الفصل السادس والعشرون

الأحداث والمادة والعقل

كل شيء في الوجود مؤلَّف من أحداث. هذه هي النظرية التي أميلُ إلى الأخذ بها، و«الحادثة» — كما أفهمها — هي شيء يستغرق مدةً زمنيةً صغيرةً محدودةً، ويشغل حيزًا مكانيًّا صغيرًا محدودًا كذلك، أو إن شئتَ فقُل إنها شيء يشغل حيزًا محدودًا من الزمان المكاني كما هو الرأي عند نظرية النِّسْبِيَّة، ولو كان للحادثة أجزاء فهذه الأجزاء هي بدورها حوادث. وكون الحادثة تملأ قَدرًا محدودًا من الزمان المكاني ليس في ذاته برهانًا على أنَّ لها أجزاء، وليست الحوادث شيئًا مصمتًا لا يُخْتَرَم كما كانوا يفترضون في ذرَّات المادة الصلبة، بل إن كل حادثة في الزمان المكاني تتداخل فيها حوادث أخرى، وليس لدينا ما يُسوِّغ الافتراض بأن الحادثة، كائنة ما كانت، شيء مركَّب من عدد لا نهاية له من الأجزاء، بل إنه ليجوز لنا القول عن أية حادثة بأنها مركَّبة من عدد معلوم من الأجزاء، دون أن يتناقض هذا القول مع ما نعلمه عن العالم من حقائق. وإني وإن كنت لا أعلم إن كان هذا القول عن الحوادث يُصوِّر الواقع أو لا يصوِّره، ولكنه فرضٌ أفرضه، وهو أبسَط من أي فرض ممكن آخَر، ولا أجد ما ينفيه؛ ولهذا فسأُسلِّم به على اعتبار أنه فرض عملي مفيد، ثم أطبقه على الوجه الآتي:

رؤيتك لمعة البرق حادثة، وسماعك صوت عجلة السيارة وهي تُفرقِع حادثة، وشمُّك رائحة بيضة كريهة حادثة، وإحساسك ببرودة ضفدعة حادثة. هذه كلها حادثات ممَّا يجوز اعتباره مُعطَيات أوَّلية بالمعنى الذي قدَّمناه في الفصل الخامس والعشرين، وبناء على القواعد التي أسلفنا ذِكْرها في ذلك الفصل يمكن أن نستدلَّ حدوث أحداث غير المعطَيات الأولية، وأنها تحدث بعيدًا عن أجسادنا بحيث لا تتصل بها حواسنا اتِّصالًا مباشرًا، على أنَّ بعض هذه الحوادث المُستدَلَّة بالنسبة إلينا قد يكون هو نفسه مُعطَيات أوَّلِيَّة لسِوانا، وقد لا يكون معطيات أولية لأحد على الإطلاق، إذا لم يكن هنالك من الناس أحد يمسُّها بحواسه مسًّا مباشرًا، فإذا لمع البرق مثلًا كان هنالك اضطراب كهربي مغناطيسي مؤلَّف من حوادث تنتقل من مكان حدوث البرق، حتى تصل إلى عين إنسان أو حيوان فيرى صاحب العين لمعة، وعندئذٍ يكون هذا الإدراك الحسي لِلَمعة الضوء استمرارًا للسلسلة التي تمتد من مكان حدوث البرق إلى مكان جِسم المدرِك، كما يكون هذا الإدراك الحسِّي بمثابة المُعطى الأَوَّلي الذي نكوِّن منه مقدمات تتيح لنا بعد ذلك أن نستدلَّ منها أحداثًا أخرى لا تقع على حسِّنا وقعًا مباشرًا.

إنني أزعم أن كل حادثة تشغل حيزًا مكانيًّا زمانيًّا، يمكن انقسامها إلى عدد معلوم من الأحداث الصغرى، والحادثة الواحدة من الأحداث الصغرى تشغل بدَوْرها حيِّزًا من المكان الزماني؛ حتى يصل بك التحليل إلى النقطة التي هي الحد الأدنى من المكان، وإلى اللحظة التي هي الحد الأدنى من الزمن، تجدهما مركبات من حوادث، ولا فرق بين قطعة المادَّة وبين الجُزَيء المكان زماني إلا في أن قطعة المادة مركَّبة من حوادث أشد تركيبًا وتعقيدًا من الحوادث التي تتألَّف منها «النقطة اللحظة»؛ أي الجزيء الذي هو نقطة في مكان ولحظة في زمان معًا.

وهنالك اليوم رأيان مختلفان بعض الاختلاف في تفسير المادَّة؛ أحدهما يناسب دراستنا لبناء المادة الذري، والآخر يناسب النظرية العامة للنِّسبية من حيث هي نظرية تفسر الجاذبية. وللرأي الأول صورتان؛ إحداهما مُستمدَّة من «هيزنبرج Heisenberg» والأخرى من «دي بروبلي De Broglie»، و«شردنجر Schrödinger» وهاتان الصورتان مترادفتان من الوجهة الرياضية، غير أن التعبير عنهما يختلف في إحدى الصورتين عنه في الأخرى اختلافًا ظاهرًا، فهيزنبرج يَعدُّ قطعة المادة مركزًا تنبعث منه إشعاعات إلى الخارج، وبانبعاثها تَضؤل قطعة المادة تدريجًا حتى تفنى، وأما الإشعاعات المنبعثة فهي كأشعة الضوء، قوامها مجموعات من أحداث، وليست هي بمثابة التغيرات التي تطرأ على «عنصر» ثابت، ويرى «دي برويلي» و«شردنجر» أن المادة مؤلَّفة من حركات موجبة، وهو رأي كالرأي الأول يرى في المادة مجموعات أحداث تحدث مُجرَّد حدوث، ونخطئ لو زعمنا أنها تحدث للمادة أو لأي شيء سواها، هي تحدث وكفى، ولا تحدث لشيء ما.

