عملية التعلُّم عند الحيوان والأطفال الرُّضَّع
نريد الآن أن نبحث العمليات التي بوساطتها، والقوانين التي بمقتضاها تَتغيَّر الاستجابات الطبيعية عند الحيوان إلى مجموعة من عادات تختلف عن تلك الاستجابات أشدَّ اختلاف؛ وذلك نتيجة للحوادث التي تقع للحيوان؛ فالكلب يتعلم أن يَتْبَع سَيِّده دون سائر الناس، والحصان يَتعلَّم أين يكون موضعه في حظيرة الخيل، والبقرة تتعلم الحضور إلى حظيرتها ساعة حَلْبِها، كل هذه عادات مُكتسَبة، وليست هي بالأفعال المنعكسة المباشرة، وهي عادات تعتمد على الظروف التي مرَّت بالحيوان الذي اعتادها، لا على الخصائص الموروثة التي يَتميَّز بها النوع كله، فنحن إذ نقول عن حيوان إنه «تعلم» شيئًا، قَصَدْنا بذلك كل عاداته التي اكتسبها، سواء كانت تلك العادات نافعة أو غير نافعة، فالمراد بتعلُّم الحيوان هو ما قد أصاب سلوكه من تعديل نتيجة للتجربة التي مر بها.
وبَحْثنا في هذا الفصل مُتعلِّق بعلم النَّفْس السلوكي، وهو كذلك مُتعلِّق بعلم وظائف الأعضاء إلى حدٍّ ما، ولكنه بحث له أهميته الجوهرية إذا أردنا فهم الفلسفة فهمًا صحيحًا؛ لأنه ضروري في دراستنا للمعرفة والاستدلال دراسة موضوعية. وإنما أريد بالدراسة الموضوعية تلك التي لا يلزم أن يكون فيها الملاحِظ والملاحَظ شخصًا بعينه؛ لأنه إذا تحتم أن يكون الاثنان جانبين من شخص واحد، كانت الدراسة عندئذٍ «ذاتية» وهي دراسة سننصرف إليها بالبحث في فصل مُقبل، أما الآن فعنايتنا منصبَّة على ما هو ضروري لِفَهم «المعرفة» من حيث هي ظاهرة موضوعية.
- أولًا: قانون الأثر The Law of Effect: ومؤدَّاه أنه من بين الاستجابات التي يُجاب بها على موقف بعينه، ترى الاستجابة التي يلازمها أو يلحق بها إشباع الحيوان لإرادته — إذا تساوت ظروفها الأخرى مع ظروف سائر الاستجابات — تراها تتوثق صلةً بالموقف، بحيث إذا تَكرَّر الموقف كان المرجَّح أن تتكرر الاستجابة له على النحو السابق، أما الاستجابات التي يلازمها أو يلحق بها ما تنفر منه إرادة الحيوان — إذا فرضنا تساوي الظروف الأخرى — فإن صِلاتها بذلك الموقف تَضعُف بحيث إذا تكرَّر الموقف قلَّ الاحتمال بأن تلك الاستجابات ستتكرر. فكلَّما زاد الرضا أو النفور؛ زادت بالتالي قوة الصلة أو ضعفها بين الموقف المعين والاستجابة له.
- وثانيًا: قانون المران The Law of Exercise: ومُؤدَّاه أن الصلة بين الموقف والاستجابة له تزداد توثقًا كلما زاد عدد المرات التي ارتبطا فيها.
ولنا أن نُلخِّص هذين القانونين على وجه التقريب، فنقول: أولًا: إن الحيوان يميل إلى تكرار ما قد أحدث له لَذَّة، وثانيًا: يميل الحيوان إلى تكرار ما قد سبق أنْ فعله، غير أن ثَمَّة اعتراضات تُبيِّن أن هذين القانونين لا يكفيان لتفسير عمليات التعلم عند الحيوان بشتى صنوفها.
فثورندايك في قانونه الأول يتحدَّث عن الرضا والسخط، وهما كلمتان تنتميان إلى علم النفس الذاتي لا الموضوعي؛ إذ ليس في وسع الملاحِظ أن يرى في ظاهر الحيوان «شعورًا» بالرضا أو «شعورًا» بالسخط، وكل ما يلاحظه هو أن الحيوان يتصرَّف على نحو سلوكي مُعَيَّنٍ جرى العرف بيننا أن نتخذه علامة دالَّة على أمثال هذه المشاعر الداخلية، على أن هذا اعتراض ضعيف على كل حال.
ويجيء الدكتور واتْسُن فيرى أن مبدأ واحدًا كافٍ لتفسير التَّعلُّم في كل حالاتِه عند الحيوان والإنسان على السواء، وهو مبدأ «الاستجابات المحفوظة»، أو الأفعال المنعكسة المشروطة، ومؤداه:
«إذا تعرَّض حيوان أو إنسان بجسمه تعرضًا كافيًا لمُنبِّهَين متلازمين تقريبًا، فإن أحدهما بعد ذلك يكفي لاستدعاء الفعل الذي كان المُنبِّه الآخر وحده يستدعيه من قبل.»
