مسرح شوقي
في أواخر القرن التاسع عشر كان أحمد شوقي يدرس القانون في فرنسا مُوفَدًا في بعثة من قِبَلِ الخديو، وقد نصحه رجال القصر — على لسان الخديو في خطاباتهم إليه — بألَّا يقصر هَمَّه على دراسة القانون، بل يحاول أن يستفيدَ من الحياة التي تحيط به، وأن يلمَّ بما يستطيع الإلمام به من نواحي الثقافة الفرنسية بوجه عام، ولمَّا كان شوقي قد أحس — منذ زمن مبكر — بميله إلى الأدب وبخاصة إلى الشعر الذي ينظم فيه المقطوعات، فقد كان من الطبيعي أن يلم ببعض نواحي الأدب الفرنسي، بما فيه الأدب التمثيلي، وبخاصة وأنه كان يغادر جامعته في مونبلييه بجنوب فرنسا إلى باريس في إجازته الدراسية، وكانت باريس تَعجُّ عندئذٍ بالحركات والمذاهب الأدبية والفنية، وأنه وإن يكن من المتوقَّعِ أن يكون اهتمامُه أكبر بالشعر الغنائي أي شعر القصائد والمقطوعات الذي يندرج فيه الشعر العربي، والذي أخذ شوقي يزاوله، إلا أنه لم يكن يستطيع أن يغفل فنون الأدب والشعر الأخرى، وبخاصةٍ الأدب المسرحي الذي كانت تقدمه عدة مسارح باريسية؛ ولذلك نرى أنه إن كان قد ترجم قصيدة «البحيرة» للامارتين، كما ترجم وحاكى بعض أقاصيص لافونتين التي أجراها على ألسنة الحيوانات، فإننا نراه أيضًا يحاول في سنة ١٨٩٣م أول محاولة في التأليف المسرحي، وهي مسرحية علي بك الكبير التي ألَّفها وهو لا يزال في فرنسا، وأرسلها مخطوطة إلى السراي، ولكن الظاهر أنها لم تلقَ من السراي ما أمَّلَ من ترحيب، وهو أمر طبيعي، فالسراي كانت تفضل — بالبداهة — أن تتلقى منه قصائد في مدح الخديو، وربما كان هذا هو السبب في أن شوقي لم يواصل هذه المحاولة، بل انصرف إلى شعر القصائد في المديح والتهنئة وما إليها، وبخاصة وأنه التحق بالسراي بعد عودته من أوربا، وأصبح شاعر الأمير، قبل أن يصبح أمير الشعراء، وظلَّ في هذا الاتجاه إلى أن كانت الحرب العالمية الأولى، وعُزِلَ الخديوي عباس الثاني، ونُفِيَ شاعره شوقي إلى إسبانيا؛ حيث ظل إلى أن انتهت الحرب، وقامت الثورة الوطنية التي أظهرت الشعب وعزَّزت الاتجاه الشعبي، بحيث يمكن القول بأنه عندما عاد شوقي في نهاية تلك الحرب إلى مصر، كان الشعبُ قد أصبح السيد الأول، كما أن شوقي لم يعد إلى السراي التي أخذ يتحرَّر من سيطرتها، ويتقرب إلى السيد الجديد وهو الشعب، وإن يكن قد ظل يقصر شاعريته على فن الغناء، أي فن القصائد حتى سنة ١٩٢٧م، وهي السنة التي ابتدأَ فيها إخراجَ مسرحياته الشعرية تِباعًا، فأخرج «مصرع كيلوباترة»، و«مجنون ليلى»، و«عنترة»، و«قمبيز»، و«أمير الأندلس»، كما أعاد كتابة «علي بك الكبير» وأخيرًا كوميديا «الست هدى».
قلنا إن باريس كانت تعج أثناء إقامة شوقي بها بالمذاهب الأدبية والفنية المختلفة، فكانت هناك الواقعية والرمزية وبقايا الرومانسية وطلائع الفرويدية، وإلى جوارها كانت الكلاسيكية لا تزال حية، كما لا تزال حية حتى يومنا هذا، وبخاصة في الأدب المسرحي؛ حيث تخصَّصتْ بعض المسارح الكبيرة كالكوميدي فرانسيز والأوديون في عرض روائع الأدب الكلاسيكي الخالد، إلى جوار المسارح الأخرى العديدة التي تعرض المسرحيات الحديثة الصادرة عن مذاهب الأدب العديدة المعاصرة.
ولمَّا كانت المسارح التي تعرض الروائع الكلاسيكية هي التي تحتضنُها الدولة، وهي التي رسَّختْ شهرتها، وذاع صيتها في العالم أجمع، فالظاهر أنها هي التي جذبت إليها أحمد شوقي أكثر ممَّا جذبته المسارح الأخرى، وبخاصة وأن المسرحيات الكلاسيكية كلها مسرحيات شعرية، كان من الطبيعي أن تستهوي لُبَّ شاعرٍ بالفطرة كأحمد شوقي، بحيث يمكن القول إنه إذا كان شاعرنا قد تأثر في أدبه المسرحي بمذهب أدبي بعينه، فإن تأثرَه قد كان أوضحَ ما يكون بالمذهب الكلاسيكي، وإن كان من الواجب أن نقرر أنه لا يلوح أن أحمد شوقي قد تعمَّقَ في دراسة المذاهب الأدبية المختلفة وتخيَّر منها أي مذهب عن وعي واختيار، وإنما جاءت تأثُّراتُه بطريقة تلقائية غير منهجية؛ ولهذا لا نراه يتقيد في مسرحه بكافة الأصول الكلاسيكية، بل أخذ بما هداه إليه إحساسه.
شوقي والتاريخ
وأول ما نلاحظه أن شوقي قد جارى الكلاسيكية في الرجوع إلى التاريخ ليستقيَ منه موضوعات مسرحياته، فيما عدا الكوميديا الوحيدة التي كتبها وهي «الست هدى».
