مكان الإنسان من الكون
سألخص في هذا الفصل ما قد انتهينا إليه من نتائج أساسية، ثم أعقب على ذلك بكلمة في علاقة الإنسان بالكون، بمقدار ما يَسعُ الفلسفة أن تُدْلي برأي في هذا الموضوع غير مُستعينة بشيء خارج نطاقها.
ولما كان الإنسان هو أداة معرفة نفسه، فلا مناصَ من دراسته من حيث هو أداة للمعرفة. وذلك قبل أن نزن قيمة ما يَرِد إلينا من العالم الخارجي عن طريق الحواس؛ لذلك بدأنا في الجزء الأول من هذا الكتاب بدراسة الإنسان داخل إطار العقائد التي يعتقدها الإدراك الفطري، درسناه كما ندرس آلات قياس الزمن أو آلات قياس الحرارة؛ أعني أننا درسناه باعتباره أداةً ذات حساسية تتأثَّر بظواهر معيَّنة في البيئة؛ إذ إنَّ حساسية الإنسان لبيئته شرط لا بُدَّ منه لتحصيل المعرفة.
وفي الجزء الثاني درسنا العالم الطبيعي فوجَدْنا أن المادة عند العلم الحديث قد فَقَدتْ صلابتها وعنصريتها؛ إذ حلَّلَها العلماء إلى مجموعات ذرية، كل مجموعة منها تنحلُّ إلى ذرات، وكل ذرة تعود بدَوْرها فتنحلُّ إلى كهارب موجبة وكهارب سالبة، ثم مضى العلماء في التحليل، فحلَّلُوا هذه الكهارب نفسَها (الإلكترونات والبروتونات) إلى إشعاعات (عند هيزنبرج) أو إلى مجموعات موجية (عند شردنجر) — والنظريَّتان من الوجهة الرياضية تنتهيان إلى شيء واحد أو تكادان. وليست هذه بالتأملات الميتافيزيقية الجامحة، بل هي عمليات رياضية رصينة تقبلها الأغلبية العظمى من الخُبراء.
وللفيزياء النظرية جانب آخر، هو نظرية النِّسْبِيَّة، وهي نظرية ذات نتائج فلسفية هامة؛ فإحلالها ﻟ «الزمان مكان»، محل الزمان والمكان قد جعل مقولة الجوهر أضيق انطباقًا مما كانت عليه من قبلُ؛ وذلك لأنَّ ماهية الجوهر هي دوام وجوده خلال الزمن كله، ولم يَعُد ثمة شيء اسمُه الزمن الذي من شأنِه أن يشمل الكون كله، ونتيجة هذا هي تحويل العالَمِ الطبيعي إلى متَّصل من الحوادث ذي أربعة أبعاد، بعد أن كان سلسلةً من حالات ذوات ثلاثة أبعاد لعالَمٍ مؤلَّف من قِطع من المادة لها صلابة وثبات. وللنسبية جانب آخَر هام، وأعني به إزالة القوة وبخاصَّة قوة الجاذبيَّة، لتحلَّ محلها قوانين سببية تحسب حساب الفوارق المتناهية في الصِّغَر، وهي قوانين لا شأنَ لها إلا بما يجاور الحادثة المُعيَّنة، ولا يعنيها الأثر المتنقل من مسافات بعيدة كما كان يفرض في الجاذبية.
