الحق والباطل
هنا سؤالان: (١) ما هي الموضوعات التي نَصِفُها بأنها «حق»، أو بأنها «باطل»؟ (٢) وما الفرق بين ما هو حق وما هو باطل؟
أما عن السؤال الأول، فإذا أخذنا الأمر بظاهره، كانت صفتا «الحق» و«الباطل» تصفان أقوالًا — والقول قد يكون بالكلام أو بالكتابة — فإذا توسَّعْنا قليلًا، قلنا إنهما صفتان نَصِف بهما المعتقدَات التي نعبر عنها بتلك الأقوال، كما نَصِف بهما كذلك الفروض التي نفرضها؛ لنأخذ في تحقيقها فلا نَصِفها وهي في مرحلتها الفرضية، لا بأنها حق ولا بأنها باطل.
ونبدأ بالنظر في الحق والباطل من حيث هما صفتان تصفان الأقوال أو الجُمل، فننظر إلى الأمر أولًا من وجهة نظر السلوكيين ثم نعقب على ذلك بما تدل عليه نظرة الاستبطان؛ فقد سبق لنا أن بحَثْنا في معاني الكلمات، والآن نبحث في معاني الجمل، فلئن كانت الجملة أحيانًا تتألف من كلمة واحدة أو من غَمْزة عينٍ، إلا أنها في الأعم الأغلب مكونة من كلمات عدة، وفي هذه الحالة يكون معنى الجملة حصيلة نحصلها من معاني المفردات وطريقة ترتيبها في بناء الجملة، والجملة التي لا نجدُ لها معنًى لا تكون ممَّا يوصف بصدق أو بكذب؛ إذ الجمل التي تُوصف بإحدى هاتين الصفتين فهي تلك التي نستخدمها وسائل لنقل المعاني؛ وإذن فالجملة التي تعنينا هي الجملة ذات المعنى، فماذا نقصد هنا بكلمة «معنًى»؟
خذ مثلًا متواضعًا؛ هَبْك قد نظرت إلى جدول السكة الحديدية فعلمت أنَّ القطار يغادر القاهرة إلى الإسكندرية في الساعة العاشرة صباحًا، ما معنى هذا؟ الحق أني لو غُصْت في تفصيلات موقف كهذا؛ لأخذني الفزع لكثرة ما يتطلبه من بحثٍ، ولكن حسبي الآن نظرة موجزة، فأبدأ بالجانب الاجتماعي؛ فليس حتْمًا أن يكون بالقطار سوى سائقِه، لكن الحتم هنا هو أن يكون للناس القدرة على السفر بهذا القطار إذا توافرَتْ فيهم شروط معينة، وليس حتمًا أن يصل القطار إلى الإسكندرية؛ لأن ما هو مذكور في الجدول يظل صحيحًا حتى إن حدث للقطار حادث في الطريق عطَّله عن الوصول إلى غايته، لكن الحتم هنا هو أن يكون الطريق معدًّا بحيث يسمح للقطار أن يصل إلى الإسكندرية، وننتقل بعد الجانب الاجتماعي إلى الجانب الطبيعي، فليس حتمًا بل ليس ممكنًا للقطار أن يتحرَّك عند الساعة العاشرة تمامًا، فتحرُّك القطار لا يُفْهَم الفهم الصحيح المحدَّد إلا على ضوء حساب التفاضل والتكامل، هذا إلى أنك لو دقَّقتَ النظر في عبارة «محطة القاهرة» ألفيتَها غامضة، وكذلك إذا دقَّقت النظر في كلمة «قطار» فهي كلمة تتضمَّن فيما تتضمنُه أنظمة مؤسَّسة السكة الحديدية وتعَهُّداتها، كما تَتضَّمن كل مشكلات «المادة» وتركيبها؛ لأن القطار «مادة» وهكذا وهكذا … وكل هذه المشكلات خاصَّة معاني المفردات كل مُفرَد على حدة، ولم نَتعرَّض بعدُ لمعنى الجملة في تركيبها، نعم إن الشخص العادي لا يُتْعِب نفسه كلَّ هذا التعب في تحديد معاني ألفاظه؛ فللكلمة عنده معنًى بعيد عن الدقة، ولكنه معنًى يكفيه لقضاء شئُونه؛ فالبحث عن الدقَّة الدقيقة هو الذي يجرُّ علينا هذه المشاكل وأمثالها، فما أكثر ما نظن أن الكلمة محدَّدة المعنى وما هي كذلك، فقد نظن أن كلمة «إنسان» محدَّدة المعنى، مع أنَّ غموض معناها لا يتكشَّف إلا عند التدقيق، فعندئذٍ ستعلم أننا حتى اليوم لم نحسِم الرأي بعدُ هل نُدخل القردة العليا في نوع الإنسان أم نخرجُها من حُدود هذا النوع، وإلى هذا الحدِّ قد يبلغ عدم التحديد في المعنى.
