تطور الأدب التمثيلي
لا مِراء في أن اليونان القدماء هم رُوَّاد الأدب التمثيلي الذي تراكم تراثه عند الغربيين على مر القرون، فهم الذين وضعوا أصوله وفرَّعوا فنونه، ووصلوا به إلى درجة النضوج.
ومن المعلوم أن هذا الفن قد نشأ عند اليونان في عبادة إله الخمر والكَرْم باخوس أوديونيزوس، ومن طقوسه وأساطير حياته وموته وما يصحب هذا الموت من أحزان، على نحو ما يذبل الكَرْم ويجِفُّ، ثم يُبعثُ حيًّا مع الربيع، وما يصاحب هذا البعث من نشوة ومرح، نشأ فنا التراجيديا والكوميديا عند اليونان، وقد ظلت التراجيديا تستمد موضوعاتها عندهم من أساطير الآلهة وأنصاف الآلهة ثم الملوك والأمراء والنبلاء، بينما انفصلت الكوميديا بسرعة عن أساطير الآلهة وحياة الملوك والأمراء والنبلاء، ونزلت إلى حياة الشعب وعامة الناس، تستقي منها موضوعاتها وشخصياتها، وتهدف إلى نقد الحياة السياسية والاجتماعية حينًا، والحياة الأخلاقية الفردية والنفوس البشرية حينًا آخر.
ولقد كان ظهور الأدب التمثيلي، أو على الأصَحِّ الشعر التمثيلي لاحقًا لظهور الفنين الكبيرين الآخرين اللذين يتكون منهما، بالإضافة إلى الشعر التمثيلي الأدب الشعري كله، ونعني بهما فن الشعر القصصي أو شعر الملاحِم وفن الشعر الغنائي، ولا غرابة في ذلك، فالشعر الغنائي قد كان من الطبيعي أن يسبق في الظهور غيره من الفنون؛ وذلك لأنه الفن الذي يتغنى بآلام الفرد وآماله وأحاسيسه وانفعالاته إزاء الكون والطبيعة وقوى الوجود الظاهرة والخفية، فوجوده يكاد يقترن بوجود الإنسان في ذاته، واهتدائه إلى اللغة كوسيلة للتعبير عما في نفسه، ثم إلى موسيقى الألفاظ كأداة أكثر قوة ومواتاة للتعبير عن الذات، كما كان من الطبيعي أن يظهر شعر القصص والملاحم بمجرد أن أصبحتْ هناك حياة اجتماعية أو قبلية للبشر، وأصبح لهم ماضٍ كان يتلخَّصُ بنوع خاص في المعارك والحروب التي كانت تقوم بين القبائل أو الشعوب في المنافسة على الحياة ووسائل العيش، وانفعل هذا الإنسان الفِطري القبلي بهذا الماضي وبتلك الحروب والمعارك، التي أسبغ عليها الزمن صبغة الأساطير وخوارق الأمور، فنشأ شعر القصص والملاحم الذي يتغنى في سذاجة ومبالغة بأعمال البطولة في المعارك والقوة في الجلاد، وبذلك نشأ الشعر القصصي وشعر الملاحم والحروب.
وأمَّا الشعر التمثيلي فقد كان آخرَ تلك الفنون ظهورًا في تاريخ الأدب الإنساني؛ وذلك لأنه يتطلب مرحلة أسمى في الثقافة والتفكير والقدرة الفنية؛ لأنه محاكاة إن لم يكن خلقًا للحياة والشخصيات، وقُدرة على تحريكها، وفق ملابسات حياتها وطبائعها المفطورة فيها وما ترمي إليه من أهداف، أو تستجيب إليه من غرائز وأحاسيس وأفكار وأوهام، فهو فن معقد لا يظهر ولم يظهر إلا بعد أن وصلت الإنسانية إلى مرحلة كبيرة من النضوج؛ ولهذا إذا كان فن الغناء قد ظهر منذ أزمان سحيقة مُوغِلةٍ في القِدمِ، وظهر فن الملاحم حوالي القرن العاشر أو الثاني عشر قبل الميلاد، فإن الشعر التمثيلي لم يظهر عند اليونان ولم ينضج إلا في القرن الخامس، وقد ظهرت معه الفلسفة والتفكير النظري، بل والعلمي، وإن ظل الجدي منه يستمد هياكله من الأساطير القديمة في معظم الأحيان، بل وفي فُتاتِ ملاحم هوميروس، كما يعترف كبار الشعراء التمثيليين أنفسهم في ذلك الوقت.
ونحن لا نريد أن نخوض في تاريخ الشعر التمثيلي عند اليونان ومن تَلَاهُم في تاريخ الإنسانية الطويل، ولكننا نكتفي بإيضاح أصول ذلك الفن العامة، وفنونه المتنوعة، وخصائصها لنبني عليها خطوط التطور العام لهذا الفن حتى عصرنا الحاضر.