وقد كان للدراسة الحديثة للذَّرَّة نتيجتان غيَّرَتا الجانب الفلسفي من الفيزياء بدرجة ملحوظة؛ فيظهر — من جهة — أن في الطبيعة تغيُّرات مفاجئة، تحدث حين تحدث قفزة مفاجئة من حالة إلى حالة أخرى بغير اجتيازِ الحالات المتوسطة بين الطرفين. ومن جهة أخرى كان مجرى الطبيعة ليس محدَّدًا تحديدًا قاطعًا بالقوانين الطبيعية كما نعرفها اليوم، على خلاف ما كان الرأي عليه من قبل؛ فليس في وُسْعنا أن نتنبَّأ متى يحدث تغيُّر مفاجئ في ذرَّة معلومة، وإن يكن في مقدورنا أن نتنبأ بذلك على أساس المتوسِّطات الإحصائية؛ فلم يَعُد من المستطاع القول بأننا إذا ما ألممنا بقوانين الطبيعة وبالوقائع ذات الصلة بما نحن بصدَد بحثه؛ كان في وسعنا أن نستدلَّ من الحالة الراهنة لإحدى الذرَّات ماذا عسى أن يكون عليه مجراها مُستقبلًا في دقَّة تامة، وربما كان ذلك العجز راجعًا إلى نقصٍ في معارفنا، ولكن قد لا يكون الأمر كذلك؛ فالعالم الطبيعي كما يراه العلم المعاصر ليس محدَّد المسار على سبيل القطع الذي لا يحيد قيد شعرة عمَّا رُسِم له، كما كان الظن خلال المائتين والخمسين عامًا الأخيرة، فالقوانين التي كان يُظن أنها تحكُم كل ذرة على حدة، قد أصبحت اليوم نتيجة إحصاءات ومتوسطات تتدخَّل فيها قوانين الصدفة إلى حدٍّ ما.
مِن عِلْمنا هذا بالعالم الطبيعي انتقلنا إلى عِلْمنا بعِلَّة إدراكنا، وإدراكنا هو الأساس الذي نبني عليه العلم بالطبيعة؛ فرأينا أن سلسلةً سببيةً طويلةً تتوسطُ دائمًا بين الحادثة الخارجية والحادثة التي تحدث داخل كياننا، والتي نقول عنها إنها هي إدراكنا للحادثة الخارجية؛ وعلى ذلك فلا يجوز لنا القول بأن الحادثة الخارجية هي بعينها الحادثة التي نراها أو نسمعها، وأقرب شيء إلى صواب هو أن نقول إن الحادثة الخارجية تشبه في تركيبها من بعض الوجوه حادثتَنا الداخلية التي هي إدراكنا.
لقد أدَّى هذا الموضوع إلى خلطٍ كثير في الفلسفة فيما مضى؛ وذلك — أولًا — لأنَّ الفلاسفة فسَّروا الإدراك بأكثر ممَّا يستحقُّ، ولأنهم — ثانيًا — لم يفهموا على وجه الدِّقة معنى المكان؛ إذ أَلِفوا أن ينظروا إلى المكان على أنه من خصائص المادَّة لا من خصائص العقل؛ ولكن هذا قول لا يصدق إلا على المكان «الطبيعي»، غير أن هنالك مكانًا آخر هو المكان «الإدراكي»، وهو ذلك الذي يقع فيه كلُّ ما نعرفه معرفة مباشرة عن طريق الحواس. وليس المكانان بشيء واحد؛ فكل مدرَكاتنا — من وجهة نظر المكان الطبيعي — تحدث داخل رءوسنا، وأما من وجهة نظر المكان الإدراكي فإدراك الإنسان لِيَده يقع خارج إدراكه لرأسه، وقد أدَّى عدم التمييز بين هذَيْن النوعين من المكان إلى خلطٍ كثير في الفلسفة.