وأما الرأي الثاني الذي قيل في تفسير المادة ورُوعِيَ فيه أن يلائم النظرية العامة للنِّسْبِيَّة في تفسيرها للجاذبية، فهو أيضًا يردُّ المادة إلى مجموعات من أحداث تحدث، ويَنْفِي كونَها عنصريةً ذات تَشيُّؤ وتَصلُّب، فقطعة المادة هي في نهاية الأمر علاقات رياضية تصل أحداثًا بعضَها ببعض على نحوٍ يجعل منها وحدة.

لقد كان الرأي التقليدي يجعل لعناصر المادة ثباتًا ودوامًا، لكن هذا الثبات وهذا الدوام قد أصبح اليوم أمرًا تقريبيًّا لا مطلقًا؛ فالمادة مكوَّنة من كهارب موجبة وسالبة — إلكترونات وبروتونات — وقد يجتمع الإلكترون والبروتون فيُفني أحدُهما الآخَر، وحتى إن دامت الإلكترونة أو البروتونة فهو دوام يختلف عن الدوام الذي كان يُنسب إلى المادة قديمًا، فقد تدوم الموجة في البحر زمنًا طويلًا أو قصيرًا، ولكنها آيلة إلى زوال، فهذه الموجات التي أراها الآن تتكسَّر على الشاطئ ربما كانت آتيةً من البرازيل، ولكن هذا لا يعني أن «شيئًا» ما قد انتقل بذاته وعَبْرَ المحيط من البرازيل إلى هنا، بل كل ما يعنيه هو أن تغيرًا قد انتقل، وكما تُصادِف الموجة شاطئًا فتَتكسَّر في نهاية شوطها، فكذلك يحدث للإلكترونة والبروتونة أن تتحطم إذا ما صادفتْ شيئًا غير عادي في مجراها.

هكذا أصبح معنى «المادة» في علم الطبيعة الحديث مجموعة من أحداث تحدث، دون أن تكون هنالك الحقيقة «العنصرية» الثابتة التي نقول عن تلك الأحداث إنها تحدث «لها». وإن دارسي الفلسفة ليعلمون قصة الدكتور «جونسون» حين قيل له: إن «باركلي» قد أنكر وجود المادة، وسُئِلَ كيف تُفَنِّدُ رأيه هذا؟ فرَكَل جونسون حجرًا بقدمه حتى ارتدَّت القدم قائلًا: أفنِّدُه هكذا؛ يعني أنه يكفي لقدم الراكل أن تصطدم بحجرٍ لكي يكون ذلك برهانًا كافيًا بوجود المادة الصلبة في الخارج، ولكن لو اطَّلع جونسون على نتائج علم الطبيعة الحديث، وعرف أن قدمه لم تمسَّ الحجر قط، وأن القدم والحجر كليهما إن هُما إلا مجموعتان معقدَّتان مركَّبَتان من حركات موجبة، لما اعتَدَّ بطريقته في تفنيد رأي باركلي في المادة. وكان الزعم في إحساساتنا، بناءً على الرأي القديم في المادة، أن الأشياء المادية هي التي تسبِّب حدوث الإحساسات في حواسِّنا، كأنما السبب والمسبَّب أمران جدُّ مختلفَين، ففي الخارج مادة وفي داخل الإنسان إحساس من نوع مختلف، أما والمادة والإحساس معًا مجموعات من حوادث، فقد التقَت المادة بالعقل على أساس واحد. وغاية ما في الأمر أن مجموعات الحوادث التي هي مادة تتصف بخصائص غير الخصائص التي تتصف بها مجموعات الحوادث التي هي عَقل، على أن هذا الاختلاف ليس في طبيعة الحوادث هنا أو هناك، بل إنه اختلاف ينشأ من تغيُّر في السياق، ولو نزعنا حادثة ما عن سياقها لَمَا عرفنا أَمادَّة هي أم عقل؛ لأنها تصلح أن تكون هذا وتلك معًا.

