة «كانْت»؛ إذ وجد أن ليس لدينا ما يبرِّر اعتبار الهندسة الإقليدية صحيحةً بالضرورة، كما ظهر أن صدق الهندسة على الواقع الطبيعي مُعتِمد على التجربة الحسية وحدَها، شأنُها في ذلك شأن الحقائق الجغرافية مثلًا، فلا يكفي أن نبرهِنَ على كون زوايا المُثلَّث تساوي قائمتَيْن برهانًا عقليًّا يعتمد على المسلَّمات التي فرَضْناها نحن وصدَّرْنا بها البرهان، لا يكفي ذلك لكي نجزم بأننا سنجد زوايا المُثلَّث في الواقع الطبيعي أيضًا مساوية لقائمتين؛ فإذ أردنا أن نعلم إن كانت تلك الحقيقة الهندسية حقيقة في الواقع الطبيعي كما هي حقيقة في الاستنباط العقلي؛ وجب علينا أن نلجأ إلى ملاحَظة ذلك في الطبيعة نفسها، تمامًا كما يجب أن نلجأ إلى ملاحظة الطبيعة نفسها إذا أردنا أن نعلم كم تكون مساحة الأرض اليابسة في نصف الكرة الغربي.

أما «المقولات» التي زعم «كانْت» أنها هي الأخرى — كصورَتَي الزمان والمكان — مفطورة في جبِلَّتِنا، فتكتنفها مشكلات، ولنأخذ فكرة السَّبَبيَّة مثلًا نوضِّح به ما نريد توضيحه؛ إننا نرى البرق ثم نسمع الرعد؛ فالرؤية والسمع ظاهرتان مرتبطتان ارتباط السَّبَب بمُسبَّبه، وهي رابطة — بناءً على كانْت — تأتي من داخل العقل بفضل مقولة السَّبَبيَّة، ومعنى ذلك أننا لو أخذنا رأي كانْت في أن السَّبَبيَّة تأتي من الداخل لا من الخارج مأخذًا جادًّا، لقُلْنا إنه ليس لدينا ما يُسوِّغ افتراضَ وجود شيء خارجيٍّ على الإطلاق؛ لأن ما يقع في الخارج الواقع — بناء على كانْت — ليس هو ما تدركُه داخل نفسك حين تدرك الأشياء مُرتَّبة في زمان وفي مكان وفي ارتباط سببي؛ بل إن ما يقع فعلًا في العالم الخارجي — بناء على مذهب كانْت — هو ظواهر بغير تاريخ وبلا موضع في مكان وبلا أسباب ولا مُسببات؛ وإذا كان هذا هكذا فنحن لا نعرف من أنفسنا أكثر ممَّا نعلمه عن العالم الخارجي؛ فصُورَتا المكان والزمان ومجموعة المقولات التي فرضها «كانْت» ليفسِّر بها معرفتنا بالعالم، إنما تسدل بيننا وبين العالم حجابًا من أوهام لا نجد فيه ثغرة ننفذ خلالها إلى العالم الذي نُريد معرفته، ويبدو لي أن هذه المحاوَلة من «كانْت» في الرد على تَشكُّك هيوم محاولة غير موفقة، حتى إنك لتراه هو نفسه في كتابه «نقد العقل العملي» عاد فهدم كثيرًا ممَّا كان شيَّده؛ لأنه عاد فرأى أن الأخلاق — على الأقل — لا بُدَّ أن يكون صوابُها مرتكزًا على الحقيقة الخارجية نفسها؛ أي إن صحتها ليست وليدة تركيبِنا العقلي بما فيه من صُور ومقولات، بل إن صحتها هي في تصويرها للحقيقة الموضوعية الخارجيَّة.

