الفصل الرابع

اللغة

لم يُدْرَس موضوع اللغة في الفلسفة التقليدية بالعناية التي هو جدير بها؛ فقد سلموا جدلًا أن ألفاظ اللغة تعبر عن «أفكار»، وأن «الأفكار» تقابلُها «أشياء» هي التي «تعنيها» تلك الألفاظ، وكان الظن هو أن اللغة تمكِّننا من الاتصال المباشر بما تعنيه كلماتها، وأنه لا حاجة بنا إلى تحليل الصفتين اللتين تُمَيِّزانِ الألفاظ، ألا وهما؛ «التعبير» عن أفكار، وكونها «تعني» أشياء. وكان الفلاسفة في أغلب الأحيان، كُلَّما قصدوا إلى البحث في الأشياء التي تعنيها ألفاظ اللغة، اقتصروا في الحقيقة على البحث في الألفاظ وَحْدَها، ثم أخطئوا حين بحثوا في الألفاظ؛ إذ فرضوا أن اللفظة الواحدة حقيقة واحدة، مع أنها في الواقع مجموعةُ أحداث متشابهة؛ أي إن الكلمة الواحدة حين تُكتَب أو حين تُنْطَق، فإنما تُكْتَب مرات كثيرة أو تُنطَق مرات كثيرة، وهي في كل مرة مختلفة قليلًا عنها في المرة الأخرى، هذا إلى أنها وهي مكتوبة أو وهي منطوقة بمثابة حدث طبيعي كسائر أحداث الطبيعة، والذي يجعل المجموعة الكبيرة من الحالات التي تُكْتَبُ فيها الكلمة أو تُنْطَقُ، الذي يجعل هذه المجموعة الكبيرة معدودة كأنما هي كلمة واحدة، هو أنَّ أفراد تلك المجموعة متشابهة. وفي رأيي أن «المعنى» لا يمكن فهمُه إلا إذا نظرنا إلى اللغة على أنها عادات جسدية نتعلمها كما نتعلم لَعِبَ الكرة أو رُكوب الدرَّاجة سواء بسواء. فينبغي أن ندرس اللغة على هذا الوجه وحده — كما فعل الدكتور واتْسُن — ونظرية اللغة عندي هي من أقوى الأدلة على صحة المذهب السلوكي.

إن للإنسان ميزات يتفوق بها على الحيوان، كاستحداثه للنار واستخدامه للثياب وللزراعة واستعماله العُدَد، ولكنَّ مَيزة اللغة عند الإنسان هي أهمُّ من ذلك كله، ولسنا ندري متى أو كيف نشأت اللغة، ولا لماذا لا يتكلَّم الشمبانزي. وما أحسب في مستطاعنا أن نعلم على وجه اليقين أيهما أسبق في استخدامنا للغة، أهي الكتابة أو الكلام؛ فقد يكون المقصود من الصور المحفورة في كهوف الكرومانيون١ أن تكون دالَّة على معنًى فتكون بذلك صورة من صور الكتابة. فنحن نعلم أن الكتابة تطوَّرت من التصوير؛ لأن مثل هذا التطور قد حدث فعلًا في العصور التاريخية المُدوَّنة أخبارها، لكننا لا ندري إلى أيِّ حدٍّ اسْتُخْدِمَت الصور فيها قبل التاريخ لتكون وسيلة لنَقْلِ المعلومات أو التعليمات. أما اللغة المنطوقة فتختلف عن صيحات الحيوان في كونها ليست مُجَرَّد تعبير عن انفعال؛ ذلك أن للحيوان صيحاتِ الخوف وصيحاتِ النشوة لوجود الطعام وهلم جرًّا، وتراه يستخدم هذه الصيحات؛ لكي يؤثِّر بعضه في سلوك بعضه، لكنه فيما يبدو لا يملك وسيلة للتعبير عن أي شيء آخر فيما عدا انفعالاته تلك، فليس لدينا أي دليل على قدرة الحيوان على رواية شيء حدث له في الماضي، وغير ذلك مما يتميز به الإنسان في استخدامه للغة. فيجوز لنا — إذن — أن نزعم مُطمئِنِّينَ بأنَّ اللغة هي من خصائص الإنسان وحده، بل لعلها العادة الوحيدة الأساسية التي تجعل الإنسان كائنًا أعلى منزلة من الحيوان «الأبكم».