ثم عُدنا في الجزء الثالث فاستأنفنا الحديث في الإنسان، لكننا درسناه هذه المرة كما يبدو لنفسه حين يتأمَّل نفسَه من باطن، وهو جانب لا يراه المشاهدون من خارج، وهناك انتهينا إلى نتيجة تُخالِف مذهب السلوكيين؛ إذ وجدنا أن معرفة بعض الحقائق عن الإنسان مستحيلة إلا إذا كان المشاهِد والمشاهَد شخصًا واحدًا بعينه، أعني إلا عن طريق التأمل الباطني؛ فقلنا إن المعطيات الأولية في الإدراك الحسِّي أمور خاصَّة بالشَّخص المدرِك، لا يعرفها سواه معرفةً مباشرة، وهذه المعطيات الحسِّية هي نفسها المعلوماتُ الأولية التي منها نَبْنِي علم الفيزياء وعلم النَّفْس في آنٍ واحد، وإذن فلا بد من اعتبارها عقليةً وطبيعيةً معًا، وكذلك قررنا أن ثمة أُسسًا استقرائيةً تتيح لنا أن نصِل إلى نتائج مُرجَّحَةِ الصدقِ، ولكنها لا تتيح لنا نتائج يقينيةً، وكان هذا القول تأييدًا للرأي القائل بأن إدراكاتنا متصلة بالحوادث التي لم تقع في تجارب الشخص المدرِك، والتي يجوز القول فيها بأنها حوادث في العالم الطبيعي وحده، ولا يشترك فيها الجهاز الإدراكي عند الإنسان. فهذه الحوادث الطبيعية الخارجية يجوز استدلالها بطرائق الاستقراء استنادًا إلى الحوادث التي حدَثَتْ لنا إبَّان عملية الإدراك، وهو استدلال إلا يكن يقينًا، فهو مُرجَّح ترجيحًا قد يقرِّبه من اليقين.
وفرَّقْنا بين سلوك الكائن البشري والمادَّة الجامدة بما أسميناه بالظواهر «الذاكريَّة» (نسبة إلى الذاكرة)، وأعني بها الآثار التي تُخَلِّفها فينا الحوادث الماضية، وهي آثار نراها متمثلةً في الذاكرة، وفي التعلُّم، وفي استعمال الكلمات استعمالًا مفهومًا، وفي شتَّى ضروب المعرفة، غير أن هذا لا يجيز لنا أن نقيم فاصلًا حادًّا يفصل العقل عن المادة؛ فالمادة الجامدة تُبدي — إلى حدٍّ ضئيل — سلوكًا كالسلوك المتَّصف بتلك الخصائص المذكورة. فمثلًا إذا أنت بسَطْتَ لفافةً من ورق عادت اللفافة فَطوَتْ نفسها مرة أخرى، وهو شيء أقرب ما يكون إلى الذاكرة تحتفظ بالخبرات السابقة. وكذلك ترى الأجسام الحية تُبدي من الظواهر الذاكريَّة ما تبديه «العقول» تمامًا، هذا إلى أنه لا بُدَّ من الاعتراف بأن الظواهر الذاكريَّة في الحادثات العقلية إنما ترجع إلى تغيُّرات في الجسم أحدَثَتْها الحوادث الماضية — فهذه كلها نواحٍ تقرِّب بين المادة والعقل تقريبًا يُبيح لنا أن نزيل ذلك الفاصل الحادَّ الذي كان يفصل بينهما.
ثم انظر إلى الموضوع من جهة أخرى؛ تجد عِلْمنا بالعالم الخارجي علمًا مجردًا خالصًا؛ فنحن نعلم عن مادَّة الطبيعة وظواهرها تركيبات منطقيةً معيَّنةً، أما خصائصها الذاتية فلا سبيل إلى معرفتها، وليس في علم الفيزياء ما يُبرهِن على أن الخصائص الذاتية للعالَم الطبيعي تختلف عن خصائص العالَم العقلي. وهكذا ترى أنك من أي طرف نظرتَ إلى الأمر — سواء أنظَرْت إليه من ناحية الطبيعة وتحليلها، أم نظرت إليه من ناحية العقل وتحليله — ستجد أن الحادثات الطبيعية والعقلية تتصل كلها في وحدة سببية واحدة، ولا ينهض برهان واحد على أن تلك الحادثات من نوعَيْن مختلفين، فلئن كنا اليوم أدقَّ علمًا بقوانين العالم الطبيعي منا بقوانين العالم العقلي؛ فقد يتغير الموقف، فنحن اليوم نعرف عن عالمنا العقلي بعض خصائصه الذاتية؛ لأننا نواجهه مواجهةً مباشرةً، ولكننا لا نعرف على سبيل القطع شيئًا عن الخصائص الذاتية للعالم الطبيعي، ولا أظن أننا قادرون يومًا على أن نعرف عن الطبيعة سوى القوانين المجرَّدة للمادة وظواهرها.
