مسرح عزيز أباظة
وبعد وفاة شوقي بإحدى عشرة سنة تقريبًا ظهر شاعر تقليدي جديد، يتمسَّك بعمود الشعر، بل ويقتتل في سبيله، ويحرص الحرصَ كله على الجزالة، وهو الشاعر عزيز أباظة الذي عُرف فجأةً كشاعر عندما نشر سنة ١٩٤٣م — وهو يعمل مديرًا لإحدى مديريات القُطر — ديوان «أنات حائرة» الذي خصَّصه لرثاء زوجته الفقيدة، فكان هذا الديوان هو وديوان «من وحي المرأة» للأستاذ عبد الرحمن صدقي ظاهرة فريدة، لا في الشعر العربي وحده بل في الشعر عامة؛ إذ نرى كلًّا منهما يخصص ديوانًا — لأول مرة — لرثاء الزوجة.
والظاهر أن الأستاذ عزيز أباظة قد عقد العزم على أن يكون شاعر المفاجآت، فنحن لا نعلم أنه قد نشر بعد ذلك الديوان قصائدَ أخرى من الشعر الغنائي أي الشعر العربي التقليدي، وعلى العكس من ذلك نراه رغم نزعته التقليدية المحافظة على عمود الشعر العربي يُفاجئ الجمهور المصري في سنة ١٩٤٣م بأول مسرحية شعرية له وهي «قيس ولبنى»، التي أتبعها بعدة مسرحيات شعرية أخرى استقاها — كما فعل شوقي — إما من تاريخ مصر، وإما من تاريخ العرب الحقيقي أو الأسطوري قبل أن ينتهي أخيرًا إلى كتابة مسرحية معاصرة شعرًا أيضًا وهي «أوراق الخريف»، التي ظهرت في أواخر سنة ١٩٥٧م.
لقد ألَّف عزيز أباظة مسرحية قيس ولبنى، التي مثلتها الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى في ٤ نوفمبر سنة ١٩٤٣م.
وفي سنة ١٩٤٧م نشر الأستاذ عزيز أباظة مسرحية «العباسة»، التي مثلتْها أيضًا الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى بدار الأوبرا، وحضرها الملك السابق فاروق، وأنعم بمناسبتها على المؤلِّف برتبة الباشوية، وقد كتب الدكتور محمد حسين هيكل مقدمة لها، وفي سنة ١٩٤٩م أصدر مسرحيته الثالثة «الناصر» مصدَّرة بخطاب إعجاب وتقدير من الأستاذ أحمد لطفي السيد ومقدمة للأستاذ أحمد حسن الزيات، وفي سنة ١٩٥١م أصدر مسرحيته «شجرة الدر»، وأهداها إلى الشاعر أحمد شوقي، أو على الأصح إلى روحه قائلًا: «إلى شوقي الخالد أُزجي أثرًا من هديه ونفحة من وحيه هدية تقدير وإكبار ووفاء» ومن الواضح أن الأستاذ عزيز أباظة كان يستطيع أن يكتب نفس الإهداء على مسرحياته السابقة، فكلها أثر من «هدي شوقي ونفحة من وحيه.»
وبعد قيام الثورة المصرية الأخيرة أصدر الشاعر عزيز أباظة مسرحيته الشعرية الخامسة «غروب الأندلس» وأهداها «إلى الأمة المصرية الكريمة» قائلًا: «لقد كان من مواتاة القدر أن أفرغ من كتابتها — إلا قدرًا ضئيلًا منها — ولما يتأذَّن الله لفجرك الجديد أن تشرق أضواؤه، ولا لبعثك المجيد أن تنهل آلاؤه، ولقد كانَ أغلبُ ظني أنها لن يُهيأ لها أن تُنْشَر على الناس ممثلة أمامهم أو متداولة بين أيديهم، ولكنني قدرت وقدر الله، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وفي هذه المسرحية — أيتها الأمة الناهضة — لمحاتٌ عن الدول كيف تتداعى أَوَاسيها، وعن الشعوب كيف تتوارى في حنايا الأبد مجاليها، ولعل العظةَ بالاعتبار ألصق بالمشاعر من العظة بالنصيحة، فإن شارفت هذه العظة منك سماوة تشوفت إليها، فهو إذن نشيدة طالما تعلق أملي بأهدابها، ورغيبة وقفت العمر أعالج العسير من أبوابها»، وقد كتب الدكتور طه حسين لهذه المسرحية مقدمةً اعترف فيها بأنه لا يكلف بالمسرحيات الشعرية التي كتبها في عصرنا الحاضر أحمد شوقي، ثم