إنه كلما ازدادت المعرفة ازدادت معها دقة معاني الألفاظ، وازداد تعقيد تلك المعاني في الوقت نفسه؛ لذلك ترانا نلجأ إلى استخدام ألفاظٍ جديدة نطلقُها على المقوِّمات الصغرى التي منها يتألف الكلُّ الذي كنا قد أطلَقْنا عليه كلمة معينة غير حاسبين حساب ما ينطوي عليه ذلك الكل من تفصيلاتٍ، فالمفروض في الكلمة أن تسمى شيئًا من أشياء العالم، وهي تؤدي هذه المهمة أول الأمر أداءً ناقصًا؛ لأنها عندئذٍ تشير إلى مُسمَّاها في غير دقة لعدم معرفتنا بعدُ بتفصيلات ذلك المسمَّى، وكلما ازددنا بالمسمَّى علمًا، ازدادت الكلمة دقة في استخدامها.
وفي اللغة المنطقية المُثلى ننوع الألفاظ أنواعًا مختلفة باختلاف مهمَّاتها التي تؤديها؛ فهنالك أسماء الأعلام، التي نطلق الاسم الواحد منها على مفرد جزئي واحد في عالم الأشياء. ولنلاحظ هنا أن ما قد جرى العرف على تسميتِه اسم عَلَم في لغتنا الجارية، ليس هو منطقيًّا كذلك؛ لأنَّ الشيء الذي نظنه مفردًا ونطلق عليه اسمًا يميزه، هو في الحقيقة مجموعة كُبرى من الأحداث التي ارتبط بعضُها ببعض على نحو يجعلها كائنًا واحدًا على سبيل التيسير في التفاهم لا على سبيل الدقَّة في وصف الواقع، وعلى كل حال فإذا فرَغْنا من تحديد الجزئيات التي نريد الحديث عنها كان لا بُدَّ بعد ذلك من استخدام كلمات أخرى مهمَّتُها الربط بين تلك الجزئيَّات، كعبارة «أكبر من» حين أريد أن أقول «أ أكبر من ب» وهكذا.
ونترك الألفاظ المفردات لنسأل متى نشعر إزاء جملة أنها صادقة أو كاذبة؟ إننا نعدُّ الجملة صحيحة إذا وجَدْناها مطابقة لتذكُّرٍ نتذكره عن الوقائع الماضية، أو مطابقة لما ندركه الآن إدراكًا حسيًّا، وفي الحالة الأولى يكون الفعل ماضيًا، وفي الحالة الثانية يكون مضارعًا، فإن قلت لي: «قد أمطرتْ هذا الصباح» عددتُ قولك صادقًا لو كان تذكُّري للصباح مرتبطًا عندي بنُزول المطر، وكاذبًا إذا لم يكن كذلك، على أني ربما كنت في موقف مَن لم ينظر؛ وبالتالي فهو لا يتذكر شيئًا يُعينه على الحكم على قولك بصدق أو بكذب، فعندئذٍ يكون مدار التصديق أو التكذيب على الاستدلال من الشواهد القائمة، وسأترك هذا الجانب الآن، وإن قلت لي إن «الأنوار مطفأة» كان قولك صادقًا أو كاذبًا حسب ما يدلُّني عليه إدراكُ الحسي الراهن، وكذلك إن قلت لي: إن «الأنوار ستنطفئ بعد لحظة»، فسأتوقع إدراكًا حسيًّا معينًا أدركه بعد حين، ثم إذا حان الحين نظرت لأرى هل صدقتْ عبارتك أم كذبت، تلك هي الطرق المباشرة للحكم على الجُمل بأنها حق أو بأنها باطل.
