سلامة الاستدلال
ألِفَ العلم أن يَعدَّ بعض الوقائع «مُعطَيات أولية» منها «يستدل»؛ إما قوانين أو وقائع أخرى سواها، ولقد مر بنا في الفصل السابع أن الاستدلال من الناحية العملية أوسع جدًّا من النطاق الضيق الذي تفرضه النظريات المنطقية، وأنه ما هو إلا قانون الترابُط أو قانون الاستجابات المكسوبة، وسأبحث في هذا الفصل كيف طوَّر المناطقة هذه الصورة الأولية للاستدلال، وما هي الأسس التي تُسَوِّغ للإنسان — وهو كائن عاقل — أن يَمْضِي في عملية استدلالية، ولكن ينبغي قبل ذلك أن نبدأ في توضيح معنى «مُعْطًى أوَّلي».
لكي نُيَسِّر الأمر، سنقصر البحث على المعرفة التي يمكن التعبير عنها بألفاظ دون غيرها من ألوان المعرفة، وقد تعرضنا في الفصل الرابع والعشرين للشروط المطلوبة في العبارة اللفظية؛ لكي يجوز وصفها بأنها «حق»، فيكفينا هنا أن نقول: إن «المعرفة» معناها «إثبات صيغة لفظية صادقة» وعلى ذلك نستطيع تعريف المُعطى الأوَّلي كما يأتي: «هو صيغة لفظية ينطق بها الناطق نتيجة لمنبِّه دون أن يتوسط في الأمر أية استجابة مكسوبة غير ما يقتضيه الموقف من علمٍ بطريقة الكلام.»
فلو قبلنا هذا التعريف، كانت جميع المعطيات الأولية لمعرفتنا بالعالم الخارجي من قبيل المدرَكات الحسية، فاعتقادنا بوجود الأشياء الخارجيَّة هو استجابة محفوظة كسبناها في الشهور الأولى من الحياة، ومن واجب الفيلسوف أن يعدَّه استدلالًا يتطلب التحقيق لاختبار صدقه، ونظرة سريعة إلى الاستدلال يتبين أنه من الوجهة المنطقية يَستحيل أن يكون قاطعًا في نتائجه، بل هو في أفضل حالاته مُؤَدٍّ إلى الاحتمال المرجح؛ إذ ليس مستحيلًا من الوجهة المنطقيَّة أن تكون حياتي حلمًا واحدًا متصلًا، وأن كل هذه الأشياء التي أعتقد في وجودها في عالِم خارج بدني إن هي إلا أخيِلَة في حُلم تنشأ كلُّها وتحدث كلها داخل رأسي، فإذا رفضنا قبول رأي كهذا؛ كان الرفض قائمًا على أساس استقرائي، وهو أساس — كما قلنا — لا يقطع بيقين؛ فنحن نرى سوانا من الناس يتصرَّفون على صورة تُشبه الصورة التي نتصرف نحن عليها في المواقف الماثلة، فنزعم أنه لا بُدَّ أن يكون قد صادفَهم مثل ما قد صادفنا من مؤثرات، فأدى ذلك إلى تشابُه الاستجابات عندنا وعندهم، وبغير هذا الافتراض الذي نزعُم به أن الاستجابات عند الناس إذا تشابهَتْ كانت المنبهات متشابهة (وهو افتراضٌ مُرجَّح الصدق لا يَقينِيَّ الصدق) لما استطعنا الوصول إلى القوانين العلمية؛ لأن هذه القوانين قائمة على الاستقراء والتمثيل، وهما صورتان من الاستدلال تؤدِّيان إلى درجة من الاحتمال لا إلى اليقين، فاليقين وسيلته الاستنباط وحده، الذي تكون فيه النتيجة مُحتواةً في مقدِّماتها، ولا تأتي بجديد يُضاف إلى تلك المقدِّمات، فإذا أردنا ألا نتنكر للعلم وقوانينه، وللعالم الخارجي الواقع، كان لا بُدَّ لنا من دراسة الوسيلة الاستدلاليَّة المستخدَمة في هذا المجال.
ونسوق مثلًا بسيطًا للاستدلال الاستقرائي؛ فنقول: إننا إذا أحسسنا بالجوع أكلنا صنوفًا معيَّنة من الطعام عرَفْناها بعمليات سابقة في خبراتنا الماضية؛ فالطفل الخالي من خبرة ماضية يضع في فمه كلَّ ما استطاع أن يسعَه ذلك الفم من أشياء، فيجد نتيجةَ ذلك سارَّةً حينًا مؤلمةً حينًا، فيُكرِّر السَّارَّ ويُقلع عن المؤلم، وبهذا يستدل صفات الأشياء التي يصح أكلُها وصفات الأشياء التي لا يصح أكلها؛ فالخبز يؤكل والصخر لا يؤكل وهكذا، إنه يستقرئ الماضي وخبراته ليهتديَ به في الحاضر والمستقبل، ولكن ما الذي يسوِّغ للإنسان أن يبني حاضره ومستقبله على ماضيه؟ على أي أساس يزعم لنفسه أن الحوادث مطَّردة على النحو الذي يجعل الحاضر شبيهًا بالماضي؟ تلك مسألة إن لم تجد اهتمامًا عند الناس في حياتهم العملية، فهي تلقى الاهتمام من الفيلسوف الذي يتعقَّب الأمور إلى أصولها.
