الذاكرة من وجهة نظر موضوعية
إننا في هذه الفصول نُعنى بما نستطيع معرفته عن سوانا من ملاحظة سلوكهم كما يبدو للرائي، وأريد في هذا الفصل أن أبحث كل ما يمكن تسميته بكلمة «ذاكرة» إلى الحد الذي يمكن للذاكرة أن تقع في مجال الملاحظة الخارجية، ولعله من الخير أن أُثْبِت في هذا الموضع رأيي في «المذهب السلوكي» ورائده هو «الدكتور واتسُنْ» — فهو مذهب يزعم أصحابه أن كل ما تُستطاع معرفتُه عن الإنسان يمكن الكشف عنه بطريقة الملاحَظة الخارجية؛ أعني أن ليس ثمة من الحقائق ما يستوجب بالضرورة أن نعتمد على ملاحَظة الإنسان لنفسه من باطن؛ أي أن يكون الملاحِظ والملاحَظ شخصًا واحدًا بعينه؛ فإني وإن كنت لا أوافق على هذا الرأي من أساسه، إلا أني أعتقد بأن فيه من الصواب أكثر ممَّا يظن الناس، كما أعتقد أنه من المستحسَن أن نطوِّر الطريقة السلوكية إلى أقصى حدودها؛ ذلك لأني أرى أن المعرفة التي نستمدها بهذه الطريقة — ما دمنا نسلم بعلم الفيزياء — معرفة تكفي نفسها بنفسها، ولا يلزمها في أي جزء من أجزائها أن تلجأ إلى حقائق أخرى ممَّا يُستمد بالتأمل الباطني؛ أي ممَّا يصل إليه الإنسان حين يُلاحِظ دخيلة نفسه بنفسه دون أن يكون ذلك في مُستطاع أحد سواه، غير أني رغم ذلك كله أعتقد أن ثمة حقائق لا يُوصَل إليها إلا بالتأمل الباطني، بل إني لأذهب إلى أبعد من هذا، وأقول: إن مثل هذه الحقائق ضروري عندما نعرض علم الفيزياء عرضًا نقديًّا، وهو العلم الذي يأخذه السلوكيون مأخذ التسليم؛ لهذا سأعمد — بعد أن أعرض نظرية السلوكيين في الإنسان — إلى بحث دقيق أُحلِّل به ما نعرفه من علم الفيزياء، لكي أعود بعدئذٍ إلى البحث مرة أخرى في الإنسان، منظورًا إليه هذه المرة من الداخل، ثم أحاول آخِرَ الأمر أن أستخلص النتائج الخاصَّة بما نعلمه عن الكون على وجه العموم.
تستعمل كلمة «ذاكرة» بمعانٍ مختلفة، فهي تُستعمل بمعنًى واسع، وذلك حين نطلق الكلمة على قدرة الإنسان على تكرار الحركات الجسدية التي تَعلَّمها من قبل، وهو ما يُسمَّى «بالعادات» كالمشي والكتابة والسياحة وركوب الدراجة، لكنها أيضًا تستعمل بمعنًى ضَيِّق، وذلك حين لا تطلق إلا على استعادة الإنسان لحادثة وقعت فيما مضى؛ فبالمعنى الواسع للكلمة نقول عن الكلب إنه «يتذكر» صاحبه، وإذا نودي باسمه عرفه، وبهذا المعنى الواسع نفسه يتحدث فرانسس داروين عمَّا يسمِّيه بذاكرة النبات، وكذلك صموئيل بتلر حين يفسر الغرائز بأنها تجارب الأسلاف «نتذكرها»، لكننا نرى برجسون من ناحية أخرى يرفض أن يجعل العادات من الذاكرة؛ إذ الذاكرة بمعناها الصحيح عنده هي استعادة حادثة مضت، والحادثة الواحدة لا تكون عادة؛ لأنها حدثت مرة واحدة، على حين يرى السلوكيون أن برجسون قد أخطأ في الرأي؛ لأنه لا ذاكرة إلا في العادات التي يحتفظ بها الإنسان، فإذا درسنا العادات وطرائق تكونها؛ فقد درسنا «الذاكرة» بالتالي، وليس ما يدعو أن نخصص للذاكرة بحثًا مستقلًّا؛ فمن أقوال الدكتور واتْسُن في ذلك: «إن السلوكي لا يستخدم كلمة «ذاكرة» أبدًا» ثم يأخذ في عرض الأمثلة الموضِّحة فيبدأ بمثل الفأر الأبيض في المتاهة؛ فقد استغرق الفأر أربعين دقيقة في المرة الأولى ليخرج من المتاهة، وبعد خمس وثلاثين محاولة تعلَّم الفأر أن يخرج من المتاهة في ستِّ ثوانٍ بغير خطأ واحد في الطريق، ثم أُبْعِد عن المتاهة ستة أشهر، فلما أُعيد إليها خرَج منها في دقيقتين، وأخطأ في معرفة الطريق الصحيح ستَّ مرات، ويوضِّح هذا المَثَل كم احتفظ الفأر بعادة الخروج من المتاهة. مثل آخَر: قرد وُضع في صندوق أُعد لإجراء التجربة، فاستغرق بادئ الأمر عشرين دقيقة ليفتح الصندوق، وفي المحاولة العشرين فتح الصندوق في ثانيتين، ثم أُبعد عن الصندوق ستة أشهر، فلما أُعيد إليه فتَحَه بعد أربع ثوانٍ.
