المسرح في العالم العربي الحديث
يقول المؤرِّخونَ إن الفرنسيين أثناء حملتهم التي لم تعمِّرْ طويلًا في مصر، قد أقاموا بعض المسارح الخشبية ليمثِّلوا فيها بالفرنسية بعض الروايات للترويح عن جندهم، وإن الشعب المصري كان يسترق البصر من خلال الألواح الخشبية؛ لكي يشاهد ما يجري على تلك المسارح، ولكن هؤلاء المؤرخين لا يحدثوننا عن ظهور أثر للتمثيل باللغة العربية في مصر أو في غيرها من البلاد العربية إلا قُبيلَ منتصف القرن التاسع عشر بقليل.
وُلِدَ مارون النقاش في صيدا، وتربَّى في بيروت، وكان من حداثتِه ميَّالًا إلى العِلم، فأتقن الآداب اللغوية وغيرها، كالصرف والنحو والعروض والبيان والمنطق، وأخذ في نَظْمِ الشعر وهو في التاسعة عشرة، وتعلَّم الحسابات التجارية على الأصول الإفرنجية، وعلَّمها الكثيرين، فكان إمام هذا الفن في بيروت، وتعلَّم أيضًا القوانين الإدارية، وكان التجَّار يرجعون إلى رأيه فيها، وأتقن اللغة التركية والإيطالية والفرنساوية، وكان له ولع بالموسيقى، وارتقى في مبدأ عمره إلى رياسة كتاب جمرك بيروت، ثم انقطع للتجارة إلى آخر حياته.
وكان فيه مَيلٌ إلى السفر مع صعوبته في ذلك الحين، فساح في سوريا كلها، ثم جاء الإسكندرية ومصر سنة ١٨٤٦م في أواخر أيام محمد علي، وشخص منها إلى إيطاليا وهي لا تزال يومئذٍ أكثر ممالك أوربا علاقة بالشرق، وحضر فيها تمثيل الروايات على المراسح، فأدهشه ما في ذلك من اللَّذة والفائدة بتمثيل العِبرَةِ حتى يراها الناس رأي العين، وخَطرَ له أن ينقل هذا الفن إلى العربية؛ لفائدة أبناء وطنه، وأخذ في العمل حال رجوعه إلى بيروت، فضَمَّ إليه جماعة من أصدقائه الشبان النُّجباء الأدباء، وأخذ يعلمهم التمثيل، وألَّفَ رواية «البخيل»، وهي أول رواية تمثيلية أُلِّفتْ في اللغة العربية، فعلمهم أدوارها حتى أتقنوها ومثَّلوها في بيته سنة ١٨٤٨م، في ليلة حضرها قناصلُ المدينة وأعيانُها، فأعجبوا بما شاهدوه من دقة التمثيل وإتقان التأليف، مع حداثة هذا الفن، فشاع خبر ذلك حتى تناقلتْه الصُّحفُ الإفرنجية، فزاد نشاطًا وإقدامًا، فألَّف رواية «أبي الحسن المغفل»، أو «هارون الرشيد»، ومَثَّلها في بيته أيضًا في أواخر سنة ١٨٥٠م، ودعا إليها والي سوريا وبعض الوزراء ورجال الدولة، وكانوا يومئذٍ في بيروت، فأعجبوا به، وأثنوا على نشاطه، ولمَّا تحقق نجاح عمله أنشأ مرسحًا خاصًّا بالتمثيل بجانب منزله خارج باب السراي بفرمان سلطاني — وقد تحوَّلَ بعد موته إلى كنيسة عملًا بوصيته، وفي هذا المرسح شَخَّص رواية «الحسود السليط» وهي كثيرة الفكاهة والعبرة، وكان مع ذلك يتعاطى أشغاله التجارية، وإنما يشتغل بالتمثيل حبًّا في الفن، وكذلك سائر أصدقائه الممثلين، وكانوا في بادئ الرأي يتزلفون إلى الناس ويتملقونهم ليحضروا تمثيلهم، ثم صار الناس يتقاطَرون إليهم، وقد نبغ منهم بعد ذلك جماعة من كبار الوجهاء، وأهل الأدب، ولو مَدَّ الله بأجل النقاش لكان لفن التمثيل شأن آخر، ولكنه توفي في ١٨٥٥م في طرسوس، وكان قد ذهب إليها لبعض أشغاله التجارية، وهو لم يتجاوز الثامنة والثلاثين من عمره.
