الفصل الثامن

المعرفة من وجهة نظر سلوكية

يتجنَّب السلوكي كلمة «معرفة» كما يتجنَّب كلمة «ذاكرة»، ومع ذلك فالظاهرة التي نطلق عليها اسم «المعرفة» أمر قائم، وأريد في هذا الفصل أن أتناول هذه الظاهرة بالبحث؛ لأرى إن كان بين جوانبها جانب يعجز السلوكيون عن معالجته معالجة وافية إذا اقتصروا على نظرتهم السلوكية وحدها.

ونعيد هنا ما ذكرناه في الفصل الثاني من أن المعرفة كلمة تطلق على عملية ذات مراحل متصلة، تبدأ بالمنبِّه وتنتهي بالاستجابة؛ أي إنها — في حالتي البصر والسمع — تبدأ من شيء خارج جسم الإنسان لتنتهي بفعل نرد به. هذا على اعتبار أن الشيء الخارجي متصل بالأثر الذي نتلقاه اتصالًا سببيًّا في نطاق العالم الطبيعي نفسه؛ وسأغض النظر مؤقتًا عن حالتي البصر والسمع، لأقصر الحديث على المعرفة التي نستمدها من حاسَّة اللمس، وذلك بغية التحديد الواضح.

فمن المُشاهَد أن اللمس يستتبع استجابات في الحيوانات الدنيا كالدود مثلًا، أَنَقُول — إذن — إن للدودة «معرفة» بالشيء الذي تلمسه؟ جوابنا هو: نعم من بعض الوجوه؛ فالمعرفة فيها تفاوت في الدرجة، فإذا نظرنا إليها من وجهة نظر سلوكية؛ قلنا إن للدودة في الحالة المذكورة معرفة إلى حد ما، ما دامت تردُّ بفعلها على منبِّهٍ من نوع معيَّن، وأن ذلك الردَّ يمتنع بامتناع المنبِّه؛ فلا يكون ثمة فرق — بهذا المعنى للمعرفة — بينها وبين «الحساسية» التي تناولناها بالحديث عندما تعرَّضْنا لموضوع الإدراك الحسي؛ فعلى هذا الأساس نفسه يمكن القول بأن الترمومتر «يَعرف» درجة الحرارة وأن البوصلة «تعرف» جهة الشمال؛ هذا هو المعنى المقصود عندما نقول عن الحيوانات الدنيا إنها «تعرف»، مُعتمدين في ذلك على ما نلاحظه من سلوكها؛ فهنالك حيوانات كثيرة تُخفي نفسها إذا تعرَّضَت للضوء، فيجوز لنا أن نقول عنها إنها «تعرف» المنبه الذي استجابت له، لكن هذا المعنى ليس هو ما نقصده بكلمة «معرفة» في استعمالها المألوف، على الرغم من أنه البداية الأولى التي تطوَّرت فأصبحت هي المعرفة بالمعنى المألوف، وبغير تلك البداية كانت هذه المعرفة لتستحيل علينا.

ولا تكون المعرفة بغير تعلُّم بالمعنى الذي بسَطْناه في الفصل الثالث، فالفأر الذي تعلَّمَ طريق الخروج من المتاهة «يعرف» ذلك الطريق، والطفل الذي تعلم أن يستجيب باللفظ لصورة معينة، «يعرف» جدول الضرب، وليس بين الفأر وتعلُّمه للحركات الجسدية التي تخرجه من المتاهة وبين الطفل في تعلمه للحركات الجسدية التي ينطق بها جدول الضرب، فرق جوهري، ففي كلتا الحالتَين نقول عن الفأر أو عن الطفل: إنه «يعرف» شيئًا ما؛ لأنه يستجيب له على صورة مُعيَّنة مفيدة، ولم يكن يستطيع الاستجابة على هذا النحو لو لم يتعلم بالتجربة.