ومن المعلوم أن الكلاسيكية — كما عرفتها فرنسا في القرن السابع عشر — قد جعلت من أصولها الثابتة العودةَ إلى التاريخ، بل والتاريخ اليوناني الروماني بنوع خاص لتستمِدَّ منه موضوعات لمسرحياتها، حتى ليحدثنا التاريخ الأدبي أن الشاعر الكلاسيكي الكبير راسين قد اضطر إلى أن يعتذر عندما اتخذ موضوعًا لإحدى مسرحياته وهي مسرحية «باجازيه» أو «بايزيد» من حياة تركيا المعاصرة له، وكان سِرُّ هذا الاتجاه سيطرةَ الآداب اليونانية والرومانية القديمة على أدباء فرنسا الكلاسيكيين، الذين أخذوا يُحاكون تلك الآداب إلى حد إهمال تاريخهم القومي، واستقاء مادة لأدبهم المسرحي من تاريخ أولئك اليونان والرومان، وإن يكن الشاعر الكلاسيكي كورني قد حاول أن يبرِّر هذا الاتجاه التاريخي بحجةٍ عقلية فنية، هي قوله: «إن الحوادث الروائية — حتى التي تُعتبر في نظر العقل المجرد خارقة — لا يلبث أن يألفها العقل ويستسيغها عندما تقدَّمُ إليه كحوادث تاريخية وقعت بالفعل»، وربما كانت هذه الحجة هي التي دفعت أولئك الكلاسيكيين إلى ألا يكتفوا بالاستقاءِ من التاريخ الواقعي فحسب، بل وأن يستقوا أيضًا من التاريخ الأسطوري لليونان والرومان القدماء، وإن كانوا قد حرصوا على أن يقربوا هذا التاريخ الأسطوري من منطق العقل، وأن يفسروه بالحقائق النفسية العامة، حتى جاء أدبهم أدبًا إنسانيًّا، كما جاء شديد المُشاكلةِ للواقع، بل وجعلوا تلك المشاكلة مقياسًا لجودة الأدب، أو عدم جودته مهما كان مصدره أسطوريًّا أو غير أسطوري أي تاريخ فعلي.
ومن البديهي أن شوقي لم يكن يستطيع أن يرجع إلى التاريخ اليوناني أو الروماني حقيقيًّا كان أو أسطوريًّا ليستمدَّ منه موضوعاتٍ لمسرحه العربي المصري، وكل ما كان يستطيعه هو أن يعود إلى التاريخ على أن يكون تاريخ قومه أي تاريخ مصر أو تاريخ العرب، وبذلك يكون ما أخذه عن الكلاسيكية هو الاتجاه التاريخي في ذاته، وبالفعل نراه يستمدُّ من تاريخ مصر موضوعاتٍ لمسرحيات: «مصرع كيلوباترة»، و«قمبيز»، و«علي بك الكبير»، كما نراه يستمد من تاريخ العرب موضوعات لمسرحيات: «مجنون ليلى»، و«عنترة»، و«أميرة الأندلس».
وإذا كان الكلاسيكيون الفرنسيون لم يُفضِّلوا التاريخ الواقعي على التاريخ الأسطوري، فإن شوقي هو الآخر لم يفضِّل أحدهما على الآخر، ولم يحرص على أن يلتزم دائمًا التاريخ الحقيقي، فمسرحيتا «مجنون ليلى» و«عنترة» لم يعد من الممكن تخليص ما في وقائعهما من تاريخ حقيقي، عمَّا فيهما من تاريخ أسطوري، تعترف المصادر القديمة ذاتها فضلًا عن المصادر الشعبية بطابعها الأسطوري الذي أثبته بحثُ المؤرخين والنقاد المحدثين، بل إننا لنرى شوقي يفضِّل بعض الروايات الأسطورية على الروايات التاريخية عندما يعثر على الاثنين، ويرى أن الرواية الأسطورية أكثرُ مواتاة لفنه وللهدف الذي يرمي إليه في مسرحيته، وذلك على نحو ما نلاحظ في مسرحية «قمبيز»؛ حيث وجد شوقي نفسه أمام اتجاهين: اتجاه تاريخي يفسِّر غزو قمبيز لمصر بعدة أسباب سياسية واقتصادية ودولية ترجع إلى الصراع الذي كان محتدمًا بين الفرس واليونان، وتسابقهما على توسيع مناطق نفوذهما وسيطرتهما العسكرية والاقتصادية، واتجاه آخر أسطوري أو شبه أسطوري، عُثر عليه عند المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت، إمَّا في كتابه مباشرة، وإمَّا في أحد الكتب الحديثة التي نقلت عنه، وهو ذلك الاتجاه الذي يقول إن قمبيز غزا مصر؛ لأن فرعونها خدعه عندما أراد أن يتزوَّج من ابنته نفريت، فلم يزوجه منها، بل زوجه من نتيتاس ابنة فرعون الذي قتله فرعون الحالي، واستولى على عرشه، ثم أوهم قمبيز أنه قد زوجه من ابنته، واكتشف قمبيز هذه الخدعة، فثارت ثائرته، وغزا مصر انتقامًا من تلك الخديعة، ورأى شوقي في تلك الرواية الأسطورية ما يُواتي هدفه في أن يجعل من نتيتاس بطلةً تفتدي وطنها بنفسها، فتقبل الزواج من قمبيز دفعًا لشرِّه عن وطنها، فيما لو رفض فرعون مصاهرته.
والواقع أن شوقي برجوعه إلى التاريخ يستقي منه مادة لمآسيه مُجاريًا في ذلك المذهب الكلاسيكي، قد استنَّ سنةً ربما كانت من بين الأسباب التي منعت مسرحه من أن يلقى إقبالًا شعبيًّا كبيرًا؛ وذلك لأنه وإن يكن هذا التاريخ هو تاريخنا القومي، إلا أن الجمهور كان يفضل — بلا ريب — أن يرى في ذلك المسرح مآسي حياته المعاصرة، بدلًا من مآسي التاريخ التي بَعُدَ بها العهد، والتي قد تحتاج في متابعتها والانفعال بها قدرًا من الثقافة التاريخية، وبخاصة وأن المسرح العالمي كان قد تطور — كما سبق أن أوضحنا — فظهرت فيه على يدي إبسن وشو الدراما الحديثة التي تستمد موضوعاتها من حياة الشعوب المعاصرة، بل ولربما كان السبب في نجاح الكوميديا الوحيدة التي كتبها شوقي وهي «الست هدى» نجاحًا أكبر بالرغم ممَّا قد يكون في بنائها المسرحي من مآخذ — راجعًا إلى أنها مستمدة من حياتنا المعاصرة، كما أنها تعالج مشكلة اجتماعية حية، وهي مشكلة طمع الأزواج في مال زوجاتهم، ومن المعلوم أن حوادث هذه الملهاةِ تجري في حي الحنفي بالسيدة زينب.