ولو كان ما قلناه صوابًا، لكانت المعرفة الفلسفية قريبة الشبه جدًّا بالمعرفة العلمية؛ إذ هما لا تختلفان في الجوهر؛ فليس أمام الفلسفة معين خاصٌّ تغترف منه الحكمة ممَّا يُحال دون العلم أن يَغترف منه، وليست النتائج التي تنتهي إليها الفلسفة بالمختلفة من حيث الأساس عن النتائج التي يصل إليها العلم، ونقطة الاختلاف بينهما هي أن الفلسفة أكثر من العلم نقدًا وأعلى منه في درجات التعميم. وحين أقول إن الفلسفة أكثر من العلم نقدًا، فلست أعني أنها تحاول نقد المعرفة من خارج؛ لأن ذلك محالٌ، وإنما قصدتُ أنها تفحص معرفتنا المزعومة من مختلف نواحيها؛ لترى إن كانت تَتَّسق بعضها مع بعض، وإن كانت الاستدلالات فيها قد رُوعي فيها المنطق السليم؛ فالنقد المرغوب فيه ليس هو النقد الذي يُصمَّم — بغير مُسوِّغ معقول — أن يقف موقفَ الرافض الهادم وكفى، بل هو النقد الذي يتناول كلَّ جزء من أجزاء ما نظنه معرفة عندنا؛ ليختبره على حِدَة، حتى لا يبقى من المعرفة المقبولة إلا ما يتبيَّن بعد التحليل الفاحص أنه مقبولٌ، وبديهي أن يظل احتمال وقوعنا في الخطأ قائمًا؛ لأننا بشر غير معصوم، فللفلسفة أن تدَّعي لنفسها حقًّا أنها تحاول أن تحصر إمكان التعرُّض للخطأ في أضيق دائرة ممكنة، بل ربما ضيَّقت دائرة الخطأ المُحتمَل إلى حدٍّ يمكن التجاوز عنه، وليس في مقدور البشر أن يبلغ درجة أعلى من هذه الدرجة في الكمال، ما دام العالم الذي نعيش فيه يُحتِّم علينا الوقوع في الخطأ. وما أظنُّ مدافعًا عن الفلسفة يتسم بالحكمة يزعم لها أكثر من هذا.
