مسرح محمود تيمور
إذا كان توفيق الحكيم قد جمع في إنتاجه الأدبي بين القصة والمسرحية في أول الأمر على قدر متكافئ، عندما ظهرت له مسرحية «أهل الكهف» وقصة «عودة الروح» في وقت متقارب، ثم أخذ بعد ذلك يُؤْثِر التأليف المسرحي، ويوفر عليه معظم جهده، حتى أصبح الأدب التمثيلي هو المجال الذي يُعرف به — فإن الأستاذ محمود تيمور هو الآخر قد مارس الكتابةَ في الفنين القصصي والمسرحي، واستمر يمارسهما طوال حياته، ومع ذلك فشهرته ككاتب قصصي أوسع منها ككاتب مسرحي، ومسرحياته العديدة لم تلقَ منها دُور المسرح إقبالًا بقدر ما تلقى قصصه الطويلة إقبالًا من الجمهور وقصصه القصيرة إقبالًا وتلهفًا من الصحف والمجلات.
والواقع أن محمود تيمور منذ ولادته في سنة ١٨٩٤م قد نشأ في بيت أرستقراطي شديد الولع بالأدب إنشاءً ودراسة، فأبوه الأديبُ اللغوي المحقق أحمد باشا تيمور الذي أهدى دار الكتب مكتبتَه الخاصة الزاخرة بكتب الأدب واللغة، كما ألَّف عددًا من كتب البحث والدراسة في الأدب واللغة، تألَّفت لنشرها لجنةٌ خاصة لا تزال تعمل حتى اليوم، وتُتابع نشرَ مؤلفاته، وكان جَدُّه إسماعيل باشا تيمور أيضًا من رجال الأدب والبحث، كما كانت عمتُه السيدةُ عائشة التيمورية من رُوَّاد الشعر النسائي في الأدب العربي المعاصر، وأخيرًا كان أخوه محمد تيمور الذي يكبره بعامين اثنين؛ إذ ولد في سنة ١٨٩٢م من روَّاد الأدب التمثيلي تأليفًا ونقدًا، إلى جوارِ ما كتبه من قصص وأشعار، وقد جُمعت جميع مؤلفاته في ثلاثة أجزاء ضخمة بعد أن أوقفَ الموتُ المبكر نشاطَه الأدبي الأصيل؛ إذ عاجله الموت وهو لا يزال في التاسعة والعشرين من عمره في عام ١٩٢١م.
وبالرغم من تقارب السن بين الأخوين محمد ومحمود، فإن الأخ الأكبر قد لعب دور قيادة روحية وأدبية لأخيه، وكان محمد تيمور يُؤمن بأن المسرح؛ لكي يخاطب الجماهير، ويصلَ إلى قلوبها، ويعرض عليها صورًا واقعيةً من حياتها — لا بد أن يتخذ اللغة العامية أداةً له، وبالفعل ألَّف محمد تيمور المسرحيات الأربعة التي اتَّسع عمرُه لتأليفها باللغة العامية، وهي مسرحيات: «العصفور في القفص» و«عبد الستار أفندي» و«العشرة الطيبة» و«الهاوية»، وأثَّرت هذه النظرية في محمود تيمور، ففضَّل هو الآخر أول الأمر اللغة العامية في كتابة القصص القصيرة، وهو الفن الذي اتجه نحوه منذ وقت مبكر، ونبغ فيه حتى أصبح رائده وأكبر أعلامه في أدبنا العربي المعاصر، وكان ينشر أقاصيصه في الصحف والمجلات، ثم يصدرها بعد ذلك مجموعاتٍ في كتب، ولكنه أخذ يلاحظ بعد ذلك أن المجتمع العربيَّ لا يزال مُصرًّا على عدم إدخال كل ما يُكتب بالعامية في تراثه الأدبي، مما حمله على أن يعدل عن العامية إلى الفصحى حتى رأيناه يُعيد كتابة أقاصيصه العامية الأولى باللغة الفصحى على نحو ما فعل في مجموعته الأولى «أبو علي عامل أرتست»، التي عرَّبها فأصبحت «أبو علي الفنان»، بل رأيناه يكتب المسرحية الواحدة باللغتين وينشرهما معًا، على نحو ما فعل في مسرحيات «المخبأ رقم ١٣» و«كذب في كذب» و«قنابل»، وقد برَّر خطته في ذلك في مقدمات كتبَها لهذه المسرحيات، وأوضح فيها أن العامية هي التي تصلح للتمثيل على المسرح، بينما الفصحى هي التي تُعطي النصَّ قيمتَه الأدبية كأثر يُقرأ، ويبقى في تراثنا الأدبي ما دام المجتمع متمسكًا بألَّا يدخل في تراثه الأدبي إلا ما هو مكتوب بالفصحى، فهو يبرر العامية بقوله: «فأما العلة في ذلك كله، فهي أن الكاتب المسرحي يخطر بباله أول وهلة أن روايته للتمثيل على المسرح، وأنه سيخاطب الجمهور على تباين طبقاته، فحتم عليه أن يطرق الآذان بما ألفت من لغة، ويجلو للعيون ما عرفت من مشاهد حتى يأخذ عمله الفني سبيله إلى أعماق القلوب، لا ترده وحشة ولا تعوقه غرابة، فإن تخللت روايته كلمات يتعذر فهمها على النظَّارة في الجملة، كانت الصلة بينهم وبين الممثلين غيرَ مأمونة الانقطاع، ومتى انقطعت الصلة ذهب التأثير، وضاعت الفائدة المرجوة من الأدب المسرحي.