فخلف النقاش في أهل بلاده حُبَّ التمثيل، ورغَّبَ بعض أدباء بيروت في هذه الصناعة، فجعلوا يمثلون الروايات في المراسح الخصوصية، أو المدارس الكبرى، أو المراسح العمومية، وأشهرها مرسح سوريا … ومن قدماء المشتغلين في سوريا بعد النقاش سعد الله البستاني الذي مثَّلَ رواية انتظم في سلكها جماعة من نوابغ الشبان يومئذٍ …
واعتمادًا على هذا النص يمكن القول بأن فن التمثيل العربي قد ابتدأ في سوريا، التي كانت تشمل عندئذٍ سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن، ولكن هذا الفن لم يتطوَّر ويترعرع ويزدهر في البلاد السورية، بل انتقل إلى مصر؛ وذلك لعدة أسباب، منها: أن مصر كانت قد وصلت إلى نوع من الاستقلال الذاتي عن الحكم التركي بجهله وتعصبه وظلمه وظلامه، حتى أصبحت تبعيتها لتركيا تبعية شكلية، لا تكاد تعدو الإتاوة السنوية، التي يرسلها والي مصر إلى الآستانة، ثم الدعاء للخليفة التركي على المنابر في خطب الجمعة، واستطاعت مصر — بفضل هذا التحرر — أن تفتح أبوابها للحضارة الإنسانية التي آلت إلى الغرب، وأن تأخذ بأسباب تلك الحضارة، مما رفع مستواها المادي والثقافي فنمت ثروتها، وازداد عدد سكانها، وتبدَّدَ بعض الظلام المخيم عليها، وتفتحت أذهانها إلى تلقي فن جديد كفن التمثيل، حتى رأينا خديويها نفسه إسماعيل يبني في عاصمتها دارًا للأوبرا، وكل ذلك بينما كان حكام الأتراك في البلاد العربية الأخرى لا يزالون يناقشون ما إذا كان الإسلام يُجيز فن التمثيل أو يحرمه؟ وحتى من سمح به من أولئك الحكام، لم يكن يرتاح إلى انتشاره في ولايته، إمَّا لتعصب ديني غبي وغيرة كاذبة على الخلفاء السابقين إذا كانت الرواية المسرحية تتعرض لأحد منهم، كما حدث في رواية «هارون الرشيد» التي ألَّفها مارون النقاش، وقيل إنه تعرض فيها لنكبة الرشيد للبرامكة، فغضب لذلك الحاكمُ التركيُّ متظاهرًا بالغيرة على سمعة الرشيد، ولعله قد غضب في حقيقة الأمر خوفًا على سيده الخليفة التركي وعلى أمثاله من حكام الولايات الذين يتضاءل إلى جوار ظلمهم وغدرهم فَتْكُ الرشيد بالبرامكة.
وعلى أية حال، فالثابت تاريخيًّا أن مَن نجح في فن التمثيل، وأحسَّ من نفسه القدرةَ عليه من إخواننا السوريين، كان لا يلبث أن ينزح بفنه إلى مصر؛ حيث المجال أوسع، والإمكانيات أيسر، والجَوُّ السياسي والاجتماعي أكثر حرية وانطلاقًا، وإن يكن هذا الفن قد ظل عشرات السنين منظورًا إليه في مصر — وبخاصة من الطبقات المحافظة — نظرة التوجُّسِ والريبة من الناحية الأخلاقية؛ وذلك لاختلاط النساء بالرجال في التمثيل، وظهور النساء على خشبة المسرح أمام الجماهير، وبخاصةٍ عندما كانت المرأة لا تزال محجبة، والناس يتقاتلون حول السفور وعدمه، ويثور جانب كبير من الناس ضد قاسم أمين، عندما يطالب بتحرير المرأة، ويدعو إلى السفور.
ومهما يكن من شيء، فالثابت — كما قلنا — أن رواد فن التمثيل في سوريا لم يلبثوا أن نزحوا إلى مصر، حاملين معهم هذا الفن، وكانت أول فِرقةٍ وفدت إلى مصر هي فرقة سليم النقاش ابن أخي مارون، والظاهر أن الإسكندرية كانت أكثر تحررًا من القاهرة؛ ولذلك اختارتْها تلك الفرقة فنزلت بها في ديسمبر سنة ١٨٧٦م، وكانَت هذه الفرقة تتكوَّن من ١٢ ممثلًا وأربع ممثلات، وأخذت تمثَّل على مسرح زيزينيا روايات مترجمة عن الفرنسية مثل «هوراس»، و«متريدات»، ثم «عايدة» إلى أن أخذ سليم النقاش يؤلِّف روايات شرقية جديدة، ولكن يبدو أن الفرقة لم تلق ما أملتْ من نجاح وإقبال؛ ولذلك لم يلبث رئيسها سليم النقاش وعضو من أعضائها البارزين، وهو أديب إسحق أن انفصلا عنها؛ لكي يعملا بالصحافة، وإن تكن الفرقة قد ظلت قائمة برياسة أحد أعضائها، وهو يوسف خياط، كما ظلت تمثل على مسرح زيزينيا؛ حيث لاقت رواية «صنع الجميل» بعض النجاح، ثم انتقلت إلى القاهرة؛ حيث مثلت في سنة ١٨٧٨م على مسرح الأوبرا أول مسرحية باللغة العربية وهي رواية «الظلوم»، التي أغضبت الخديو إسماعيل؛ إذ ظن أنها نقد لأساليب الحكم في ذلك الوقت، فطَردَ الجَوْقةَ من مصر.