وهنا نفرق بين الطُّرق المباشرة وغير المباشرة في التصديق والتكذيب؛ فالبراجماتية مثلًا لا تبني الحكم إلا على الطرق غير المباشرة، فالجملة صواب أو خطأ، لا لأن شيئًا ما قائم أمامك الآن وتستطيع إدراكه، بل الأمر مرهون بنتائج الجملة، هل يؤدي قبولها إلى نفع أم يؤدي إلى ضَرَر؟ فإن كانت الأولى كانت الجملة صادقة مقبولة، وإن كانت الثانية كانت باطلة ومرفوضة، على أن هذا ضرب من الاستدلال لا ضرب من الإدراك المباشر. والرأي عندي أن مقياس الصواب والخطأ لا يتعلق أبدًا بطبيعة النتائج التي تترتب على القضية المحكوم عليها، بل يتعلَّق بما هنالك من رابطة بين تركيبة الألفاظ التي تؤلف القضية من جهة وبين الوقائع المحسوسة أو المُتذكَّرة من جهة أخرى، أو الرابطة بين تلك القضية وما أتوقَّع أن أراه في المستقبل عند رؤيته وقت حدوثه.
إنه لمن الخطأ أن نعد «الاعتقاد» — أعني الرأي الذي يتكوَّن في الذهن عن شيء ما — ضربًا من الحوادث التي تحدث؛ لأنَّ الاعتقاد يختلف نوعًا باختلاف العامل الذي عمِل على تكوينه، فالاعتقادُ الناشئ عن إدراك حسِّي أو عن تذكُّر، يختلف عن الاعتقاد الذي يتضمن توقُّعًا نتوقَّعه في لحظة مقبلة، فإذا نظرت إلى جدول السكة الحديدية ورأيت — وهذا إدراك حسِّي — جملة تقول: إن القطار يغادر محطة القاهرة في الساعة العاشرة صباحًا؛ نشأ عندك «اعتقاد» بوجود هذه الجملة في الجدول الذي أمامك، وهو اعتقاد يتأيَّدُ لك صدقه بمجرد النظر إلى الجدول، ولا ينتظر التأييد بما عساه أن يحدث في المستقبل، أما اعتقادك بأن القطار سيغادر المحطة المذكورة في الساعة المذكورة فعلًا، فمن نوع آخَر؛ لأنَّ تأييده لا يكفي فيه مُجرَّد النظر إلى ما هو مكتوب في الجدول، بل لا بُدَّ له من حوادث تحدث في المستقبل (وهي قيام القطار في الساعة المذكورة) ليتم تصديقه؛ وهكذا ترى وسيلة تحقيق الاعتقاد تختلف باختلاف الحالات، فقد تكون الوسيلة تذكُّرًا لما قد وقع في الماضي في خبرتِك أنت، أو قد تكون إدراكًا حسيًّا لما هو قائم أمامك من حوادث، أو قد تكون انتظارًا لما سيحدث في لحظة مُعيَّنة من المستقبل، ثم قد لا تكون وسيلة تحقيق الاعتقاد واحدة من هذه الأنواع الثلاثة، كما في اعتقادنا بأن قيصر قد عبَر نهر روبكون، فها هنا ليس لديك في خبراتك الماضية ما تتذكَّرُه، ولا في إدراكاتك الحسية ما توجه حواسَّك إليه، ولا في مستقبلك ما تتوقعه، بل الأمر هنا أمر استدلال؛ إذ نستدلُّ من شيء حاضر شيئًا آخر لا بُدَّ أن يكون قد وقَع في الماضي، ولم أذكر شيئًا عن معتقداتنا في مجال المنطق والرياضة، فبعض هذه المعتقَدات لا بُدَّ أن يجيء قبوله أو رفضه عن غير طريق الاستدلال، ومع ذلك فليستْ هي ممَّا تستند في القبول أو الرفض إلى أحد الأنواع الثلاثة المذكورة؛ تذكُّر الخبرة الماضية، والإدراك الحسي لما هو راهن، وتوقُّع ما عساه أن يحدث في المستقبل.