ثم إن المسرحية تقوم على الحوار فهو كيانها العام، ونحن في مصر نتحدَّث بعضنا إلى بعض بالعامية، فتعوَّدت آذاننا هذه اللغة، واستساغت لهجتَها فهي مسموع الجمهور في كل مكان، وهي لذلك وثيقةُ الارتباط بحياتِنا المصرية الصميمة، فمتى شاهد المصري مسرحية بالحوار العامي، فإنه يستمع إلى اللغة التي استقرَّت في أعماق نفسه، وتحببت إليه، واستعذبتْها مسامعه، فأما الفصحى فقلَّما نسمع بها حوارًا، وقلما نصطنعها في الحديث، ومن ثمَّ فهي على الرغم منا غريبةٌ على الآذان.»
ثم يبرر إعادة كتابة نفس المسرحيات باللغة الفصحى ليعدها للقراءة بقوله: «فأما إن قدمت المسرحية لتُقرأ فقد يكون الأولى أن تكتبَ بلغة القراءة أعني الفصحى؛ وذلك لأننا في حياتنا العامة تتنازعنا لغتان: فللعامية سماعنا متفهمين وتخاطبنا متحدثين، وللفصحى أعينُنا قرَّاءً وأقلامنا كتابًا، فلو قدَّمنا المسرحية للقراءة مكتوبةً بالعامية لأقذينا العين بما لا تألف، ولو قدَّمنا المسرحية للتمثيل مكتوبةً بالفصحى لآذينا السماع بما ينبو عنه، وما دامت هاتان اللغتان تتنازعان على هذا الوجه، فلا بدَّ لنا من الإذعان لما يقتضيه ذلك التنازع من مراعاة التفريق بين ما يُقدَّم من المسرحيات للمشاهدة على المسرح، وما يُقدَّم منها للقراءة والاطلاع.»
والمنهج الفكري والفني الذي صدر عنه محمود تيمور في كتابة الأقصوصة والقصة هو نفس المنهج الذي صدَّر عنه في كتابه المسرحية القصيرة ذات الفصل الواحد والمسرحية الطويلة المتعدِّدة الفصول؛ فلمحمود تيمور أسلوبه الخاص الذي يُعتبر انعكاسًا لمزاجه الدقيق الأنيق الهادئ، فهو أديب يتقن أصول صناعته، وقد تشرَّب تلك الأصول عن روائع الآداب العالمية التي يوالي قراءتها، والتي انقطع لها بنوع خاص في فترة العامين اللذين قضاهما في فرنسا للدراسة والاطلاع في صدر حياته، حتى لنحس عند قراءة قصصه القصيرة بأنه قد تشرَّب أسلوب عملاق هذا الفن جي دي موباسان الذي يُعنى أكبر العناية بأحداث الأقصوصة وقوتها وشدة تماسكها مع التركيز وضغط العاطفة، بل كبتها وعدم الإسراف فيها حتى حسب البعضُ هذا التركيز والكبت العاطفي جفافًا في أدب محمود تيمور الذي يعتبر نموذجًا فريدًا في أدبِنا العربي المعاصر لقوةِ التركيز وإحكام البناء الفني.