ولكنه يبدو أن كتابة المسرحيات المعاصرة تحتاج إلى خيال مُبدعٍ، وقوة ملاحظة أكبر ممَّا تحتاجه المسرحيات التاريخية، التي يجد المؤلِّف عناصرَها معدةً متجمعةً في أحداث التاريخ أو رواية الأساطير، ولعل شوقي الشاعر الغنائي لم يكن متمتعًا بهذه الملكات النادرة، ولا مستعدًّا لأن يبذل مثل هذا الجهد.
ومع ذلك فإننا نستطيع أن نسلِّم لشوقي بما أراد، وذلك باعتبار أن التجارب التاريخية قد لا تختلف كثيرًا عن التجارب المعاصرة؛ لأنها كلها تجارب إنسانية يمكن أن تهدينا إلى ما نبتغي من حقائق النفس البشرية، ومآسي الحياة، ولكننا لا بد أن ننظر في نوع التجارب التاريخية التي اختارها المؤلف، وفي القيم الإنسانية والاجتماعية التي أضفاها على تلك التجارب، فخلق منها تراثًا أدبيًّا وإنسانيًّا، كما لا بد من أن ننظر في موقف شوقي من تلك التجارب وفي الأهداف التي قصد إليها.
والواقع أن النقاد قد اتخذوا من موقف شوقي إزاء التجارب التاريخية التي اختارها هدفًا لنقدهم اللاذع.
فرأى بعضهم أن شوقي قد أساء الاختيار في عدة مسرحيات، بل ولاحظ تناقضًا بين ما اختار والهدف الذي رمى إليه، وأفْصَحَ عنه في النظرات التحليلية التي ذَيَّلَ بها مسرحياته، حيث نطالع في تلك النظرات أن هدفه الأساسي كان تمجيد العرب والمصريين القدماء، بينما يُلاحظ هذا النفر من النقاد — وبخاصة الأستاذ العقاد — أنه قد اختار لبعض تلك المسرحيات موضوعات وفترات من تاريخ مصر والعرب، كانت من أحلك فترات ذلك التاريخ وأكثرها انحطاطًا، بل وانحلالًا، مثل فترة ضعف المصريين وانحلالهم وسيطرة جنود اليونان المرتزقة على قوات الوطن الدفاعية، كما هو الحال في مسرحية قمبيز وغزو الفرس لمصر، والقضاء على استقلالها، الذي لم تسترده منذ ذلك الحين إلا في أيامنا الأخيرة، ومثل مسرحيته علي بك الكبير، التي تمثل فترة انحلال أخلاقي ووطني شديد في عصر المماليك وغَدْر بعضهم ببعض حتى أصبحت البلاد نهبًا لأطماعهم، ومرتعًا لعبثهم وتكالبِهم على المغانم والشهوات، ثم مصرع كيلوباترة التي تقصُّ هي الأخرى أحداثَ انهيار مصر، ووقوعها فريسة في يد الرومان، في أعقاب انحلال أسرة البطالسة وعبث امرأة هلوك ككيلوباترة التي لم تكن فوق ذلك مصرية في شيء، ولم يكن للشعب المصري في ذلك الحين أي وجود محسوس، وأخيرًا أميرة الأندلس التي تعرض هي الأخرى انحلالَ مُلكِ العرب في الأندلس، ووقوعَهم فريسةً في يد ملوك شمال أفريقيا؛ تمهيدًا لما سيتبع ذلك من انقضاء دولة العرب كلها في إسبانيا.
ولكن هذا النقد من السهل الرد عليه؛ وذلك لأن عصور المجد والازدهار قد لا تتيح للكاتب المسرحي عنصر الصراع الذي تقوم عليه المآسي في غالب الأمر، كما أن فترات المِحَنِ والكفاح الوطني هي التي تُظهِرُ في الغالب معدن الشعوب وصفاتها الأصيلة، وبذلك لا يكون شوقي قد أخطأ من الناحية الفنية ولا من الناحية الوطنية في اختيار موضوعات مآسيه التاريخية من فترات المحن التي مرت بالمصريين أو بالعرب، ويكون من الأجدى ألا يناقش الناقد هذا الاختيار، بل ينظر في كيفية معالجة المؤلِّف لهذه الموضوعات التاريخية، وفي موقفه من التاريخ، ثم في الأهداف التي سعى إليها، ومبلغ توفيقه في بلوغها، ثم في الأصول الفنية التي صدر عنها في تأليف مسرحياته.
أمَّا عن موقف شوقي من التاريخ فقد تفاوتَ النقاد في نقده من النقيض إلى النقيض، فبعضهم مثل الأستاذ إدوارد حنين في المقالات التي نشرها بمجلة المشرق يرى أن شوقي قد تقيَّد بالتاريخ تقيدًا مسرفًا، حتى لنرى هذا الناقد يأخذ مثلًا فقراتٍ من قصة مجنون ليلى — كما وردت في كتاب الأغاني — ويقرنها بمقطوعات من مسرحية شوقي؛ ليُثبت أن شوقي لم يفعل شيئًا سوى صياغة تلك الفقرات والأنباء شعرًا، وذلك بينما نرى ناقدًا آخر كالأستاذ العقاد في كتيبه: «قمبيز في الميزان» يتهم شوقي بجهله بالتاريخ جهلًا حَرَمه من الاستفادة من الكثير من الأحداث والحقائق التاريخية التي كان يستطيع أن يستخدمها في مسرحيته عن قمبيز، فيلقي بفضلها ضوءًا ساطعًا على شخصياتها، ويفسِّر الكثير من خفايا نفوسها، كما يزيد من عنصر الدراما والتأثير في مأساته.