ورغم أني لا أوافق الدكتور واتْسُن على رأيه بأن هذا المبدأ وحدَه كافٍ لتفسير التعلم بجميع حالاته، فإني أعتقد أنه مبدأ غاية في الأهمية، وأن هذا المبدأ لَهُو الصورة الحديثة لمبدأ «التداعي»؛ فقد كان «تداعي الأفكار» مبدأ خطيرًا في الفلسفة — والفلسفة الإنجليزية بخاصَّة — ولكنه اليوم فيما يبدو قد أصبح فرعًا عن مبدأ أشمل منه وآصل، ألا وهو مبدأ «تداعي العمليات الجسدية». فبعد أن كان الترابُط مقصورًا على الأفكار وحدها، بحيث يُقالُ عن فكرة إنها تستجلب فكرةً أخرى في الذِّهْن، أصبح الترابط أعمَّ مجالًا، بحيث يقال إن كل حركة بدنية تستدعي وراءها حركةً بدنيةً أخرى، وفي هذا الترابط يكون التعلم بناءً على وجهة النظر الحديثة التي أسلَفْنا ذكرها، وهاك ما يؤيد هذه النظرة من أدلة وما يُوجَّه إليها من اعتراض:
يشمل هذا المبدأ الجديد ميدانًا أوسع بكثير مما يشمله المبدأ القديم؛ لأنه — أي المبدأ الجديد — قائم على أساس أن الذي يترابط ويدعو بعضه بعضًا في التَّعلُّم هو حركات بدنِيَّة لا «أفكار»؛ ذلك لأن وجود «أفكار» بالنسبة إلى الحيوان أمر إذا زعمناه فعلى أساس تخميني بحت، فضلًا عن أن ردَّنا الأمر إلى «أفكار» يحجبه عن رؤية المشاهدين، وأما إذا ردَدْنا التعلم إلى حركات بدنية سلوكية، جعلناها خاضعةً للمشاهَدة، وحتى في حالة الإنسان فهنالك حركات كثيرة تصدر عن غير إرادة أو شعور، وإذن فهي لا تُفسَّر بأفكار تسبقها. أما إذا أخذنا بمبدأ التداعي الحركي، وجدنا أمثال هذه الحركات اللاإرادية واللاشعورية — سواء عند الإنسان أو عند الحيوان — خاضعةً للمبدأ نفسِه الذي تخضع له الأفكار التي تجيء عن وعي كامل. خُذْ هذا المثال الذي ضربه «واتْسُن»: يَتَّسِع إنسانُ العين في الظلام ويضيق في وهج الضوء. والاتساع والضِّيق عَمَلان لا إراديان ولا شعوريان، لا ندرك حدوثهما في أنفسنا، بل ندركه من مُلاحَظة الآخَرِين. خُذْ شخصًا معيَّنًا وعَرِّضْه مِرارًا للضوء المتوهِّج، ودُقَّ له جرسًا في الوقت نفسه، تر إنسانَ عينه بعد حين يضيق إذا دُقَّ له الجرس وحده بغير أن يصاحبه وهج الضوء، ودَقِّق النظر في الحركات العضلية تجِدْها تتمُّ على هذا النحو عينه، وهكذا تفعل الغدد، فضَعْ أنبوبةً في فم كلب بحيث يسيل اللعاب بكمية يمكن قياسُها، فإذا قَدَّمتَ إلى الكلب طعامًا؛ كان من شأن ذلك أن يُسِيل اللعاب، فقدِّم له الطعام مع لَمْسِك لفخذه اليسرى في كل مرة تُقَدِّم له فيها الطعام، وكَرِّر هذه العملية عِدَّة مرات؛ تجد أن لمسة الفخذ اليسرى وَحْدَها كافية لاستثارة اللعاب بغيرِ طعام، بنفس المقدار الذي يسيل به اللعاب في حالة تقديم الطعام، وقل مثل هذا في العواطف التي تعتمدُ على الغدد الصماء. فالأطفال عند مولدهم يخافون لسماع الأصوات العالية، ولكنَّهم لا يخافون الحيوان، وقد أجرى «واتْسُن» تجربة على طفل عمره أحد عشر شهرًا كان يلهو بفأر أبيض، ودَبَّر مرتين أن تُرفَع أصوات عالية خلف الطفل عندما يلمس الفأر، فكان ذاك كافيًا لأن يثير الخوف من الفأر عند الطفل فيما بعدُ، وتُبَيِّن الأمثلة السابقة أن «الأفكار» ليستْ هي الوحدات الهامة التي تترابط بالتداعي؛ إذ أثبتت التجارب أن الغُدد والعضلات في الحيوانات العليا تخضع لقانون انتقال الاستجابة من المُنبِّه الأصلي إلى المُنَبِّه الذي يلازمه؛ أي إنه إذا تَلازَم مُنبِّهان لفترة من الزمن؛ كان من شأنِ واحدٍ منهما في نهايةِ الأمر أن يستثيرَ الاستجابة التي كانت طبيعتُها أن تستثار بالمُنبِّه الآخر، وهذا القانون أساس هام لتكوين العادات، وهو أيضًا هامٌّ وجوهري في فهمنا للغة؛ فإن الطفل حين يرى الكلب — مثلًا — مقرونًا بكلمة «كلب»، ارتبط هذان العاملان — الحيوان والكلمة — ارتباطًا يجعل منظر الكلب كافيًا لاستدعاء الكلمة، كما يجعل كلمة «كلب» — بغير وجود الحيوان — كافية لاستثارة بعض الاستجابات السلوكية التي من شأنها أن تُحْدِثَ ردًّا على وجود الحيوان نفسه.