وقد قام أدب محمود تيمور في مرحلته الأولى على دقَّةِ الملاحظة الخارجية، مما أسبغَ على هذا الأدب طابعًا واضحًا من الواقعية، وإذا كان بعض النقاد السطحيين قد تساءلوا: كيف يستطيع محمود تيمور الأرستقراطي المنشأ أن يصور حياة عامة الناس وأوساطهم؟ فإن طبيعة أدبِه ومعدنِه تظهر بجلاءٍ أنه في أقاصيصه وقصصه الاجتماعية الواقعية، لا يتخيَّل بل يلاحظ ويسجل، وقد فسر لنا محمود تيمور كيف استطاع ذلك عندما حدثْنا كيف أنه كان يتردَّد دائمًا على ضياع أسرته بالريف؛ حيث يخالط أهلَه عن قرب، ويلاحظ حياتهم، وإذا ذكرنا ما يتَّسم به هذا الرجل من دماثةٍ وتواضعٍ ولينٍ في الجانب، استطعْنا أن ندرك بأي سهولة يمكن أن يخالط عامة الناس وأوساطهم، وأن يطمئن إليهم، ويطمئنوا إليه الوقت الذي يسمح له بتصوير تلك اللوحات الرائعة لأبي علي الفنان وللشيخ جمعة وللعبيط ولغيرهم من الشخصيات الشعبية التي تنبض بالحياة في قصصه ومسرحياته.
وإذا كان محمود تيمور قد انتقل في أسلوبه الفكري والفني بعد ذلك من الملاحظة الخارجية إلى الملاحظة الداخلية، التي انتهت به إلى المذهب النفسي التحليلي — فإنه قد ظل دائمًا محتفظًا بأصالته في حرصه على أن يكون التحليل النفسي من خلال الأحداث والتصرُّفات التي يرصدها، ثم يوحي في خفة وسرعة بدلالاتها النفسية العميقة التي قد تضرب بجذورها في الفرويدية أو غيرها من مذاهب التحليل النفسي وعوالم اللاوعي، ولكنه لا يتفلسف، ولا يبالغ ولا يعمي الدلالة الموحية بأية اصطلاحات فلسفية أو سفسطة تحليلية على نحو ما نحس عندما نقرأ ونحلل أقصوصة رائعة من أقاصيصه مثل أقصوصة «الزمار».
وكما تطور أدب محمود تيمور من الملاحظة الخارجية التي تسمى أحيانًا بالواقعية إلى الملاحظة الداخلية التي تسمَّى بالتحليل النفسي، فإنه قد تطور أيضًا من المصرية المحلية إلى القومية العربية؛ حيث استمد عددًا من قصصه وأقاصيصه من بعض مشاهد الحياة في البلاد العربية الأخرى أو من تاريخها، ومن أروع قصصه قصة «نداء المجهول»، التي تدور أحداثها في لبنان، وصور في شخصية كنعان أنموذجًا بشريًّا خالدًا.
وكما استمد محمود تيمور موضوعاتِه من واقع الحياة المصرية والحياة العربية، استمدَّ أيضًا من تاريخ العرب والمصريين فله من المسرحيات التاريخية مسرحية «ابن جلا»، وهو الحجاج بن يوسف الثقفي ومسرحية «حواء الخالدة»، وبطلاها عنتر وعبلة ومسرحية «اليوم خمر» المستمدة من تاريخ الشاعر الجاهلي امرؤ القيس ومسرحيته «صقر قريش» عن عبد الرحمن الداخل أول خلفاء بني أمية في الأندلس ومسرحية عن الفتاة العربية «عوالي»، وكل ذلك إلى جوار مسرحياته القصيرة والطويلة المستقاة من واقع الحياة المعاصرة مثل «المخبأ رقم ١٣» و«حفلة شاي» و«المنقذة» و«أبو شوشة» و«الموكب» و«قنابل» و«كذب في كذب» و«سهاد أو اللحن التائه» و«عروس النيل»، وأخيرًا مسرحية «أشطر من إبليس» التي تطغى عليها الموهبة القصصية، فيأخذ محمود تيمور في التدخُّل لشرح مشاهدها وطريقة تتابعها، وهو تدخل قد يستسيغه القارئ، ولكننا لا ندري كيف يمكن أن ينتفع به المشاهد؟ ولعل في هذه الحقيقة ما يجعل هذه المسرحية عسيرة التنفيذ والنجاح على خشبة المسرح.
ودراسة مسرحيات محمود تيمور العديدة دراسة مفصلة تحتاج إلى كتاب خاص، ولعلنا نستطيع أن نعود إلى هذه الدراسة في الكتابين اللذين سنعدهما لهذه السلسلة عن «الملهاة» و«المأساة».
الجيل الجديد
وبعد الحكيم وتيمور أخذ يظهر عددٌ من الكتَّاب الذين يؤلفون للمسرح، ويجمعون هم أيضًا بين القصة والمسرحية، ويكتب بعضهم بالعامية وبعضهم بالفصحى، ويجمع بعضهم بين اللغتين، ومن أغزرهم إنتاجًا الأستاذ علي أحمد باكثير، ولعلنا نستطيع أن نقف عندهم بعض الوقت في الكتابين اللاحقين.