- (١)
النظرية الصورية: إذا عرفنا معنى المفردات التي تؤلِّف القضية، فما الذي يُقرِّر لنا إن كانت القضية صادقة أو كاذبة؟
- (٢)
النظرية السَّبَبيَّة: هل يمكن التمييز بين الصدق والكذب في القضايا «أ» بأسبابها «ب» بنتائجها؟
- (٣)
العناصر الفردية والاجتماعية: الجملة حادث اجتماعي؛ لأنه في حَوْزة من يشاء، وأما الاعتقاد فشيء يخصُّ الفرد المعتقد وحده، فكيف يمكن تعريف الاعتقاد إذا لم نلجأ في تعريفه إلى جملة؟ ثم ماذا عسى أن تكون طبيعة الاعتقاد إذا لم يكن مؤلَّفًا من كلمات؟
- (٤)
الاتساق والصدق: هل يمكن الخروج من دائرة الاعتقادات أو الجمل إلى شيء آخَر يُبيِّن أنها صادقة على الواقع، وليست تقتصر على كونها متَّسقًا بعضها مع بعض؟ بعبارة أخرى ماذا تكون العلاقة بين القضايا من جهة ووقائع العالم الخارجي من جهة أخرى؟
إنه لمن العسير غاية العسر أن نباعد بين هذه الأسئلة بحيث لا يتداخل بعضها في بعض، فالسؤال الأول منها وهو الخاصُّ بالنظريات الصورية، يُؤدِّي إلى السؤال الرابع الخاص بالعلاقة بين القضايا والوقائع؛ مثال ذلك قولنا: «بروتس قَتَل قيصر»، فهذه جملة صادقة وسبب صدقها هو وقوع واقعة معيَّنة، ألا وهي كون بروتس قَتَل قيصر، لكن هذا يحصرنا في دائرة الكلام ولا يُخرجنا من نطاقه إلى دائرة الوقائع غير اللفظية؛ فمثل تلك الوقائع هي السند الذي نستند إليه في تحقيق صدق الجمل التي تقال عنها، ومن هنا تنشأ المشكلة الرابعة، على أن هذه المشكلة بدَورها تؤدِّي بنا إلى المشكلة الثانية الخاصَّة بأسباب ونتائج ما هو صادق وما هو كاذب، فها هنا سنبحث عن العلاقة الحيوية بين القضايا والوقائع التي تقابلها، وها هنا أيضًا يجب التمييز بين «أن نفكر» تفكيرًا صائبًا وبين «أن نقول» قولًا صادقًا، فأما الحالة الأولى فحالة خاصَّة بكل فرد على حدة، وأما الثانية فمسألة اجتماعية؛ لأن الأقوال تكون علنية معروضة للناس، وهكذا نرى المشاكل الأربع متصلًا بعضُها ببعض.
وسأبدأ بتناول المشكلة الثالثة الخاصَّة بالتفرقة بين الاعتقاد من جهة والجملة التي تعبِّر عن ذلك الاعتقاد من جهة أخرى، فالجملة صيغة لفظية منطوقة أو مكتوبة، الفرض فيها هو أن يسمعها أو يقرأها شخص آخر أو أشخاص آخرون. ولا بُدَّ من أن تكون الجملة تقريرية تحمل خبرًا، فلا تكون سؤالًا ولا تكون أمرًا، والصيغة التي تجعل العبارة سؤالًا يحدثك عنها النحوي؛ لأنها تختلف في بنائها من لغة إلى لغة، وأما التفرقة بين ما هو جملة تقريرية وما هو جملة تحمل أمرًا فليستْ هي بالتفرقة الحادَّة؛ ففي الحدائق العامة في إنجلترا تجدُ هذه العبارة مكتوبة: «رجاؤنا من الزائرين عدم السير على الحشيش.» وأما في أمريكا فتجد هذه العبارة الآتية أيضًا في الحدائق العامة: «سِر بعيدًا عن الحشيش.» والجملتان من حيث الأثَر المطلوب معناهما واحد، ومع ذلك فالإعلان الإنجليزي جملة تقريرية والإعلان الأمريكي أمرٌ؛ وهكذا ترى أن الجمل التقريرية إذا أُريد بها التأثير في سلوك الآخرين جاءت شبيهة بالأوامر، وصفتُها المميزة هي محاولتها الوصول إلى غرضِها بإثارة «اعتقاد» قد يكون كائنًا بالفعل في ذِهن المتكلم وقد لا يكون، على أنها غالبًا ما «تعبر» عن اعتقاد عند المتكلِّم دون أن ينتظر ليرى أثره في الآخرين؛ ولهذا كلِّه نستطيع تعريف الجملة التقريرية بأنها صياغة لفظية إما أن تُعبِّر عن مُعتقَد عند قائلها، وإما أن يراد بها أن تخلق معتقدًا عند سامعِها؛ فعلينا بعد هذا أن نحدِّد المقصود «بالاعتقاد».