ودراسة اللغة تقتضينا البحث في موضوعات ثلاثة؛ الأول: ما هي الألفاظ من حيث هي أحداث جسدية؟ والثاني: ما هي الظروف التي تؤدِّي بنا إلى استعمال لفظة مُعيَّنة؟ والثالث: ما هي الآثار التي تترتب على سماعنا لكلمة منطوقة أو رؤيتنا لكلمة مكتوبة؟

ألفاظ اللغة أربعة أنواع: منطوقة ومسموعة ومكتوبة ومقروءة، وليس من شك في أن العُرْف وحدَه هو الذي يقصرنا على ألفاظ اللغة في هذه الصور الأربع؛ لأن هنالك إلى جانبها صورًا أخرى كلغة الأصم الأبكم، وهزة الكتف عند الفرنسي كلمة، بل إن كل حركة جسدية نشاهدها من الخارج قد تصير كلمة لو اصطلح العرف الاجتماعي على ذلك، غير أن العرف الذي جعل الأفضلية للكلام بصوره المعروفة هو عرفٌ قائم على أساس سليم؛ لأننا لا نجد وسيلة أخرى يمكننا بها أن نؤدِّي عددًا من الحركات الجسدية المختلفة التي يمكن إدراكها بالحواس، وأن نؤديها بهذه السرعة وبهذا الجهد العَضلي الضئيل كما هي الحال في استخدام اللسان أداة للكلام. ولك أن تتخيَّل خطيبًا يخطب جمهوره بلغة الأصم الأبكم، ثم انظر إلى مقدار الجهد العضلي الذي يقتضيه إلقاء الخطاب بكلمات من قبيل هزِّ الكتف وما إليه. فما دامت هذه الصنوف الأخرى غير ذات أهمية، فسأقصر نفسي على اللغة في صورها المعهودة كلامًا منطوقًا ومسموعًا أو كتابة مرقومة ومقروءة.

أما الكلمة المنطوقة فتتألف من سلسلة من الحركات تحدث في الحنجرة والفم بالاشتراك مع حركة التنفس، فإذا ما تكررت مجموعة بعينها من هذه الحركات قلنا إنها لفظة بعينها.

إننا لا نتردَّد في التسليم بالعلاقة بين الكلمة المنطوقة والكلمة المسموعة، حتى ليظن سامع الكلمة المعينة أنه قد سمع نفس الذي نطَقَه المتكلم، لكنه في ظنه واهم؛ لأن الأمر أعقد من ذلك بكثير، فهنالك عملية طبيعية بحتة، وهي موجات الصوت المنبعثة من فم المتكلم مُنتقِلةً إلى أذن السامع، ثم هنالك عملية فسيولوجية تتمُّ في أذن السامع وفي أعصابه، ثم هنالك حادثات تحدث في المخ، وهي كلها عمليات مختلفة إحداها عن الأخرى أتمَّ اختلاف، لكن المنطوق والمسموع قد تلازَما تلازُمًا جعل الإنسان من عامَّة الناس يظن أن الكلمة المنطوقة هي نفسها الكلمة المسموعة، مع أنَّهما في الحقيقة حدثان تفصلهما هُوَّة فسيحة.

على أنه لكي تؤدِّي اللغة مهمتها المقصودة منها، فليس ثمة ما يستوجب أن تكون الكلمة المنطوقة والكلمة المسموعة شيئًا واحدًا بذاته — فذلك مستحيل كما أشرنا — إذ يكفي أنه إذا نطق المتكلم بكلمات مختلفات وصلتْ إلى أذن السامع مختلفات كذلك، وإذا نطق بكلمة واحدة مرتين في ظَرفين مختلفين، وصلت الكلمة إلى أُذن السامع على صورة واحدة أيضًا في المرَّتين.