والواقع أن المشكلة الخاصة بموقف الأديب من التاريخ عندما يستقي منه مادة لأدبه مشكلةٌ معقدة، فمن النقاد من يُنكر على الأديب حقَّه في تغيير وقائع التاريخ وبخاصة الكبرى منها، وهم يشبِّهونَ موقفه من التاريخ الفعلي الأكيد بموقفه من الحياة المعاصرة؛ لأن التاريخ ما هو إلا الحياة الماضية، وكما لا يجوز للأديب أن يغيِّر في وقائع الحياة الراهنة عندما يصورها أو ينقدها حتى لا يصبح أدبه كاذبًا مصطنعًا، فإنه لا يحِقُّ له أيضًا أن يغير من وقائع الحياة الماضية حتى لا يتسم أدبه بنفس السمة، وإنما للأديب أن يتخير ما يحلو له من وقائع التاريخ على ألَّا يؤدِّيَ هذا الاختيار إلى قلب حقائق التاريخ والعبث بمنطقه، كما أن له أن يفسر التاريخ على النحو الذي يهديه إليه إحساسه، وأن يتخير من بواعث الأحداث، وخفايا النفوس ما توحي إليه به الوقائع، وأن يحكم تبعًا لهذا التفسير على الشخصيات التاريخية الأحكام التي تتَّسقُ مع منطق تفكيره وإحساسه، ومن هنا مثلًا نرى بعض الأدباء يرى في شخصيةٍ ﮐ «جان دارك» التي قادت الجيوش وقاومت الاستعمار الإنجليزي لفرنسا مقاومة الأبطال بأنها كانت قديسة طاهرة، بينما يرى فيها البعض الآخر استنادًا إلى نفس الوقائع ولكن بتفسير آخر أنها كانت فتاة هستيرية مريضة. وكل ذلك بينما يسلِّمُ بعضُ النقاد والأدباء للأديب بحريةٍ مطلقة إزاء أحداث التاريخ، يتصرَّف فيها كيفما شاء، ولعل إسكندر دوماس الأب قد عبر عن هذا الاتجاه أقوى تعبير عندما قال: «التاريخ! من يعرفه؟ إنْ هو إلا مسمار أشجب فيه لوحاتي»، وهو يقصد من هذه العبارة إلى أن يشكك أولًا تشكيكًا شديدًا فيما نعتبره يقينًا من أحداث التاريخ التي كثيرًا ما يضلُّ المؤرخون في الوصول إلى حقائقها وبواعثها الخفية، وهو يقصد ثانيًا وترتيبًا على ما سبق إلى أن يُبيح للأديب حقَّ التصرف كما يشاء في أحداث التاريخ وفقًا لمقتضيات فنِّه، بل ووفقًا لما يرمي إليه من أهداف، ومن الواضح أن هذا الرأي لا يخلو من إسرافٍ من السهل أن نتبيَّن نتائجه في القصص التاريخية العديدة التي كتبها دوماس نفسه، وصدر فيها عن خياله الجامع أكثر مما صدر عن حقائق التاريخ، حتى اتُّهِمَ أدبه ببُعْدِه عن مشاكلة واقع الحياة المتشابهة في تاريخ الإنسانية كلها.
ومع ذلك فإنه إذا كان هذا الخلاف قائمًا بالنسبة للتاريخ الحقيقي فإنه يكاد يكون معدومًا بالنسبة للتاريخ الأسطوري، مثل تاريخ مجنون ليلى أو عنترة حيث ينعقد الإجماع على حق الأديب في أن يتصرف في تلك الوقائع الأسطورية، أو أن يهملها كلها ليستبدل بها ما يهديه إليه خياله، وفقًا لمنطق فنه ومنطق الإنسانية العام، فشوقي مثلًا كان يستطيع أن يتحلَّل من كثير من الوقائع الأسطورية التي تزخر بها قصة «مجنون ليلى»، كقصة النار التي عَلِقتْ بردائه ويده وهو ذاهل عن نفسه أمام ليلى، وقصة الشاة التي رفض أن يتناول من لحمها؛ لأن الأمَةَ التي أعدتها كانت قد نزعت منها قلبها؛ لاعتقاد العرب حينئذٍ أن لحمها حقيق بأن يُطفئ نار الغرام، وأن يستبدل بهذه الوقائع الساذجة تحليلات نفسية عميقة لجنون الحب وظواهر إنسانية عامة لهذا الجنون، على نحو ما فعل شاعر إنساني كبير كشكسبير في مسرحية «روميو وجولييت» مثلًا، حيث يعالج الغرام وتباريحه ومظاهره وتصرفاته وأفاعيله النفسية العميقة، وإن يكن كل هذا النقد يمكن الرد عليه بأن شوقي قد حرص على أن يحتفظ لمسرحيته بما يسمونه اللَّونَ المحلي الذي يحرص عليه المسرح الرومانتيكي، بل والطابع التاريخي الشعبي، وإن يكن من الحق أن يقال إن مثل هذه المسرحية تصبح عندئذٍ أكثر صلاحية للمسرح الغنائي ولفن الأوبرا منها للمسرح العادي ولفن التمثيل الخالص.
وأمَّا عن جهل شوقي بالتاريخ فهو جهل افترضه الأستاذ العقاد؛ وذلك لأن الأديب لا يُطالَب بأن يستوعب في أدبه جميع حقائق التاريخ وتفاصيله، بل يختار منها ما يريد وما يتَّصل اتصالًا وثيقًا بموضوع مؤلَّفِه الأدبي، ويستلزمه الفن الأدبي والهدف المقصود، ولا أدلَّ على ذلك من أن نرى الأستاذ العقاد يؤاخذ شوقي؛ لأنه قد غفل عن وجود شخصيتين تاريخيتين كبيرتين عاصرتا أحداث مسرحية قمبيز، وهما شخصيتا المشرِّع الأثيني سولون وقارون ملك ليديا الذي يُضرَبُ به المثل في الثراء، وذلك دون أن يدلَّنا الناقد عن الكيفية التي كان شوقي يستطيع بها أو يجب عليه أن يدخل هاتَيْن الشخصيتين في مسرحيته، والجدوى التي يمكن أن تتحقق بإدخالهما فيها، وعلى العكس من ذلك لا يستطيع مُنصِفٌ إلا أن يقر الأستاذ العقاد في نقده لشوقي عندما آخذه بأنه قد غير حقيقة هامة منتجة، عندما زعم أن قمبيز لم يكن يعاقر الخمر، بينما يقول التاريخ بالعكس، وكان شوقي جديرًا بأن يجاري التاريخ في ذلك؛ لأن معاقرة الخمر كانت كفيلة بأن تُعدَّ سببًا من أسباب الجنون الذي نسبه شوقي إلى قمبيز في المسرحية، كما نقر الأستاذ العقاد أيضًا في مؤاخذته لشوقي؛ لأنه لم يُشِرْ من قريب أو بعيد إلى الكوارث العسكرية التي مُنِيَ بها قمبيز في بلاد النوبة، وفي الصحراء الغربية، مع أن هذه الكوارث كانت هي الأخرى كفيلةٌ بأن تساهم في تفسير جنون قمبيز، ذلك الجنون الذي نخرج من المسرحية دون أن نتبين له أسبابًا.
