المسرح والعرب القدماء
من المعلوم أن التراث الأدبيَّ الذي خلَّفه العرب القدماء يتكوَّن في جاهليتهم من الشعر فحسب، وأمَّا النثر فلم يصلنا منه إلا بعض جُملٍ من سجع الكهان منثورة في كتب الأدب، بل لقد ظل الشعر حتى في العصور الإسلامية — أمويةً كانت أو عباسية أو أندلسية — ظل يكوِّنُ الجانب الأكبر من التراث الأدبي؛ وذلك لأنهم لم يُدخِلوا في الأدب من النثر إلا ما سموه: «نثرًا فنيًّا» أي نثرًا مُنمَّقًا … كالخطب والرسائل والمقامات والأمثال؛ ولذلك يتعين علينا أن نعتمد أولًا على الشعر عندما نحاول أن نميز الخصائص الفنية لعبقرية العرب في الأدب.
والدراسة المقارنة للشعر العربي القديم وغيره من أشعار الأمم الأخرى تُظْهِرُ بوضوحٍ أن الشعر العربي يتميز بخاصيتين كبيرتين؛ هما: النغمة الخطابية والوصف الحسي، وذلك بحكم البيئة ونوع الحياة، فالرجل العربي القديم في صحرائه الجرداء المنبسطة المترامية الأطراف كان رجل ملاحظة دقيقة يتناول التفاصيل، ولم يكن رجل خيال مُحلِّقٍ كسكان الجبال والغابات؛ حيث يسبح الخيال إلى القِمم أو ينطلقُ بين الدروب الكثيفة الأشجار، فيتصوَّر أنواعًا من الكائنات التي لا يراها، ويخلق بخياله ضروبًا من الحيوانات الأسطورية، والقصص الخارقة، وهو رجل يقول الشعر لينشده، وكأنه يلقي خطبًا تهز المشاعر لا مجرد ناقل لفكرة أو إحساس.
ومن البيِّنِ أن هاتين الخاصَّتين لا تنتجان شعر الدراما الذي يقوم على الحوار المختلف النغمات، لا على الخطابة الرنانة، كما يقوم على خلق الحياة والشخصيات وتصور المواقف والأحداث، لا مجرد الوصف الحسي الذي يستقي مادته من معطيات الحواس المباشرة، ولا يلعب فيه الخيال إلا في التماس الأشباه والنظائر، ومَدِّ العلاقات بين عوالم الحس المختلفة، عن طريق اللغة بفضل التشبيهات والاستعارات والمجازات المختلفة.
ولقد يقال إن العرب القدماء قد كانت لهم آلهة وأوثان، كما أنهم قد عرفوا أو تصورا عالم الجن والشياطين التي تخيروا لها واديًا خاصًّا بها هو «وادي عبقر»، وأقاموا علاقة بين الشعراء والشياطين، حتى أصبح لكل شاعر شيطانه المُلهِم؛ ولذلك سُمِّيَ الممتازون منهم عباقرة، أي أولئك الذين مَسَّهم طيفٌ من وادي عبقر، ولقد يقال أيضًا إن في هذا ما يشبه ربَّاتِ وأربابَ الشعر والفن عند الإغريق، ولكننا نلاحظ أن أساطيرَهم لم تنمُ على نحو ما نمت أساطير اليونان، بل الظاهر أنها لم تتوفَّرْ لها عناصر الدراما التي توفَّرت لأساطير المصريين القدماء؛ ولذلك لم يصلنا شيء يفيد أنهم قد اتجهوا نحو فن مسرحي أو ما يُشْبهُه كما حدث عند الفراعنة؛ وذلك لا لأنهم لم يصلوا إلى صورة الدراما فحسب، بل ولأنهم ظلوا بعيدين عن مضمون الدراما أيضًا، وهو الصراع الذي أشرنا إلى وجوده في أساطير الفراعنة.
