بنية الذَّرَّة
إننا في كل ما قد ذكرناه حتى الآن عن الإنسان منظورًا إليه من خارج، كنا نأخذ العالَم المادي الطبيعي مأخذ الإدراك الفطري السليم، فلم نسأل أنفسنا: ما المادة؟ هل للمادة وجود على الإطلاق؟ أيكون العالَم الخارجي مؤلفًا من مادَّة لكنها من نوع مختلف عمَّا نظن؟ وإذا عرفنا العالم الطبيعي على حقيقته، فأي ضوء تلقيه هذه المعرفة على فهمنا لعملية الإدراك الحسي؟ هذه كلها أسئلة سنُحاول الإجابة عنها في الفصول التالية، وسيكون اعتمادنا في الإجابة عنها على علم الفيزياء، ولما كانت الفيزياء الحديثة ممعنة في التجريد ولا يسهل بسطها بلغة سهلة، فلا ينبغي للقارئ أن يصبَّ عليَّ اللوم إن صادفَتْه صعوبة أو غموض هنا أو هناك؛ لأني سأحاول التبسيط ما وسعني ذلك؛ ذلك أن العالم الطبيعي كما تراه نظرية النِّسْبِيَّة والنظريات الحديثة في بنية الذَّرَّة، يختلف أشد اختلاف عن العالم الطبيعي كما يقع لنا في حياتنا اليومية، بل إنه ليختلف عن العالم الطبيعي كما رآه العلماء في القرن الثامن عشر؛ وليس في وسع الفلسفة كائنة ما كانت أن تتنكر للتَّغيُّرات الانقلابية التي طرأت على علم الفيزياء، والتي انتهت إلى حقائق ثبت صوابها عند العلماء، بل إن واجبنا ليقتضينا أن نطرح كافَّة المذاهب الفلسفية القديمة لنبدأ بدءًا جديدًا، دون أن تحمل الفلسفات السابقة إلا قليلًا من التقدير؛ لأن عصرنا الراهن قد تغلغل في طَبائع الأشياء تغلغلًا أعمق ممَّا فعل أي عصر مضى، وإنه لتواضع زائف أن نبالغ في قيمة ما خلَّفَته لنا القرون السابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر من ميتافيزيقا.
فلما أن كشفنا عن فاعلية الراديوم، اضطُررنا إلى إعادة النظر في الذرات، فوُجِد أن الذرة من عنصر مشعٌّ للراديوم يمكن تحليلها إلى ذرة من عنصر آخر مضافًا إليه ذرة من الهليوم، وكذلك وُجِدَت عناصر مختلفة يمكن إضافتها إلى سلسلة العناصر التي أسلفنا ذكرها، مثال ذلك أن الراديوم حين ينحلُّ ينشأ عنه في النهاية نوع من الرصاص يختلف بعض الشيء عن الرصاص الذي نجده في المناجم؛ فدلَّ هذا كلُّه على أن ما كنا نسمِّيه بالذرة إن هو إلا بنية مركَّبة يمكن تحويلها إلى نوع آخر إذا ما فصلنا عنها أحد أجزائها.
ولا تزال هذه النظرية باقية من حيث الجوهر، على الرغم من الاكتشافات الحديثة، التي مؤداها أن المادة مكوَّنة من نوعَيْن من الوحدات؛ إلكترونات وبروتونات، والإلكترونات كلها مُتشابهة وكذلك تتشابهُ البروتونات كلها أتمَّ التشابه؛ فأما البروتونات فتحمل مقدارًا معيَّنًا من الكهرباء الموجبة، وأما الإلكترونات فتحمل كلها مقدارًا معينًا من الكهرباء السالبة، غير أنَّ كتلة البروتون تُساوي كتلة الإلكترون ١٨٣٥ مرة، والإلكترونات ينفر بعضها من بعض، وكذلك البروتونات يطرد بعضها بعضًا، ولكن الإلكترون والبروتون يجذب أحدهما الآخر، وكل ذرة بِنْية مركَّبة من إلكترونات وبروتونات؛ فذرة الهيدروجين — وهي أبسط الذرات تركيبًا — تتألف من بروتون واحد وإلكترون واحد يدور حوله كما يدور كوكب حول الشمس، وأما سائر العناصر فكلٌّ منها يتركب من نواة مؤلَّفة من عدة بروتونات وإلكترونات، ويدور حول هذه النواة عدد من الإلكترونات فقط، وفي كل نواة يكون عدد البروتونات أكثر من عدد الإلكترونات، ثم يوازن هذا النقص في إلكترونات النواة الإلكترونات الدائرة حول النواة؛ على أن عدد البروتونات الذي في النواة هو الذي يحدِّدُ لكل عنصر وزنَه الذري.
والذي يهتمُّ له الفيلسوف من هذه النظرية الحديثة هو اختفاء المادة باعتبارها «شيئًا» ذا صلابة معينة؛ إذ حلَّ محلها إشعاعات من مركز معين. وسترى في الفصل الآتي أن نظرية النِّسْبِيَّة أيضًا تؤدي إلى تحطيم صلابة المادة، ولكنها تصل إلى هذه النتيجة بطريق آخر، وهكذا أصبحت هذه المناضد والمقاعد، والشمس والقمر، بل أصبح هذا الخبز الذي نأكله تجريدات لا تتبين لها شكلًا مُحدَّد المعالم؛ إذ أصبحت مجموعة من قوانين تظهر في تتابع الأحداث التي تشع هنا أو هناك.