إن أول تطوُّرٍ خطير عند اليونان قد كان انفصال فن التمثيل عن الدِّين وطقوسِه، وقد كان الفضل في ذلك راجعًا إلى أنَّ هذا الفن لم ينشأ في كَنفِ الدِّين بفضل الكهنوت وتحت إشرافِه، بل نشأ في الحقول، بواسطة الشعب نفسه في أعياد جني العنب، وذلك بينما نلاحظ أن هذا الفن عندما نشأ في كنف الدين وطقوسِه على يد الكهنوت عند المصريين القدماء مثلًا لم يستطع أن ينفصل قطُّ عن الدين، ولا أن يخرج من المعابد وأسرارها المغلقة إلى الحياة وضوء النهار، بل إن هذا الفن أو ما يُشبهُه عندما مارسه رجال الدين عند اليونان أنفسهم في بعض المعابد التي كانوا يمثِّلون فيها ما سموه بالأسرار، مثل معبد إيلوزيس بجوار أثينا قد ظل — كما حدث عند المصريين — حبيسًا في المعابد ولم يخرج إلى الحياة، وبالتالي لم ينفصل عن الدين، ولم يتطور ليصبح فنًّا أدبيًّا رائعًا، وهذه الأسرار الإغريقية هي التي تأثرَت فيما يبدو بطقوس المصريين القدماء وفنهم الديني الذي يشبه إلى حَدٍّ ما فن التمثيل، بدليل تطرُّق بعض أساطير إيزيس إلى تلك الأسرار، بل واكتشاف عدة تماثيل لإيزيس في إيلوزيس وغيرها من أماكن العبادة عند اليونان، وذلك بينما تطوَّر التمثيلُ الدينيُّ الشعبيُّ حتى تمخَّضَ عن فن المسرح الأدبي.
ولقد كان التمثيل في أول نشأته عند اليونان غناءً خالصًا يتغنَّون فيه بأساطير الإله باخوس، ويقومون أثناء الغناء الجماعي بحركات تحكي أحداث حياة ذلك الإله، ويختلط القصص بالنحيب أو الضحك، والمسرح الذي توحي به أحداث تلك الحياة، ثم تطوَّرَ هذا الفن، وأصبح يدور بواسطة شخص يقص الأحداث وجوقة من الريفيين تعلق بغنائها على تلك الأحداث، وتطوَّر تطورًا آخر بتغيُّر القصص إلى حوار بين شخصين، تُعرض بفضله الأحداث، ويتخلَّلُ هذا العرض غناء الجوقة الذي يعلق على تلك الأحداث، وبذلك بدأت المسرحية الإغريقية تأخذُ شكلها النهائي، الذي يجمع بين الحوار وأغاني الجوقة التي يرأسها عازف الناي.
واستكملت المسرحية اليونانية تطوُّرَها، فأصبحت تتألَّف من مدخل ثم عدة فصول وأغانٍ للجوقة، يتلو كل منهما الآخر حتى تنتهي المسرحية بأغنية الخروج التي تغنيها الجوقة وهي منصرفةٌ من المسرح، أو على الأصح من الأوركسترا؛ لأن المسرح نفسه لم يكن يظهر عليه غير الشخصيات التي يدور بينها الحوار، بينما تقف الجوقة ومعها العازف أو العازفون في الأوكسترا؛ حيث تغني وتعزف وتقوم بحركات رقص إيقاعي.
وهكذا كان التمثيل عند اليونان يجمع بين الحوار والغناء والرقص والموسيقى، كما يجمع في الإخراج فنون التصوير للمناظر والنحت للتماثيل التي تظهر على المسرح؛ وبذلك كان فن التمثيل عند اليونان يجمع بين عدة فنون جميلة، وإن ظل فن الشعر هو المسيطر والغالب على غيره من الفنون، على نَحوٍ جعل من هذا الفن أدبًا خالدًا على مَرِّ القرون، فالموسيقى كانت بسيطةً بدائيةً لا تطغى على الشعر، وإنما كانت تخلق جوًّا وتلوِّنُ المعاني المختلفة باللون العاطفي المطلوب، حتى تستكمل وسائل التعبير والإيحاء، بل والإثارة العاطفية، فضلًا عن الإثارة الفكرية، وكان التمثيل بفضل اجتماع كل هذه الفنون متعة كاملة لكافة الحواس الإنسانية.
وإذا كان الرومان لم يضيفوا شيئًا إلى فن التمثيل، بل ولم يخلِّفوا لنا تراثًا يُعتدُّ به إلا في أحد فروعه وهو الكوميديا، بينما ذبلت عندهم التراجيديا حتى كادت تختفي، فإن القرون الوسطى التي أُهمِلَ فيها معظم التراث اليوناني الروماني القديم بعد ظهور المسيحية وانتشارها في العالم الغربي قد عادت بالمسرح إلى كنف الدين، وكان في هذه المرة الدين المسيحي، فالمسرحيات تستمد موضوعاتها من حياة المسيح، ومأساة صلبه، وحياة القديسين وكراماتهم، وأُسسِ الأخلاق الدينية، وكانت تمثَّلُ في ساحات الكنائس، ولكنها لم ترتفع قط إلى المستوى الإنساني والفني الذي بلغته عند اليونان القدماء.
وإنما عاد فن المسرح والأدب التمثيلي إلى الازدهار بعد حركة البعث التي تبتدئ بها النهضة الأوربية الحديثة، فقد عادت الإنسانية إلى الثقافة والآداب اليونانية الرومانية القديمة لتبعثها من جديد، وبفضل هذا البعث ظهر المسرح الكلاسيكي في القرن السابع عشر بفرنسا بنوعٍ خاص، وكان إنتاج الأدب الكلاسيكي أوضح ما يكون في الأدب التمثيلي، الذي نبغ فيه راسين وكورني وموليير، بينما صاغ الشاعر بوالو أصول ذلك الأدب في قصيدة طويلة عنوانها: «فن الشعر»، وقد استقى تلك الأصول عن أرسطو وعن الشاعر الروماني هوراس الذي كان قد كتب هو الآخر قصيدة طويلة بنفس العنوان.