عزيز أباظة قائلًا: «إني لست من الكلفين بالقصص التمثيلية التي تعرض على الناس شعرًا في هذه الأيام، وشعرًا عربيًّا بنوع خاص، وقد شب التمثيل عن طوق الشعر، وتمرد على أوزانه وقوافيه، وآثر حرية النثر وطلاقته وإسماحه على قيود الشعر وتحرجه وصرامته منذ زمن غير قصير، وأصبحت القصص الشعرية في اللغات الأوربية نادرة أشد الندرة، لا يكاد الناس يقبلون عليها إن وجدت فإن فعلوا، لم يتصل إقبالهم عليها إلا ريثما ينصرفون عنها إلى الحرية الحرة، والطلاقة المطلقة في هذا التمثيل المنثور الذي لا يكلفهم إلا أيسر الجهد وأقل العناء، وقد صحب التمثيل في أثناء طفولته، وحين بلغ شبابه الشعر؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يتخفَّفَ من الغناء، ولأن النثر لم يكن قد استكمل قوتَه بعد، فلما تخفَّف التمثيلُ من الغناء ومرن النثر، واستطاع أن يتصرَّف في جميع فنون القول، انصرف إليه أصحاب التمثيل، وتركوا الشعر بفنونه الخاصة، فإذا كانت آيات التمثيل في العصر القديم وفي أوائل العصر الحديث شعرًا كلها، فإن القرن التاسع عشر قد شهد مزاحمة النثر للشعر على التمثيل حتى استأثر به، وكاد يصرف الشعر عنه صرفًا.»
وهذا الرأي صحيح في جملته، ولكنه غير صحيح في الكثير من حيثياته، فإنه إذا كان الشعر التمثيلي قد صاحبه الغناء، بل والموسيقى أيضًا عند أول ظهور هذا الفن الأدبي عند اليونان القدماء، فإن هذه الحقيقة التاريخية لا يجوز أن تعني ضرورة مصاحبة الغناء للشعر لتبرير استخدامه في مثل هذا الفن، وذلك بدليل أن الغناء والموسيقى قد انفصلا عن المسرح التمثيلي منذ أوائل عصر النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر الميلادي، عندما ظهر بمدينة فلورنسا أولًا، ثم في المدن الإيطالية والفرنسية والألمانية بعد ذلك فن مسرحي خاص بالغناء والموسيقى وهو فن الأوبرا والأوبريت، ومع ذلك ظلت المسرحيات التمثيلية تُكتب شعرًا في عصرٍ من أزهى عصور هذا الفن؛ وهو العصر الكلاسيكي الذي يكاد يغلب الشعر التمثيلي فيه على كافة أنواع الشعر الأخرى، وذلك دون أن ينتقص العدول عن الغناء من قيمة هذا الشعر التمثيلي أي المسرحيات الشعرية التي لا تزال حيةً خالدةً حتى اليوم، بل إنه لَيمكن القول بأن الشعر كلَّه قد نشأ أصلًا مصاحبًا للغناء والموسيقى، سواء منه الشعر الغنائي أو الشعر الملحمي أو الشعر التمثيلي، ولم يشذَّ عن ذلك الشعر العربي، بدليل ما هو ثابت في أكبر موسوعة للشعر العربي القديم، وهو كتاب الأغاني للأصفهاني، حيث نرى كل قصيدة تشفع بضربها الموسيقي، ثم انفصل الشعر عن الموسيقى والغناء، واستقل بذاته دون أن يختفي أو يضعف تأثيره على النفوس.
والشعر — كما قلنا غير مرة — ليست موسيقاه ترفًا ولا مجرد وسيلة للتطريب، بل هي أداة مرهفة للتعبير عن لطائف من المعنى أو الإحساس قد تعجز الألفاظ غير المنغومة عن التعبير عنها، وإذن فلا ضيرَ من استخدام الشعر كوسيلة للتعبير في أي فن من فنون الأدب، ولكن على شرط أن يستطيعَ الشاعر تطويعَه للفن الذي يستخدمه فيه، بحيث ينجح في التعبير به عما يريده، وبخاصة في الفن المسرحي الذي يتجه إلى الجماهير، ويتطلَّب سهولةً في اللغة المستعملة حتى لا يصطدم السامع بلفظ غريب أو تركيب معقد يعوق الفهم السريع، والمتابعة المتصلة واستيعاب الهدف الذي يرمي إليه الشاعر.