وتختلف الألفاظ المكتوبة عن الألفاظِ المنطوقة في أنها تكوينات مادية، فالكلمة المنطوقة عملية طبيعية تتمُّ على فترة من الزمن، وأما الكلمة المكتوبة فقوامها قِطَع من المادة تشغل حيِّزًا معينًا من المكان. ومن خصائص الكلمة المكتوبة أنها قابلة لدوام البقاء مدى حِقَب طويلة من الزمن قد تصل آلاف السنين، وهي ليست كالكلمة المنطوقة (قبل الإذاعة) مقصورة على مدى السمع بحيث لا يمكن توصيلها إلا إلى الجيرة القريبة، بل تستطيعُ أن تعبر أقطار العالم أجمع؛ فهاتان إذن ميزتان تمتاز بهما الكلمة المكتوبة دون المنطوقة، وقد لبث الأمر على هذه الحال حتى عهد قريب عندما اخْتُرِع المذياع، فأخذت الكلمة المكتوبة منذ ذلك الحين تفقد كثيرًا من أهميَّتها؛ لأن المتكلم يستطيع اليوم أن يخاطب ألوفَ الناس في أرجاء العالم أجمع. هذا من حيث اتساع المدى، وأما من حيث دوام البقاء الذي كان ميزة خاصَّة بالكلمة المكتوبة وحدها؛ فقد أصبح المنطوق يعادل المكتوب فيه؛ إذ ليس ما يمنع أن نستبدل بالوثائق المدونة بالكتابة أقراصًا صوتية، وتكون توقيعات الموقعين في هذه الحالة هي أن ينطق كلٌّ منهما باسمه، وقد يأتي اليوم — كما قال ولز في كتابه «حين يستيقظ النائم» — قد يأتي اليوم الذي لا تطبع فيه الكتب بل تسجل أصوات المؤلفين على أشرطة أو أقراص صوتية.

والكلمة المقروءة سريعة الزوال، شأنها في ذلك شأن الكلمة المنطوقة أو المسموعة؛ فإذا ما تعرضت كلمة مكتوبة لضوء وهي موضوعة وضعًا مناسبًا بالنسبة إلى عين قارئ، أحدثت أثرًا معيَّنًا في عينه. وفي هذه العملية جزء يحدث خارج العين، وأمره تابع لعلم الضوء، وفيها جزء آخر يحدث في العين نفسها، وهو تابع لعلم وظائف الأعضاء، وهنالك أجزاء تتم بعد ذلك، وهي العمليات التي تحدُث في العصب البصري أولًا ثم في المخ ثانيًا. على أننا نفترض أن الكلمة المكتوبة كلما وُضِعَت وضعًا مناسبًا، أحدثت نفس الآثار عند كل قارئ، ومن هنا كان في مقدور القراء المختلفين على فترات مختلفة من الزمن أن يقرِّروا لفظًا واحدًا بذاته؛ فمهما يكن من تعقُّد العمليات الطبيعية والفسيولوجية فيما يتصل بأثر الكلمة المكتوبة على قارئها، فحسبنا — لكي تؤدي الكلمة المكتوبة مهمَّتَها المقصودة — أن اختلاف الكلمات المختلفة يؤدِّي إلى اختلاف مقابل له في طريقة تأثر القارئ بها، وأنه إذا تكررتْ كلمة مكتوبة واحدة بعينها مرَّتين في موضعين مختلفين؛ أدرك القارئ أنها هي بعينها الكلمة في كلتا الحالتين.

وحسبنا هذا في الجانب الطبيعي من اللغة. لنبدأ الحديث في الجانب النفسي، وهو ما يهمنا في هذا الفصل.

السؤالان اللذان يتطلبان الإجابة هما؛ أولًا: ما نوع السلوك الذي يثيره سماعنا للفظة ما؟ وثانيًا: ما نوع الظروف التي من شأنها أن تُحفِّزنا إلى ذلك السلوك المعين الذي هو نطقنا لكلمة ما؟ وأنا أرتب هذين السؤالين على هذا النَّحو؛ لأن الأطفال يتعلمون الاستجابة بسلوكهم لكلمات غيرهم قبل أن يتعلموا نطق الكلمات، وربما قيل إن الأمر ليس كذلك في تاريخ الجنس البشري؛ إذ كانت أول كلمة منطوقة أسبق من أول كلمة مسموعة بفترة من الزمن يسيرة، هي فترة انتقال الصوت المنطوق إلى أذن السامع، لكن هذا اعتراض قليل الأهمية فضلًا عن أن صوابه مشكوك فيه؛ إذ قد يُحدث الناطق خليطًا صوتيًّا لا يقصد من ورائه شيئًا، فإذا السامع يجعل له معنًى ويتصرف على أساسه، وفي هذه الحالة تكون اللفظة الدالَّة مسموعة قبل أن تكون منطوقة. خذ مثلًا لذلك آثار أقدام «فرايدي» التي رآها روبنسن كروسو في جزيرته، ففَهِم منها «معنًى» معيَّنًا، وهو أن إنسانًا غيره قد مرَّ بهذا المكان، أما «فرايدي» نفسه فلم يكن يريد أن ينقل أي معنًى عندما سار ها هنا وترك آثارًا لقدميه. ومهما يكن من أمر فلنتجاهل الترتيب التاريخي للمنطوق والمسموع، ولنأخذ تعلُّم اللغة كما نشاهد حدوثه اليوم في أطفالنا، فعندئذٍ سنرى الطفل يردُّ بسلوكه على ألفاظ الآخرين قبل أن يبدأ هو في نُطْق ألفاظه لهؤلاء الآخرين.