والمفهوم عن الإنسان أن كثيرًا من العادات التي يعتادها بالتعلُّم يظل محفوظًا مدى فترة طويلة لا تُمارس فيها تلك العادات، كركوب الدراجة والسباحة، غير أن الدكتور واتْسُن يبالغ قليلًا فيقول: «لو زعم لك شخص لا يجيد الرماية أو لعب الكرة والصولجان، بأنه كان يجيدها منذ خمس سنوات، ثم أهمل المِران ففقد مهارته، فلا تصدقه؛ لأن معنى ذلك أنه لم يكن يجيدها قط.» ومهما يكن من أمر، فليس هذا شأن العازفين على الكمان أو البِيان، فهؤلاء يجدون المران اليومي ضرورة محتومة لجودة العزف، وعلى كل حال فليس من شك في أن الإنسان يحتفظ بعاداته الجسدية أمدًا طويلًا، وهو يحتفظ ببعضها — كالسباحة — إلى حد بعيد، وأما بعضها الآخر — كالكلام بلغة أجنبية — فإهمال المران يضرُّه ضررًا بليغًا.
وأما الذاكرة بمعناها الضيق، وهو استعادة حادثة وقعت فيما مضى، فيمكن تفسيرها بأنها عادة «كلامية»؛ فإذا قابلت صديقك في الطريق — مثلًا — وقلت له: هل تذكر إذ كنا في لندن وكنا نسير في الطريق الفلاني وقلت لي كذا؟ كان تفسير هذا التذكُّر هو أنك حين كنت مع صديقك في لندن، كنت قد كوَّنْتَ عادات كلامية معه بحيث إذا رأيتَه مرة أخرى عادت إليك عاداتك الكلامية، بل عاد إليك بعض استجابات جسدية مُعيَّنة، وفي هذا يقول واتْسُن: «إننا لا نعني بكلمة ذاكرة سوى أننا حين نتعرَّض لمؤثر للمرة الثانية بعد غيبة زمنية، فإننا نؤدي نفس العمل المعتاد القديم (فنقول نفس الكلمات القديمة، ونتصرف بنفس السلوك القديم) الذي كنا قد اعتَدْناه، ونحن أمام المؤثِّر نفسه في المرة الأولى.»