وبالرغم من عدم كلف الدكتور طه حسين بالشعر التمثيلي المعاصر، فإننا نراه يُعلن طربَه بشعر الأستاذ عزيز أباظة في هذه المسرحية، ويصفه بأنَّه «شعر جزل رصين، لم نعد نسمع مثله منذ وقت بعيد»، بل ويرى المسرحية كلها قصيدةً رائعة دون أن يُناقش ملاءمة شعر عزيز أباظة عامة، واللغة التي يستخدمُها خاصة لهذا الفن الجماهيري، أو على الأقل المعد للاستماع السريع لا للقراءة المتئدة بين أيدي المعاجم اللغوية.
وأما عن أصول هذا الفن التي لا يمكن بدونها أن يحقق هدفًا سواء كتب نثرًا أم شعرًا، فقد تخلص الدكتور طه حسين من التعرض لها عند حديثه عن هذه المسرحية بلباقة، فقال: «وليس لي بالطبع أن أنقد القصة من هذه الناحية (يعني كما قال من قبل: ناحية أحداثها ومشاهدها التمثيلية)، فقد لا يكون من حقي أن أدخل فيما لا أحسن من صناعة التمثيل»، وهذا عذر فيه كثير من المغالطة، فالدكتور طه حسين قد لا يستطيع نقد التمثيل، ولكنه — بلا ريب — يستطيع نقد الأدب التمثيلي، وهو الذي استهلَّ حياته الجامعية بتدريس الأدب التمثيلي عند اليونان، وتأليف كتابٍ قيم فيه، ومع ذلك اكتفى الدكتور طه حسين في حديثه عن أحداث هذه المسرحية ومشاهدها بالإشارة إلى شدةِ انطباقها على مصر المعاصرة في فترة ما قبل الثورة، فيقول عمَّن شاهدوها تمثل إنه «يقطع بأنهم قد تصوروا أشخاصًا مصريين، وألقوا عليهم أسماء مصرية، ولونوا الأحداث في ضمائرهم بألوانٍ يعرفونها حق المعرفة، حتى لكأنهم رأوا رأي العين» دون أن يُفصح الأستاذ الكبير عما إذا كان يرى في هذا حسنةً تُعطي المسرحية قيمةً أدبيَّة وإنسانية متميزة، أم يرى فيه سيئةً تُشير إلى عدم استيعاب المؤلِّف لروح العصر التاريخي الذي استقى منه أحداث مسرحيته، وبخاصةٍ وأن الدكتور طه حسين يشير إلى شيء من ذلك بطرفٍ خفيٍّ حينما يقول عن المسرحية: «إنها تصور أحداثًا وقعت منذ قرون، وأخص ما يوصف به العصر الذي وقعت فيه أن طبيعة القرون الوسطى كانت أشد استئثارًا به من طبيعة العصر الحديث الذي لم تكن شمسُه قد أشرقت بعد.»
ثم يترك الشاعر عزيز أباظة التاريخ وأحداثه ليختار موضوعًا أسطوريًّا من أسطورتنا الشرقية الشهيرة أسطورة ألف ليلة وليلة، فصاغ منها في سنة ١٩٥٤م مسرحية «شهريار» بالاشتراك مع الأستاذ الشاب عبد الله البشير، الذي نعلم من مقدمة المسرحية أنه كان قد ألَّف باللغة الإنجليزية مسرحية عن نفس الموضوع ومثلها تلاميذه في كلية المعلمين.
ولما كانت هذه المسرحية الإنجليزية غير مطبوعة، فإننا لم نستطع العثور عليها؛ لنتبين مدى اختلافها عن المسرحية الشعرية، التي كتبها الشاعر عزيز أباظة بأسلوبه الشعري التقليدي المعروف.
وعلى أية حال، فالأستاذ عبد الله البشير لم يكن أول أديب عربي أو أجنبي اتخذ من أسطورة شهرزاد أو شهريار موضوعًا لمسرحية، وهذا الموضوع قد طرقه كثيرون من كُتَّاب الغرب، بل وصيغت من هذه الأسطورة أوبرات لا مسرحيات فحسب، ولعل من أروع التعبيراتِ الموسيقية عن هذه الأسطورة تعبير الموسيقي الروسي الكبير ريمسكي كورساكوف ملحن «شهرزاد».