إن الطفل لَيتعلَّم فَهْم الألفاظ فهمًا دقيقًا، كما يتعلم أية عملية أخرى من عمليات الترابط البدني؛ فإذا قلت كلمة «زجاجة» كلما أعطيت الطفل زجاجته؛ فإنه فيما بعد يستجيب لكلمة «زجاجة» بنفس السلوك الذي كان يستجيب به للزجاجة نفسها. فهذا مَثَل من أمثلة قانون الترابط الذي تحدَّثنا عنه في الفصل السابق. فإذا ما تمَّ الترابط بين الزجاجة وكلمة «زجاجة»، وقال الأبوان عندئذٍ عن طفلهما إنه قد تعلم كلمة «زجاجة» و«فَهِمَ» معناها؛ أي إنه أصبح يعرف ماذا «تعني» هذه الكلمة. نعم إن كلمة «زجاجة» ليس لها كل ما للزجاجة نفسها من آثار، فهي مثلًا لا تخضع للجاذبية، وليستْ مصدرًا للغذاء وليست تصدم رأس الطفل، وهكذا، لكن اللفظة والشيء المُسمَّى بها يشتركان في كل النتائج المعتَمِدة على قانون الترابط، أو «الأفعال المنعكسة المشروطة» أو «الاستجابات المحفوظة».

فالشيء الماديُّ مبعث لطائفة من الخيوط السَّببية، فلو كان الشيء مرئيًّا لفلان، كان أحد تلك الخيوط السَّبَبيَّة خيطًا مراحلُه كما يأتي: موجات ضوئية تنتقل من الشيء إلى عين فلان هذا، ثم أحداث تقع في عينَيْه وفي عصبه البصري، ثم أحداث تحدث في مخِّه، وبعدئذٍ قد تأتي بعد ذلك استجابة يرد بها على ذلك المنبه. هذا كله فضلًا عن الحادثات التي تطرأ على النسيج الحي، وتترك أثرها فيه مما نطلق عليه اسم «الذاكرة». كل هذه الأمور تحدث في الكيان العضوي لفلان المذكور نتيجة لرؤيته للشيء الذي رآه، ولنقل إنه زجاجة. وهذه الأمور نفسها هي التي ترتبط فيما بعد بكلمة «زجاجة» والتي يسمعها فلان عند رؤيته للشيء الذي قد رآه وأحدث فيه ما أحدث، وهكذا نستطيع أن نفسر العملية التي يتم بها فهمُنا للألفاظ بقانون الترابط؛ أي قانون الأفعال المنعكسة المشروطة، فوفقًا لهذا القانون يستجيب الطفل لكلمة «زجاجة» بنفس السلوك الذي يستجيب به للزجاجة نفسها، ما دام الشيء والاسم قد تلازما في الوقوع، فيصبح الذي كان مرتبطًا بالشيء مرتبطًا باسمِه.

فيمكن القول بأن الشخص المعين يفهم الكلمة التي يسمعها إذا كانت الآثار الجسدية التي تُحدِثها الكلمة المسموعة هي نفسها الآثار الجسدية التي تُحدِثها رؤية الشيء المسمَّى بتلك الكلمة، غير أن هذا بالطبع مقصور على الكلمات التي تسمى أشياء محسوسة، كالمَثل الذي ضربناه؛ أما الكلمات والعبارات التي من قبيل قولنا «الحكم الجمهوري»؛ فهي أكثر من ذلك تعقيدًا، ولا يمكن بحثها إلا إذا تناولنا أولًا بحث العبارات اللغوية؛ أي الجُمل، ولكن قبل أن نبدأ البحث في هذه، لا بُدَّ من بحث الظروف التي تؤدي بنا إلى استعمال كلمة ما، مقارنين هذه الظروف بالنتائج المترتبة على سمعنا إيَّاها منطوقة من سوانا.

