الاستدلال باعتباره عادة
فالاستدلالات التي نؤديها فعلًا في حياتنا اليومية تختلف عن هذه الأقيسة المنطقية في وجهين؛ هما: أنها استدلالات لها أهميتها بالنسبة إلى أغراضنا، وأنها غير مجزوم بصدقها؛ على حين أن الأقيسة المنطقية التقليدية تافهة في مادتها من جهة، ومعصومة من الخطأ من جهة أخرى، ولك إن شئتَ أن تعد الاستدلال القياسي تحفة من التحف القديمة، إن دلت على شيء فهي تدل على الجُبن العلمي؛ إذ كان الرأي عند أصحابه هو أنه لو تعرض الاستدلال لأيسر احتمال للخطأ كان من الخطر أن ننتزع منه نتيجة نركن إليها؛ وهكذا كان طابع التفكير عند قساوسة العصور الوسطى، بل هكذا كان طابع حياتهم نفسها، فهم ينشدون السلامة على حساب الخصوبة.
ثم جاءت مع النهضة الأوربية روح مُغامِرة سرت في أرجاء العالم، ولكن هذه الروح المُغامِرة لم تظهر في مجال الفلسفة أول الأمر إلا على صورة الثورة على أرسطو وحدَه، وجاز للثائرين أن يَأتَمُّوا بمن شاءوا بعد ذلك من فلاسفة الإغريق، وحبَّذا لو كان هذا الإمام الجديد هو أفلاطون، وكان بيكن وجاليليو هما أول من جاءنا بالمنهج الاستقرائي، أما بيكن فلم يزد على تخطيط المنهج تخطيطًا تعرَّض فيه لكثير من الخطأ، وأما جاليليو فهو الذي جعل من المنهج الجديد أداة من شأنها أن تؤدي إلى نتائج عظيمة حقًّا؛ إذ هو الذي أصبح أساسًا لعلم الفيزياء الرياضية الحديثة، غير أن المُتحذلقين من العلماء — لسوء الحظ — ما إن قبضوا بأيديهم على الطريقة الاستقرائية حتى راحوا يخضعونها للقيود والقواعد حتى باتت مغلولة بما كان يغلُّ الطريقة الاستنباطية من قبلها؛ ذلك أنهم راحوا يبحثون عن الوسائل التي تجعل من الاستقراء سبيلًا مؤدية دائمًا إلى النتائج اليقينية التي لا يأتيها الباطل، فسلبوه طابع المغامَرة الذي كان يميزه، وانقض عليهم «هيوم» بجدل المتشكك ليبرهن لهم أن الاستقراء قد يتعرض للخطأ، فنهض «كانْت» للرد عليه بفلسفة غَمَر بها العالَم الفلسفي حتى أغرقه في خلطٍ وإبهام لم يُفق منهما إلَّا اليوم؛ إذ أخذ يتخلص منهما شيئًا فشيئًا، فإذا كان قد أشيع عن «كانْت» أنه أعظم فلاسفة العصر الحديث؛ فلستُ أراه إلا نكسة شاءها لنا الحظ العاثر.
قوام الاستقراء — كما تعرضه كُتُب المنطق — هو أن «أ» و«ب» إذا اطرد تلازمهما في الوقوع، كان المرجَّح أنهما سيتلازمان في الوقوع دائمًا، بحيث يجوز أن نتخذ من حدوث أحدهما علامة على حدوث الآخر، وليس في نيتي الآن أن أبحث عن التبرير المنطقي لهذا الضرب من البرهان، وسأقتصر الآن على النظَر إليه من حيث هو «مِران» نلاحظه في عادات الإنسان والحيوان على السواء، وإذا نظرنا إلى الاستقراء على أنه «مِران» نعتاده لتكرار حدوثه؛ فلن نجده سوى صاحبنا القديم «قانون الأفعال المنعكسة المشروطة» أو هو الترابط، فالطفل إذا أمسك بسِلْك مُكَهْرَب وارتعش جسمُه؛ تجنَّب بعد ذلك الإمساك بالأسلاك، وإذا كان قد تعلَّم الكلام؛ فهو يقول إن الإمساك بالأسلاك ضار، وعندئذٍ يكون بمثابة مَن أجرى عملية استقرائية مستندًا فيها إلى مثل واحد، ولكن الاستقراء موجود في صورة عادة جسدية عند الطفل قبل أن يتعلم الكلام، بل هو موجود عند الحيوان لو استثنينا من الحيوان مراتِبه الدنيا في سلَّم التطور؛ فنظريات الاستقراء في المنطق ما هي إلا المبررات نصطنعها فيما بَعْدُ لنبرهن بها على أن ما كنا نعمله بالفعل هو الصواب المعقول، ولستُ أريد بذلك أنها مبررات واهية؛ إذ حسبُنا أن نعلم أن سلوكنا وسلوك أسلافنا قد أدى إلى بقائنا، وإذن فهو سلوك معقول، وكل ما أريد إثباتَه هنا هو أن الاستقراء مسوقًا في صُورة لفظية هو مرحلة متأخرة سبقتها في التطور مرحلة كان الاستقراء فيها سلوكيًّا؛ إذ ما هو إلا مبدأ «الاستجابات المحفوظة».