وإذا كان الناس قد تَخبَّطوا في حقيقة المادة تخبُّطًا كثيرًا، فلم يكن حظ العقل عندهم بأحسن من ذلك إلا قليلًا، فوصْفُنا حالةً ما بأنها «عقلية» ليس ذا دلالة محدَّدة، نعم إن هناك مجموعةً هامةً من الحوادِث — وأعني بها المدركات الحسية — يجوز لنا أن نطلِق عليها كلها صفة «العقلية» لكننا لا نستند إلى أساس مكين إذا نحن زعَمْنا أن ليس هنالك من الحوادث «العقلية» سوى المدرَكات الحسية، ومع ذلك نراه أمرًا عسيرًا أن نجد أي مبدأ نستعين به على معرفة أي الحوادث الأخرى يمكن أن نسلكها مع المدرَكات الحسية في كونها مجموعة عقلية. ولعل أبرز الخصائص التي تميز العقل هما الاستبطان والذاكرة، غير أن الذاكرة في بعض صورها — كما قد رأينا من قبل — نتيجة لقانون الأفعال المنعكسة المشروطة، وهي صفة تخص النسيج الحي أكثر ممَّا تخص العقل، وكذلك قد رأينا من قبل أن المعرفة يتعذَّر تَمييزُها من مجرد الحساسية، والحساسية خاصَّة تتميز بها الأجهزة العلمية، والاستبطانُ صورة من صُوَر المعرفة، لكنَّنا لو دقَّقْنا فيه النظر ألفيناه لا يزيد على كونه حذرًا في تأويل «المعرفة» المألوفة. فإذا صحب فيلسوفٌ ابنَه إلى حديقة الحيوان، ونظر كلاهما إلى فرس البحر، فبينما يقول ابن الفيلسوف: «هذا هو فرسُ البحر»، ترى الفيلسوف أكثرَ من ذلك حذرًا فيقول: «هذه بقعة ذات لون معيَّن وشكل معيَّن، وربما كانت مرتبطةً بمجموعة من الأسباب الخارجيَّة على النحو الذي يكون ما يسمُّونه فرس البحر.» ففي قول الفيلسوف إن ما يراه بقعة لونية ذات شكل خاص، ممارَسة منه للاستبطان بالمعنى الوحيد الذي أفهم به هذه الكلمة، وأعني بذلك أنه يلتزم في معرفته حدود ما يجري في مخِّه هو من أحداث، ويجتنب كل ضروب الاستدلال المُنْبَنِية على تلك الحوادث، فإذا كان ما ينطبع فيه هو بقعة لونية فلا يجوز له أن «يستدل» بأنه فرس البحر؛ فالحوادث التي تلم بها المعرفة الاستبطانية على هذا النحو، حوادث «عقلية» وقد تُضاف إليها أشباه لها، لكني لا أستطيع أن أجد لمجموعة الحوادث العقلية بأَسْرِها تعريفًا يُميِّزها اللهم إلا أن أقول إنها تحدث في مخ حي، أو هي — على الأصح — تحدث في منطقة تجمع بين الحساسية وقانون الأفعال المنعكسة المشروطة، فمن مزايا هذا التعريف أنه يجعل صفة العقلية مسألة تدخل تحت القوانين السَّبَبيَّة، ولا تقصر الصفة على كل حادثة عقلية مفردة، وكذلك هو تعريف يجعل صفة العقلية مسألة اختلاف في الدرجة لا اختلاف في النوع.

ولعله من الضروري أن نعيد القول هنا أن حوادث المخ ليستْ تعني أن قطعًا ماديةً تتحرك هنا وهناك؛ فلقد رأينا في موضع سابق أن المادة والحركة كليهما تركيبات يُركِّبها العقل من مجموعة الأحداث، والأحداث شيء يَختلِف جدَّ الاختلاف عن المادة المتحرِّكة كما كنا نتصورها، وأعتقد أننا حين نحسُّ شيئًا فالذي ندركه عندئذٍ هو حادث يحدث في المنطقة التي يشغلها المخ، فلئن كان الإدراك الحسي لشيء ما هو أوضح أنواع المعرفة عندنا، فهو مع ذلك إدراك لجزء من مادة المخ، حتى وإن حسبنا أن الذي نراه هو مِنْضَدة أو مقعد أو هو الشمس أو القمر … إلخ، فانظر مثلًا إلى ورقة من أوراق الشجر، فماذا ترى؟ ترى بقعة خضراء، وهذه البقعة الخضراء ليست في العالَمِ الخارجيِّ حيث تكون ورقة الشجر المرئيّة، بل هي حادثة تشغل حيزًا معينًا في المخ أثناء قيامك بعمليّة الرؤية؛ وإذن فرؤية الورقة ما هي إلا حدوث بقعة خضراء في منطقة المخ، وهذه البقعة تكون مرتبطةً ارتباطًا سببيًّا بالورقة الخارجية، أعني أن هناك سلسلة أحداث تبدأ من نقطة معينة في المكان الطبيعي الذي تشغله الورقة، ثم تتتابع حلقات السلسلة إلى عضو الحس فالإدراك الحسي؛ وإذن فهذا الإدراك حلقة كسائر الحلقات ولو أنه يختلف تأثيرًا عن غيره من الحلقات، بسبب اختلاف المنطقة التي يحدث فيها، أو إن شئت تعبيرًا أدق فقُل: إن آثار تلك الحلقة التي تختلف بها عن آثار غيرها من الحلقات، هي بعينها الصفة المميزة للمنطقة التي تحدث فيها بالنسبة إلى سائر المناطق لسائر الحلقات.

وعلى ذلك تكون كَلِمَتا «عقل» و«عقلي» مشيرتين إلى فكرتين تقريبيتين عن واقع الأمر، فكأنهما رمزان اختزاليَّان يفيدان في التفاهُم العملي السريع، أما إذا أردنا علمًا كاملًا بتفصيلات الموقف، فإن كلمة «عقل» وكلمة «مادة» ستختفيان لتحلَّ محلهما قوانين سببية موضوعها مجموعات من أحداث يتَّصل بعضها ببعض على نحوٍ ما.