وفي مصر عالج هذه الأسطورة عددٌ من أدبائنا، فكتب توفيق الحكيم مسرحية «شهرزاد» التي ترجمها إلى الفرنسية عضو الأكاديمية جورج لوكونت، وكتب الأستاذ علي باكثير أيضًا مسرحية «سر شهرزاد»، كما كتب الدكتور طه حسين قصة «أحلام شهرزاد»، وأخيرًا اشترك طه حسين وتوفيق الحكيم في تأليف كتاب حواري عن هذه الأسطورة ومراميها القريبة والبعيدة وهو كتاب «القصر المسحور»، وهو الذي كتبه أديبانا أثناء تمضيتهما الصيف بأحد المصايف الجبلية في فرنسا.
ولأول مرة قام الشاعر عزيز أباظة بتقديمِ مسرحيتِه إلى الجمهور، وإيضاحِ وجهة نظرِه إليه بدل أن يعهد بهذا التقديم إلى غيره من الزملاء والأدباء، كما فعل في المسرحيات السابقة.
وأخيرًا أراد الأستاذ عزيز أباظة أن يُحدث انقلابًا في تأليفه للمسرحيات، فعدل عن الموضوعات التاريخية والأسطورية إلى الحياة الاجتماعية المعاصرة، وحاول أن يعدل عن الجزالة العسيرة في شعره إلى السلاسة اليسيرة، وحدثنا عن كل ذلك في المقدمة التي كتبها لمسرحيته المعاصرة «أوراق الخريف»، فيُنبئنا أنه قد عدل في هذه المسرحية التي أصدرها في آخر عام سنة ١٩٥٧م عن الموضوعات التاريخية التي كان يستهدف منها أمرين: أولهما إحياء بطولاتنا التاريخية، وثانيهما معالجة قضايا الحاضر من خلال أحداث الماضي، فقد آثر أن يعالج مثل هذه القضايا الأخيرة — هذه المرة — من خلال واقع عصره.
هذا، وقد وضعنا كتابًا خاصًّا عن «مسرحيات عزيز أباظة»، كما وضعنا كتابًا آخر من قبل عن «مسرحيات شوقي»، والكتابان ضمن مطبوعات «معهد الدراسات العربية العالية» بالقاهرة التابع لجامعة الدول العربية، وقد أوضحنا في كتابنا عن مسرحيات عزيز أباظة رأينا في هذه المسرحيات من ناحية بنائها الفني، وطريقة المؤلف في معالجة الموضوعات التاريخية وتصوير الشخصيات، ثم أسلوبه الشعري التقليدي المولع بالألفاظ القديمة التي يُعْتبر الكثير منها مهجورًا.
ونحن إذا كنا قد عبنا على الأستاذ عزيز أباظة مثلًا تصديقه لبعض الروايات القديمة السخيفة في قصة قيس ولبنى، واعتماده لتلك الروايات في المسرحية التي عالج فيها هذه القصة مثل رواية استعانة «قيس» بعبد الله بن عتيق خدن الحسين على تطليق لبنى من زوجها لتعود إلى قيس، واستنكرنا إمكان حدوث مثل هذه السخافة في بيئة الحجاز المسلمة، فإننا لا نستطيع إلا أن نستنكر أيضًا في مسرحية «أوراق الخريف» نفس هذه المواقف التي تبدو غريبة عن بيئتنا الشرقية المعاصرة، وباستطاعتنا أن نرجح أن المؤلف لم يستقِ هذه الأحداث من واقع حياتنا المألوفة، وإنما حاول أن يتصور بخياله وقائعَ لمسرحيته، فعجز به هذا الخيال عن أن يتصور أحداثًا تُشاكل أو يمكن أن تُشاكل هذا الواقع، وهذه المشاكلة أو إمكانها عقلًا شرطٌ أساسيٌّ لكل تأليفٍ مسرحي أو قصصي يريد أن يوهم القرَّاء بأنه واقعي مستمد من حياتنا المعاصرة.