وعلى أية حال، وحتى لو افترضنا أن العرب الجاهليين قد كانت لهم أساطير، وأن الإسلام قد قضى عليها، ولم تفلت من سطوته غير بعض الإشارات — فإننا مع ذلك نعود فنقرر أنه لا يكفي أن توجد الأساطير، وأن يوجد المضمون، بل لا بُدَّ من وجود الصورة التي يتميز بها نوعٌ من الفنون عن نوع آخر، وليس هناك أيُّ دليل يُفيد أن عرب الجاهلية قد عرفوا فن المسرح وصورته، بل ولا فن الملاحم بمعناها الدقيق، وذلك بالرغم من أنه قد كانت لهم أيام وحروب شهيرة، فإنهم لم يصوغوا تلك الأيام والحروب أو بعضها في صورة ملاحم، بالرغم مما نعْثُرُ به في شعرهم من قصائد تصف الحروب والمعارك؛ وذلك لأن الشعر العربي لم يصبح يومًا شعرًا موضوعيًّا منفصلًا عن قائله خالصًا للفن في ذاته، على نحو ما حدث عند اليونان في الملاحِمِ والمسرحيات؛ وذلك لأن الشعر العربي ولد وظل شعرًا غنائيًّا، ﻓ «عنترة» في وصفه للمعارك التي خاضها، لا يقص ملاحم موضوعية، ولا يُنحِّي ذاته عن شعره، بل يفخر ويباهي بشجاعته؛ ليحظى بإعجاب «عبلة» وحُبِّها، كما يتغنى بالسيوف التي لمعت كبارق ثغرها المتبسم، وذلك بينما نقرأ ملاحم «هوميروس» فلا نلمح خلالها أي شبح للشاعر، أو أية إشارة إلى شخصه، و«أبو تمام» لا يقص ملحمة عندما يتحدث في قصيدته الشهيرة عن فتح المعتصم لعمورية، بل يمدح خليفته، ويظهر مقدرته الفنية في وصف حريق المدينة الذي غادر فيها بهيم الليل وهو ضُحى، و«المتنبي» لا ينظم ملاحم عندما يتحدث عن حروب سيف الدولة ودفاعه عن ثغور العرب ضد الروم، بل يمدح أميره وهو واقف تمُرُّ به الأبطال كَلْمى هزيمة، ووجهه وضاح وثغره باسم، بل و«البارودي» نفسه لا ينظم ملاحم كريت وغيرها بل يفتخر ويعتزُّ بشجاعته ويُباهي بها، وهكذا يتضح أن كل هذه القصائد وأشباهَها لا تتوفر فيها خصائص الملاحم الموضوعية التصويرية، بحيث نستطيع أن نقرر أن الشعر العربي لم يعرف الملاحم، كما لم يعرف شعر الدراما، حتى ظهر «خليل مطران» فكتب قصائده الموضوعية الطويلة الرائعة عن «فتاة الجبل الأسود»، و«الجنين الشهيد» وغيرها.
ولقد يقال أيضًا إن العرب قد عرفوا أنواعًا من القصص التي صاغوها من التاريخ الواقعي أو الأسطوري لشرح كثير من أمثالهم السائرة التي نجدها في كتاب الميداني مثلًا … مثل قصة غَضَبِ النعمان ورضاه التي تدور حول المثَل المعروف: «إن غدًا لناظره قريب»، والقصة التي تدور حول «لأمرٍ ما جدع قصير أنفه» وغيرهما، كما عرفوا أو تصوروا قصصًا أخرى أعطوها صورة المقامات، وجمعوا فيها بين القصص والحوار، ولكننا لا نستطيع أن نرى في كل ذلك فنًّا قصصيًّا أو فنًّا دراماتيكيًّا بالمعنى الأوربي الحديث الذي تقوم فيه تلك الفنون على أسسٍ ومُقوِّماتٍ ثابتة يرعاها كُتَّابنا المحدثون، بعد أن أخذوا تلك الفنون عن الغربيين، فأخذوا يكتبون القصص والمسرحيات.
وعلى أية حال، فإنه إذا كان العرب قد عرفوا ألوانًا من القصص، كما طالعوا في القرآن عددًا من القصص الدينية، وإذا كانوا قد نظموا قصائد في وصف المعارك والحروب يمكن أن تشبه الملاحم من قريب أو من بعيد … فإنه من المؤكد أنهم لم يعرفوا فن الدراما في صورته التي خلقها اليونان، أو في أية صورة أخرى مشابهة، كما أن عبقريتهم الفنية ونوع خيالهم لم تكن مواتيةً لهذا الفن المُركَّب … وليس من شك في أن هذه الحقائق قد كانت من بين الأسباب التي حالت بينهم وبين نقل ذلك الفن إلى لُغتِهم مع ما نقلوا في العصر العباسي من ثقافة اليونان.
