مقدمة وتمهيد
يُثيرُ الحديث عن المسرح العربي عدَّةَ مشاكل أولية لا بد من تصفيتها، وأولى تلك المشاكل تأتي من أن المسرح ليس فنًّا من فنون الأدب التقليدية التي عرفها العرب القدماء، وخلَّفوا لنا فيها تراثًا يشبه ما خلفوه في فنون الأدب الأخرى، كفنون المدح والهجاء والرثاء والغزل والمقامات والخطب وما إليها من فنون الشعر والنثر التقليدية عند العرب.
على أن هذه الظاهرة لا تُعفي المتحدث عن المسرح من البحث عمَّا يمكن أن يكون لهذا الفنِّ من أصولٍ تاريخيةٍ بعيدةٍ عند المصريين القدماء أو عند العرب، بل ولا يعفيه من إيضاح الأسباب التي حالت دون ظهور هذا الفن عند العرب القدماء، أو التي حالت دون أخْذِهم هذا الفن عن اليونان، على نحو ما أخذوا عنهم الفلسفة والمنطق وبعض العلوم عند ازدهار الترجمة في العصر العباسي، كما أنها لا تعفيه أيضًا من البحث عمَّا يمكن أن تكون قد قامت به بعض الفنون الشَّعبيَّة، مثل فن خيال الظِّلِّ والأراجوز وصندوق الدنيا من تمهيد الشعب المصري خاصة والشعوب العربية عامة لتقبُّل الفن المسرحي، عندما أخذ العرب هذا الفن عن الغربيين ابتداءً من القرن التاسع عشر، وأخيرًا لا تعفيه هذه الظاهرة أيضًا ممَّا يمكن أن تكون قد أحدثته فنون الأدب التقليدية عند العرب من تأثير على فن المسرح، عندما أخذ العرب يترجمون عن الآداب الغربية المسرحيات أو يقتبسونها أو يعربونها ثم يمثلونها فيما أنشئُوا من دور للمسرح، وفي النهاية عندما أخذوا يؤلِّفون هم أنفسهم المسرحيات الشعرية والنثرية.
والمشكلة الثانية تتعلَّقُ بالتفرقة التي يجب أن نقوم بها بين التاريخ العام والتاريخ الأدبي؛ وذلك لما سنلاحظه من أن جانبًا كبيرًا من تاريخ الفنِّ المسرحي لا يمكن أن يدخل في التاريخ الأدبي الذي تتناوله المجموعة التي تتضمن هذا الكتاب، والتي تتحدث عن تاريخ فنون الأدب المختلفة عند العرب.
وتفسيرًا لهذه المشكلة نقول: إن التاريخ العام يتناول الماضي المُنقطِع؛ أي الماضي الذي مات أو انقضى ولم يعد مستمرًّا في الحاضر ومؤثرًا فيه، وأمَّا التاريخ الأدبي فإنه لا يتناول إلا الماضي المستمر في الحاضر، وهو لا يتحدَّث عن الماضي المنقطع إلا في حدود الضرورة التي يستوجبها البحث اللازم لتفسير المؤلَّفاتِ الأدبية الحية المتخلفة عن ذلك الماضي، والتي لا تزال تُقرأُ أو تمثَّلُ في العصر الحاضر، وتؤثر فينا على نحو من الأنحاء، وليس من شَكٍّ في أن التاريخ العام يتناول الكثير من الوثائق والمؤلَّفات الأدبية التي ماتت بعد عصرها، ولم تعد تعتبر من المؤلفات الأدبية الحية المؤثرة، بل أصبحت مجرد وثائق تاريخية كغيرها من وثائق التاريخ.
