الفصل التاسع

بنية الذَّرَّة

إننا في كل ما قد ذكرناه حتى الآن عن الإنسان منظورًا إليه من خارج، كنا نأخذ العالَم المادي الطبيعي مأخذ الإدراك الفطري السليم، فلم نسأل أنفسنا: ما المادة؟ هل للمادة وجود على الإطلاق؟ أيكون العالَم الخارجي مؤلفًا من مادَّة لكنها من نوع مختلف عمَّا نظن؟ وإذا عرفنا العالم الطبيعي على حقيقته، فأي ضوء تلقيه هذه المعرفة على فهمنا لعملية الإدراك الحسي؟ هذه كلها أسئلة سنُحاول الإجابة عنها في الفصول التالية، وسيكون اعتمادنا في الإجابة عنها على علم الفيزياء، ولما كانت الفيزياء الحديثة ممعنة في التجريد ولا يسهل بسطها بلغة سهلة، فلا ينبغي للقارئ أن يصبَّ عليَّ اللوم إن صادفَتْه صعوبة أو غموض هنا أو هناك؛ لأني سأحاول التبسيط ما وسعني ذلك؛ ذلك أن العالم الطبيعي كما تراه نظرية النِّسْبِيَّة والنظريات الحديثة في بنية الذَّرَّة، يختلف أشد اختلاف عن العالم الطبيعي كما يقع لنا في حياتنا اليومية، بل إنه ليختلف عن العالم الطبيعي كما رآه العلماء في القرن الثامن عشر؛ وليس في وسع الفلسفة كائنة ما كانت أن تتنكر للتَّغيُّرات الانقلابية التي طرأت على علم الفيزياء، والتي انتهت إلى حقائق ثبت صوابها عند العلماء، بل إن واجبنا ليقتضينا أن نطرح كافَّة المذاهب الفلسفية القديمة لنبدأ بدءًا جديدًا، دون أن تحمل الفلسفات السابقة إلا قليلًا من التقدير؛ لأن عصرنا الراهن قد تغلغل في طَبائع الأشياء تغلغلًا أعمق ممَّا فعل أي عصر مضى، وإنه لتواضع زائف أن نبالغ في قيمة ما خلَّفَته لنا القرون السابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر من ميتافيزيقا.

إن ما يستطيع علم الطبيعة أن يقوله عن المادة، بل عن العالم الطبيعي بصفة إجمالية، وأن يقوله من وجهة نظر الفيلسوف، ليندرج تحت عُنوانَين أساسين؛ الأول: بِنية المادة، والثاني: نظرية النِّسْبِيَّة، وقد كان الموضوع الأول إلى زمن قريب أقلَّ من الثاني في أثره الانقلابي من الوجهة الفلسفية، وإن يكن أكثر من الثاني في هذا الأثر الانقلابي من وجهة النظر الفيزيائية، فحتى عام ۱۹۲٥م كانت النظريات الخاصَّة ببنية الذَّرَّة قائمة على الفكرة القديمة عن المادة، تلك الفكرة التي تجعل المادة عنصرًا لا يطرأ عليه الزوال؛ أما اليوم، فبفضل عالِمَين ألمانيين هما هيزنبرج Heisenberg، وشردنجر Schrodinger، ذابت آخر بقية باقية من الذرَّة الصلبة القديمة، وأصبحت المادة عنصرًا شبحيًّا كهذه الأشياء التي يتحدث عنها الروحانيون، وجدير بنا — قبل أن نأخذ في الحديث عن الآراء الجديدة — أن نستوعب النظرية التي زالت لتحلَّ محلها هذه الآراء، وهي نظرية أبسط من هذه الآراء الجديدة وأسهل، وتوضح حقائق كثيرة ممَّا يستوجب الاحتفاظ بها لنتخذها خطوة انتقالية إلى الحديث عن النظرية الخاصَّة ببنية الذَّرَّة؛ بل إن النظريات الحديثة قد نشأت عنها بطريق مباشر، فلا مناصَ إذن من الوقوف عندها حينًا.
إن النظرية القائلة بأن المادة تتكون من «ذَرَّات»؛ أعني من أجزاء مادية صغيرة لا تقبل الانقسام، ترجع إلى اليونان، غير أنها كانت عند اليونان لا تعدو مرحلة التفكير المجرد، والبرهان على صدق هذه النظرية الذَّرِّية مستمدٌّ من الكيمياء، وأما النظرية نفسها في صورتها التي ظهرت بها في القرن التاسع عشر، فترجع إلى «دولتن Dalton» إلى حدٍّ كبير؛ إذ كان الرأي هو أن ثَمَّةَ عددًا من العناصر، وأن سائر المواد إن هي إلا تركيبات من هذه العناصر، ووجد أن هذه المواد المركبة تتألف من «جُسيمات Molecules»، كل جُسَيْم منها يتكون من «ذرات Atoms»، على أن هذه الذرات إما أن تكون من نفس العنصر، أو أن تكون من عناصر مختلفة، فجُسَيم الماء يتركب من ذرَّتَين من الهيدروجين، وذرة واحدة من الأكسجين، ويمكن بالتحليل الكهربائي أن نفصل هذه عن تلك، وكان المفروض — حتى ظهرت فاعلية الراديوم — أن الذرات لا يطرأ عليها تغيُّر أو زوال، وأما المواد البسيطة غير المركبة فكانتْ تسمى عناصر، وبلغ عدد العناصر اثنين وتسعين عنصرًا، أو قل إن عددها يجب أن يبلغ هذا الرقم إذا مُلئت الفجوات التي تعترض تسلسل العناصر المعروفة (وعدد العناصر المعروفة سبع وثمانون عنصرًا)؛ فهذه الفجوات تدل على عناصر يجب أن تكون موجودة لكنها لم تُعْرَف بعد؛ فلكل عنصر رقم يدل عليه، فأولها هو الهيدروجين ويرقمونه بالعدد ١، وثانيها هو الهليوم ويرقمونه بالعدد ٢، واليورانيوم هو الثالث وهكذا حتى نبلغ آخر العناصر ويرقمونه بالعدد ٩٢، وربما كان في النجوم من العناصر ما تكون أرقامها الذرية أعلى من هذا العدد، لكننا لم نكشف عنها بعدُ.