ويعترض برجسون على هذا بقوله: «إن تذكُّر الشيء الذي حدث مرة واحدة ليس هو من قبيل العادات؛ لأن العادة لا تتكون من مرة واحدة.» غير أن قول برجسون هذا فيه مغالَطة؛ لأن الحيوان والإنسان معًا كثيرًا جدًّا ما يتعوَّدان العادة من تجربة واحدة؛ فمن الجائز جدًّا أن يعرض مؤثر مرتبط بحادث قديم فيستتبع سلسلة من حركات الجسد، وهذه بدورها تستتبع ألفاظًا تصف ذلك الحادث الماضي، ولكن قد تنشأ هنا مشكلة، وهي أن احتفاظ الذاكرة بحادث سابقٍ مُحالٌ أن يكون عادة «كلامية» إلا إذا كان صاحب هذا الحادث قد رواه لنفسه عدة مرات؛ فحين التقى الرجل الذي ضربه واتْسُن مثلًا، حين التقى بصديقه، وقال له: «هل تذكر إذ كنا في كذا وكذا؟» فهو لم يستعمل عندئذٍ ألفاظًا اعتادها؛ لأنه ربما لا يكون قد نطق هذه العبارة نفسها من قبل، وحقيقة الأمر هي أنه يستخدم عاداته الكلامية بما يلائم حادثة نفسية راهنة، والذي استدعى الحادثة النفسية الراهنة عادة مرتبطة بالشخص الذي قابله … فليست الكلمات بذاتها هي التي نعدُّها عادات، بل العادات هي الأفكار التي جاءت تلك الكلمات لتُعبِّر عنها؛ نعم إننا إذا كررنا قصيدة حفظناها؛ فتَسَلسُل ألفاظها يجري وفق عادة تتكون كأي عادة جسدية أخرى، ولكن ما هكذا تكون الحال حين نعيد حادثًا ماضيًا فنصفُه بألفاظ لم نستعملها قطُّ من قبل، فليست الألفاظ في هذه الحالة هي التي نعيدها، ولكننا نعيد ما تدل عليه الألفاظ، وعلى ذلك فإذا أردنا تعليل التذكُّر بأنه عادات تتكون، فلا يَنبغي أن نلتمس تلك العادات في الألفاظ، بل نلتمسُها في معانيها.
وإن نظرية واتْسُن لتَرتطِم بمشكلة عسيرة حين يطبقها على اللغة؛ فالفأر الذي حفظ طريقه في المتاهة قد حفظ في الحقيقة حركات جسدية مُعيَّنة تكوَّنت له منها عادات، وكذلك نحن حين نحفظ شيئًا بألفاظه كما تحفظ قصيدة من الشعر، ولكن افرض أنني قابلتُ صديقًا فقلت له: «قابلت عليًّا في القطار هذا الصباح.» ثم قابلت صديقًا آخر فقلت له: «رأيت عليًّا في قطار الساعة التاسعة من صباح اليوم.» فهاتان عبارتان مختلفتان لفظًا، وإذن فالحادثة التي تذكَّرتُها ثم ذكَرْتُها في العبارة الأولى مرة، وفي العبارة الثانية مرة ثانية، لا يجوز أن أقول عن تَذكُّري إياها إنه عادة كلامية؛ إذ لو كانت كذلك لكَرَّرت العبارة نفسها في المرتين؛ فما الكلمات إلا الحركات الجسدية التي يمكن بواسطتها وحدها أن أعلن عن حادث تذكرته، معنى ذلك أن التذكُّر ليس مجرد عادة حركية بدنية يلاحظها الملاحِظ من الخارج إذا أراد أن يبحث في الذاكرة بحثًا موضوعيًّا، كما يريد السلوكيون أن يفعلوا.
فالظاهر أن الربط لا ينتقل مباشرة من المنبِّه إلى الكلمات، بل هو ينتقل من المنبِّه إلى الفكرة ومن الفكرة إلى الكلمات التي تعبر عنها، وكثيرًا ما نحتفظ «بالمعنى» المعيَّن بغير ألفاظ معيَّنة تعبِّر عنه؛ فقد أحتفظ بفكرة البرهان على نظرية هندسية دون أن أحتفظ بنفس الكلمات التي كنت قد استخدمتها عندما تعلمتها، وإذن فليس من اليسير أن نكتفي بمجرد الترابط اللفظي في تفسير عملية التذكر. ولقد ثبت في حالات كثيرة أن الأطفال استطاعوا بعد تَعلُّمهم الكلام أن يتذكروا حوادث حدثت لهم قبل ذلك التعلم، ثم وصفوها بعدئذٍ بما تعلَّموه من كلمات، وهذا يبين أن الذاكرة كانت موجودة في صورة غير لفظية خلال المدة التي سبقت الكلام، ثم وجدت سبيلها بعدئذٍ إلى التعبير اللفظي؛ على أن المشكلة الحقيقية التي تُواجِه نظرية واتْسُن — فيما أرى — هي أني قد أذكر المعنى الواحد بِعدَّة صور لفظية، ولا يعقل أن أكون قد أدرت هذه الصور اللفظية كلَّها في رأسي وربطتُها كلها بذلك المعنى، حتى إذا ما دعا ذلك المعنى داع إلى الذاكرة؛ استجبت له بإحدى تلك الصور اللفظية، أقول: إن هذا أمر لا يُعقَل، لكنه هو الفرض الوحيد الذي يجب افتراضه إذا جعلنا التذكر ربطًا لفظيًّا لا أكثر ولا أقل.