وأحب أختم بكلمة موجزة عن مكان الإنسان في الكون؛ فقد جرى العُرف أن يُطلَب من الفيلسوف أن يُبَيِّن أن العالَم خيِّر من بعض وجوهه، أما أنا فأرفض أي تكليف من هذا القبيل؛ لأن ذلك يشبه أن تطلب من المحاسب أن يَخرُج من حساباته بكشف رابح، فإن كان العالم خيِّرًا وجب أن يكون خيره مشهودًا لنا بكافة الوسائل الممكنة، وأما إن وجدناه خِلوًا من الخير، فلا مناص من أن نعرف ذلك عنه، وعلى كل حال فمسألة خير العالم أو شَرِّه مسألة يبتُّ فيها العلم لا الفلسفة؛ فهو عالم خيِّر في أعيننا إن كانت له الخصائص التي ترضينا. ولقد زعمت الفلسفة فيما مضى أنها قادرة على أن تُبَيِّن أن للعالم مثل هذه الخصائص المُرْضيَة، لكنها بيَّنت ببراهين ثبت بطلانها، ولسنا نعني بذلك أن العالم خِلوٌ من هذه الخصائص، بل نريد أن نقول إن الفلسفة ليست هي التي تقرِّر في الموضوع أمرًا. خذ مثلًا لذلك مسألة الخلود لأفراد الإنسان؛ فربما اعتقدت فيه على أساس ديني، فتكون عقيدتك عندئذٍ خارجة عن نطاق الفلسفة؛ لأنها عقيدة مستندة إلى ما جاء به الوحي، أو قد تعتقد فيه على أساسِ ما قد كشف عنه البحث في العلم الطبيعي، وعندئذٍ تكون العقيدة مستندة إلى العلم لا إلى الفلسفة، وقد كان يجوز للإنسان فيما مضى أن يعتقد فيه على أساس فلسفي، حين كان يُقال إن الروح عنصر بسيط غير مركَّب، والعنصر لا يفنى ولا سبيل إلى فنائه أو تَحلُّلِه؛ هذا برهان تصادِفُه عند فلاسفة كثيرين، تراه ظاهرًا حينًا ومتخفيًا حينًا، لكن فكرة العنصر أو الجوهر الذي يظل ثابتًا ودائمًا ثم تطرأ عليه حالات من التغير تجيء وتذهب، لم تَعُد تَتَّسِق اليوم مع ما يقوله العلم؛ إذ العلم اليوم يقول بذرَّات مؤلَّفة من إلكترونات وبروتونات متحرِّكة مُتغيِّرة، ولا يقول بعناصر ثابتة دائمة، نعم قد يحدث أن خيطًا من الحادثات النارية ترتبط أجزاؤه بعضها ببعض ارتباطًا سببيًّا، بحيث يفيدنا أن نجعل منه حقيقةً واحدةً، ولكن إن حدث هذا فالحقيقة الواحدة في هذه الحالة تكون واحدة بمفهوم العلم الطبيعي، لا بالمفهوم الفلسفي للجوهر. فلم تَعُد الوحدة الدائمة ضرورة لا مناص من افتراضها، ومعنى ذلك أن مسألة الخلود قد خرجت من نطاق الفلسفة، وأصبح أمرُها موكولًا إما إلى العلم أو إلى الدِّين الموحى به.
وأنتقل الآن إلى موضوع آخر سيُخيِّب عند القراء رجاءَهم حين أُطالعهم برأيي فيه؛ فقد يُظَنُّ أحيانًا أن واجب الفلسفة هو أن تُشجِّع الحياة الخيِّرَة، وأنا وإن كنت أوافق على وجوب أن يكون لها هذا الأثر، إلا أنني لا أوافق على أن من واجبها أن تتخذ هذا هدفًا لها تقصد إلى تحقيقه وهي شاعرة بما تقصد إليه؛ فأولًا: لا يجوز لنا الزعم عند بداية البحث الفلسفي بأننا نعلم ما هي الحياة الخيِّرة؛ إذ ربما عدَّلَت الفلسفة من فكرتنا عن معنى الخير، وعندئذٍ قد تبدو لغير الفيلسوف أنها سيئة الأثر في الأخلاق، ومهما يكن من أمر؛ فالفلسفة محاوَلة بين سائر المَحاوَلات التي ننشد بها تحصيل المعرفة الصحيحة، وإنا لنسدُّ أمامنا طريق المعرفة الصحيحة إذا أصررنا على أن تجيء النتائج متَّفقة مع الرأي الذي بدأنا به شوط البحث والنظر؛ فالغاية التي يجب على الفلسفة أن تضعَها نُصب عينيها، وأن تحاول بلوغها عن وعي وعن عمد، هي أن «تَفْهَم» العالم ما أمكنَها إلى الفهم من سبيل، لا أن تُؤيِّد هذه القضية أو تلك؛ لأنها قضية مرغوب في قبولها من الوجهة الخُلقية كما هي شائعة بين عامة الناس. وعلى الذين يتصدَّون للدراسة الفلسفية أن يستعدُّوا للشك في كل آرائهم السابقة، علمية كانت تلك الآراء أو خلقية، وأما إن كانوا على عزم وتصميم بألَّا يَتخلَّوا عن عقائد فلسفية معيَّنة؛ حرصًا عليها، فليس لهم الإطار العقلي الذي يمكنهم من دراسة الفلسفة.