ومضت فترة من الزمن قبل أن تأتيَ فرقة سورية أخرى إلى مصر، والراجح أن فرقة أحمد أبو خليل القباني الدمشقي لم تأتِ إلى مصر إلا في سنة ١٨٨٤م؛ حيث أخذت تمثل في قهوة الدانوب، وكانت في تمثيلها تجمع بين الحوار والغناء والرقص والموسيقى، وقد سجلت لنا الصحفُ أسماء عِدةِ روايات مثلتْها مثل: «أنس الجليس»، و«الشيخ وضاح»، و«مصباح»، و«قوت الأرواح»، و«عنترة العبسي»، و«عفة المحبين»، ثم أخذت تمثل على مسرح زيزينيا؛ حيث قدمت مسرحية «العلم المتكلم».
وفي هذه الفرقة كان الشباب يمثلون أدوار النساء، وكان أبو خليلٍ يقوم بالغناء، بينما كان يمثل إسكندر فرح دَورَ البطولة، والراجح أن تكوين هذه الفرقة من رجال فحسب هو الذي مكَّنها من أن تجول في بلاد القُطرِ المختلفة، بل وفي بعض قرى ريف مصر.
هذا ولعلَّ القباني هو صاحب الفضل في تثبيت أقدام هذا الفن في مصر، وربما كان ذلك لأن فنه لقي هوى وقبولًا في نفوس المصريين؛ وذلك لأنه لم يكن فنًّا تمثيليًّا خالصًا، بل كان يجمع بين التمثيل والموسيقى والغناء، وكان القباني يجيد فنَّي الموسيقى والغناء والتلحين والراجح أيضًا أنه هو الذي بذر بذرة المسرح الغنائي في مصر، ومهَّدَ الطريق للشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وغيرهما ممن اشتغلوا بالمسرح الغنائي في مصر.
وكما حدث في فرقة سليم النقاش التي خرجت منها فرقة يوسف خياط، حدث في فرقة القباني؛ إذ كوَّنَ أحد ممثليها وهو إسكندر فرح فرقة خاصة سماها: «جوق مصر العربي»، وإلى جوارها ظهرت فرق أخرى مثل مسرح قرداحي، ومسرح رومانو التي كانت تمثل مسرحيات مترجمة مثل «أستير» و«تليماك» وأخرى عربية مؤلَّفة مثل «هارون الرشيد».
وإلى جوار هذه الفرقة المختلفة قامت جماعات من الهُواة مثل نادي المعارف الذي كان يضُمُّ هواة من موظفي السكة الحديد والبريد.
هذا ولا يجوز أن ينسينا مجهود إخواننا السوريين في نشر فن التمثيل في مصر مجهودًا محليًّا عاصر مجهود إخواننا السوريين، بل لعله سبقهم ببضع سنوات، وهو ذلك المجهود الكبير الذي قام به يعقوب صنوع اليهودي المصري الشهير بأبي نضارة (١٨٣٩–١٩١٢م).
ليس من السهل أن أروي قصة مسرحي، ذلك المسرح الذي كان — في الواقع — يستدِرُّ دموع الفرح في عيني، غير أنها كانت — في الغالب — مصحوبة بالألم.
وُلِدَ هذا المسرح في مقهى كبير، كانت تُعزَفُ فيه الموسيقى في الهواء الطلق، وذلك في وسط حديقتنا الجميلة «الأزبكية»، في ذلك الحين، أي في سنة ١٨٧٠م، كانت ثمة فرقة فرنسية قوية، تتألَّف من الموسيقيين والمطربين والممثلين، وفرقة تمثيلية إيطالية، وكانتا تقومان بتسلية الجاليات الأوربية في القاهرة، وكنت أشترك في جميع التمثيليات التي تُقدَّم في ذلك المقهى، إذ كانت الفرنسية والإيطالية اللغتين اللتين أحببتُهما حبًّا جمًّا، ودرست كبار كتَّابهما المسرحيين.