«الاعتقاد» كلمة يختلف معناها حسب وجهة النظر التي ننظر منها إلى الموضوع، فهي من وجهة نظر تحليلية تختلف عنها من وجهة نظر سببية، ووجهة النظر السَّبَبيَّة أهم من الوجهة العلمية؛ فاعتقاداتُنا تُؤثِّر في أفعالنا على صور معينة، فكل ما يؤثر على هذه الصور في سلوكنا نقول عنه إنه «اعتقاد»، وبهذا نجعل «الاعتقاد» صفة تميز الأفعال الظاهرة لنا في دنيا المشاهدة. فافرض — مثلًا — أن صديقًا اعتاد أن يزور صديقه في منزله، ثم رحل هذا الصديق عن منزله ذاك، وأراد الصديق الأول أن يعاود زيارتَه فذهب إلى نفس المنزل الأول، حاسبًا أنه لم يزل سكنًا لصديقه؛ فها هنا نقول إنه في تَصرُّفه صادر عن «اعتقاد» في رأسه وقد ظهر الاعتقاد في سلوكه، فما دامت صورة السلوك واحدة في الحالتين؛ في حالة وجود صديقه في منزله الأول وفي حالة عدم وجوده فيه، «فالاعتقاد» أيضًا واحد في الحالتين؛ فنستطيع القول بصفة عامة: إن الإنسان «يعتقد» في القضية «س» إذا كان كلما قصد إلى غاية تتصل ﺑ «س»، على نحوٍ ما، تصرف على صورة من شأنها أن تؤدِّي به إلى تلك الغاية على فرض أن «س» صحيحة؛ فإذا طلبتَ رقمًا معيَّنًا في التليفون، فواضح أن تصرفك الظاهر دالٌّ على «اعتقاد» في رأسك بأن الرقم المطلوب هو رقم المشترك الذي تريده، وهكذا قُل في شتَّى نواحي سلوكك في الحياة، كلها صادرة عن «اعتقادات» سابقة يمكن تفسيرها وتوضيحها عن طريق السلوك الذي هو مسبَّب ناشئ عن ذلك السبب، وقد يكون الاعتقاد واضحًا فيأتي السلوك المترتب عليه محددًا كذلك، كما هي الحال في المثل الذي ضربْناه لتوِّنا عند طلبك لرقم معين في التليفون، لكنه قد يكون غامضًا؛ وبالتالي لا تتحدد معالم السلوك الذي تسلكه تحقيقًا لذلك الاعتقاد، كالاعتقاد في مذهب سياسي غير واضح الحدود، وكالاعتقاد في الحياة الآخرة وما إلى ذلك، فلا غرابة أن تجد رجلين يتصرفان تصرُّفين متناقضين، ومع ذلك يزعم كلٌّ منهما أن تصرفه هذا قائم على أساس اعتقاده في نفس المذهب السياسي الذي يعتقدُ فيه زميله، وهكذا. وكثيرًا ما يغير الإنسان من اعتقاده في أمر معين؛ فيتغير بالتالي سلوكه، ممَّا يدلُّ على أن الإنسان في الحقيقة لا يفكر وفق ما يسمونه «قوانين الفكر» الثابتة رغم اختلاف الظروف، بل تفكيره هو مجموعة اعتقادات تتغير فيتغير وجه الحياة العملية تبعًا لها.