شوقي والصراع المسرحي
ولقد فَطِنَ شوقي إلى أن الفن المسرحي يقوم على الصراع الذي يولِّدُ الحركة المسرحية، وهذا أصل من الأصول الكلاسيكية الثابتة؛ حيث نلاحظ أن المسرحية الكلاسيكية ليست عرضًا لحياة الشخصيات، أو تحليلًا لها، أو نقدًا، وإنما هي قِطاع محدد من تلك الحياة، فالستار يرتفع عن المسرحية الكلاسيكية وعناصر تلك الأزمة قد تجمعت وتأهَّبت للاشتباك، وبالفعل تشتبك وتصل إلى القِمَّةِ، ثم تأخذ في الانفراج أو التطور نحو نهايتها المحتومة، وهذا هو ما يوفِّر لها وحدتَها العضوية، كما يولِّد فيها الحركة المسرحية، ويخرج بها عن الاستعراض، كما يخرج بالحوار عن مجرد المناقشة.
فَطِنَ شوقي إذن إلى أن المبدأ الكلاسيكي القائل بأن المسرحية تقوم على الصراع، ولكنه عند تطبيقِ هذا المبدأ لم يحسن دائمًا استخدامه، لا من حيث اختيار عناصره، ولا من حيث استخدام تلك العناصر في تقوية الصراع وإثارة أفكار وعواطف المشاهدين.
فالصراع في التراجيديا اليونانية القديمة كان يقوم بين البشر والآلهة، أو بين الآلهة وبعضها البعض، أو بين الجميع والقوى الكونية، أو القضاء والقدر، وهو في المسرحية الكلاسيكية التي ظهرت بعد عصر النهضة — وبخاصة في فرنسا عند كورني وراسين؛ حيث أصبح المسرح فنًّا إنسانيًّا خالصًا — كان يقوم بين عناصر النفس المختلفة، فيعرف بالصراع الداخلي، أو بين إرادات الشخصيات وآرائهم وعواطفهم، فيعرف بالصراع الخارجي، وربما كان الصراع الداخلي هو الأغلب الأعم والأكثر تأثيرًا وإثارة وعمقًا في الفن المسرحي.
وكبار المؤلِّفين المسرحيين يختارون للصراع الذي يصورونه في مسرحياتهم أقوى العناصر وأعمقها، فنرى كاتبًا كبيرًا كراسين مثلًا يبني مسرحيته الشهيرة «أندروماك» على صراع عنيف يجري في نفس بطلةِ مسرحيته، بين وفائها لزوجها البطل العظيم هكتور، وبين محبتها لابنها الذي يُهدِّدها عدو زوجها الشهيد بقتله إن لم تقبل الزواج منه، وكاتب عظيم آخر ككورني يبني مسرحيته الخالدة «السيد» على صراعٍ يجري في نفس البطلة، بين حبها لخطيبها ووفائها لوالدها الذي قتله هذا الخطيب وهكذا.
وبفضل قوة العناصر المُصطرِعَة وعمقها تتولَّدُ الحركة المسرحية المثيرة، وذلك على اختلاف الاتجاه، فراسين مثلًا يجريها بين عواطف مختلفة، وذلك بينما نرى كورني يجريها بين العاطفة من جهة، والواجب من جهة أخرى، لما هو معروف من أن كورني كان شاعرًا أخلاقيًّا قبل كل شيء، وكان يغلِّب الإرادة والواجب دائمًا على أهواء النفس وعواطفها، وهذا هو الاتجاه الذي يبدو أن أحمد شوقي قد آثره مجاراةً لطبعه كرجل شرقي، تحتلُّ الناحية الأخلاقية في نفسه وتفكيره مكانة كبيرة، وهو اتجاه لا غبار عليه، ولكن بشرط أن يكون العنصر الأخلاقي نابعًا من الضمير الفردي، ومتغلغلًا فيه، حتى تكون له من القوة ما يستطيع أن يُصارع به أهواء النفس وعواطفها.
فما هي عناصر الصراع عند شوقي؟ وإلى أي حدٍّ استطاع أن يستخدمَ تلك العناصرَ لكي يولد الحركة المسرحية المثيرة؟
لقد استخدم شوقي، أو حاول أن يستخدم على نحوٍ واضحٍ، الصراعَ في مسرحيتيه: «مجنون ليلى» و«عنترة»، حيث هيأت له وقائع أسطورتي المجنون وعنترة فرصةَ الصراع الداخلي عند شخصيتَيِ البطلتين، وهما ليلى وعلبة، ولكننا نلاحظ أن هذا الصراع لم يجرِ عندئذٍ بين عواطف متضاربة، أو بين العاطفة وواجب إنساني مُنبعثٍ من الضمير الفردي، ومتأصِّل فيه، بل جرى بين عاطفة قوية عميقة، وتقاليد اجتماعية متفاوتة، ففي مسرحية المجنون يجري الصراع بين حُبٍّ قوي يجمع بين ليلى وقيس، وبين تقليدٍ عربي يقول بأن الفتاة لا يجوز لها أن تتزوج ممن شبَّبَ بها وفضح حبه لها، وهو تقليد لا نحسُّ في المسرحية بأنه قد تغلغل إلى أعماق ضمير البطلة، كما تغلغل في نفسها حبها لقيس، بحيث نتوقَّع قيامَ صراع عنيف بين العنصرين، يثيرُ شجونَنا ويحرِّك نفوسَنا أو تفكيرَنا؛ ولذلك يخيب أملنا عندما نشهد خاتمة فاترة لهذا الصراع، فنرى والد ليلى يخيِّرها بين أن تتزوج من ورد الثقفي أو من قيس، فلا تتردد، ولا نشهد لنفسها تمزُّقًا، بل تختار في سهولةٍ الزواجَ من ورد، وذلك مع أن المؤلِّف كان يستطيع أن يُظهرنا على هذا الصراع، وهذا التمزُّق، بإحدى الحيَل المسرحية المعروفة، كالمُناجاةِ في منولوج فردي، أو الائتمان أي الإدلاء بمكنون نفسها إلى صديقة أو أمَةٍ أو تابعة وبخاصة وأنه شاعرٌ غنائي، يعرف كيف ينظم القصائد الطوال في التغنِّي بلواعج الحب وآلامه، ولو أنه فعل لزاد من تعلُّقِنا بليلى وعطفنا عليها، بحيث يصل انفعالنا إلى قمته، عندما نشهد في آخر المسرحية مصرعها ومصرع قيس.