لقد نقل العرب في العصر العباسي فلسفة اليونان — وبخاصة فلسفة أرسطو — إلى اللغة العربية؛ وبالرغم من أن مؤلَّفاتِ أرسطو التي نقلوها كانت تضمُّ كتابًا عن «فن الشعر» تحدَّث فيه الفيلسوف عن أنواع الشعر المختلفة من غناء إلى ملاحم إلى دراما، وبخاصةٍ عن التراجيديا التي وصل إلينا كل ما كتبه عنها … فليس لدينا ما يدُلُّ على أنهم قد نقلوا أو حاولوا أن ينقلوا شيئًا من مآسي كبار شعراء الإغريق كإيسكيلوس وسفوكليس وإيروبيدس؛ ولذلك ضلوا ضلالًا بعيدًا حتى في ترجمة لفظي التراجيديا والكوميديا اللذين ترجمهما متى بن يونس، بلفظي المدح والهجاء، عندما رأى أرسطو يُعرِّف التراجيديا بأنها فن جميل يمتاز بالنُّبل وتمجيد البطولة بينما تهدف الكوميديا إلى نقد المثالب والعيوب … وضَلَّلت تلك الترجمة الخاطئة فيلسوفًا كبيرًا كابن رشد، فأخذ يُطبِّق الأصولَ التي وضعها أرسطو للتراجيديا والكوميديا على المدح والهجاء العربيين، ويتفنَّنُ في ضرب الأمثلة العربية للتدليل على تلك الأصول، «راجع فن الشعر مع الترجمة العربية القديمة، وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد للدكتور عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٥٣م.»
والذي لا شك فيه أن الدين الإسلامي قد حال دون ترجمة المسرح الإغريقي القائم على الوثنية وآلهتها وأساطيرها إلى اللغة العربية، بينما لم يكن هناك أيُّ تعارُضٍ بين هذا الدين والفلسفة الإغريقية … وبخاصة المنطق، بل إن المسلمين قد استعانوا بذلك المنطق في تأييد الإسلام بحجج عقلية وفي مُحاجَّةِ خصومه والدفاع عنه.
ومن الباحثين والمفكرين من يذهب إلى أبعد من كل ذلك، فيزعم أن الإسلام الذي حارب فنَّ النَّحتِ وصنعَ التماثيل؛ خوفًا من العودة إلى عبادة الأصنام، لم يكن من المنتظر أن يبيحَ — وهو لا يزال قريب عهد بعصر الأصنام — ترجمة أو تأليف مسرحيات يخلق فيها كاتبوها شخصيات، على نحو ما يخلق النحَّاتون تماثيلَ تشبه الأصنام وتضل العباد، فضلًا عن مشاركة الله في قدرته على الخَلْقِ، وإن تكن هذه الحجة الأخيرة غير مقبولة؛ وذلك لأنه سواء أصَحَّ أو لم يصح أن الإسلام الصحيح يُحرِّمُ صنع التماثيل على نحو مطلق مستمر أو لا يحرمه، فإن صنعها يختلف بالبداهة اختلافًا تامًّا عن تصوير الشخصيات وتحريكها في المسرحية، ومن المعلوم أن الأصل الفلسفيَّ العامَّ لتصوير الشخصيات الروائية، بل وخلق كافة ألوان الأدب، إنما هو المحاكاة — كما قال أرسطو — لا الخلق من العدم، أي محاكاة الطبيعة الخارجة من يدي الإله، ولقد أسهب أرسطو في إيضاح هذا الرأي في كتاب الشعر؛ ولذلك يَصْعُبُ علينا أن نسلم بما يقال أحيانًا من أن الإسلام قد رأى في التشخيص التمثيلي اليوناني تحدِّيًا لقدرة الله أو محاكاة له.
ولكنه أيًّا ما يكون الأمر، فإنه لا مَفَرَّ من أن نقرر أن العرب لم يستطيعوا أن يبتكروا فن المسرح بعبقريتهم الخاصة، كما أنهم لم ينقلوه إلى لغتهم عن اليونان كما نقلوا الفلسفة، ولذلك لم نرث عنهم هذا الفن بين ما تلقينا عنهم من تراث أدبي مكتوب باللغة الفصحى ومحفوظ في بطون الكُتُبِ.
ولكنه إذا صح أننا لم نتلقَّ الفن المسرحي عن الفراعنة، ولا عن العرب كفنٍّ مُدوَّنٍ متوارث، فهلا يمكن القول بأن هذا الفن قد كان موجودًا في مصر والبلاد العربية قبل اتصالنا بالغرب وأخذنا عنهم، وذلك في صورة بعض فنون التسلية الشعبية التي كانت معروفة في مصر والعالم العربي، ولا تزال لها بعض البواقي، كفن خيال الظِّلِّ والأراجوز، على نحو ما نجد أن الشعب قد كتب لنفسه وبلغته العامية الملاحم التي لم يجدها في أدبه الفصيح فاخترعها، على نحو ما فعل في قصص عنتر وأبو زيد الهلالي وغيرهما؟