وعلينا أن نسأل الآن: متى نصف الاعتقاد المعيَّن بأنه حقٌّ؟ ومتى نصفه بأنه باطل؟ أيكون مردُّ ذلك إلى الأسباب السابقة على تكوين الاعتقاد أم إلى نتائجِه المترتبة عليه؟ لقد أسلفتُ القول منذ حين قصير بأن الإنسان يعتقد في «س»، لو رأيناه يتصرف على نحو يحقِّق له الأغراض التي من شأن «س» أن تحققها على فرض أنها صادقة؛ فكأنني عندئذٍ قد فرضتُ بهذا القول أننا نعرف معنى «صدق» الاعتقاد، وكان مجرى تفكيري عندئذٍ يسير على الوجه الآتي: من ملاحظتنا لأفعال شخص مُعيَّن نستدلُّ اعتقاداته استدلالًا قد يكون من العُسْر والتعقيد بحيث لا يختلف عن اكتشاف كبلر لقوانينه الفَلكية من ملاحظَته لحركات الأجرام السماوية. وعلى هذا الاعتبار لا تكون «الاعتقادات» البادية في السلوك الظاهر، من قبيل «الحالات العقلية»، بل تكون بمثابة الخصائص التي تميز سلسلة الأفعال في المواقف المختلفة، وبعد أن نتبين الاعتقادات الكامنة في ظواهر السلوك، يمكننا بعدئذٍ أن نصُوغَها في ألفاظ، فنقول — مثلًا — إن الشخص الفلاني «يعتقد» بأن القطار يغادر محطة القاهرة في الساعة العاشرة، إذا رأيته يتصرف التصرُّف الذي يحقق له هذه الغاية على فرض أن اعتقاده ذاك صواب، فإذا رأيت سلوكه، ثم وصفت الاعتقاد البادي فيه وصفًا قوامه جمل لغوية معروفة المعنى، فإنك بذلك تبلغ المرحلة التي يمكن عندها تطبيق النظريات الصورية؛ فالألفاظ المعروفة المعنى والموضوعة في ترتيب معيَّن معروف، تكون صادقة أو كاذبة بالقياس إلى وقائع وقعتْ بالفعل، وعلاقة الجمل بتلك الوقائع إنما تنشأ منطقيًّا عن معاني الألفاظ وهي مفردة، وعن معاني الجمل وفق قوانين تركيبها، ولو أقمنا المنطق على هذا الأساس؛ كان منطقًا قوي البناء.
ونفهم من هذا الذي أسلفناه بأن «الحق» صفة تنصبُّ أولًا وقبل كل شيء على التشكيلات اللفظية (أي الجُمل)، فإذا وصفنا بها «الاعتقاد» كان ذلك بطريقة فرعية ثانوية؛ لأننا — كما أوضحنا — نصل إلى «الاعتقاد» بعد مرحلتين؛ ملاحظة السلوك في موقف معين، ثم وصف ما ينطوي عليه ذلك السلوك في كلمات تُعَبِّر عن الاعتقاد الذي لا بُدَّ أن يكون هو نقطة الابتداء في تنفيذ ذلك السلوك. فإذا كانت «الجملة» التي نصف بها الاعتقاد «صادقة»؛ كان «الاعتقاد» بالتالي صادقًا كذلك، لكن التشكيلات اللفظية التي هي موضع الوصف حين نصفها بأنها «حق» ظاهرة اجتماعية، وإذن فالجانب الأساسي من جوانب الحق هو «الجانب الاجتماعي». ونعود فنقول: إن التشكيلة اللفظية المعينة «حق» إذا كانت ذات علاقة معينة بواقعةٍ ما وقعت في العالَم الخارجي، لكن أية علاقة هذه؟ وأية واقعة؟ أحسب أن العلاقة الأساسية هنا هي هذه: تكون التشكيلة اللفظية صادقة إذا تأدَّى إليها الشخص الذي يعرف اللغة حين يجد نفسه في بيئة تشتمل على نفس المَعالِم التي هي معاني الألفاظ المكوَّنة منها التشكيلة المذكورة. على أن تكون هذه المعالِم ممَّا يدعوه إلى استخدام الكلمات التي تكون تلك المعالِم هي معانيها المقصودة، فعبارة: «القطار يغادر محطة القاهرة الساعة العاشرة.» عبارة صحيحة، إذا كان الشخص الذي يعرف اللغة العربية، والذي يقف وسط البيئةِ المذكورةِ معالمُها، يُتاح له أن ينظر فيما حوله من ظروف ويقول: الساعة الآن العاشرة، هذه محطة القاهرة، القطار يتحرك الآن؛ فها هنا تستثير معالِم البيئة كلمات بعينها عند الشخص المذكور، كما أن الكلمات المستثارة حين ترُكَّب في عبارات كاملة تكون «صادقة» ما دامت تشير إلى المعالم المحيطة بالمتكلم. وما الذي يسمى «بالتحقيق» العلمي إلا أن يضع الإنسان نفسه في موقف تنشأ عن معالمه كلمات كانت من قبل مستخدمة لأسباب أخرى.