وإنما تكون الاستجابة للمنبه الذي يرغب فيه الحيوان (كالطعام مثلًا). أقول: إن الاستجابة في هذه الحالة تكون «معرفة» إذا كانت استجابة محقِّقة للغاية المطلوبة بأسرع الطرق وأسهلها، ولذلك فالمعرفة مسألة درجة؛ فالفأر الذي يصحح أخطاءه في كل مرة يحاول فيها الخروج من المتاهة، يزداد معرفة في كل مرة عن المرة السابقة، فإذا كان تعريفنا للمعرفة على هذا الوجه صحيحًا، ترتَّب على ذلك انعدام المعرفة الخالصة المجرَّدة؛ لأن المعرفة — بناء على هذا التعريف — لا يكون لها وجود إلا بالنسبة إلى هدف معيَّن يراد تحقيقه أو رغبة معيَّنة يراد إشباعها؛ أي إن المعرفة بناء على التعريف السالف، هي القدرة على اختيار أفضل الوسائل المؤدِّية إلى أغراضنا.

وإن هذا التعريف لينطبق أتمَّ انطباق على الحالات التي تشبه حالة الفأر الذي يحاول الخروج من المتاهة، فإذا سألتك هل «تعرف» الطريق من ميدان التحرير إلى محطَّة السكة الحديدية؟ ثم أجبتني بالإيجاب؛ كان معنى ذلك أنك تستطيع السير إلى الهدف بغير انعراجات يطول معها الطريق بلا مُبرِّر معلوم، وفي مقدورك أن تبرهن على معرفتك للطريق بمجرد وصفه وصفًا لفظيًّا دون حاجة منك إلى سَير فعلي، لكن ما كل الأمثلة بهذا الوضوح في ظهور التشابه بين معرفتِنا ومعرفة الفأر في المتاهة، فماذا نعني عندما نقول عن فلان إنه «يعرف» أن كولمبس عبَر المحيط سنة ١٤٩٢م؟ نعني أولًا أن كتابة هذه العبارة في موضعها المناسب من ورقة الامتحان تؤدِّي إلى النجاح، وإذن فالأمر هنا هو على وجه الدقة كالأمر في حالة الفأر الذي يعرف كيف يلتمس طريقه في المتاهة، لكننا كذلك نعني شيئًا آخر؛ إذ قد — نذكر هذه الحقيقة من حيث هي حقيقة تاريخية صحيحة لها أثرُها في الحاضر الراهن. والواقع أن معظم معلوماتنا هي من قبيل المعلومات الواردة في كتاب الطهو، فهذه عبارة عن تعليمات وإرشادات تُتبع حين تنشأ الحاجة الداعية لها، ولكنها لا تنفع في كل ساعة من ساعات النهار، ولما كانت المعرفة من شأنها أن تنفع إذا ما دَعتْ إليها الحاجة؛ فقد نشأتْ لدينا الرغبة العامة في اكتسابها، وتمَّ لنا ذلك بوساطة الأفعال المنعكسة المشروطة، فما أشبه العالِم الذي غاص في العلم حتى خاب في الحياة العملية، بالبخيل الذي انغمس في جمع المال حتى نسي الغرض من جمعه، أعني أن كليهما قد صرَفَته الوسيلة عن الغاية، وهنا يَجدُر بنا أن نلاحظ أن المعرفة محايدة بالنسبة إلى مختلف الأغراض التي يمكن أن تتحقق بها؛ فإذا عرفتَ أن الزرنيخ سام؛ فهذه المعرفة تنفعك في تجنُّب الزرنيخ إذا أردت العافية، لكنها كذلك تنفعك في اجتراع الزرنيخ إذا أردتَ الانتحار، وليس في وُسعنا أن نحكم — استنادًا إلى سلوك شخص معيَّن إزاء الزرنيخ — إن كان ذلك الشخص يعرف أو لا يعرف أن الزرنيخ سامٌّ إلا إذا عرفنا أي رغبة يريد تحقيقها؛ أهي الحياة السليمة أم هو الموت؟ فربما يكون قد سَئم الحياة ويتمنَّى الموتَ وبعد ذلك نراه يجتنَّب الزرنيخ، ظانًّا أنه دواء شافٍ وهو لا يريد الشفاء، فلو عرَفنا عنه ذلك كله قلنا إن تَجنُّبه للزرنيخ عندئذٍ دالٌّ على «عدم» معرفته به.

فالاستجابة السلوكية وحدها لا تكون «معرفة» إلا إذا قرنَّاها بالغرض المقصود، لكن الغرض أو الرغبة أمر يُنظر إليه من داخل، وليس أمام السلوكي وسيلة إلى إدراكه من مجرد مشاهدته للسلوك الظاهر، وسنُرجئ بقية الحديث في هذا حتى نبحث في الإنسان من داخل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