فأنت ترى من هذا أن وجهة النظر التي آخُذ بها وأدافع عنها، لا هي بالمادية ولا هي بالعقلية، بل هي ما أُسمِّيه بالواحدية المحايدة (متبعًا في هذا اقتراح الدكتور شفر H. M. Sheffer) فهي واحدية لأنها تجعل الكون مؤلَّفًا من «نوع» واحد من القِوام أو من الهيولى ألا وهو «الأحداث»، ولكنه مذهب تَعدُّدي كذلك؛ لأنه يقبل وجود حادثات كثيرة، كل حادثة منها — منطقيًّا — حقيقة قائمة بذاتها.
وأنتقل إلى النظر في العلاقة بين علم النفس وعلم الطبيعة؛ فهل إذا تقدَّم العلم الطبيعي تقدمًا بعيد المدى، شمل مجال علم النفس على اعتبار أن تكون الحقائق العقلية عندئذٍ هي كأحداث الطبيعة على حدٍّ سواء، يبحثها كلَّها علم واحد؟ أو العكس، فهل إذا تقدم علم النفس تقدمًا بعيد المدى؛ شمل مجال علم الطبيعة على اعتبار أن الأحداث الطبيعية كما ندركها إن هي إلا حوادث عقلية في مخ مُدرِكها؟ فقد يكون الإنسان ماديَّ المذهب، لكنه مع ذلك يجعل علم النفس علمًا مستقلًّا، وهذه هي وجهة النظر التي أخذ بها الدكتور «برود Broad» في كتابه الهام «العقل ومكانه من الطبيعة The Mind and its Place in Nature»؛ إذ يذهب إلى أن العقل مركَّب مادي غير أن له من الخصائص ما يستحيل — حتى من الوجهة النظرية — أن تُسْتَدَلَّ من خصائص أجزائه التي منها يتكون، وهو في ذلك يشير إلى أن المركَّبات غالبًا ما تكون ذات خصائص لا يمكن — في هذه المرحلة العلمية التي بلغناها — أن تُسْتَدَلَّ من خصائص أجزائها وعلاقاتها بعضها ببعض، فللماء خصائص كثيرة يستحيل استدلالها من خصائص الهيدروجين والأوكسجين، حتى لو فرضنا أننا نعرف تركيب ذرة الماء معرفة أكمل من معرفتنا لها اليوم. وخصائص الكل التي لا سبيل إلى استدلالها من خصائص أجزائه وعلاقاتها بعضها ببعض، يسميها الدكتور برود بالخصائص «الطارئة emergent»، وعلى هذا الأساس فهو يرى أن العقل ذو خصائص «طارئة»، مختص بها الكل ولا تُستَدل من خصائص الأجزاء التي يأتلف منها ذلك الكل، وإلى هذا الحد يكون علم النفس علمًا مستقلًّا عن علم الطبيعة وعلم الكيمياء؛ فخصائص العقل «الطارئة» هذه تُكتَشف عن طريق ملاحظتنا للعقول، ولا تُستدَل من قوانين الطبيعة والكيمياء؛ هذا رأي هام وعلينا أن نبحثه.

إن النتيجة التي انتهينا إليها من أن الوحدة المادية ليست هي نهاية الشوط، بل هي بدورها تنحلُّ إلى مجموعة أحداث، أقول إن هذه النتيجة من شأنها أن تغير موضوع الخصائص «الطارئة» بعض الشيء؛ فعلينا أن نسأل: هل تطرأ المادة بازغةً من الحوادث؟ وهل يطرأ العقل بازغًا من الحوادث؟ فإن كانتِ الأُولى، فهل يطرأ العقل من المادة، أو هل يُسْتَدَلُّ من خصائص المادة أم إنَّ الحقيقة لا هذا ولا ذاك؟ وإن كانت الثانية فهل طرأت المادة من العقل؟ أو هل تُسْتَدَلُّ من خصائص العقل، أم إن الحقيقة لا هذا ولا ذاك؟ إننا بالطبع نسأل هذه الأسئلة على افتراض أن العقل والمادة كليهما ناشئ عن حادثات، وإلا فلا وجه لإلقاء هذه الأسئلة.

والسؤال موضوعًا في عبارة أخرى هو هذا: هل يمكن التنبؤ — ولو نظريًّا — من قوانين الأحداث أنه لا بُدَّ أن يكون هنالك وحدات مادية تتبع القوانين التي تتبعها المادة في الواقع؟ أم هل المادة حقيقةٌ جديدة مستقلة بذاتها منطقيًّا وسبيل إلى استدلال من سواها؟ جوابي على ذلك أننا — نظريًّا — نستطيع إقامة البرهان على أنها ليست مستقلة بذاتها، وأنها تستدل ممَّا هو آصَلُ منها؛ وأعني به مجموعات الأحداث.

وأما العقل فلا شك في نشأته من حادثات؛ فالعقل مجموعة أحداث نصفها بأنها «عقلية»؛ لتَمَيُّزِها بخصائص معيَّنة ذكرناها في مواضع سابقة، وليس هو بالحقيقة القائمة بذاتها كما كان يُقال قديمًا عن «الذات»، وقد كنا عرَّفنا صفة «العقلية» التي نصف بها الأحداث التي منها يتكون «العقل» بأنها صفة كون الأحداث تحدث في منطقة تجمع بين الحساسية وقانون الأفعال المنعكسة المشروطة معًا، وهذا معناه أن الحادثة العقلية هي تلك التي تحدث في مخ حي، وللعقل بعد ذلك صفتان هامَّتان؛ هما أولًا اتصاله بجسم مُعَيَّن، وثانيًا كونه ذا وحدة تجريبيةٍ واحدة، أما الصفة الأولى فطبيعيَّة، وأما الثانية فنفسيَّة، فلنبحث في كل من هاتين الصفتين واحدة بعد الأخرى؛ لعلنا نجد فيهما تعريفًا يحدد لنا المقصود بكلمة «عقل».