فالنطق بالكلمة أصعب من استعمالها استعمالًا يجعلها ذات معنًى مفهوم للسامع؛ هذا إذا استثنينا بعض أصوات قليلة ينطق بها الأطفال قبل أن يعرفوا أنها كلمات، مثل «ما – ما» و«دا – دا». فهذان الصوتان مَثَل لأصوات تجيء عفوًا ويستعملها الأطفال جميعًا، فحين يقول الطفل «ما – ما» في حضرة أمه، حسبته يفهم معنى ما يقول، ولهذا تراها تبدي ارتياحها على صورة مُحبَّبة إلى الطفل، فيأخذ تدريجًا — بناء على «قانون الأثر» الذي صاغه ثورندايك وأسلفنا ذكره — في تكوين عادة هي عادة إخراج هذا الصوت بذاته في حضرة أمه؛ لأنه عرف أن له نتائج سارة في مثل هذه الظروف، لكنها كلمات قليلة جدًّا هي التي يتمُّ تكوينها على هذا النحو؛ أما الكثرة الغالبة من الكلمات فتُكتَسب بالمحاكاة بالإضافة إلى عملية الربط التي تربط بين الشيء والكلمة التي تسميه، وهو ربط يعمل الوالدان على تثبيته عند الطفل في مراحل عمره الأولى، وواضح أن استعمال المتكلم للكلمات يتضمن جانبًا أكبر وأعلى من مجرد ربط الصوت بالشيء الذي يسميه؛ فالكلاب تفهم كلمات كثيرة، والأطفال يفهمون كلمات أكثر جدًّا ممَّا يستطيعون استخدامه، فعلى الطفل أن يكتشف بنفسه بأنه من الممكن ومن المفيد له أن يخرج أصواتًا كالتي يسمعها، لكن هذا الاكتشاف مُحال عليه ما لم يكن في مقدوره أن تخرج الأصوات عفوًا بغير نية الكلام، وعندئذٍ يجد أنَّ في مستطاعه إخراج أصوات كالتي يسمعها، ويجد كذلك أن لهذه العملية نتائج سارة؛ إذ يرى أن الوالدين يُسِران بما يقوله طفلهما ويقدمان له ما يَشتهي، هذا إلى أن الطفل قد يشعر — فوق هذا كله ولعله أهم من هذا كله — أنه ذو قدرة تمكِّنه من إخراج أصوات مقصودة بدل الأصوات التي كان بادئ ذي بدء يخرجها عفوًا وعرَضًا، وليس ثمة اختلاف في الجوهر والأساس بين هذه العملية التي يحاول بها الطفل إخراج أصوات منطوقة، وبين العملية التي يتعلم بها الفأرُ طريقه في المتاهة التي تُعَدُّ له لإجراء التجارب على طرائق تعلمه، فكلاهما يتعلم عملية تبدأ عشوائية فيها ما هو خطأ وما هو صواب، ثم يظلُّ المتعلم يحذف الخطأ ويثبت الصواب.

وننتقل من تعلُّم الطفل للكلمات المفردة إلى تعلُّمه للجُمل التي تتألف من تلك الكلمات؛ وهنا نرى فريقًا من الفلاسفة الذين يمقُتون التحليل بطبعهم، نراهم على اعتقاد بأن الجملة كلها تأتي أولًا، ثم تأتي بعد ذلك أجزاؤها، وكثيرًا ما تراهم يستشهدون لصدق دعواهم هذه باللغة الباتاجونية التي لا يعرفها معارِضُوهم، فيقولون: إن الرجل من قبيلة باتاجونيا يفهمك إذا قلت له: «إني ذاهب لصيد السمك من البحيرة الواقعة غربي التل»، ولكنه لا يفهم كلمة «سمكة» إذا قيلت على حدة، ورَدُّنا على ذلك هو أن أهل باتاجونيا — إن كان هذا أمرهم — فهم شواذ؛ إذ ليس هناك من شكٍّ في أن الطفل في الأمة المتحضرة لا يسير على هذا الترتيب في تعلمه للغة، فقد نطق الأطفال الذين وُضعوا تحت الملاحَظة الدقيقة بالجمل الكاملة بعد أن نطقوا الكلمات المفردة بزمن طويل.