هذا وممَّا تجدر ملاحظته أن أرسطو عندما وضع للأدب التمثيلي أصولَه وقواعدَه في كتابه عن «الشعر» لم يستمد تلك الأصول والمبادئ من تفكيره المجرد، بل استمدَّها من عيون الأدب التمثيلي عند اليونان، ومن السهل عند قراءتنا لما كتبه عن فن التراجيديا مثلًا أن نلاحظ أنه قد استنبط ما أورد من أصول وقواعد وخصائص من تحليله لمسرحية بعينها وهي مسرحية «أوديب ملكًا» لسفوكليس، وأمَّا ما كتبه عن الكوميديا فإنه للأسف مفقود.
ولمَّا كان أدباء المذهب الكلاسيكي قد تقيَّدوا تقيدًا شديدًا بالأصول التي أوردها أرسطو، بل والتي أضاف إليها بعض علماء النهضة أكثر مما قال به أرسطو، فإنه لا مَفرَّ من أن نُجمِل بعض تلك الأصول التي خضع لها المسرح الكلاسيكي.
لقد أرجع أرسطو المسرح — كما أرجع غيره من الفنون — إلى أصل عام هو المحاكاة، فهو بفنيه التراجيدي والكوميدي محاكاة للحياة، بحيث تعتبر كل تراجيديا أو مأساة وكل كوميديا أو ملهاة قِطاعًا محددًا من الحياة، وعلى هذا الأساس تنبني كافة الأصول الأخرى التي يخضع لها هذا الفن.
فالمسرحية بحكم أنها تحكي أو تعكس قطاعًا محدودًا من الحياة لا تتناول حياة الشخصيات ولا فترات طويلة منها، بل تتناول أزمة أو حادثة من الأزمات، والأحداث التي تعرض لحياة الشخصيات خلال قِطاعٍ محدود منها؛ ولذلك ترتفع الستارة عن المسرحية الكلاسيكية والأزمة قد تجمَّعَت عناصرها، وتحدَّدَت أوضاعها، ثم تسير الأزمة بأحداثِها حتَّى تبلغَ قِمَّتها ويشتد اشتباكها، ثم تأخذ في الانفراج والحل حتى تنتهيَ المسرحية.
وعلى الأساس السابق قال أرسطو أو على الأصح استنتج من روائع المسرحيات اليونانية وبخاصة من مسرحية «أوديب ملكًا» أن كل مسرحية يجب أن تتوفَّرَ فيها وحدة الموضوع حتى تخلو من التفكُّكِ والاصطناع، وحتى تأتيَ أكثرَ مُشاكلةً للحياة، كما قال بأنه من الواجب أن تجريَ أحداثُها في زمان ومكان معقولَيْنِ غير مسرفَيْن في الطول والتباعد، وجاء العالم الإيطالي سكاليجر فجعل من هذه الملاحظات قانونًا ثابتًا مُلزمًا سماه قانون «الوحدات الثلاث»، وذلك بالرغم من أن أرسطو لم يوجب غير وحدة الموضوع، وإن يكن قد أشار إشارةً عابرةً إلى وحدتي الزمان والمكان، وانتشرَ تفسيرُ سكاليجر الذي يحدِّد الزمانَ بأربعٍ وعشرين ساعة، والمكان بمدينة واحدة، وأصبحَ هذا التفسير قانونًا مقدسًا عند الكلاسيكيين الفرنسيين، حتى لقد حدثَ أن اتُّهِمَ كورني بالخروج على تلك الوحدات المقدسة في مسرحية «السيد»، واحتدم النزاع حول هذه التهمة، إلى أن انتهى الأمر بصدور قرار من المجمع اللغوي الفرنسي بتشكيل لجنة برئاسة الأديب شابلان لدراسة هذه المسرحية، وبيان ما إذا كانَت قد خرجت على الوحدات الثلاث أم لم تخرج؟ ووضعت تلك اللجنة تقريرًا مُسهبًا، قدمته إلى المجمع، الذي قرر طبعه ونشره باسم «رأي الأكاديمي في مسرحية السيد»، وفيه يقر المجمع التهمة، ممَّا اضطر الشاعر الكبير إلى أن يرد على التقرير في سبع مقالات طويلة بعنوان: «أبحاث عن المسرح»، وهذا التقرير وتلك المقالات يعتبران من الوثائق الهامة في تاريخ النقد الأدبي.