ففي الجانب الطبيعي نبدأ بحثنا بملاحظة هامة، وهي أن كل حادثة عقلية نحيط بها علمًا، تكون في الوقت نفسه جزءًا من تاريخ جِسمٍ حَي، ونحن نُعرِّف «العقل» بأنه مجموعة الأحداث العقلية التي منها يتألف جزء من تاريخ جسمٍ حَي معيَّن، وأما ما هو الجسم الحي فتعريفه يكون على أساس كيميائي، والكيمياء بدورها يمكن ردُّها إلى فيزياء من الوجهة النظرية، على الرغم من أن العمليات الرياضية التي يقتضيها هذا التحويل غاية في العسر والتعقيد. على أن من الحقائق التي تدل عليها التجربة أن السَّبَبيَّة الذَّاكِرِية (أي حين تكون الذاكرة سببًا في استحداث حادثة عقلية في اللحظة الراهنة) تكاد تكون صفةً مقصورةً على المادَّة حين تتألف من بنية كيميائية خاصَّة، لكن هذا القول نفسه يمكن أن يُقال عن المغناطيس أيضًا؛ أي إنه صفة تقتصر على حالة خاصَّة في بنية المادة، فحتى اليوم ليس في وسعنا أن نستنبط الخصائص المغناطيسية للحديد ممَّا نعلمه عن بنية ذرة الحديد، ومع ذلك فلا سبيل إلى الشك في أنه لو أُتيحت لنا المعرفة الكافية والمهارة الرياضية الكافية لاستطعنا أن نستنبطَ من كيفية بناء ذرة الحديد الخصائصَ المغناطيسية للحديد، وكذلك لو أُتِيحَت لنا المعرفة الكافية والمهارة الرياضية الكافية لاستطعنا أن نستنبط من كيفية بناء المادة الحية خصائصَ عملية التذكر. نعم لو عرفنا المادة الحية معرفة كافية لجاز أن نستدلَّ من تلك المعرفة أنه لو تغيرت طريقة بناء المادة الحية على صورة معلومة لتغيَّرت ظاهرة التذكُّر عند الكائن الحي على نحو معلوم، وإذا كان ذلك، فلا يعود محالًا علينا أن نبني كائنات حية أكثر من الإنسان الحالي ذكاء.

وأما تعريف «العقل» من الجانب النفسي، فهو أنه مؤلف من جميع الأحداث العقلية المتصلة بحادثة عقلية معيَّنة اتصالًا يقوم على رباط هو الذي نطلق عليه اسم «الخبرة»، وهي كلمة نعني بها السَّبَبيَّة الذَّاكِرية، لكن هذا التعريف بحاجة إلى مزيد من التهذيب ليصبح تعريفًا دقيقًا؛ فالمقصود بالحادثة العقلية هنا حادثة يُشترط فيها أن تكون ذات آثار ذاكِريَّة. وعلى هذا الاعتبار فلا نعدُّ انقباض إنسان العين — مثلًا — حادثة عقلية؛ لأنه لا يشتمل على عملية من الذاكرة ممَّا من شأنه أن يستحدث أثرًا به؛ فليس يكفي للحادثة لكي تكون عقلية أن تكون لها أسباب من الذاكرة، بل لا بُدَّ لها كذلك أن تكون ممَّا يخلِّف بعده أثرًا في الذاكرة؛ ولهذا فالأحداث الأخيرة في مجرى حياة الإنسان — أي الأحداث التي تحدث قُبيل موته — لا تُعدُّ في الحقيقة أحداثًا عقلية، حتى وإن تكن ذات أسباب من الذاكرة؛ لأنها لن تخلِّف بعدها أثرًا في الذاكرة، اللهم إلا إذا افترضنا بأن للحياة الإنسانية امتدادًا بعد الموت، يكون لها فيه نفس الخصائص التي كانت لها إبَّان الحياة الدنيوية، ومهما يكن من أمر في هذا الصدَد، فسنجعل تعريفنا «للخِبرة» التي تنتمي إليها حادثة عقلية معيَّنة، هو أنها مجموعة الأحداث العقلية التي يمكن الوصول إليها من تلك الحادثة المعيَّنة عن طريق سلسلة سببية قوامها الذاكرة، وهذه السلسلة السَّبَبيَّة التي تتلاحق فيها التَّذَكُّرات، قد تنتقل في سيرها من خلف إلى أمام، أو من أمام إلى خلف، أو مرة كذا ومرة كذلك. ويمكن تشبيه وحدة «الخبرة» على هذه الصورة بنقطة تتقاطع فيها السكك الحديدية، حيث يمكن للقاطرة أن تسير على أي خط من الخطوط المتقاطعة خلال نقطة التقاطُع، فما دامت هذه الخطوط على تفرُّعها في اتجاهات مختلفة تتلاقى في نقطة مشتركة، فهي تكون مجموعةً واحدةً، وهكذا قُلْ في حادثة عقلية تتفرع منها عن طريق الذاكرة عدَّة خطوطٍ من الأحداث الأخرى، لكنها كلها تتلاقى عند تلك الحادثة المعيَّنة، فهذه عندئذٍ تكوِّن ما نسميه «بالخبرة» الواحدة، أو ما نسميه «بالعقل» منظورًا إليه من الناحية النفسية لا من الناحية البدَنية.