وأمَّا في «عنترة» فالصراع يجري بين حب عنترة وعبلة من جهة، وبين تقليدٍ عربيٍّ يرفض أن يتزوج عبدٌ أسود، ابنٌ لزبيبة الحبشية من فتاة عربية أصيلة، فضلًا عن تشبيبه بها، وهو تقليد عنيف بدليل ما نشاهده في المسرحية من أن والد عبلة لم يوافق من زواجها من عنترة فحسب، بل ونذرها زوجة لمن يأتيه برأس عنترة، ومع ذلك لا نرى عبلة تتصرَّفُ في هذه المسرحية، كما تصرفت ليلى في مسرحية المجنون، فهي لا تضحي بحبها في سبيل التقاليد، وإن يكن الصراع هنا أيضًا لم يتفتح ولم ينمُ النمو الواجب، بل رأيناه يسرع إلى خاتمة مسرحية فجَّةٍ، عندما نرى عبلة تشقُّ العصا على ذويها في تنكر واستخفاء، وتأتي إلى عنترة في ليلة الزَّفافِ، بينما تسير الفتاة الأخرى «ناجية» إلى منافس عنترة وخطيب عبلة الرسمي.
وفي مسرحية قمبيز التي تُعتبر نتيتاس بطلتها الأولى، كانت هناك عدة عناصر للصراع في نفس البطلة، وهي عناصر أشار إليها المؤلِّف إشاراتٍ عابرة، ولكننا لم نشهد لها أثرًا في المسرحية وسير أحداثها.
فمنذ مطلع هذه المسرحية نعلم أن «نتيتاس» هذه كانت ابنةً لفرعون سابق قتله فرعون الحالي، كما نعلم أنها كانت تتبادل الحبَّ مع «تاسو» الذي كان تابعًا لأبيها، حتى إذا قُتل الأب تحول تاسو بحبه إلى نفريت بنت فرعون الحالي، وبذلك نعلم أن لنتيتاس ثأرًا لأبيها من فرعون الحالي كما أن لها ثأرًا لنفسها من ابنته نفريت ومن حبيبها الغادر تاسو، ولكنَّ المؤلِّفَ لا يوضِّح لنا تأثير هذه العناصر في نفسها، ولا يبين أو يوحي بالكيفية التي تولَّدت لديها تلك البطولة الخارقة التي دفعَت هذه البطلة إلى أن تتطوع بالزواج من قمبيز فداءً لوطنها، عندما هدَّد هذا الملك الطاغية بغزو مصر، إن لم يزوجه فرعون من ابنته، وما نستنتجه من رفض ابنته الحقيقية نفريت لهذا الزواج.
إننا لنتساءل عن سِرِّ هذه البطلة دون أن نستطيع استشفافَ هذا السر من مسرحية المؤلِّف، فهل تضحيتُها بنفسها وقبولها هذا الزواج فداء وطني خالص؟ أم هروب وانتحار بعد يأس من الانتقام للأب أو الانتقام للنفس واسترداد الحبيب الخائن؟ وبذلك يتبلبل شعورنا نحو هذه البطلة، فضلًا عن اهتزاز صورتها النفسية التي كان المؤلف يستطيع أن يعمِّقَ خطوطها، وأن يخلق منها شخصية مسرحية غنية العناصر، جائشةَ الحركة بفضل تلك العناصر العاتية التي كان من الممكن أن تصطرع في نفسها، وأن توسِّعَ آفاقها، وأن تجعل منها ساحة لصراع نفسي عميق مُعقَّد.
وهكذا نخلص من هذا التحليل السريع إلى أنه وإن يكن شوقي قد فطن إلى مبدأ الصراع في المسرح، والصراع الداخلي بنوع خاص، كما آثر مذهب كورني الذي يُجري هذا الصراع بين الواجب والعاطفة، إلا أنه لم يعمِّق جذور الواجب في الضمير الفردي، كما أنه لم يستغلَّ هذا الصراع الاستغلال الواجب على نحو يعطي الانتصار ذلك المعنى الأخلاقي الرائع الذي نحسه عند مؤلِّفٍ كبير ككورني، وكان هذا من الأسباب الرئيسية في ضعف الحركة المسرحية عند شوقي، وبالتالي في ضعف عنصر الإثارة والعطف والمشاركة الوجدانية في مسرحياته.
شوقي والحبكة المسرحية
من المعلوم أن الحبكة أي البناء المسرحي هي التي تُعطي المسرحية قوامَها، فهي ترتيبٌ للأحداث، وتحديدٌ للشخصيات، وما تنطق به من حوار، بحيث تتحدَّد معالم الشخصيات بفضل تلك الحبكة، ويتحقَّق الهدف الذي يرمي إليه المؤلف من تأليف مسرحيته، وما تثيره من أفكار وانفعالات.
ولقد وضعت الكلاسيكية أصولًا وقواعد لأحكام تلك الحبكة، مثل مبدأ الوحدات الثلاث، ومبدأ فصل الأنواع، أي فصل التراجيديا عن الكوميديا فصلًا تامًّا، بحيث لا يتخلل المأساة مَشاهِدُ مضحكة أو العكس، وبحيث تنتهي المأساةُ نهايةً مُفجعة، بينما تنتهي الملهاة نهايةً مرحة أو مضحكة، كما استعرضَ أرسطو الحيل المسرحية المختلفة، كالمُناجاة والائتمان والتعرُّفِ وضرب الأمثلة لكيفية استخدامها على نحو ناجح منتج.
وبالرجوع إلى مسرحيات شوقي نلاحظ أنه لم يتقيَّد بالمعنى الضيِّق لوحدة الموضوع، بل أضاف — في أغلب الأحيان — موضوعًا ثانويًّا أو أكثر للموضوع الأصلي، ولكنه لم يوفَّق دائمًا في ربط الموضوعات الثانوية بالموضوع الأصلي، ولا في استخدمها على نحو يساهم في تحديد معالم الشخصيات أو تعزيز الأثر العام للمسرحية.
وعلى العكس من ذلك نرى شوقي يصيب توفيقًا في استخدام موضوع ثانوي في مسرحية أخرى هي «علي بك الكبير»، حيث يعرض الموضوع الأصلي وهو غَدْرُ محمد بك أبي الذهب بسيدِهِ وولي نعمته علي بك الكبير، وإلى جوار هذا الموضوع الأصلي، يعرض موضوعًا آخر ثانويًّا، هو حب مراد بك لآمال؛ الأمَةِ التي تزوجها علي بك الكبير، ولكنه يربط هذا الموضوع الثانوي بالموضوع الأصلي، إذ يتَّخذُ من هذا الحب سببًا لحمل مراد بك على أن يشترك مع محمد أبي الذهب في التآمر ضد علي بك الكبير وقتله؛ لكي يفوز بآمال، وإن يكن المؤلف قد عقَّدَ الموقف تعقيدًا مسرحيًّا بارعًا، بأن جعل آمال أختًا لمراد بك، وأخفى عنه هذا السر الذي لم يكتشفه مراد إلا في آخر المسرحية، بواسطة أبيه يوسف الياسرجي، وهكذا جاءت مسرحية علي بك الكبير محبوكة حبكة مُتقنةً مترابطة الأجزاء، لم يُضعفها الموضوع الثانوي الذي تخيله المؤلف، بل زاد من حركتها المسرحية، وعقَّدَ بناءها تعقيدًا يُماشي الفن المسرحي العريق.