ورأى الكلاسيكيون أرسطو وهوراس يقَسِّمان الأدب التمثيلي إلى فنين متميزين، لكل منهما خصائصه التي لا تختلط بخصائص الفن الآخر، وهما فن المأساة أو التراجيديا وفن الملهاة أو الكوميديا، وقد ميَّزَ أرسطو التراجيديا بأنها فنٌّ جادٌّ نبيل، يستمدُّ موضوعاته من حياة الآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال والنبلاء، كما يستمدُّ شخصياته من نفس الطبقات، بينما ميَّزَ الكوميديا بأنه فن ضاحك ساخر يستمد موضوعاته وشخصياته من حياة الشعب وأفراده، بل وينزل أحيانًا كثيرة إلى حياة الدَّهْماء وأفرادهم ولُغتهم، فاتخذ الكلاسيكيون من هذه التَّفرقة وذلك التمييزِ قاعدةً أخرى من القواعدِ الملزِمة في المسرح الكلاسيكي؛ وهي قاعدة «فصل الأنواع»، التي تقول بضرورة فصل كُلٍّ من فنَّيِ المسرح أحدهما عن الآخر فصلًا تامًّا مطلقًا، وعدم جواز الجمع في المسرحية الواحدة بين مشاهد المأساة ومشاهد الملهاة، كما حرصوا على أن تتوفَّر لكلٍّ من الفنَّيْن خصائصه المميزة، فهما وإن كانا يُكتبان شعرًا في الآداب الكلاسيكية الحديثة، كما كانا يُكتبان شعرًا عند اليونان والرومان القدماء إلا أن لغة المأساة يجب أن تظلَّ دائمًا لغة نبيلة رفيعة، بينما يُسمحُ للغة الملهاة أن تسف أحيانًا، بل وأن تنزل إلى مستوى لغة العوام، وإذا كانت شخصيات وموضوعات المأساة لم تَعُدْ تستمد عند الأدباء المسيحيين الحديثين من الديانة الوثنية، فإنها قد ظلَّت تُستَقى من حياة وأشخاص الملوك والأبطال والعظماء التاريخيين، بينما ظلت الكوميديا تستقي مادتَها من حياة الشعب، وشخصياتها من أفراده، وبذلك حافظ الكلاسيكيون في دقة على قاعدة «فصل الأنواع».
وثمَّةَ خاصية أخرى كانت تُوجِب المحافظة على الفصل بين فني المسرح؛ هي أن التراجيديا بحكم نُبلِها وسموِّها كانت تستمد مادتها من الأساطير الدينية أو قصص البطولة التاريخية القديمة، بينما كانت الكوميديا تستمد — بالضرورة — مادتها من الحياة المعاصرة، وتعالج المشاكل الأخلاقية والاجتماعية الراهنة، وقد احترم الكلاسيكيون المحدثون هذه الخاصية، وإذا كانوا لم يعودوا يستمدونَ — كما قلنا — مادتهم من الأساطير الدينية القديمة التي عفت عليها المسيحية، فإنهم قد ظلوا يستمدون تلك المادة من التاريخ القديم أسطوريًّا كان أو واقعيًّا، وبخاصة من تاريخ اليونان والرومان حتى كان كتاب المؤرخ اليوناني القديم «بلوتارخ» عن «حياة العظماء» وكتابا المؤرِّخينِ «هيرودوت» اليوناني و«تاسيتوس» الروماني من أهم مناهل المسرح الكلاسيكي، حتى لقد حدث أن اضطر الشاعر الكبير «راسين» إلى أن يعتذر في مقدمة إحدى مسرحياته إلى القرَّاء والنقاد؛ لأنه استمد موضوعها وشخصياتها من حياة الأتراك المعاصرين، وتلك هي مسرحية «باجازيه» أو «بايزيد»، وذلك بينما أخذت الكوميديا الكلاسيكية على يد «موليير» تعالج مشاكل الفرنسيين المعاصرين وتختار من بينهم شخصياتها.
ولمَّا كانت الآداب اليونانية القديمة تمتاز — بنوع خاص — بأنها آداب إنسانية، أي آداب تُعالج مشاكلَ الإنسان باعتباره إنسانًا قبل كل شيء، وكان مسرح اليونان يُعنى بالمشاكل التي تنبع عن الطبيعة الإنسانية في ذاتها أو في صراعها مع قوى الكون وقوى الآلهة، بل وكانت الديانة اليونانية القديمة التي تغذي المسرح في جوهرها ديانةً «ناسوتية» أي ديانة تتصوَّر الآلهة على شاكلةِ البشر، وتخلع عليهم كافة أحاسيس ومشاعر وأخلاق البشر، خيِّرةً كانت أو شريرة، ممَّا زاد في طبيعة المسرح الإغريقي الإنسانية، باعتبار أن جميع شخصياته من آلهة وبشر يشتركون في صفة الإنسانية، وتصطرع عواطفهم وعقولهم كبشر، ويخضون جميعًا بشرًا وآلهة لنفس الضرورة الكونية — لمَّا كان هذا هو الحال في الآداب القديمة التي يحاكيها الأدب الكلاسيكي، فقد جاء هو الآخر أدبًا إنسانيًّا يعالج المشاكل الإنسانية الخالدة النابعة عن طبيعة الإنسان في ذاته، دون التقيُّد ببيئة معينة أو زمان معين.