قد عرَّفنا «العقل» منظورًا إليه من ناحية الأحداث البدنيَّة، ثم عرَّفناه منظورًا إليه من ناحية الأحداث النفسيَّة، وكان تعريفنا الثاني له قائمًا على أساس الذاكرة من حيث هي سبب ونتيجة، لكننا لا نستطيع أن نكونَ على يقين من أن كافَّة الحوادث العقلية المتصلة بجسم واحد معيَّن، يرتبط بعضها ببعض برابط السَّبَبيَّة الذاكريَّة، ولهذا فليس في وُسعنا أن نكون على يقين من أن تعريفَيْنا «للعقل» يُنتجان لنا نتيجةً واحدةً بعينها؛ ففي حالات انقسام الشخصية للفرد الواحد، نجد بعض الآثار الذاكريَّة — وخصوصًا استعادة الماضي — لا تظهر في إحدى الشخصيتَيْن ما دامت قد حدثَتْ للشخصية الأخرى، ولكن يجوز أن تكون الشخصيتان معًا مرتبطتَيْن بسلسلة ذاكِريَّة مع حوادث حدثت قبل انقسام الفرد إلى جانبيه، وبهذا يكون هذا الفرد ذا عقل واحد حسب تعريفنا السالف للعقل، ولكن في الأمر احتمالات كثيرة أخرى لا بُدَّ من أخذها مأخذ الاعتبار؛ فمن الجائز أن تكون لكل خلية حية في الجسم حياتها العقلية الخاصَّة بها، وأنَّ فئةً مختارة فقط من هذه الحيوات العقلية الكثيرة هي التي تلتقِي معًا لتكوِّن ما نسميه «حياة» هذا الشخص أو ذاك. ويجوز أن يكون «اللاشعور» هو الحيوات العقلية في الجسم ممَّا لا يأْتَلف في تكوين الحياة العقلية للفرد المعيَّن، وفي هذه الحالة تكون لهذه الحيوات العقلية الدنيا بعض الآثار الذاكِرِية المتناثرة هنا وهناك ممَّا نستطيع ملاحظتَه، لكنها على وجه العموم مفصولة عن الحياة التي نصفُها بأنها حياة «واعية»، وفي مثل هذه الحالة تكون الأحداث العقلية المرتبطة بجسم معيَّن أكثر عددًا من الأحداث العقلية التي تلتقي لتكوِّن «العقل» المركزي عند الفرد، على أن هذه — كلها احتمالات لا تزيد على تأملات نظرية.

لقد تحدثت منذ قليل عن الحياة التي نَصِفها بأنها حياة «واعية»، ولعل القارئ قد تساءل دهشًا: لماذا لم أقف حينًا عند هذا «الوعي» أو «الشعور»؛ لأجعله موضوع حديث خاص؟ لكني لم أفعل ذلك لأني لا أعدُّ الوعي نوعًا قائمًا بذاته، بل أعده ضربًا من ضروب الآثار الذاكريَّة، فللذاكرة آثار مختلفات، بعضها يكون وعيًا أو شعورًا، وبعضها الآخر هو الذي نطلق عليه اسم اللاوعي أو اللاشعور؛ فإذا قلت إني «على وعي» بحادثة مُعيَّنة، كان معنى ذلك أني أستعيد هذه الحادثة بالذاكرة بعد حُدوثها ولو بلحظة قصيرة الأمد جدًّا، وإذا قُلتُ عن حادثة إني أستعيدها بالذاكرة، كان معنى ذلك أن هنالك رابطةً سببيةً ذاكريَّة بين الحادثة المستعادة والتي هي راهنة ماثلة الآن، وبين الحادثة الماضية التي حفظَتْها الذاكرة وجئتُ الآن أستعيدها. لكن الحادثات التي لا أستعيدها هي أيضًا ممَّا يجوز أن يكون له آثار ذاكريَّة عليَّ، وهذه هي الحالة التي تتمثل، لا في حالات الكبت الفرويديِّ فحسب، بل تتمثل أيضًا في جميع العادات التي حفظناها منذ أمد طويل حتى أصبحت الآن حركاتٍ آليةً، كالكتابة والكلام. وهكذا ترى أن زيادة الاهتمام بالوعي أو بالشعور، كان قد أدَّى إلى أن أحيط «اللاشعور» بشيء من الإلغاز، مع أنه لا إلغاز هناك، فكلاهما يندرج تحت نوع واحد، هو آثار الذاكرة.

إنه لا يهمُّ كثيرًا أي التعريفَيْن السابقين «للعقل» نختار، فافرض أننا اخترنا لأنفسنا التعريف الأول الذي يجعل من العقل مجموعة أحداث عقلية تكوِّن جزءًا من تاريخ جسمٍّ حي معين، أو ربما كان الأصح أن نقول إنها تكون جزءًا من تاريخ مخٍّ حَي في جسم مُعيَّن. ولنا الآن أن نلقي السؤال الذي يحسم الأمر عمَّا إذا كُنا بحكم ذلك التعريف للعقل من أنصار المذهب المادِّي الذين يقولون إن العقل طارئ طرأ على الأحداث المادية، وسؤالنا هو:

هل العقل تركيبةٌ قوامُها وحدات مادية؟

أحسب أنه لا جدال في أنَّ الجواب عن هذا السؤال هو بالنفي؛ فحتى لو كان قوام العقل كافة الأحداث التي تحدُث في المخ، فليس هو مكوَّنًا من حِزَم من هذه الأحداث محزومة في مجموعات كما يحزمها علم الطبيعة؛ أعني أنه لا يكوِّم كلَّ الأحداث التي تكوِّن قطعة من مادة المخ، ثم يكوِّم الأحداث التي تكوِّن قطعة أخرى وهكذا. فليس الذي يهمنا في العقل هو مادة المخ، بل هو ما أسميناه بالسَّبَبيَّة الذاكريَّة، وهذه تستدعي عودة منا إلى دراسة الفيزياء إذا كنا نزعم — وهو زعم لا يبعد أن يكون صوابًا — أن السَّبَبيَّة الذاكريَّة العقلية مردُّها إلى آثار تحدث في المخ، على أن هذه مسألة ما تزال بحاجة إلى بحث: فإذا كانت السَّبَبيَّة الذاكريَّة نهاية لا يمكن التحليل إلى ما وراءَها، كان العقل ذا حقيقة مستقلَّة بذاتها عن المادة التي طرأ منها، أما إذا أمكن تحليل السَّبَبيَّة الذاكِرِية إلى ما هو أبسطُ منها — وأعني تحليلها إلى أحداث مخية ممَّا تدرسه الفيزياء، فالمشكلة عندئذٍ تزداد عسرًا؛ فكما قد رأينا قبلُ هنالك بغير شك بعضَ المعرفة في مجال علم النفس ممَّا يستحيل علينا أن نردَّه إلى مجال الفيزياء. ولما كانت هذه النقطة هامة؛ فسأعيد هنا ما كنتُ قد ذكرتُه في هذا الموضوع، واضعًا إياه في عبارة جديدة.

الفرق بين الفيزياء وعلم النفس شبيه بالفرق بين معرفة ساعي البريد بما يحمل من خطابات ومعرفة مَن أرسل إليهم هذه الخطابات؛ فساعي البريد يعلم بحركات خطابات كثيرة، على حين أن متلقِّي الخطاب لا يلمُّ إلا بخطاب واحد أو بعدد قليل من الخطابات. ولنا أن نصور لأنفسنا موجات الضوء والصوت التي تدور حول العالم على أنها خطاباتٌ، وأن ساعي بريدها الذي يعرف اتجاهاتها هو عالِم الفيزياء، لكن فئة قليلة من هذه الموجات موجَّهة إلى كائنات بشرية، فإذا ما تلقَّوها وألَمُّوا بها كانوا كمَن يتلقى خطابًا ويفضُّه ليعرف محتواه، وهذه هي مكانة المعرفة النفسية، نعم إن التشبيه هنا بعيد عن الكمال؛ لأن الخطابات التي يُعنى بها عالِم الفيزياء — وهي موجات الضوء والصوت — لا تنفكُّ تتغير أثناء رحلاتها، كما لو كانت العنوانات على ظهورِها قد كُتِبتْ بمداد سريع الزوال، ولم تكن قد جُفِّفَت بالورق النَّشَّاف فلبث طول الرحلة على شيء من السيولة، ثم جاءه المطر فطمس الكلمات بعضها في بعض؛ إلا أن التشبيه مقبول إذا أُخذ بظاهره.

ونستطيع دون أن نلجأ إلى تغيير شيء ممَّا ورد في الفصول السابقة من تفصيلات — باستثناء الفصل الخامس والعشرين — أن نلفتَ طريق المناقشة لفتةً جديدةً، بحيث نجعل المادة بناءً قوامُه وحدات عقلية، بل إني لست على يقين من أن مثل هذا القول يجانب الصواب؛ فهو قول ينشأ دون اعتساف عن النقاش الذي أقَمْناه على الحقائق الأولية الواردة في الفصل الخامس والعشرين؛ إذ وجدنا هناك أن كافة المعطيات الأولية أحداث عقلية بأدقِّ معنًى وأضيقه لهذه الكلمة، ما دامت تلك المُعطَيات عبارة عن مدرَكات حسية. ونتيجة ذلك هي أن كل تحقيق نقوم به لنثبت صدق القوانين السَّبَبيَّة، إنما يتألَّف من تَحقُّق مدرَكات حسية متوقَّعة الحدوث، وعلى هذا فكل عملية استدلالية تجاوز حدود المدرَكات الحسية (الفعلية أو الممكنة) مستحيلة على الاختبار التجريبي. وإذن فالحِكْمة تقتضينا أن نعد الأحداث اللاعقلية في مجال الفيزياء مدرَكات مساعِدة فحسب، لا مدرَكات أساسية، فلا نزعُم أنها ذات وجود فعلي، بل مُهمَّتها قاصرة على تبسيط القوانين التي تجري المدرَكات الحسية على غِرارها؛ وبهذا كله تصبح المادة بناء قوامُه مدرَكات حسية، وتصبح الميتافيزيقا المأخوذُ بها هي في جوهرها ميتافيزيقا باركلي. على أننا إذا لم نسلِّمْ بوجود أحداث لا عقلية لأصبحت القوانين السَّبَبيَّة مليئة بالغرابة، فمثلًا قد تُخْفى آلة لتسجيل الصوتِ، فتسجل الآلة حديثًا يدور بين مُتحدِّثَين، ومع ذلك تُنكِر أن يكون هنالك حديث في الواقع ما دمتَ لا تَسمعه بأذنَيْك في حالته الأَوَّلية، ولم يكن هناك مَن يسمعه من أفراد الناس؛ فلا مندوحة لنا عن الاعتراف بوجود الحوادث اللاعقلية في الطبيعة الخارجية، وألا نقصر اعترافنا على الحوادث العقليَّة — أي المدرَكات الحسية — وحدها؛ لأن ذلك يُعينُنا على تفسير علم الفيزياء تفسيرًا لا يَحوطه إلا قليل من الريبة والشك في سلامة استدلالاتنا الاستقرائيَّة.