إنه لا شكَّ في أن العلم والحياة اليومية على السَّواء يُصبحان مستحيلين إذا لم يعتمد الإنسان على استدلالات استقرائيَّة يتخذُ فيها شيئًا علامة على شيء آخر، فإن وجد الشيء الفلاني توقَّع أن يوجد معه الشيء الفلاني أيضًا؛ لأنه رأى الشيئين فيما مضى مقترنين، ويتوقع لهما أن يظلَّا مقترنَيْن في المستقبل كما كانا مقترنين في الماضي، بل إن عملية القراءة نفسها وفَهْم اللغة على وجه العموم كان سيكون مستحيلًا لولا افتراضُنا بأن المعنى الذي كان لكلمة معيَّنة سيظل لها، وإننا لنتصرَّف في حياتنا بناءً على هذا الافتراض، فترى لافتة تقول لك إن دُكَّان الحلاق في الدور الأول من البِناء، وتريد الحلاقة، فتصعد إلى الدور الأول، ولا تقول لنفسك: من أَدْراني ألا تكون هذه الكلمات مستعملة على غير ما رأيتها مستعملة في خبراتي الماضية؟
ومبدأ الاستقراء صياغتُه كما يلي: افرض حادثتين أ، ب (كالبرق والرعد مثلًا)، وافرض أن الحادثتين تكرر حدوثُهما متعاقبتين عدة مرات، وأن نقيضَ هذا التابع لم يحدُث قط، فتظل تزداد ترجيحًا حتى توشِك على اليقين بأن «أ» إذا حدثت فستعقبها «ب» كما كان شأنهما فيما مضى، ذلك هو مبدأ الاستقراء. وليست العبرة في الاستقراء العلمي أن تكثر الأمثلة، بل العبرة بما نختاره من الأمثلة اختيارًا موجهًا؛ لتجيء أكثر دلالة على ما نريد الدلالة عليه، وحتى في حياتنا العملية اليومية نجد أن المهم في الأمثلة التي تمر بخِبراتنا ليس هو مجرد الكثرة بل هو قوة التأثير للمثل الواحد؛ فالطفل تكفيه مرة واحدة تحترق فيها إصبعه بلهَب الشمعة؛ ليعمِّم لنفسه الحكم عن لهب النار وما يفعله في الأصابع.
مهمة الاستقراء المنطقيَّة هي أن يبين أنَّ قضية مثل ««أ» دائمًا تصحب أو تسبق «ب»» هي قضية مرجَّحة الصدق، وأن علمنا برُجحان صدقها قد جاءنا بعد دراسة الحالات التي تقترن فيها «أ، ب»، على شرط أن تكون هذه الحالات قد أُحسِنَ اختيارها أو أن تكون كبيرة العدد.
يعتقد كينز أن الاستقراء يجوز أن تزداد درجة احتماله بعدَد ما يُساق من الأمثلة، لا لمجرد كون الأمثلة كبيرة العدد؛ بل لأن كثرة العدد تقتضي الترجيح بأن تلك الأمثلة الكثيرة لا تحمل شيئًا مشتركًا بينها سوى الخصائص التي تكون عندئذٍ موضع النظر؛ فافرض مثلًا أننا نبحث عمَّا إذا كانت صفة ما «أ» مرتبطة دائمًا بصفة ما «ب»، فنجد أمثلة تكون فيها «أ، ب» مرتبطتين، ولكن قد يحدث كذلك أن تكون هنالك صفة ثالثة «ﺟ» موجودة في الأمثلة كلها، وربما كانت «ﺟ» هذه هي ذات الصِّلة المطَّردة مع «ب» بحيث يكون الصواب هو أن نقول إن كل «ب» يصحَبُها أو يتبعها «ﺟ»، لا أن نقول إن كل «ب» يصحبها أو يتبعها «أ». فإذا اخترنا الأمثلة على نحوٍ لا يجعل فيها شيئًا مشتركًا إلا اقتران «أ، ب» بغير حضور صفة ثالثة معهما، كنا أقرب إلى الصَّواب عندما نقول إن «أ، ب» مقترنتان دائمًا، فإذا كانت الأمثلة المختارة كثيرة العدد جدًّا، فعندئذٍ حتى لو لم نكن نعرف أن ليس بينها عنصر مشترَك سوى اقتران «أ، ب» إلا أننا نزداد ترجيحًا بأن الجانب المشترَك هو هذا الاقتران بين «أ، ب» لا أي شيء سواه. وتلك — في رأي كينز — هي القيمة الوحيدة لكثرة عدد الأمثلة المختارة، وبديهي أن الاستقراء لا يكون ذا فائدة تُذكَر ما لم تكن نتائجه أقرب إلى الصواب منها إلى الخطأ، فإن لم تكن تلك النتائج يقينية — وهي لا يمكن أن تكون كذلك — فلا أقلَّ من أن تتيح لنا الأمثلة المختارة نتيجة مُرجَّحة الصواب.