ولمَّا كان الإغريق القدماء قد تميزوا بالوضوح والاتزان، وذلك بحكم توازن ملَكاتِهم في إنتاجهم الأدبي الذي لا يطغى عليه عقل بارد ولا عاطفة ملتهبة مُسرِفة، حتى قيل إنهم كانوا يفكرون بقلوبهم، ويحسون بعقولهم، بمعنى أنه قد كان في عقلهم إحساس، وفي قلبهم تفكير مما يحقق التوازن بين مَلَكاتِ النفس، فإن الأدب الكلاسيكي وبالتبعية المسرح الكلاسيكي، قد تميز هو الآخر بنفس الخصائص، وهي الوضوح الذي أسسه الشاعر الناقد «بوالو» على قوله: «إن ما يُدرَكُ جيدًا يسْهُلُ التعبير عنه في وضوح»، فنقص الوضوح عندهم يأتي من عجزٍ في الإدراك وقصورٍ فيه، وبالتالي لا يمكن تبريرُه، كما تميزَ بتحكيم العقل والخضوع له على تفاوُتٍ يرجع إلى تفاوت الأمزجة والطبائع، فشاعر ﮐ «كورني» يرجِّحُ في مسرحه حكم العقل الذي يتغلب بفضله دائمًا الواجبُ على العاطفة في معظم مسرحياته، بينما يُوصف شاعر آخر ﮐ «راسين» بأنه مصوِّر أو مُغنِّي العواطف وبخاصة عاطفة الحب.
وهكذا نخلُصُ إلى أن التراجيديا الكلاسيكية قد كانت مسرحية شعرية جدِّية تعالج موضوعًا تاريخيًّا مستمدًّا من حياة الملوك والنبلاء والأبطال، خاضعةً لأصول فنية جامدة، كالوحدات الثلاث، ومبدأ فصل الأنواع، كما كانت تعالج مشكلةً إنسانية عامة، وأمَّا الكوميديا الكلاسيكية فإنها — وإن كانت مسرحية شعرية خاضعة لنفس القواعد — فإنها لم تكن تعالج موضوعًا تاريخيًّا، بل كانت تعالج موضوعاتٍ معاصرةً مستمدة من حياة عامة الشعب.
•••
وسار الزمن، وأخذ الفكر الإنساني يتحرَّر شيئًا فشيئًا من سيطرة التراث القديم ومحاكاته والتقيُّد بأصوله، ونما التفكير الفلسفي في القرن الثامن عشر، وأخذت الطبقة الوسطى تَحتلُّ مكانها في المجتمع الذي لم يَعُدْ قاصرًا على نبلاء ودهماء.
ونظر الفلاسفة إلى المسرح بأصوله الكلاسيكية المتحجِّرة، فناقشوا تلك الأصول، وتبيَّن لهم أنه حتى مع التسليم بأن المسرح محاكاة للحياة، فإن هذه الحقيقة ذاتها لا تستوجب تقسيم المسرحيات إلى مآسٍ وملاهٍ ولا شيء غيرهما؛ وذلك لأن المآسيَ الفاجعة والملاهيَ الصاخبة ليست إلا حالات أو أزمات شاذة متطرفة في الحياة، ولا يمكن أن يعتبر المسرح محاكاة أو مرآة صادقة للحياة إذا اقتصر على عرض تلك الحالات أو الأزمات الشاذة؛ لأنه بذلك يغفل نسيج الحياة العام، وتيارها الغالب المستمر، فالحياة — في معظمها — ليست سوداء كالمأساة ولا بيضاء كالملهاة، وإنما هي — في نسيجها العام — شيء رمادي لا إلى هذا ولا إلى ذاك، ونحن في الغالب لا نقضيها في الانتحاب أو في القهقهة، وإنما نتأثَّر في الأغلب الأعم بأحداثِها تأثرًا هادئًا معتدلًا، أو نبتسم ابتسامًا خفيفًا، قد يكون صريحًا وقد يلوِّنُه الأسى، وعلى هذا الأساس قال فلاسفة ونقاد القرن الثامن عشر بضرورة خلق نوعٍ جديدٍ من المسرحيات يختلف عن التراجيديا، كما يختلف عن الكوميديا، ويقع بينهما موقعًا وسطًا وسموه: «الكوميديا الدامعة»، أي الدراما التي لا تُثير التأثُّرَ الشديد أو البكاء الغزير، بل نكتفي بمجرد التأثير الخفيف الذي قد تغرورق منه العيون أو تدمع، كما قالوا بأن تقسيم الفن المسرحي إلى تراجيديا تستقي مادتها من حياة العظماء، وكوميديا تُستقى من حياة العامة، فيه إغفال لطبقة اجتماعية أصبحت العمود الفقري للمجتمع، وهي الطبقة الوسطى أو البرجوازية، كما قالوا بأن المشاكل لا تنبع كلها من طبيعة الإنسان كإنسان، بل الكثير منها ينبع من وضع الإنسان الاجتماعي كأبٍ أو زوجٍ أو ابن شرعي أو غير شرعي، كما تنبع من المهنة التي يزاولها الفرد في المجتمع أو من العلاقات الاجتماعية المتباينة، وهذه المشاكل أكثر ما تكون وجودًا بين أفراد الطبقة الوسطى الذين يُعتبَرون في كافة الشعوب أكثر الطبقات الاجتماعية خضوعًا للتقاليد وتمسُّكًا بها؛ ولذلك جمعوا في نوعٍ آخر من المسرحيات بين اختيار موضوعاتها وشخصياتها من الطبقة الوسطى وبين معالجتها لمشاكل تنبع عن الأوضاع الاجتماعية، وسموا هذا النوع الجديد من المسرحيات: «الدراما البرجوازية» وكتب الفيلسوف الناقد «ديدرو» نفسُه مسرحيةً من هذا النوع هي مسرحية «الابن الطبيعي».