لكنه على الرغم من أن الفلسفة لا تلتزم أن تجعل من واجبها استهداف أغراض خلقية، إلا أنها بطبيعة الحال تحقِّق الخير من بعض وجوهه؛ فهي دراسة غير متحيِّزة تعلمنا أننا قادرون وعاجزون، وتُبيِّن لنا إلى أي حدٍّ تمتدُّ قدراتنا، وأين تكون مواضع عجزنا، وذلك في ذاته خير. وكذلك لدراسة الفلسفة، أو للتفكير الفلسفي على الأصح، فضل لا نجنيه من صنوف التفكير الأخرى؛ ذلك أنه تفكير يعلو في درجات التعميم، وفي مثل هذا التعميم نستطيع النظر إلى العواطف الإنسانية في نسبتِها الصحيحة إلى سائر النواحي، فترى كم يعبث الناس عبثًا صبيانيًّا في كثير جدًّا من مشكلاتهم التي تنشأ بين الأفراد أو الطوائف أو الأمم؛ فمن شأن الفلسفة أن تدنو بالإنسان بقدر المستطاع من التفكير المُحايِد الفسيح الآفاق، الذي ينظر إلى الكون كلِّه نظرة تحاول توحيدَه؛ فيرتفع الإنسان عندئذٍ مؤقتًا فوق مستوى الحظوظ الشخصية والأقدار الفردية. وفي هذه النظرة العليا تصوُّف عقلي يزيد من خصوبة الحياة، فمن التصوف العقلي أن نشغل أنفسنا بطلب المعرفة انشغالًا يَصرفنا عن رغباتنا الأخرى؛ فإذا كنت تفكر تفكيرًا فلسفيًّا، ثم شعرت بميل نحو أن تقيم البرهان على أن العالم خَير أو على أن مذهبًا فكريًّا معيَّنًا هو الصواب، فاعلم عندئذٍ أن الرغبة قد تملكَتْك وأنك قد ضعفتَ أمام شهوات الجسد؛ لأن كل ميل فيه إغراءٌ، والإغراء شهوة، والشهوة جسدية. على أن المتصوف العقلي إن ضحَّى بلذائذ الرغبات التي تميل به هنا وهناك، فسَيَلْقى مقابل ذلك لذَّة أكبر حين يكشف عن الحق لذاتِه ويذوب بشخصه فيه.