وفي مسرحيتي «مجنون ليلى»، و«عنترة» يتعقَّد الموضوع الأصلي، وتتعدَّد شخصياته دون أن يكون هناك ازدواج في الموضوع، ودون أن تلوحَ بعض الأحداث مكوِّنة لموضوع ثانوي إلى جوار الموضوع الأصلي، ففي مسرحية المجنون يُعتبرُ وجود وَرْدٍ الثقفي وزواجَه من ليلى جزءًا من الموضوع الأصلي، وهو حب قيس وليلى، والصراع الذي نشب بين هذا الحب والتقاليد العربية، وفي «عنترة» تنتهي المسرحية بزواج مزدوج، هو زواج عنترة من عبلة وناجية من صخر، ولكن هذا الازدواج ينطوي تحت وحدة الموضوع؛ وذلك لأن صخرًا كان ينافس عنترة على عبلة، وكان زواجه من ناجية جزءًا من حل الصراع الذي يدور في المسرحية.
وأمَّا في مسرحية «قمبيز» فقد سبق أن أشرنا إلى تعدُّدٍ في عناصر الدراما، أشار المؤلف إلى وجوده ثم لم يستغله بعد ذلك، ولم يُنمِّه، ممَّا أضعف المسرحية، وأضعف العطف بل الإعجاب الذي كان من الممكن أن تحظى به نتيتاس لو أن المؤلف أغفل تلك الإشارات، فهو يُخبرُنا منذ مطلع الرواية أن نتيتاس كانت تحب تاسو، ولكنه تحول عنها إلى نفريت بنت فرعون الجديد بعد قتل أبيها، كما يُخبرنا أن لها ثأرًا عند فرعون الجديد قاتل أبيها، وبالرغم من أنه لم يُفصح عن مشاعر نتيتاس العميقة، إلا أنَّ هذه الإشارات خليقةٌ بأن تُلقيَ الشكَّ على بطولة نتيتاس وتطوُّعِها بالتضحية بنفسها في سبيل وطنها؛ وذلك بقبولها الزواج من قمبيز، فالقارئ أو المشاهد قد يفسِّر هذه التضحية بأنها نتيجةٌ ليأسٍ من الحياة أو الهروب منها، بدلًا من أن ينظر إليها كبطولة وفداء وطني.
والحبكة المسرحية — عند شوقي — لا يُضعفها تعدُّد الموضوعات، أو تعدُّد عناصر الدراما، وعدم الربط بينها، أو استخدامها واستخلاص نتيجتها فحسب، بل ويضعفها أيضًا ضعف فكرة الدراما نفسها وأصولها وحدودها، على نحو ما نشاهد في بعض العناوين التي اختارها لمسرحياته، مثل مسرحية «علي بك الكبير» التي وضع لها عنوانًا ثانيًا بعد العنوان السابق وهو «أو فيما هي دولة المماليك»، وقد جاء في النظرات التحليلية التي اعتاد إضافتها لكل مسرحية، ما يؤكد هذا الفهم الخاطئ لطبيعة الدراما، ففي النظرات الخاصة بهذه المسرحية نُطالِعُ أن المؤلِّفَ قد قصد من كتابتها إلى تصوير حالة الفساد التي كانت قد انتهت إليها دولة المماليك، وهذا التصوير قد يكون ممكنًا عن طريق إظهار فساد الشخصيات المسرحية باعتبار أن هذه الشخصيات مِرآةٌ لحالة العصر كلها ولكن الدراما لا تتسع بطبيعتها لهذا الوصف إذا خرج عن نطاق الشخصيات، وإلا جاء حملًا على الحركة المسرحية، وعلى الحوار وسرعته، وضرورة تركيزه، بل قد يدفع المؤلفَ إلى حشر بعض المشاهد التي لا تتصل بالموضوع ولا تساهِمُ في تطويره.
وفي مسرحيات شوقي نلقى أحيانًا مشاهد قصصية ووصفية لا نتبيَّن علاقتها بالدراما، ونضرب لذلك مثلًا بالمشهد الذي يصف فيه الشاعر مرورَ موكب الحسين بن علي في صحراء الحجاز، وتهليل العرب وتكبيرهم لذلك الموكب في مسرحية مجنون ليلى، ولقد يصوِّرُ هذا المشهد حقيقةً تاريخيةً ثابتةً في مطلع حكم الأُمويين وهزيمة العلويين، وظهور مذهب الشيعة في الحجاز، ولكننا لم نتبين في المسرحية تأثيرَ هذه الظاهرة في سيرها أو في أشخاصها، وكذلك مشاهد الجن وندوات غناء الغريض في نفس المسرحية، وذلك مع العلم بأنه حتى في مجال القصص الذي يتَّسع لتصوير البيئة، يحرص القصاص على أن يربطوا بين تلك البيئة وأحداث قصتهم وشخصياتها، وفي مسرحية «أميرة الأندلس» نشاهد عِدَّةَ لوحات استعراضية، تُصيب عنصر الدراما فيها بشيءٍ غير قليل من البطء والتَّفكُّكِ. والظاهر أن شوقي كان يطمع في أن يصوِّر البيئات التاريخية التي استمدَّ منها مواضيع مسرحياته، وهذا مطمع لا غبار عليه — كما سبق أن قلنا — ولكن الفن المسرحي كان يقضي بأن يأتي هذا التصوير في تضاعيف عنصر الدراما، وأن يُربَطَ به ربطًا وثيقًا، وإنه لمن الغريب أن نلاحظ أنه عندما يكون لوصف تلك البيئة تأثيرٌ مباشرٌ على سير الدراما، نجد شوقي يلزم الصمت أو الاقتضاب المخل في تصويرها، ولعل هذا أوضح ما يكون في رواية «قمبيز» حيث يوضح كيف أن جنود اليونان المرتزقة قد كانوا العنصر الغالب المسيطر في جيش فرعون، ثم يفاجِئُنا بأن «فانيس» رئيس أولئك الجند قد غدر بفرعون، والتجأ إلى قمبيز، حيث أخبره بالخديعة التي خدعه بها فرعون عندما زوَّجه ﺑ «نتيتاس»، موهمًا إياه أنها ابنته، وذلك دون أن يخبرَنا بسبب هذا الغدر ولا ببواعثه.