كان هنالك مشكلة فلسفية جدلية قديمة عن مدى فطرية علمنا أو مدى اعتماد هذا العلم على ما نكسبه خلال التجربة، فجاء «كانْت» ولفتَ الجدَل لفتةً جديدةً حين قال: إن المعرفة مستحيلة بغير تجربة نستمد المعرفة منها، على أن العلم الذي نصل إليه بعد ذلك لا يجوز تطبيقه إلا على مجال التجربة وحدَه، ومع ذلك فالمادة التجريبية وحْدَها ليست كل شيء، بل لا بُدَّ أن يكون في العقل إطار عام هو الذي يشكِّل تلك المادة التجريبية في صوره وقوالبِه؛ بحيث تصبح علمًا منظَّمًا، وهذا الإطار فطري فينا ولا يقام برهان على صوابِه ممَّا نستمدُّه من عالم التجربة، وكان الموقف الفلسفي قبل كانْت هو انقسام الرأي بين فريقَيْن؛ فالفلاسفة في القارة الأوروبية (فيما عدا بريطانيا) يقولون بفطرية المعرفة كلها، والفلاسفة في بريطانيا يقولون باكتساب المعرفة كلها عن طريق التجربة، على أن الفريقَيْن معًا ذهبا إلى أن العلم القَبْلي يمكن البرهنة على صوابه بالمنطق وحدَه دون اللجوء إلى تجربة؛ أما «كانْت» فقد رأى أن الرياضة علم قَبْلِي (أي إننا ندرك حقائقها دون لجوء إلى تجربة)، ولكنها مع ذلك هي «تركيبية» في الوقت نفسه؛ (أي إنها تنبئ عن حقيقة الواقع)، مع أن كونها تركيبية معناه أنها ليست ممَّا يُبرهَن عليه بالمنطق، بل يكون برهانه بالتطبيق الفعلي على الواقع، والذي أضلَّ «كانْت» في هذا هو علم الهندسة؛ فالهندسة الإقليدية — إذا عددناها صحيحة — «تركيبية» (أي منطبقة على الواقع) ولكنها ليست «قبليَّة» (أي إن صدق مُسلَّماتها ليس أمرًا ضروريًّا بحكم العقل)، أما إذا نَظرْنا إلى هندسة إقليدس على أنها مجردُ استنباط نتائج من مقدماتها، فعندئذٍ تكون «قبليَّة»، لكنها لا تكون «تركيبية». أريد أن أقول إن لك أن تختار بين موقِفَين عن هندسة إقليدس دون أن تخلط بينهما كما فعل «كانْت» فإما أن تنظر إليها كما ينظر إليها المهندسون العمليُّون على أنها شيء نستخدمه في التطبيق على الواقع، وعندئذٍ تكون الهندسة علمًا إخباريًّا ينبئ عن الواقع، لكن لا تصبح له ضرورة عقلية أولية تُلْزِم العقل بقبوله دون قبول أي شيء يخالفه، وإما أن تنظر إلى الهندسة على أنها تركيبة عقلية قوامها مسلَّمات نَتَّخذها مُقدِّمات، ثم نظريات نَستَنْبِطها من تلك المسلَّمات، وعندئذٍ تصبح الهندسة مسألةً منطقيةً صوريةً، صدقُها ضروري عند العقل، لَكنَّنا لا نحكم بشيء على قابلية انطباقها أو عدم انطباقها على الواقع، لكن «كانْت» خلَط بين الموقفين، فجعل الهندسة قبليَّةً و«تركيبية» في آنٍ واحد، أي إنه جعلها صوريةً وإخباريةً معًا.

وبعد هذا كله، فإن كنا قد أصَبْنا في تحليلنا للمعرفة كما حلَّلْناها في هذا الكتاب، فإن هذا الجدل كلَّه بين أنصار التجربة وأنصار الفطرة العقلية جدل فارغ وعقيم؛ فكل مُعتقَد في رءوسنا قد «سبَّبَتْه» مؤثِّرات خارجية، فإن كان المعتقَد جزئيًّا كالمؤثِّر الذي أحدثه، كان من النوع الذي يقول التجريبي عنه إنَّ البرهنة عليه تَستَنِد إلى التجربة، وأما إن كان المعتقَد من نوع أعم؛ فإن الأمر عندئذٍ يتعرَّض لمشكلات؛ فقد يجيء الأجنبي إلى إنجلترا ويستدل من معاملة موظَّفي الجمارك أن الإنجليز قوم جُفاة غِلاظ في معاملاتهم، ولكنه سرعان ما يجد من معاملة حمَّال الأمتعة ما يعكس له هذا الرأي رأسًا على عقِب؛ أملًا في «بقشيش»، وهكذا قد ترى حادثًا معيَّنًا يسبب رأيًا معيَّنًا ثم يعقبه حادث آخر فيهدم الرأي، لكن افرض أن حوادث الحياة كلَّها عند شخص قد تآزرتْ على خلق رأي بعينه وتأييده، فعندئذٍ لا مناصَ لهذا الشخص من الاعتقاد في صواب الرأي الذي كوَّنَتْه له الحوادث، وكلما كان الرأي المعيَّن أعلى في درجة التعميم، كانت رقعة الحوادث التي ينطبق عليها ذلك الرأي أفسح مجالًا؛ وبالتالي كانت الأدلة على صدق الرأي أكثر عددًا، والإيمان بصدقه أرسخ في النفس جذورًا، وعلى هذا فيمكنني القول بصفة عامة إن الأفكار التي يقال عنها إنها فطرية نابعة من طبيعة العقل نفسه، هي تلك الأفكار التي لم تجد من حوادث الحياة ما يفنِّدُها، لكنه لا استحالة في حدوث الحوادث التي تفندها، وغاية ما في الأمر أنها لم تحدث؛ فتلك الأفكار لم تصادفْ إلا ما يؤيدها، وهنا أجد نفسي مضطرًّا إلى العقيدة بأن نظرية المعرفة ليست مسألة أساسية بالدرجة التي أخذها بها «كانْت» ومن جاء بعده.