قد تبدو هذه النظرية السالفة على شيء من الغَرابة، لكنها صِيغت لتُلائم المشكلة الرابعة من المشكلات الأربع التي أسلفنا ذِكْرها؛ وهي: كيف يُتاح لنا الخروج من نطاق الألفاظ إلى نطاق الوقائع التي بفضلها تكون التشكيلات اللفظية صادقة أو كاذبة؟ بديهي أننا لا نستطيع مثل هذا الخروج على أساس من المنطق وحده؛ لأن المنطق بطبيعته حبيسٌ في دنيا الألفاظ والجُمَل، وإنما يُتاح لنا مثل هذا الخروج بالنظر إلى علاقات الألفاظ بخبرات أخرى غير الخبرات الراهنة الماثلة، وهي علاقات سببيَّة؛ لأن الرابطة بين الشيء أو الواقعة وبين اللفظ الذي يرتبط به هي علاقة سببية ذات طرفين، وجودُ أحدهما يستدعي وجود الآخر.
وأود في ختام هذا البحث أن أتعرَّض لموضوعين؛ الأول خاص بالتوفيق الممكن بين المذهب السلوكيِّ والمنطق؛ فمن الواضح أننا إذ نحاول حلَّ مشكلة تعترضنا، فَلَسْنا في جميع الحالات نحاول ذلك الحل على طريقة الفأر في المتاهة، أعني بحركاتٍ عشوائيةٍ تُصِيبُ أحيانًا وتخطئ أحيانًا حتى نهتدِي إلى الصواب، بل غالبًا ما نصل إلى الحل عن طريق «التفكير» أي بعملية لا نقوم فيها بحركة ظاهرة؛ فما الذي يحدُث حين تُحلُّ مشكلة ما بالتفكير مصوغًا في جمل؟ إننا نرتب كلمات جنبًا إلى جنبٍ في صور مختلفةٍ ترتيبًا لا نتخبَّط فيه إلا قليلًا؛ إذ نحدده بمعرفةٍ لدنيا سابقة، نعرف بها نوع العبارة التي يُحتمل أن يكون فيها حل المشكلة المراد حلُّها؛ فإذا وُفِّقْنا إلى مثل هذه العبارة، أخذنا في أداء أعمال تشير إليها العبارة المذكورة، فإذا نجح الفعل في تحقيق الغرض انحلَّ الإشكال، ولا تُفهم هذه العملية إلا إذا كان هنالك علاقة ما بين قوانين ترتيب الأفكار من ناحيةٍ وقوانين الطبيعة من ناحيةٍ أخرى. وما لم يجد السلوكيون هذه العلاقة بين الأفكار وأحداث الطبيعة فلن يصبح بحثُهم كاملًا؛ لأن المذهب السلوكيَّ لا يُفَسِّر «التفكير» تفسيرًا كاملًا إلا إذا أوضح طبيعة هذه العلاقة.
والموضوع الثاني هو التحديدُ الذي تفرضه اللغة على مدى عِلْمِنا بالعالَم؛ فاللغة أداة صالحة لوصف العالَم الطبيعي؛ لأنها طبيعية مثله، ولكنها لا تصلح لوصف العالم الذي يفرض المتصوفة وجوده، وكثيرًا ما أدَّى الخطأ في فَهْم طبيعة اللغة إلى خطأ في فَهْم الحقيقة الخارجية. وخذ مثلًا لذلك الكلمات الدالَّة على «علاقات» فهنا قد تجد الفيلسوف الذي يفهم هذه الكلمات على أنها دالَّة على أشياء كسائر الأشياء، ومن ثمَّ يحدث خلط كثير؛ فلو قلت: «البرق يسبق الرعد»، كانت كلمة «يسبق» من نوع يختلف عن كلمتَي «برق» و«رعد»؛ لأن هاتين تسميان أشياء على حين أن «يسبق» تدلُّ على «علاقة» لا على «شيء»، وقد كنا نستطيع أن نقول «برق رعد» للدلالة على تواليهما، لكن فيلسوفًا مثل «برادلي» يتناول كلمات العلاقات كما لو لم يكن ثَمَّةَ فرقٌ بينها وبين أسماء الأشياء فينشأ عن ذلك غموضٌ أيُّ غموض، وهكذا قُل في مذاهب فلسفية كثيرة أخرى.