وإذا كانت «الدراما الدامعة» و«الدراما البرجوازية» يعتبران أولَ خروج كبير واعٍ متحد على المسرح الكلاسيكي بأصوله وتقسيماته، فإن الزمن قد استمرَّ في سيره حتى كانت الثورة العاتية التي شنَّتها الرومانسية في القرن التاسع عشر على الكلاسيكية كلها وكافة مبادئها وأصولها.
والواقع أن الرومانسية الفرنسية التي ظهرَت في أعقاب الثورة الفرنسية وما خلَّفته من انفعالات وآمال خائبة، قد كانت ثورة عاتية على الكلاسيكية واتزانها وتأنُّقِ أسلوبها، وتحررًا مطلقًا من كافة الأصول والقواعد التي قيَّدت بها الكلاسيكية ملكاتِ الأدباء وإنتاجَهم، فهي مذهب التحرُّرِ والفردية وتوقُّدِ العاطفة؛ ولذلك جاء إنتاجُها في الشعر الغنائي أروعَ من إنتاجها في شعر وأدب موضوعي كالأدب التمثيلي، وإن يكن زعيمها وعملاقها «فيكتور هيجو» قد شنَّ حملة عاتية على أصول المسرح الكلاسيكي في مقدمة طويلة كتبها لإحدى مسرحياته وهي مسرحية «كرومويل»، كما أنفق جهدًا كبيرًا في ترجمة مسرح شكسبير إلى اللغة الفرنسية؛ ليقدمَ إلى الفرنسيين أروعَ مثلٍ لمقدرة العبقرية على أن تخلق أروع المسرحيات دون معرفةٍ بالكلاسيكية ولا خضوعٍ للأصول والقواعد التي كانوا يظنُّون أنها خيرُ ضمانٍ لبلوغ الأدب التمثيلي مستوى الكمال.
لقد ناقش «هيجو» في مقدمة «كرومويل» الأصولَ الكلاسيكية للمسرح مناقشةً قويةً هادمة، وآزرَه وسار على نهجه جميعُ الرومانسيين الفرنسيين.
هاجم الوحدات الثلاث، فقال: إنه حتى بفرض أن المسرح محاكاةٌ للحياة ومرآةٌ لها فإنه لا يمكن — على هذا الأساس — تبريرُ تلك الوحدات التحكُّمية بمعناها الضيق، فالمسرحية إذا كانت تعرض قطاعًا من الحياة، وكان من الواجب أن تمرَّ أحداثُها في زمن محدود حتى تأتي مشاكلتها للحياة أتم، فإن أحدًا لا يستطيع أن يعلِّلَ بحجة معقولة هذا التحديد التحكُّمي للزمن الذي تستغرقه أحداث المسرحية بأربع وعشرين ساعة، وإذا لم يكن بُدٌّ من التحديد فقد كان الواجب — كما يقول «هيجو» — أن يُحدَّد بساعتين أو ثلاث ساعات، وهي الزمن الذي يستغرقه تمثيل المسرحية، وفضلًا عن ذلك فإن المسرح ليس محاكاةً آلية للحياة ولا مرآةً صمَّاء لها، بل إنه قد يكون خلقًا للحياة وجمعًا وتأليفًا بين عناصرها المشتبكة المتداخلة المُشتَّتة، على نحوٍ يُظهِرُ خفاياها، ويُفسِّر ظواهرها، وينقد أوضاعها، ويحدِّد أهدافها، ولا ضيرَ على الأديب أو الشاعر أن يجمعَ مشاهدَ الحياة المترامية في الزمن، أو المتباعدةَ في المكان في مسرحيته؛ لأغراضٍ إنسانيةٍ أو فنيةٍ تُعينه على الوصول إلى ما يبغي من هدف، والمسرح ليس مرآةً آليةً صماء، بل هو مِجْهرٌ يقرِّب البعيد، ويُظهر معالمَ الدقيق، بل ويجسِّمها دون أن يغيِّر من حقيقتِها أو نسبِها، بل يجلوها.
وناقشوا الأصل الثاني وهو «فصل الأنواع» على نفس الأساس الكلاسيكي العام وهو «المحاكاة»، فقالوا بأنه إذا كان الكلاسيكيون يتمسَّكون بأن المسرح محاكاةٌ للحياة ومرآة لها، وكانت تلك الحياة كثيرًا ما تُجمع في المكان الواحد والزمان الواحد بين مَشاهدِ الجد ومَشاهد الهزل، فلماذا يُحظَرُ على المسرح الذي هو محاكاة للحياة أن يجمع في المسرحية الواحدة بين الجد والهزل، وبخاصة إذا كان هذا الجمعُ لا يخلُّ بالأثر النهائي للمسرحية بل يزيده قوة ووضوحًا؟ إذ يُظهر ما في الحياة من تناقض وتفاهة وسخرية، واستشهدوا في تعزيز هجومهم هذا بشكسبير أيضًا الذي لا تخلو مأساة من مآسيه العاتية من شخصية مضحكة كشخصية المهرج أو من مشاهد مضحكة، وقد استخدم شكسبير المهرج كشخصية «فولستاف»، والمشاهد الهزلية لعدة أغراض ناجحة، منها الترفيه أحيانًا عن المشاهدين عندما تعنف المأساة ويشتَدُّ ضغطها على الأعصاب، على نحوٍ قد يسبب لهم آلامًا فعلية، كما يستخدمها أحيانًا أخرى لإظهار ما في الحياة من تناقُضٍ؛ إذ تجمع في صعيد واحد بين الباكي والضاحك، وقد يحملنا على الإحساس بتفاهة الحياة كلها، وخطل انفعالنا بها وحزننا عليها، عندما نشاهد مثلًا في مأساة قوية عنيفة كمأساة «هملت» بطلها وسط مقبرة مهمومًا آخذًا في التفلْسُف والبحث عن أسرار الحياة والموت، بينما يظهر إلى جواره في نفس المشهد حفار مستهتر لا تعنيه الحياة وأسرارها وأحزانها، وهو مستغرِق في شرب النبيذ الذي يسكبه في جمجمةٍ من الجماجم العديدة التي يتعثَّر بها قدمه وسط المقابر.