وجدل تقليدي آخر أريد أن أعرض له، وهو الجدل بين الواحديِّين والتعدديين؛ فهل الكون واحد أم هو مؤلَّف من كثرةٍ؟ فإن كان مؤلفًا من كثرة فكيف ترتبط هذه الكثرة ارتباطًا يجعل الأجزاء متَّسقة؟ لقد ظهر مذهب الواحديين منذ قديم، فقد اكتمل عند بارمنيدس في القرن الخامس قبل الميلاد، وبلغ مرحلة التهذيب والنمو عند اسبينوزا وهيجل وبرادلي، وكذلك ظهر مذهب التعدديِّين منذ القِدَم، فتراه عند هرقليطس وعند الفلاسفة الذرِّيين كما تراه عند ليبنتز وعند الفلاسفة التجريبيين من الإنجليز. ولنضرب مثلًا لرأي الواحديين؛ مذهب برادلي الذي هو واحد من أتباع هيجل، فمن رأيه أن أي حكم تقرِّره هو عبارة عن وصف «الحقيقة» الكونية كلها بصفة ما، فكأنما الكون كله موضوع للحكم، وهذه الصفة هي محمول الحكم، فحتى إن حكمت حكمًا مثل «زيد مُصاب بزُكام» فهو حكم ينصبُّ على الكون كله باعتبار الكون وحدةً واحدة، حتى وإن بدا هذا الحكم جزئيًّا ينصرف إلى فرد واحد من الناس، ولكي تفهم هذه الوجهة من النظر، فاسأل: من هو زيد هذا؟ إنه شخصٌ ذو طبيعة مُعيَّنة تجعله أحد أفراد النوع الإنساني، فهو إن اختلف عن بقيَّة الناس في أشياء، فهو يتفق معهم في أشياء، ولا سبيل إلى فهمك لعبارة «زيد مصاب بزكام» إلا إذا ألمَمْت بالخصائص التي تجعل من زيد زيدًا، لكنك لكي تلم بتلك الخصائص ستضطر إلى مجاوزة حُدود زيد نفسه؛ لأنَّ خصائصه تلك تحدِّد علاقاته ببيئته، فقد يكون عاشقًا وقد يكون ثائرًا أو ظامئًا أو هادئًا أو صاخبًا … إلخ، وكل صفة من هذه الصفات تتضمن روابطَ بينه وبين الآخرين؛ وهكذا ترى أنَّك إذا أردت أن تحدد معنى «زيد» وألفيتَ ذلك أمرًا محالًا إذا اقتصرتَ على زيد وحده دون سواه؛ وإذن فليس هو بالكائن المستقل بوجوده عمَّا عداه وعمَّن عداه، بل هو جزء صغير من عالَم كبير، وقُل مثل هذا في أنفه المصاب وفي الزكام الذي أصابَه، فكيف عرفتَ أنه مصاب بالزكام إلا أن تكون قد رأيتَ سائلًا يسيل من أنفه ورأيت منديلًا يمسح به ذلك السائل، ومعنى ذلك أن تحديد معنى الزكام لم يتم ذلك إلا بمجاوزتك لحدود زيد، ولو كان زيد كيانًا مستقلًّا منعزلًا مغلقًا على نفسه لما رأيتَ منه ما يجيز لك أن تصفَه بإصابته تلك، ثم إذا أردتَ فَهْم البيئة التي بينها وبين زيد روابط، وجدت هذه البيئة نفسها معتمدة في فهمها على فهمك لبيئات تزداد أمام عينيك اتساعًا حتى تشمل العالم كله؛ وبهذا يكون الزُّكام الذي أصاب زيدًا صفةً تصف العالم بأسره؛ لأنه محالٌ عليك أن تقصر الصفة على أي شيء دون العالم بأسره.

أما مذهب التعدديين فهو نفسُه مذهب العلم وهو الرأي الذي يأخذ به الإنسان بإدراكه الفطري، وحسبُه أن يكون كذلك لنأخذ به، اللهم إلا إذا ثَبتَ أن المذهب المنافِس له مذهبٌ يستعصي على النقد، لكن نقد هذا المذهب المنافس ليس مُستعصيًا، فالأفضل عندي أن نأخذ بمذهب التعدد ما دام هو مذهب العلم ورأي الإدراك الفطري؛ فالمذهب الواحدي في الحقيقة مرتكز على منطق فاسد أوحي به المتصوِّفة، وهو المنطق السائد عند هيجل وأتباعه، وهو هو نفسه المنطق الذي أقام عليه برجسون فلسفته، ولو نبذنا مثل هذا المنطق الذي يوحِّد العالم في كائن واحد، انهارت بناءات ميتافيزيقية كبرى أقامها الفلاسفة السابقون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