إن قصر المعرفة على المدرَكات الحسية وحدَها، وإنكار الأحداث اللاعقلية ما دامت لا تقع في مجال الإدراك الحسي، وجهة للنظر لها قُوَّتها من الناحية المنطقية، لكني مع ذلك لا أستطيع أن أروض نفسي على قبولها، وقد تكون الأسباب التي أقدِّمها تبريرًا لموقفي أسبابًا ضعيفة لا تَفْضُل الحجة التي احتج بها الدكتور جونسون في فعله المشهور حين سئل: كيف تفنِّد فلسفة باركلي القائلة بعدم وجود الأشياء الخارجية؟ فركل حجرًا بقدمه، وقال: أفندها هكذا. فأنا بحكم تكويني لا أجدني قادرًا على قبول فكرة تقول إن الشمس لا وجود لها ما دامت مختفيةً عن الأبصار وراء السحاب، أو أن اللحم الدفين في الفطيرة سيقفز إلى الوجود قفزًا بغير سابق وجود، في اللحظة التي تُفْتَح فيها الفطيرة ويُكْشَف عن حَشْوها. نعم إني أعلم كيف يُجاب على هذه الاعتراضات منطقيًّا، وبوصفي رجلًا من رجال المنطق أحسب أن الإجابة هنا على شيء من القوة، ومع ذلك فالحجَّة المنطقية هنا لا تدل أقلَّ دلالة على عدم وجود الأحداث اللاعقلية، بل كل ما قد تدلُّ عليه هو ألا حقَّ لنا يُسَوِّغ اليقينَ بوجود أمثال تلك الأحداث. على أنني في واقع الأمر أجدُ نفسي على اعتقاد ثابت في وجود الأحداث اللاعقلية، على الرغم من كل ما يُقال لي ليحملني على وجوب الوقوف إزاءها موقف الشاكِّ.

وهناك إضافة أضيفها فتزيدني نفورًا من وجهة النظر التي تقصر الوجود على المدرَكات الحسية وحدَها دون الأحداث اللاعقلية؛ فقد كنا نتحدث في الصفحات السالفة كما لو كان الإنكار منصبًّا على أحداث الطبيعة المادية وحدها، أما وجود الأشخاص الآخرين وإدراكاتهم الحسية فليست محلَّ إنكار، وذلك على أساس أنني إذا استحال علي استدلال ما ليس بأحداث عقلية من الأحداث العقلية لاختلافِهما في الجوهر، فلا يستحيل عليَّ أن أستدلَّ من أحداثي أنا العقلية أحداثًا عقليَّة عند الآخَرين لتشابُه الطَّرفَين، ولكني أرى أن لا مُسوِّغ لنا يُسوِّغ الأخذ بمنطق كهذا؛ فلماذا لا نَتمسَّك بمنطقنا إلى آخره، ونقول إن استدلال أي شيء كائنًا ما كان من إدراكاتنا الحسية أمر مُحال، سواء في ذلك أن يكون الشيء المُستدَل في الطبيعة اللاعقلية أو في الحياة العقلية عند الآخَرِين؟ ومؤدَّى ذلك أمر خطير، وهو ألَّا أركن في إثبات أية نظرية إلى ما قد أدرَكه الآخرون، وأن يكون سندي الوحيد هو إدراكاتي أنا؛ فلا سبيل إلى إثبات نظرية فيزيائية مثلًا إلا إذا كانت مقدِّماتي التي أستند إليها هي مدرَكاتي الذاتية لا مدرَكات أي إنسان سواي؛ لأن مُدرَكات الآخرين لا سبيل إليها إلا استدلالًا من مُدرَكاتي، وقد قلنا إن ذلك مرفوض. وهكذا تؤدِّي بنا وجهة النظر السابقة إلى انحصار الإنسان في ذاته؛ فلا شيء في الوجود إلا ذاته، ولا سبيل أمام هذه الذات المُغلَقة على نفسها أن تتصل بشيء سواها؛ فإن كان تفنيدُ هذا الرأي صعبًا، فأصعب منه قبوله. ولقد وصلني ذات يوم خطاب من فيلسوف يعتقد في انحصار الذات في نفسها، وفاتَه أن هذا الرأي يقتضي ألا يعتقد في وجود أحد سواه، ففيم إذن إرسالُه الخطاب لمن ليس له وجود؟ وهكذا ترى أنها نظرة يصعب على الإنسان الاعتقاد في صدقِها بحقٍّ حتى عند أولئك الذين يزعُمون أنهم يعتقدون في صدقها.

ولنا أن نخطو خطوةً أخرى، فنقول: إن الماضي لا يمكن تحقيقه إلا بطريق غير مباشر، وذلك عن طريق آثاره في المستقبل؛ وعلى ذلك فالحذر المنطقي الذي كنا نتحدَّث عنه لا بُدَّ أن يؤدي بنا إلى الامتناع عن إثبات أي شيء ممَّا قد حدَث في الماضي، فلا حقَّ لنا في الاعتراف بأن هنالك ماضيًا على الإطلاق، وغاية ما نستطيعه هو أن نتخذَ من أحداث الماضي فروضًا نفرضها لنستعين بها على صياغة القوانين التي تنطبق على أحداث المستقبل، لا بل إن هذا المستقبل نفسه يدخل في نطاق المستحيل؛ لأنه لم يحدث بعدُ، وأنا مُنحصِر بإدراكي فيما هو واقع الآن؛ فلا الماضي أستطيع الحكم عليه، ولا المستقبل أستطيع تحقيقَه قبل وقوعه؛ ولهذا كله لستُ أرى ما يدعوني إلى الخجَل إذا أنا قرَّرتُ وجود الأحداث اللاعقلية التي هي من القبيل الذي نستطيع استدلال وجودِه من قوانين الفيزياء. على أني أعلم رغم ذلك أن وجهات النظر الأخرى لها ما يسوِّغ الاعتقاد فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