وهكذا استطاع الرومانسيون أن يحطِّموا مبدأ فصل الأنواع، كما حطموا مبدأ الوحدات الثلاث.
وإذا كانت الكلاسيكية قد اتجهت إلى الحقائق الإنسانية العامة المجردة من ملابساتها وبيئاتها باعتبارها وليدةً للطبيعة الإنسانية المتحدة في كل زمان ومكان، فإنَّ الرومانسية قد هاجمت أيضًا هذا الأساس، وقالت بأن الطبيعة البشرية ذاتها ليست موحدة، بل متغيرة بتغيُّر الزمان والبيئات، كما تتغيَّر العادات والأزياء؛ ولذلك تمسَّكوا بما سموه: «اللون المحلي» ولم يقصروه على المظاهر الخارجية كالملابس وأساليب الحياة ووسائلها، بل مدُّوه إلى النفوس البشرية على نحو ما نلاحظ مثلًا في مسرحية رومانسية كبيرة كمسرحية «هرناني» لفيكتور هيجو؛ حيث لا نرى الطبيعة البشرية العامة، بل نرى طبيعة الشعب الإسباني بالذات، وهي طبيعة جنوبية تتميز بالعنف وشدة الانفعال والإسراف العاطفي، على نحو ما تتميز بملابسها الخاصة، وعاداتها وأساليب حياتها.
وهكذا يتضح كيف أنه إذا كان المسرح الكلاسيكي يهدف إلى معالجة مشاكل الإنسان في عمومها، وباعتبارها مشاكل نابعة من الطبيعة الإنسانية الموحدة وملازمة لتلك الطبيعة في كل زمان ومكان، فإن المسرح الرومانسي قد ابتدع ما سماه: ﺑ «اللون المحلي» الذي تتلوَّنُ به الطبيعة البشرية في البيئات والأزمنة المختلفة، وساعده على ذلك أنه لم يلتزم اختيار موضوعات مسرحياته من تاريخ اليونان والرومان وبيئتهم أو أساطيرهم، على نحو ما فعل المسرح الكلاسيكي، كما أنه لم يُخضِع مسرحياته لأحكام العقل أو مقتضيات المنطق والتفكير، بل كثيرًا ما يُطلق العنان للعواطف أو الغرائز التي إذا كان لها منطق، فإنه يختلف عن منطق العقل على نحو ما قال المفكر الفرنسي الشهير باسكال: «إن للقلب أسبابًا لا يعرفها العقل.»
المعلوم أن العواطف والأحاسيس هي المجال الذي يتفاوت فيه البشر أكبر التفاوُتِ، على نحوٍ يتَّسعُ لما سموه باللون المحلي، كما أنه المجال الذي لا محل فيه لما سمَّتْه الكلاسيكية بالقصد والاعتدال، كما أنه لا محل فيه دائمًا لما حرصتْ عليه الكلاسيكية دائمًا من البساطة والوضوح.
•••
على أنه إذا كانت الرومانسية قد حرَّرَت الأدب التمثيلي من تبعيتِه للتراث اليوناني الروماني، كما حررتْه من كثيرٍ من قيود الكلاسيكية، كقيد الوحدات الثلاث، وقيد مبدأ فصل الأنواع، كما أظهرت اللون المحلي والطابع الغنائي العاطفي، فإنها — مع ذلك — قد ظلت محتفظة ببعض الأسس الكلاسيكية الكبيرة، كالأساس الذي يميِّز بين التراجيديا والكوميديا ويفصل بينهما، باعتبار أن التراجيديا فنٌّ نبيلٌ بموضوعه وشخصياته وأسلوبه اللغوي، بينما الكوميديا فنٌّ شعبيٌّ يستقي موضوعاتِه من حياة الشعب وتجْنَح لغتُه نحوَ لغة الشعب التي تألفها شخصيات الكوميديا.