والعالم الذي تقدمه لنا فلسفة قائمة على نتائج العلم الحديث، هو في كثير من نواحيه أقرب إلى نفوسنا من العالم المادي الذي كانوا يتصوَّرونه في القرون الماضية؛ وذلك لأن الأحداث التي نقول الآن إنها قوام العقل، إنْ هي إلا جزء من مجرى الطبيعة، ولسنا ندري على وجه اليقين إن كانت الأحداث التي تحدث في غير عقولنا مختلفة عن الحادثات العقلية كل الاختلاف أم هي شبيهة بها، أضف إلى ذلك أن العالم كما يصوِّره العلم الحديث ليس في سيره مجبرًا بالقوانين السببيَّة بنفس الدرجة التي كان يُظن من قبل أنه مُسيَّر بها، فنستطيع اليوم — إلى حدٍّ ما — أن نصف الذَّرَّة الصغيرة بحرِّية الإرادة، فما بالك بالإنسان؟ ولم تَعُد بنا حاجة تدفعنا دفعًا إلى تصوُّر أنفسنا في صورة الضئيل العاجز تحرِّكه القوى الكونية العظمى كيفما شاءت؛ فكل مقياس لا يزيد على كونه شيئًا تواضَع الناس عليه، فلنا — إذن — أن نبتكر طريقة للقياس نافعة، بحيث نجعل الإنسان أعظم من الشمس مثلًا. نعم إن لقدرات الإنسان حدودًا تَحدها، ومن الخير لنا أن نعلم ذلك عن أنفسنا حتى لا يأخذَنا الغرور، ولكن ليس في وسعنا أن نقول أين تقع تلك الحدود إلا بصورة مُجرَّدة، كأن نقول — مثلًا — إن الإنسان عاجزٌ عن خَلْق الطاقة، على أنه من وجهة نظر الإنسان، ليس المهم أن يكون «خلق» الطاقة في مستطاعه؛ بل المهم أن يَعرف كيف يُوجِّه الطاقة على النحو الذي يريد، وهو أمر في وسعنا وتزداد قدرتنا على أدائه كلما ازدَدْنا علمًا. لقد كان لقُوى الطبيعة سيطرة على الإنسان بادئ الأمر أيَّ سيطرة، فملأته فزعًا ورعبًا بزلازلها وفيضانات أنهارها، وبما رَزأَتْه به من أوبئة ومجاعات، لكن ها هو ذا بفضل العلم قد تغلب على كثير من هذه الكوارث، وأصبح — في رأيي — قادرًا اليوم على مواجَهة الكون في شيء من احترام النفس، إن العالم كما يراه العلم لا هو بالصديق ولا هو بالعدو، ويستطيع الإنسان أن يجعل منه صديقًا لو عالَجه معالَجة العالِم الصابر.
إنه إذا كان المستقبل مُنذرًا بالخطر على الإنسان، فإنه خطر لا يصدر عن الطبيعة بل ينشأ عن الإنسان نفسه: هل يستخدم قوة علمه استخدامًا حكيمًا؟ أم هل يستخدم القوة التي ظفر بها من عِراكه مع الطبيعة طوال العصور، في معركة جديدة يشنُّها على إخوانه من بني الإنسان؟ إن التاريخ والعلم والفلسفة جميعًا تروي لنا ماذا استطاع الإنسان أداءَه وهو متعاوِن مع أخيه الإنسان، ومن الخير أن يعلم كلُّ إنسان في العالم ماذا أنتجَتْه الإنسانية متعاونةً؛ ليعرف ماذا يكون في مستطاعها أن تؤديه في المستقبل لو مَضَت في تعاوُنها وتخلَّقَتْ بالتسامُح الذي يرفعها عن المشكلات الصغيرة التي تَضيع فيها عواطف الأفراد والأمم هباءً.
ومن واجب الفلسفة أن تبيِّن لنا أغراض الحياة، وأن تُمَيِّز لنا من بين مقوِّمات الحياة ما له قيمة في ذاته، فمهما تبلغ القيود التي تقيِّد حرياتنا في هذا العالَم الذي ينخرط في شبكة من الأسباب والمسبَّبات، فهنالك عالَم آخر، هو عالَم القِيَم ننطلق فيه أحرارًا كيف شئنا، فما نَعدُّه خيرًا، نظل نَعدُّه كذلك رغم العالَم السببي كله، لا يُملي علينا سلطان خارجي شيئًا، والحُكْم لشعورنا وحده، إنه إن كانت الفلسفة عاجزةً بنفسها أن تُحدِّد لنا أغراض الحياة، فهي على الأقل تستطيع تحريرنا من طغيان التعصُّب الناشئ عن ضيق الأفق، ولو أعانَتْنا الفلسفة على الشعور بقِيَم الحبِّ والجمال والمعرفة والنشوة بالحياة؛ لكفاها ذاك هاديًا للناس، يضيء لهم الطريق في عالَم مُظلِم.