ولقد سبق لي أن شرحت هذا النوع من الاستجابة، وألخصه الآن بقولي: إنه إذا استدعى حادث معيَّن استجابةً معيَّنة، ثم إذا كان هذا الحادث مسبوقًا بحادث آخر حدَث لتوِّه، أو كان هذا الحادث ملازمًا لحادث آخر حدث معه في اللحظة عينها، فإنه بعد فترة من الزمن يصبح هذا الحادث الثاني وحدَه كفيلًا باستدعاء الاستجابة التي لم تكن لتحدث إلا ردًّا على الحادث الأول؛ مثال ذلك: أن يكون من شأن حادث معيَّن أن يثير إفرازًا في غدة معينة؛ وبالتالي يطرأ على الجسم انفعال خاص يتبع ذلك الإفراز، فإنه إذا ما ارتبط ذلك الحادث بلفظة؛ أصبحت اللفظة وحدها فيما بعد كافية لإثارة إفراز الغدة؛ وبالتالي مثيرة لذلك الانفعال نفسه، وقد تطول سلسلة المنبهات المترابطة إلى غير حد، فالحادث الثاني الذي حل في الإثارة محل المنبِّه الأول، قد يرتبط بدوره بحادث ثالث فيؤدي إلى النتيجة عينها، وهذا الثالث برابع وهلم جرًّا، فلو آلمت طفلًا أثرت فيه الكراهية، ولو تكرر منك إيلامه أصبح مجرد ظهورك أمامه مثيرًا لكراهيته، ثم يرتبط شكلُك باسمك، فيصبح مجرد ذكر اسمك بعد ذلك مثيرًا لكراهيته، وإذا كنت طبيبًا للعيون؛ انتقلت كراهية الطفل إلى أطباء العيون جميعًا، وقد يمتد ذلك معه فيكره فلسفة اسبينوزا حين يعلم أن هذا الفيلسوف كان يصنع المناظير، وربما انتقلت هذه الكراهية لاسبينوزا إلى كراهية للفلسفة الميتافيزيقية كلها، وإلى كراهية لليهود أجمعين؛ لأن اسبينوزا كان يهوديًّا … هذا مثل للترابط المشروط في مجال الانفعال، وأما المران الاستقرائي الذي يربط السبب بمسببه، فينبغي أن نلتمسَه في مجال العضلات.
إذا أطعم إنسان حيوانًا أليفًا؛ جرى وراءه هذا الحيوان كلما رآه، فنقول عندئذٍ عن الحيوان إنه يتوقع طعامًا، والواقع أنه يسلك نفس السلوك الذي كان يسلكه لو كان الذي يراه طعامًا، وهذا مثل للعقل المنعكس المشروط، فقد رأى الحيوان ذلك الشخص المعين مصحوبًا بالطعام دائمًا؛ فأصبح الشخص وحده مثيرًا فيه لنفس الاستجابة التي يستجيب بها للطعام.
فإذا صورنا الموقف في صورة مجردة، كان كما يلي: كان من شأن المنبه «أ» — أول الأمر — أن يستحدث الاستجابة «ﺟ»، وقد أصبح المنبه «ب» يستحدث هذه الاستجابة نفسها نتيجة لما بين «أ» و«ب» من ارتباط؛ أعني أن «ب» قد أصبحت «علامة» دالَّة على «أ»؛ فكل شيء يمكن أن يصبح علامة دالَّة على أي شيء ما دام الشيئان قد تلازما، وأبرز مثل لهذه العلامات الدالَّة عند الإنسان هو كلمات اللغة؛ إذ تصبح الكلمة علامة دالَّة على مسماها ما دامت الكلمة قد اقترنت بذلك المسمى، ودلالة العلامات على مدلولاتها هي من قبيل الاستقراء العملي. فأينما قرأنا أو سمعنا عبارة لغوية، كان تأثرنا بهذه العبارة مستندًا إلى عملية استقرائية بهذا المعنى، ما دامت الألفاظ المستخدمة في العبارة علامات تشير إلى ما تعنيه من أشياء؛ أي إننا نستجيب للألفاظ بنفس الاستجابة التي كنا نستجيب بها للمنبهات الأصلية — أي الأشياء — التي جاءت الألفاظ لتنوب عنها، فلو قال لي قائل: «قد اشتعلت النار في بيتك.» كان أثر العبارة عندي هو نفس الأثر الذي كان يحدث لو رأيت النار مشتعلة في البيت.