ولم يكن بُدٌّ من أن ينتظر الأدب التمثيلي بضع عشرات من السنين خلال القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، تطورت فيها الإنسانية تطورًا جديدًا على أثر الثورة الصناعية، والحركات السياسية الاشتراكية فظهرت الطبقات الشعبية في مجال الحياة العامة، على نحو ما ظهرت الطبقة البرجوازية في أعقاب الثورة الفرنسية الكبرى، وإذا كانت البرجوازية قد احتلَّت مكان الصدارة الاجتماعية بعد تحطيم طبقة النبلاء، فإن الثورة الصناعية والحركة الاشتراكية لم تلبث أن أخذت تدفع الشعب إلى مناهضة البرجوازية ومزاحمتها على مكانة الصدارة في المجتمع، ولم يكن بدٌّ من أن يجاريَ الأدب التمثيلي هذا التطوُّرَ الخطير، فيحطم التفرقة التقليدية العميقة التي لم يستطع أيُّ مذهب أدبي أن يحطمها فيما مضى، ونعني بها التفرقة بين التراجيديا والكوميديا من حيث نبل الأولى وشعبيةُ الثانية، فظهر أدباء كبار نخصُّ بالذكر منهم اثنين، هما هنريك إبسن النرويجي وبرنارد شو الأيرلندي اللذين لم يريا مُوجِبًا لأن يُحظر على التراجيديا استقاء موضوعاتها من حياة الشعب العادية ومن بين أفراده، وكان هذا الاتجاه إيذانًا بمولد نوع جديد من المسرحيات يشبه التراجيديا التقليدية في اتجاهه الجدي، ولكنه يختلف عنها في شعبيته؛ ولذلك آثروا وآثر معهم النقاد أن يطلقوا على هذا الفن الجديد اسمًا جديدًا غير التراجيديا، فسموا هذه المسرحيات الشعبية الجديدة باسم: «الدراما الحديثة»، وهي تسمية ذاعَت وعمَّت حتى أوشكت أن تقضيَ على اسم التراجيديا، وأن تُطلق على كل مسرحية جدية شعبية كانت أو غير شعبية، ومن هذا القبيل عِدَّة مسرحيات تُرجمَت إلى العربية ومثِّلت على مسارحنا مثل: «بيت الدمية» و«الأشباح» لإبسن، و«كانديدا»، و«الرجل والأسلحة» لبرنارد شو، ويكفي للتدليل على مدى هذا التطور أن نذكر أن برنارد شو لم يرَ بأسًا من أن يتَّخِذَ من عاهرةٍ بطلة لدرامة له وهي «مهنة مسز وارين»، وفيها يعرض مشكلة الدعارة أو على الأصح مأساة الدعارة، ومن المسئول عنها في المجتمع وطبقاته المختلفة، بعد أن كانت المسرحيات الجدية — أي التراجيديا — لا يمكن أن يكون أبطالها من غير الآلهة وأنصاف الآلهة، ثم الملوك والأمراء والنبلاء وعِليةِ القوم، بل وبعد أن كانت تلك المسرحيات لا تُعالج غيرَ الموضوعات التاريخية أو الأسطورية، ولا يجوز لها أن تستقيَ مادتها من الحياة الشعبية المعاصرة التي تخصَّصت بها الكوميديا.
•••
هذه هي الخطوط العامة الرئيسية لتطوُّر الأدب التمثيلي منذ عهد رُوَّاده اليونان إلى عهد عمالقته المحدثين مثل إبسن وشو، ومن البيِّن أنه عندما أخذ يظهر الأدب التمثيلي في أدبنا المعاصر كان هذا التطورُ قد انتهى إلى آخر مرحله، وكان على روادِ هذا الأدب في العالم العربي أن يتخيَّروا السبيل الذي يرتضونه فإمَّا أن يُسايروا هذا التطور من حيث انتهى، وإمَّا أن يجاروا هذا المذهب أو ذاك من المذاهب التي مَرَّ بها الأدب التمثيلي في تاريخه الطويل، إذا رأوا أو ظنوا أن مجتمعنا لم يتطور التطورات الإنسانية الكبيرة التي أدَّت إلى تطوُّر هذا الأدب، وقدَّروا أن هذا المجتمع لا يزال عند إحدى مراحل هذا التطور الإنساني الطويل، أو إذا لم يضنُّوا أنفسهم بالبحث عن مدى تطور هذا المجتمع، وعن ضرورة الملاءمة بين الأدب التمثيلي الذي يقدَّم لهذا المجتمع، وبين درجة تطوره، فراحوا يخبطون على غير هدى، ويرتجلون على النحو الذي يستطيعون، متأثرين بهذا المذهب أو ذاك على وعي منهم أو غير وعي، بل وزادت المسألة تعقيدًا باعتبار أن هذا الفن دخيلٌ على أدبنا، وأن أدباءنا وشعراءنا متأثِّرون بتراثنا الأدبي الخاص، وأساليبنا المُتوارَثةِ في النظر إلى الحياة وفي الصياغة اللغوية، وإزاء هذه البلبلة الواسعة بين تُراثِ الغرب في الأدب التمثيلي، وتطوره بتطور المجتمع الغربي، وبين تراثنا الأدبي في العربية الفصحى، وتراثنا الشعبي في بعض الفنون التي تشبه من قريب أو بعيد فنَّ التمثيل، لم يكن بد من أن يتعثر هذا الفن ويتلمَّسَ طريقه إلى الجمهور قبل أن تظهر أصالته، وقبل أن يتركز ويستقرَّ كفنٍّ أدبي كبير، يُساهِمُ في تثقيف الشعب وتربيته وتهذيب ذوقه وتوسيع إدراكه وفهمه للحياة ومشاكلها، فضلًا عن تَذوُّقِه للجمال وانفعاله به …
وعلى ضوء هذه الحقائق نستطيع الآن أن ننظر فيما لدينا من أدب تمثيلي منشورٍ ومُتداوَلٍ بين أيدي القراء، مبتدئين بمسرح الشاعر أحمد شوقي الذي يعتبر رائدًا لهذا الفن، باعتبار أنه قد نشر أولى مسرحياته الناضجة في سنة ١٩٢٧م.