فلما أن كشفنا عن فاعلية الراديوم، اضطُررنا إلى إعادة النظر في الذرات، فوُجِد أن الذرة من عنصر مشعٌّ للراديوم يمكن تحليلها إلى ذرة من عنصر آخر مضافًا إليه ذرة من الهليوم، وكذلك وُجِدَت عناصر مختلفة يمكن إضافتها إلى سلسلة العناصر التي أسلفنا ذكرها، مثال ذلك أن الراديوم حين ينحلُّ ينشأ عنه في النهاية نوع من الرصاص يختلف بعض الشيء عن الرصاص الذي نجده في المناجم؛ فدلَّ هذا كلُّه على أن ما كنا نسمِّيه بالذرة إن هو إلا بنية مركَّبة يمكن تحويلها إلى نوع آخر إذا ما فصلنا عنها أحد أجزائها.

ولا تزال هذه النظرية باقية من حيث الجوهر، على الرغم من الاكتشافات الحديثة، التي مؤداها أن المادة مكوَّنة من نوعَيْن من الوحدات؛ إلكترونات وبروتونات، والإلكترونات كلها مُتشابهة وكذلك تتشابهُ البروتونات كلها أتمَّ التشابه؛ فأما البروتونات فتحمل مقدارًا معيَّنًا من الكهرباء الموجبة، وأما الإلكترونات فتحمل كلها مقدارًا معينًا من الكهرباء السالبة، غير أنَّ كتلة البروتون تُساوي كتلة الإلكترون ١٨٣٥ مرة، والإلكترونات ينفر بعضها من بعض، وكذلك البروتونات يطرد بعضها بعضًا، ولكن الإلكترون والبروتون يجذب أحدهما الآخر، وكل ذرة بِنْية مركَّبة من إلكترونات وبروتونات؛ فذرة الهيدروجين — وهي أبسط الذرات تركيبًا — تتألف من بروتون واحد وإلكترون واحد يدور حوله كما يدور كوكب حول الشمس، وأما سائر العناصر فكلٌّ منها يتركب من نواة مؤلَّفة من عدة بروتونات وإلكترونات، ويدور حول هذه النواة عدد من الإلكترونات فقط، وفي كل نواة يكون عدد البروتونات أكثر من عدد الإلكترونات، ثم يوازن هذا النقص في إلكترونات النواة الإلكترونات الدائرة حول النواة؛ على أن عدد البروتونات الذي في النواة هو الذي يحدِّدُ لكل عنصر وزنَه الذري.

والذي يهتمُّ له الفيلسوف من هذه النظرية الحديثة هو اختفاء المادة باعتبارها «شيئًا» ذا صلابة معينة؛ إذ حلَّ محلها إشعاعات من مركز معين. وسترى في الفصل الآتي أن نظرية النِّسْبِيَّة أيضًا تؤدي إلى تحطيم صلابة المادة، ولكنها تصل إلى هذه النتيجة بطريق آخر، وهكذا أصبحت هذه المناضد والمقاعد، والشمس والقمر، بل أصبح هذا الخبز الذي نأكله تجريدات لا تتبين لها شكلًا مُحدَّد المعالم؛ إذ أصبحت مجموعة من قوانين تظهر في تتابع الأحداث التي تشع هنا أو هناك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