فالذي نُعنى به الآن هو أنَّ الاستدلال على الصورة التي يقع بها فعلًا في شئون الحياة العملية الجارية، تطور للمبدأ الأصيل، مبدأ الأفعال المنعكسة المشروطة. على أن الاستدلال — كما يجري فعلًا — منقسم إلى نوعين؛ أولها الاستدلال الاستقرائي، وثانيهما هو الاستدلال الاستنباطي الذي يتمثل في البراهين الرياضية، والأول أهم من الثاني بدرجة كبيرة؛ لأنه يشمل — كما رأينا — طريقتنا في استخدام العلامات بشتى صنوفها، ويشمل التعميمات التجريبية، كما يشمل أيضًا العادات التي نعبر عنها بتلك التعميمات التجريبية تعبيرًا لفظيًّا، وإن كنت أعلم أن وجهة النظر التقليدية تستنكر غاية الاستنكار أن نعدَّ معظم الحالات السالفة استدلالًا؛ مثال ذلك: حين تقرأ في الصحيفة اليومية أن الحصان الفلاني قد فاز في سباق داربي، فتقوم بعملية استقرائية — من وجهة نظرنا وهو ما تنكر النظرة التقليدية أنه استدلال على الإطلاق — إذا أنت اعتقدتَ بناء على ما قد قرأتَ أن ذلك الحصان المذكور قد فاز فعلًا في السباق؛ ذلك لأن المنبِّه الذي تأثرت به لم يكن رؤيتك للحصان نفسه وهو يفوز، بل كان علامات سوداء مرقومة على الورق الأبيض في الصحيفة اليومية، وليست ترتبط هذه العلامات السوداء بالحصان الفاتر وبسباق داربي إلا بعلاقة الترابط الذي يجعل شيئًا ينوب عن شيءٍ؛ لما وقع بين الشيئين من اقتران في الخبرة السابقة. هذا استدلال في رأينا، وأما النظرة التقليدية فلا ترى الاستدلال إلا في العمليات العقلية والتي نستعرض بها «المُقدِّمات»؛ لكي ننتزع «النتيجة» ومنها، وعندي ألَّا فرق بين العملية الاستقرائية المحكمة الدقيقة وبين «الاستجابة المحفوظة» في صورها الساذجة، فما الأول إلا تهذيب الثاني، أما من حيث الأساس والجوهر فالعمليتان من صنف واحد.
وأما البراهين الرياضية فرأيي فيها أن النتيجة دائمًا تحتوي على كل المقدِّمات أو على بعضها، وكل ما في الأمر أن النتيجة كتبت ما في المقدمات بلغة جديدة، لكنه ليس من اليسير علينا غالبًا أن نرى صدق هذه الحقيقة، أعني أن نرى أن النتيجة هي نفسها المقدمات مكتوبة بلغة غير لغة المقدِّمات؛ أما الواقع فهو هذا: لدى الرياضي مجموعة من قواعد على أساسها يتصرف فيما بين يديه من رموز، وتطبيق القواعد على الرموز الرياضية يحتاج إلى مهارة من نوع المهارة التي يتطلَّبُها لاعب البلياردو مثلًا وهو يلتزم القواعد في لعبته، والفرق بين الرياضي إزاء رموزه وقواعد التصرف فيها، ولاعب البلياردو إزاء كُراته وقواعد التصرف فيها، هو أن قواعد البلياردو جاءت اتفاقًا، على حين أن بعض قواعد الرياضة — على الأقل — يمكن وصفها بأنها «حق» بمعنًى من معاني هذه الكلمة، ولا نقول عن إنسان إنه يفهم الرياضة ما لم يكن قد «رأى» أن هذه القواعد صحيحة، ولنا أن نسأل الآن: ما معنى هذا؟ رأيي أن الأمر هنا لا يختلف إلا في درجة التعقيد. وحدها عن العملية التي نفهم بها أن لفظتي «نابليون» و«بونابرت» تشيران إلى شخص واحد بعينه؛ على أننا إذا أردنا شرحًا لهذا؛ كان لزامًا علينا أن نعود إلى ما قد سبق لنا ذِكْره في الفصل الخاص «باللغة» عندما تحدثنا عن إدراك معاني الجُمَل فقلنا إنه يتضمن إدراكًا «للصُّور».