إن الأطفال في أول أمرهم يكونون محدودين في قدرتهم على إخراج الأصوات، كما أنهم محدودون كذلك بقلَّة ما عندهم من روابط، ولست أشكُّ في أن كلمتَي «ما – ما» و«دا – دا» قد اكتسبا ما لهما من معنًى؛ لأنهما أصوات يخرجها الأطفال بطريقة تلقائية في مرحلة باكرة من حياتهم، فوجدها الكبار أصواتًا مناسبة لتصبح كلمات ذات معنًى؛ وهكذا نرى أن أول الكلام لا يجيء محاكاة للكبار، بل يجيء حين يكتشف الطفل أن أصواته التلقائية تعود عليه بما يرضيه، ثم تأتي المحاكاة بعد ذلك حين يجد الطفل أن الأصوات المنطوقة قد يكون لها «معنًى»؛ فالمهارة المطلوبة للطفل لكي يتعلَّم الكلام هي نفسها المهارة التي يتطلبها إذا ما أراد أن يتعلم لعبة معينة، أو أن يتعلم ركوب الدراجة.

ونلخص هذه النظرية الخاصَّة «بالمعنى» تلخيصًا سهل العبارة؛ فنقول: إذا كانت «أ» سببًا في «ﺣ» حسب قانون الأفعال المنعكسة؛ فإن «أ» سترتبط ﺑ «ﺣ» ارتباطَ عِلَّة بمعلول، وعندئذٍ يصبح «معنى» الكلمة «أ» هو «ﺣ»، ما دامت النتائج المرتبطة ﺑ «أ» شديدة الشبه بالنتائج المرتبطة ﺑ «ﺣ»، وعندئذٍ نقول إن كلمة «أ» كلما نطقت كان «معناها» هو «ﺣ».

ويرى السلوكيون أن ليس ثَمَّة فَرْق جوهري في ذلك بين أسماء الأعلام وما نسميه بالكلمات «المجرَّدة»؛ فالطفل يتعلَّم استعمال كلمة «قطة» — وهي كلمة كلية مجرَّدة — كما يتعلم استعمال كلمة «بطرس» وهو اسم عَلَم يُطْلَق على فرد بعينه، ذلك أن اسم «بطرس» إنما يُطْلَق في الحقيقة على سلسلة طويلة من حالات جزئية مختلفة، وبهذا يكون بمثابة الكلمة الكلية بوجهٍ من الوجوه؛ إذ نُسمِّي به صاحبه في كلِّ حالة من حالاته، فليس صاحبه بذي حالة واحدة ثابتة دائمة، بل هو قريب آنًا بَعِيد آنًا آخر، هو ماشٍ حينًا، واقفٌ حينًا، جالس حينًا؛ هو ضاحك لحظة، وعابس لحظة … كل هذه حالات تكون مُنبِّهات للحواس التي تتلقاها، ولكنها مُنبِّهات بينها عنصر مُشترَك يبرِّر أن نجمعها جميعًا لنجعلَها مسمًّى واحدًا لكلمة «بطرس»، وما ذلك العنصر المشترك سوى الاشتراك في استجابة معيَّنة هي التي نردُّ بها على كلمة «بطرس» إذا ما سمِعْناها.