وكذلك الأمر في الكثير من المقطوعات الغنائية التي تتخلَّل مسرحياتِه، فهي وإن تكن من الشعر الغنائي الجميل، إلَّا أنها كثيرًا ما تبدو دخيلةً على الحوار، وكأنها قصائد غنائية قائمة بذاتها، فهي لا تخبرنا بجديد، ولا تؤدي إلى تطور في أحداث المسرحية، وإنما هي تَغَنٍّ خالصٌ بالحب ولواعجه، أو حنين إلى الماضي وذكرياته، ولقد يحدث أن نلتقيَ في بعض المسرحيات العالمية الكبيرة بمنولوجات، فيها بعض ما يشبه هذا الغناء، ولكنها تحتوي في الغالب على اعترافاتٍ تُنبِئُنا بما نجهل أو تكشف الستار عن مخبوء، أو تضيء بعض حنايا الشخصية المسرحية، وأمَّا مجرد الغناء العاطفي بأشجان النفس، أو بمظاهر الطبيعة وما يختلط بها من مشاعر الشخصيات وذكرياتهم، فذلك ما لم نَعُدْ نشهد له وجودًا في المسرح الحديث، بعد أن تخلص من الجوقة التي كانت تردِّد مثل هذه الأغاني في المسرح اليوناني القديم، والأمثلة لهذه الأغاني كثيرةٌ في مسرح شوقي، حتى لقد استطاع بعض الملحنين أن ينتزعوا بعضها من سياق المسرحيات وأن يُلحنوها منفردة، كقصائد قائمة بذاتها، وأن يتغنوا بها مثل أغنية كيلوباترة:
فهذه القصيدة على روعتها الغنائية لا تكاد تساهم بشيء في بناء المسرحية، حتى لو أنها حُذِفت لما تركت فراغًا، ولما أحسسنا بخلل في ذلك البناء، وإن تكن خليقة بأن تفسح المجال للحن رائع وغناء جميل، فيما لو قدمت هذه المسرحية كأوبرا لا كمأساة عادية تعتمد على الحوار والحركة دون غيرهما.
ونستطيع أن نعثر على أمثلة مشابهة في معظم مسرحياته الأخرى، وبخاصة في مسرحية «مجنون ليلى» حيث نرى قيسًا منذ الفصل الأول يدلف إلى المسرح وشاعريته تتدفَّقُ بهذه الأغنية الجميلة:
وبعد هذه الأغنية يطلق قيس بيتًا نعلم منه سِرَّ مجيئه إلى الساحة التي تقوم بها خيام المهدي والد ليلى حيث يقول:
ثم لا يلبث أن يختتم المقطوعة ببيت آخر من الغناء العاطفي الخالص هو قوله:
ففي كل هذه المقطوعة لا يدخل في سياق الحوار ولا في بناء المسرحية غيرُ البيت الوحيد الذي يُنبئنا فيه عن سبب مجيئه، وإن يكن هذا البيت نفسه قد كنا في غنًى عنه؛ لأننا لن نلبث أن نعلم بسبب مجيئه من الحوار الذي يدور بعد ذلك مباشرة بينه وبين المهدي، وكل ذلك فضلًا عن أن هذه القصيدة ليست منولوجًا يناجي فيه قيس نفسه، أو يعترف بحبه؛ لأنه لا يقف عندئذٍ وحيدًا على المسرح، بل يقدم إليه ومعه زياد، كما لا يلبث أن يلتقي بمنازل ثم المهدي، والمسرحية لم تتقدم بعد ولم تتراكم أحداثها، بحيث يتهيأ المجال لمناجاة عاطفية أيًّا كان لونها.
ويمر ركب قادم إلى نجد من ناحية يثرب وحاديها يردد أنشودة يردد فيها اسم ليلى، فيفيق قيس من إغمائه عند سماع هذا الاسم لينشد قصيدة أخرى رائعة هي:
وأخيرًا ينشد ثلاثة أبيات يخبرنا فيها بأنه يفيق دائمًا من إغمائه إذا سمع اسم ليلى، كما يخبرنا أنه قد أصابه من حبها ما يشبه الجنون، وهذه كلها أنباء كان من الواجب أن نستنبطها من أحداث المسرحية التي نشاهدها، لا أن يخبرنا بها قيس في قصيدة من الغناء الذاتي البعيد الصلة بالحوار المسرحي.
وفي الفصل الخامس وبعد موت ليلى لا يكتفي المؤلِّف بزَجِّ الغريض وغنائه على المسرح بل لا يكاد الغريض ومن معه يخرجون ويدخل من الجانب الآخر، قيس وزياد حتى تنطلق شاعرية قيس قُربَ ختام المسرحية بقصيدة غنائية أخرى كتلك التي استهلَّ بها دخوله إلى المسرح، وفيها يردِّد ذكرياتِ الصبا موجهًا الخطاب إلى جبل توباد، حيث كان يرعي الغنم في طفولته مع ليلى فيقول:
فهذه قصيدة غنائية جميلة، تكاد تقوم بذاتها كما تقوم قصيدة البحيرة للامارتين، أو غيرها من قصائد الغناء العاطفي، ولكنه من الصعب أن تجد لها مجالًا في مسرحية تمثيلية.
ونكتفي بهذه الأمثلة لندللَ على ما يكاد يُجْمِعُ عليه النقاد من طغيان العنصر الغنائي على مسرح شوقي، حتى اتَّهموه بأنه قد أقحم نفسه على الشعر الدراماتيكي دون أن يستطيع التخلُّصَ من طابعه الغنائي، أو أن ينزل على مقتضيات الفن المسرحي، وطبيعة الحوار التمثيلي، وإن كنا لن نمل القول بأن مسرحيات شوقي خَليقةٌ بأن تلقى أكبر النجاح لو أنها لُحِّنت وتُغنِّيَ بها، وقُدِّمت للجمهور كمسرحيات غنائية، فعندئذٍ لن تلوح المقطوعات الغنائية دخيلة عليها، بل ستزيدها جمالًا، وتزيد من متعتنا الروحية، بسماع هذا الشعر الرائع مُلحَّنًا مُنغَّمًا كفن جميل مُكتفٍ بذاته.