وعلى هذا الأساس سنعرض للكثير من المسرحيات وفِرقِ التمثيل ودُورِه التي ماتت كلها، ولم تخلف تراثًا حيًّا مؤثرًا في جيلنا الحاضر أو في الأجيال المقبلة، وسوف ينطوي تحت هذا الفصل جميع تلك التمثيليات التي مُثِّلت في مصر وغير مصر بعد ترجمتها أو تعريبها أو تأليفها، منذ مارون نقاش في منتصف القرن التاسع عشر، وهو رائد الفن المسرحي في العالم العربي حتى سنة ١٩٢٧م، وهي السنة التي أصدر فيها أحمد شوقي أول مسرحية شعرية له وهي «مصرع كيلوباترة» ثم تلتها مسرحياته الأخرى، التي طُبعت وأعيد طبعها، ولا يزال الأدباء والمتأدِّبون بل وفرق التمثيل ودُور المسرح والإذاعة والسينما أحيانًا تتداولها بالقراءة والدرس والمشاهدة، ثم تَبعه بعض كبار أدبائنا من الشعراء والناثرين، كمحمود تيمور وتوفيق الحكيم وعزيز أباظة وغيرهم من الأدباء المعاصرين الذين لم يبلغوا مرتبة هؤلاء الأربعة، ولم يؤثروا في فن المسرح وفي الثقافة الأدبية العامة مثلما أثَّرَ هؤلاء الأربعة، الذين سنركز عليهم الحديث باعتبار أن إنتاجهم المسرحي يبدو أنه الإنتاج الواسع الانتشار الذي يُرجَّح أن يفلت معظمه أو أكثره من طوفان الزمن، وأن يدخل في التاريخ الأدبي باعتباره تراثًا باقيًا دائم التأثير.
وأمَّا ما دون ذلك فأغلبه لا تتوفَّرُ له القيم الأدبية والفنية التي تضمن له البقاء بل إن الكثير من المسرحيات التي لاقت النجاح والإقبال عندما مُثِّلت على المسارح لم تُطْبَع ولم تتداولها الأيدي، وبالتالي لم تكتسب المظهر المادي الأولي الذي يُدخلها في عِدادِ التراث الأدبي الذي يستحق البحث والتأريخ وتعريف القراء به، وإن كنا لن نُحجم عن التنويه بما نعتقد أنه خليق بالإنقاذ من الفناء والاحتفاظ به كجزء من تراثنا الأدبي من المسرحيات المترجمة أو المُعرَّبة أو المُؤلَّفة، والتي لم تطبع، لعل في هذا التنويه ما يدعو بعض الناشرين إلى إنقاذها وإذاعتها بين الجمهور.
وأخيرًا تأتي مشكلة نجاح أو عدم نجاح الفن المسرحي عند العرب، وأسباب هذا النجاح أو الفشل، والوسائل التي نراها كفيلة بتسديد خُطا هذا الفن، وضمان نجاحه عند العرب، وإحداث أثره المرجو في حياتنا الاجتماعية والثقافية والفنية؛ وذلك لأن هذه المشكلة قائمة الآن فعلًا في مصر وغير مصر من البلاد العربية؛ حيث تطالعنا الصحف والمجلات، بل والكتب أحيانًا كل يوم بأحاديث وآراء ومشروعات تدور كلها حول المسرح وضرورة علاج مشاكله، وتسديد خُطاه نحو النجاح؛ حرصًا على الدَّورِ الذي يستطيع أن ينهض به في حياتنا العامة والخاصة، وإنقاذًا له من منافسة السينما العاتية، وصونًا له عن الانحدار إلى مستوى الأدب الرخيص، إن لم تقُل التهريج المبتذل، وفي النهاية بحث التَّعارُضِ الذي يقوم بين صلاحية بعض المسرحيات العربية الحديثة للقراءة وعدم صلاحيتها للتمثيل، وعجزها عن استمالة جمهور المشاهدين، وتحديد قيمة الصلاحية للقراءة والصلاحية للتمثيل، والموازنة بينهما من حيث قدرة كل نوع منهما على التأثير في حياة الناس وأذواقهم وثقافتهم الأدبية والفنية، ومعالجة مشاكل التأليف والتمثيل، والرابطة الوثيقة التي تقوم بين المشكلتين، وكذلك الرابطة التي يجب أن تقوم بين الدولة وفن المسرح تأليفًا وتمثيلًا وتشييدًا لدور التمثيل وإشرافًا على فرقه ودوره.