وأما الكلمات الكلية مثل «إنسان» و«قِط»، و«مُثلَّث» — وهي الكلمات التي أثارت مشكلة فلسفية ما زال الفلاسفة يعالجونها منذ أفلاطون حتى اليوم — فهي جديرة منا هنا بالمناقشة؛ لنرى إن كان هنالك ما يصحُّ أن يسمى بالكلمات الكلية إطلاقًا، فإن كان الأمر كذلك فبأي معنًى نقول عن الكلمة إنها كلمة كلية؟ نعم إن هذه مسألة ميتافيزيقية لا تدخل في البحث في استعمال اللغة الذي نتناولُه الآن، إلا أنه لا مندوحة لنا في هذا الموضع عن القول بأن الاستعمال الصحيح للكلمات الكلية ليس في ذاته دليلًا على أن الإنسان في مقدوره أن يجعل المعنى الكلي موضوعًا لتفكيره؛ فقد كان المفروض دائمًا أننا ما دُمنا نستطيع أن نستعمل لفظًا كليًّا مثل «إنسان» استعمالًا صحيحًا في لغة التفاهم، إذن فلا بد أن تكون في أذهاننا فكرة مجرَّدة عن الإنسان لتقابل هذه الكلمة الكلية وتصبح معنًى لها، لكن ذلك رأي خاطئ، وحقيقة الأمر هي أننا نستجيب بصورة مُعيَّنة لفرد مُعيَّن من الناس، ثم نستجيب بصورة أخرى مُعيَّنة لفرد آخر من الناس، لكن بين أفراد الناس جميعًا عنصرًا مشتركًا يجعل في استجاباتنا المختلفة لمختلف الأفراد عنصرًا مشتركًا كذلك؛ فإن أثارت الكلمة الكلية «إنسان» الاستجابة المشترَكة وحدها، كان ذلك بمثابة فهمنا لكلمة «إنسان» الكلية؛ وإذن فالاستعمال الصحيح للكلمة الكلية، لا يقتضي بالضرورة أن يكون لدينا تَصوُّر مُجرَّد يقابلها.

لقد قصرنا مناقشتنا حتى الآن على الكلمات المُفردة، بل لم نتناول من الكلمات المفرَدة إلا ما يمكن استعماله مفردًا، ذلك أن هنالك من الكلمات المفرَدة ما لا يستطيع الطفل استعماله إلا بعد اجتيازه لمرحلة الجُمَل؛ فهو لن يستخدم كلمة «أبوَّة» — مثلًا — إلا بعد أن يستعمل جملة كهذه: «علي أبو الحسين»، كذلك لن يستخدم كلمة مثل «سبَبيَّة» إلا بعد أن يستعمل جملة كهذه: «النار تبعث الدفء» — وهكذا ترى أن تفسير الجُمَل مختلف عن تفسير الكلمات المفردة على مذهب السلوكيين، ولا مناصَ لنا من البحث في الجُمَل كما بحَثْنا في الكلمات المفردة.

فالأطفال جميعًا يبدءون — كما ذكرنا — بكلمات مفردة، ثم يؤلفون منها الجمل فيما بعد؛ وهم يتفاوتون تفاوتًا بعيدًا في سُرعة انتقالهم من مرحلة الكلمات إلى مرحلة الجمل؛ على أنهم جميعًا يبدءُون مرحلة الجُمَل بجُمَل يَسمعونها فيُكررونها كما سمعوها من الكبار دون أن يحوِّروا من تركيبها شيئًا، ومثل هذه الجمل التي تقال في جملتها محاكاة لما سمعوه بغير تحوير، إنما يجيء تعلمها على نفس الأساس الذي تم به تعلُّم الكلمات المفردة؛ أما الفارق الأساسي بين الجمل والكلمات فينشأ حين يأخذ الطفل في تأليف جُملِه على نحوٍ يختلف به عن الصورة المسموعة بحذافيرها، بحيث تأتي جملته مختلفة عن كل ما قد سمعه، ومع ذلك تكون معبرة تعبيرًا صحيحًا عمَّا يريد الطفل أن يعبر عنه، فهذه مرحلة تتضمن قدرة الطفل على خلق الصورة والبناء اللغوي.

ها هنا يتعقَّد الأمر عمَّا كان عليه في مرحلة الكلمات المفردة؛ لأنه في حالة الكلمات المفردة يدرك الطفل جزءًا من بيئته، ويربط بينه وبين لفظة مُعَيَّنة، وينتهي الأمر عند هذا الحد، أما الجملة فيقتضي تكوينها أن أدرك جزءًا من البيئة هنا وأربطه بكلمة، ثم أدرك جزءًا من البيئة هناك وأربطه بكلمة أخرى، ثم أربط بين الجزأين بعلاقة تصل أحدهما بالآخر؛ وإذنْ فتكوين جملة كائنة ما كانت يقتضي إدراكًا للعلاقات بين الوقائع، وإدراك العلاقات هو إدراكٌ للصورة أو الإطار؛ فالمنبِّه في هذه الحالة لا يكون شيئًا محسوسًا بل يكون صورة، فإذا استعمل الطفل جملةً استعمالًا صحيحًا؛ كان هذا برهانًا على إدراكه لصورة تركيب الوقائع بعضها مع بعض؛ فافرض — مثلًا — أنَّ طفلًا رأى ما أمامه، وقال إن «الكتاب على المِنْضَدة»، فإن كلمة «على» هنا تُمثِّل ظاهرة علاقيَّة في البيئة التي يصفها.