فللإنسان قدرة على الاستجابة للصورة (الفورم) وهي قدرة لا نزاع في أنها موجودة كذلك عند الحيوانات العليا بدرجة قليلة جدًّا بالنسبة للإنسان، وهي عند الإنسان نفسه تتفاوت من فرد إلى فرد، على أنها تزداد تدريجًا — بصفة عامة — حتى يبلغ الإنسان سن المراهقة، وأحسبها هي المميز الرئيسي الذي يحدِّد طبيعة «الذكاء»، فمِمَّ تتألف هذه القدرة على إدراك الصور؟
إن الطفل إذا ما تعلم حرفًا من أحرف الهجاء — حرف «ﻫ» مثلًا — لا يتعذر عليه قراءته أينما وجده وبأي لون كُتب به؛ أبيض أو أسود أو أحمر، وبأي حجم جاء؛ كبيرًا أو صغيرًا؛ ومعنى ذلك أنه أدرك في الحرف جانبه المميز، وهو «صورته». ولقد أعطيتُ ابني وهو دون الثالثة قطعة من الخبز على شكل مثلث، وقلت له: هذا مثلث؛ فلما رأى قاعدة تمثال في اليوم التالي وعليها أشكال مثلثة، أشار إليها قائلًا: هذه مثلَّثات، وذلك أن «صورة» قطعة الخبز، بعد اطِّراح خصائصها الأخرى من طعم ولون وملمس، قد انطبعتْ في ذهنه، وهذا الضرب من إدراك «الصورة» في الأشياء هو المرحلة الأوليَّة في عمليات الإدراك الصوري.
ومعاني الصيغ الرياضية المعقَّدة مرهونة دائمًا بالقواعد المقرَّرة فما يختص بمعاني الرموز المفردة، ومن ثم كانت معاني تلك الصيغ شبيهة من حيث الأساس بمعاني الجمل، فما قلناه في فصل «اللغة» عن الجمل من أنها على خِلاف الكلمات المفردة — تستند في معانيها إلى العلاقات التي ترتبط بها مفرداتها، أو بعبارة أخرى تستند إلى «الصورة» التي جاءت تُعبِّر عنها، لدرجة أننا إذا ما صادَفْنا جملتين متَّحدتين في الصورة ومختلفتين في مادة المفردات، درَجْناهما تحت نوع واحد، أقول إن ما أسلفنا ذكره عن معاني الجُمل ينطبق كذلك على معاني الصيغ الرياضية التي هي مؤلفة من مجموعة رموزٍ تدل على «صورة» معيَّنة، فإذا ما دلَّت صيغتان رياضيتان على نفس الصورة — واختلفتا في مادة رموزهما — قلنا عنهما إنهما متساويتان.
ونلخص ما قد أسلفناه فنقول: إن الاستدلال الرياضي يتألف من كون مجموعتين مختلفتين من الرموز تستحدثان فينا استجابة واحدة، على حين أن الاستدلال الاستقرائي يتألف — أولًا — من اتخاذ شيء ما علامة دالَّة على شيء آخر، وثانيًا: إذا ما عرفنا أن «أ» علامة دالَّة على «ب»، جعلنا «أ» بعد ذلك علامة دالَّة أيضًا على «ﺟ»؛ وهكذا نرى الفارق المُمَيِّز للاستقراء في حالاته المألوفة من الاستنباط في حالاته المألوفة، هو أن الاستدلال في الاستقراء قوامه أن نتخذ من علامة ما علامة على شيئين مختلفين. على حين أن الاستنباط قوامه أن نتخذ من علامتين مختلفتين علامتين دالَّتين على شيء واحد بعينه؛ على أن نوعي الاستدلال يشتركان في أنهما معًا يُعنيان بالعلاقة القائمة بين علامةٍ وما تدل عليه، وإذن فكلاهما يندرج تحت قانون واحد، هو قانون الترابط.