فأحداث المسرحية تجري في أسرة الأستاذ «قاسم»، الذي استطاع أن يتزوج من «وداد»، التي كانت في ولاية عمها «أكرم باشا» بعد وفاة أبيها، وقد أنجب قاسم من وداد بنتًا «إقبال»، بلغت سنَّ الزواج، وخُطِبت لعدنان ابن أكرم باشا، وفي فترة عقد الخطبة نُفاجأ بشخصية جديدة هي شخصية «مهيب»، الذي نعلم أنه شريك لقاسم في التجارة، وأنه عائد من دمشق؛ حيث كان قد هاجر منذ عشرين عامًا، وقد استضاف قاسم مهيبًا في بيته، ونحن نظن أنها استضافة شريفة، ولكننا لا نلبث أن نفاجأ بغرام عارم يبعث بين مهيب ووداد كما نعلم أن مهيبًا كان قد حاول أن يتزوج من وداد في صدر شبابه، ولكنه لم ينجح، وهنا نتساءل هل من الممكن أن نعتبر قاسمًا وأكرم باشا والأسرة كلها جاهلة لهذه العلاقة القديمة؟ وإذا كانوا يعلمون بها، فإلى أي حد نستطيع أن نعقل دعوة مهيب إلى الإقامة داخل الأسرة، ثم كيف نعقل قصائد الغزل الحارة الطويلة التي تجري بين مهيب ووداد في منزل الزوج على قيد خطوات منه، بل وتحت سمعه وبصره، إلى حد أن نرى وداد تصارح زوجها بأنها لم تحبه يومًا، وأن حبها كان وقفًا على مهيب، بل وتطلب منه أن يطلقها؛ لكي تعود إلى حبيبها القديم، ومع ذلك لا يثور الزوج، ولا تثوب الزوجة إلى رشدها، وإنما تنحل العقدة بتدخل إقبال، التي تضرع إلى مهيب ألَّا يحطم حياتها وسعادتها، وألَّا يحطم الأسرة كلها بالتفريق بين والديها تفريقًا أصبح من المؤكد أن تؤدي الفضيحة الناشئة عنه إلى فسخ خطبتها من عدنان.
وإذا كان الأستاذ عزيز أباظة قد أنبأنا في مقدمة «أوراق الخريف» أيضًا أن اختيارَه موضوعًا عصريًّا لهذه المسرحية قد اقتضاه كارهًا أن يغير من منهجه الشعري، أو من رصانة أسلوبه ليقترب بمسرحيته من واقع الحياة، وبخاصة أنه يلاحظ — كما يقول — أن النثر الرصين الفصاحة نفسه قد أخذ يبدو في العصر الحاضر عامة، وفي بيئتنا العربية خاصة أمرًا نابيًا، يبعد بالمسرح عن الواقعية التي أصبحت تُتطلب في أعمالنا الأدبية الجديدة — إذا كان الأستاذ عزيز أباظة قد قال كل هذا في مقدمة مسرحيته، فإننا نلاحظ أن ما أراده الشاعر عزيز أباظة شيء وما استطاع عمله شيء آخر، ففي بعض المواضع نراه يقصد عمدًا إلى التعابير المبتذلة البعيدة عن روح الشعر على نحو ما يتضح مثلًا من هذا الحوار:
وذلك بينما نراه في مواضع أخرى كثيرة لا يستطيع مغالبة نفسه، فيعود إلى القصائد الغنائية الطويلة البعيدة عن طبيعة الحوار المسرحي وإلى التعابير التقليدية التي يستمدها من ذاكرته الواعية لتراثنا القديم الذي بعد به الزمن عن روح العصر ولغة العصر، بل وعن الاجتهاد في تجديد التعبير واستمداد الصور من واقع حياتنا، وإلَّا فأين نحن اليوم مثلًا من «الأراك» الذي لم يعد يعرفْه أحد، وذلك في قول مهيب ص١٠١:
وأمثال ذلك كثير؛ حيث ينتقل بنا الشاعر من السوقية إلى الجزالة التقليدية التي ما فتئت تستهويه.
والذي لا شك فيه أنه إذا كانت المسرحيات التاريخية تتطلَّب من المؤلف مجهودًا كبيرًا وشيئًا من الخيال، حتى يستطيع أن يخلق من أحداث التاريخ الفانية قيمًا إنسانية خالدة دائمة الحياة متجددة التأثير في الأجيال المتلاحقة، فإنَّ الجهد الذي لا بد للمؤلَّف أن يبذلَه في تصوير قصة أو مسرحية من واقع حياتِنا أكبر مشقة، والخيال اللازم لبناء تلك الأحداث، وتحقيق وحدة هذا البناء، واستخدامه في إيضاح معالمِ الشخصيات، والكشف عن أبعادها النفسية والأخلاقية الاجتماعية — لابد أن يكون هذا الخيال أقوى جناحًا وأحدَّ بصرًا، كما أن اختيار موضوع عصري لا يتطلَّب من المؤلف أن يصطنعَ لغةً معينة، وإنما يتطلَّب منه أن ينسى ذاكرته، وأكثر ما يستطيع من محفوظه، ليبتكر التعبير عن هذه الحياة المعاصرة، حتى يقدِّم لنا الصورة الجديدة في ثوب جديد، ليس من المحال أن يبلغ في جماله وتأثيره ما بلغته الأثواب القديمة التي لا يزال يتشبَّث بها بعض أدبائنا وشعرائنا.