وهنا تنشأ مشكلة من المشكلات الفلسفية التي اكتَنَفَها خلط كثير بسبب قصور التحليل، وهي المقابَلة بين الجملة الدالَّة على علاقةٍ ما، وبين الواقعة الخارجية نفسها التي تتمثل فيها هذه العلاقة، فإذا قلنا إن «الكتاب على المِنْضَدة»، أو إن «بروتس قَتَل قيصر»؛ فقد صوَّرْنا بالكلمات العلاقية في الجملة علاقةً كائنةً بين الأشياء الخارجية، لكننا نخطئ في هذه الحالة لو ظَنَنا أن الكلمة العلاقيَّة في الجملة تصوير فوتوغرافي لنوع العلاقة الكائنة في الخارج؛ إذ هما في الحقيقة مختلفتان كلَّ الاختلاف، فكلمة «على» ليست هي نفسها «الفوقية» التي تصل الكتاب بالمِنْضَدة؛ بل إن كلمة «على» ليست علاقة على الإطلاق، وإذا كان بين كلمات الجملة «الكتاب على المِنْضَدة» علاقة فهي العلاقة الزمنية — إذا كانت الجملة منطوقة — العلاقة الزمنية التي تجعل كلمة تُنطَق قبل كلمة في الزمن، أو هي العلاقة المكانية — إذا كانت الجملة مكتوبة — العلاقة المكانية التي تجعل كلمة «على يمين» أو «على يسار» كلمة أخرى، وليست هذه ولا تلك بعلاقة «الفوقية» التي يكون بها الكتاب فوق المِنْضَدة فعلًا وواقعًا — فيهمنا جدًّا أن نتنبَّه إلى أن الكلمات ظواهر كسائر ظواهر الطبيعة، بينها علاقات زمانية أو مكانية، لكننا نستخدم هذه العلاقات لنرمز بها إلى علاقات أخرى مختلفة عنها كل الاختلاف.

فمنشأ الخلط في شتَّى الفلسفات التي تصدَّت لمعالجة موضوع العلاقات، هو الظن بأن العلاقة في الجملة هي نفسها العلاقة الواقعة في الخارج؛ فلنذكر إذَنْ أننا عندما نسمي علاقة في الخارج بكلمة في الجملة؛ فنحن في الحقيقة لا نصوِّر علاقة بعلاقة مثلها، بل نصورها بكلمة، وليست الكلمة في ذاتها علاقة، بل هي كلمة كأية كلمة أخرى، وسنجد أن لهذه التفرقة أهمية عندما نتحدث في فصل تالٍ عن بنية العالم الطبيعي، ولقد ذكرنا ما ذكرناه حتى لا يضللنا سوء تحليلنا للُّغة فيسوقنا إلى ضلال في تأملاتنا الفلسفية.

إننا فيما ذكرناه عن الكلمات والجمل لم نتعرَّض لضروب من الاستعمال اللغوي غير مجرَّد استعمال اللغة للإشارة إلى أشياء العالَم أو لوصف وقائعه، فلم نتعرض مثلًا لاستعمال اللغة فيما يتصل بما يخلقه الخيال ولا يكون له في الواقع وجود؛ على أننا نُرجئ الحديث في هذا حتى نتناول الإنسان بالبحث من داخل؛ لأننا قصرنا الحديث في هذه الفصول على الإنسان منظورًا إليه من الخارج، لكنني أسارع هنا فأقول: إننا سنجد أنَّ استعمال الكلمات في هذا المجال إنْ هو إلا ضرب جديد من التطبيق للقانون نفسه، أعني قانون الترابط.

١  إنسان «الكرومانيون Cro-Magnon» يُمثِّل أُولى المراحل التطورية التي نشأ خلالها الإنسان، خارجًا بذلك من مرحلة القردة؛ وبديهي أن ذلك قد حدث فيما قبل التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