هكذا تكون العادة أساسًا هامًّا في تَعَلُّم اللغة وغيرها، ويُضاف إلى العادة عامِل آخر، وهو الذي ذكره ثورندايك في «قانون الأثر» الذي أسلفناه؛ فالحيوان يميل إلى تكرار الأعمال التي كانت قد أَعقبتْ له نتائج سارَّة، وإلى اجتناب الأعمال التي كانت قد أَعقبتْ نتائج مُؤلمةً، لكننا ذكرنا منذ قليل أن «السارَّ» و«المؤلِم»، كلمتان دالَّتان على ما ليس يمكن تحقيقه بالمُشاهَدة الخارجية، فكل ما نلاحظه هو أن الحيوان يبحث عن مواقف كانت لها نتائج مُعيَّنة، ويجتنب مواقف كانت لها نتائج مُعيَّنة أيضًا، دون أن نمزج هذه النتائج بما يدل على وَقْعها في الداخل من سرورٍ وألَم، وبعبارة أعمَّ وأشمل، نقول: إن الحيوان يبحث عن النتائج التي من شأنها أن تعمل على بقائه وبقاء نوعه، ويجتنب النتائج التي تؤدِّي إلى نقيض ذلك، ولو أنَّ هذه القاعدة لا تخلو من الشواذِّ، فالفَراشة تقصد إلى اللَّهَب، والإنسانُ يُقْبِل على الخمر، واللَّهَب يفتك بالفَراشة، والخمرُ يضرُّ الإنسان، مما لا يتفق مع حرص الكائن الحي على البقاء، ومع ذلك فالقاعدة العامة هي أن الحيوان يُوائِم بطبيعته بين نفسه وبيئته مواءمةً تجعله يسلكُ على النحو الذي ينفع في الاحتفاظ ببقائه.
هذا هو «قانون الأثر» الذي أخذ به ثورندايك، ثم جاء الدكتور واتْسُن فقال إنه قانون لا ضرورة له في تفسير السلوك الحيواني، واستبدل به قانون «الأفعال المنعكسة المشروطة»، أو «الاستجابات المكتسَبة بالتعلم».
ونحن مع اعترافنا بأهمية قانون الأفعال المنعكسة المشروطة، وبأنه يفسِّر ظواهرَ كثيرةً جدًّا من سلوك الحيوان، إلا أننا نخشى أن يُبالَغ في أهميته، على نحو ما بالغ علماء القرن الثامن عشر في أهمية قانون الجاذبية، وأرادوا أن يُفَسِّروا به كل شيء. فإذا أراد أحد أن يُوسِّع من تطبيق قانون الأفعال المنعكسة المشروطة بحيث يشمل السلوك كله، واجهناه باعتراضين؛ فمن جهةٍ هنالك حالات سلوكية لا تنشأ فيها العادة، مع أنه كان ينبغي لها أن تنشأ حَسب القانون. ومن جهةٍ أخرى ترى بعض العادات تتكوَّن بطريقة أخرى غير طريق الأفعال المنعكسة المشروطة.
فكلمة «فلفل» لا تدعو الناس إلى العطس، مع أنه كان المنتظر بِناءً على القانون أن تنوب الكلمة عن الشيء نفسه في استثارة الإجابة عينها. ومن جهة أخرى ترى أفعالنا التي نحل بها مشكلاتنا لا تجيء نتيجة حركات عشوائية تنتهي مُصادفةً إلى النجاح، بل هي أفعال تصدر عن «بصيرة» تنطوي على حل «عقلي» للمشكلة التي نحن بصدَدها، ثم يكون هذا الحلُّ العقلي هو الخطوةَ الأولى التي تأتي بعدها خطوة التنفيذ العملي.