وعندما أحسست بأنني أصبحت مُتمكنًا — إلى حد ما — من الفن المسرحي، كتبت غنائية من فصل واحد، باللغة العامية، وأقحمتُ فيها بعضَ الأغاني الشعبية الشائعة، وعلَّمتُ أدوارها لعشرة من الشبان الأذكياء، الذين اخترتهم من بين تلاميذي، وتزيا أحدهم بزي امرأة، وقام بدور العاشقة.
ثم مضيت إلى قصر عابدين، وقدَّمت مخطوطة هذه الغنائية إلى خيري باشا، وهو الذي كان يتولى الإشراف على احتفالات الخديو إسماعيل، ورجوت سعادته أن يقدمها، مع أصدق الاحترام، إلى سموِّهِ، كما قلت له: إنه يعد تنازلًا منه، أن يسمح مقامه السامي بمساعدتي لإرشاد مُواطنيَّ، في الطريق الشائك، الذي يؤدي بهم إلى الرُّقي والمدنية، فيتكرم سموه أن يشرِّفَ مسرحيتي الصغيرة، بأنظاره السامية، ويشجعَني على إقامة مسرح للمواطنين، الذين لا يزالون لا يألفون الفن المسرحي، ولا يفهمون شيئًا من الأوبرات الإيطالية الكبرى، والكوميديات الفرنسية الرائعة، التي أقام الخديو المحبوب، من أجلها، مسرحين عظيمين.
وقد ابتعث هذا الخبر السعيد الهِمَّةَ في نفوس ممثليَّ، وفي نفسي، ودفعنا إلى التوفُّرِ على استظهار أدوارنا، كما قمت باستظهار خطابي الذي أعددتُه، لأبسطَ فيه فوائد المسرح.
كان افتتاح مسرحي العربي حدثًا من أحداث القاهرة، ولن أنسى تلك الليلة، على الرغم من الاثنتين والثلاثين سنة، التي تفصل بيني وبينها.
وقد غصت الصالة والألواج بالجمهور، منذ الساعة الثامنة، وكان عدد الواقفين منهم يربو على عدد الجالسين، وشهد الحفلةَ رجالُ البلاط، والوزراء جميعًا، ورجال السلك السياسي الأوربي، وقامت «الأوركسترا» الوطنية، بعزف النشيد الخديوي، ثم ارتفعت الستارة عن المسرح؛ حيث كنت أقف محاطًا بممثلي، وأخذتُ في تقديم التمثيلية إلى الجمهور.
وكان المنظر الماثل أمامي مهيبًا، ولا أبالغ إذا قلت إنني كنت أرى أمامي أكثر من ثلاثة آلاف شخص، بين رجل وامرأة، من مختلف الأجناس يرتدون ملابس من جميع البلاد.
وقد استُقبِلنا بعاصفة من التصفيق، وكانت عبارة «برافو» تنهال علينا بمختلف لغات برج بابل، وكان قلبي يخفق بشدة، ذلك أنه إذا أحجم اثنان من ممثلي، عن التعاون معي، فإن الإخفاق الذريع، سيكون من نصيبي حتمًا.
وكان الخطاب الذي أعددته، منشورًا في برنامج الحفلة، واستجمعت شجاعتي، ثم أغلقت عيني — إذ كان منظر الجمهور المُحتشِد، يبعث الخوف في نفسي — ثم بدأت ألقي خطابي، بصوت قوي واضح النبرات، وختمت الخطاب شارحًا للمستمعين من المواطنين، معنى المسرحية، ثم حدثتهم قليلًا عن موضوع غنائيتي.
وقد صفقوا للخطاب، لا لأنه يستحق التصفيق، بل لما فيه من جديد، ثم أُنزِلت الستارة ورُفعت ثانية، بعد عزف مقطوعة من الموسيقى التركية.
ولقد شجعني نجاح هذه المسرحية، على ألَّا أتوقف أبدًا، بل مضيت في سبيلي قُدُمًا، وكان عليَّ أن أؤلِّفَ فرقة تمثيلية حقيقية، تضمُّ ممثلاتٍ من النساء، لا من رجال تنكروا في أزياء النساء.
ولقد وُفِّقتُ — في ذلك الحين — إلى العثور على فتاتين فقيرتين جميلتين، كانتا على جانب من الخلق القويم، وفي أقل من شهر واحد، تعلمتا القراءة، ولم تجدا صعوبة في القيام بالأدوار الصغيرة، التي كنتُ أكتبها في مسرحياتي لهما خاصة.
وقد بعث ظهورهما على المسرح في نفوس الجمهور شعورًا فياضًا من الغِبطة، جعله يستقبلهما ويُحييهما بموجةٍ من الاستحسان، ممَّا شجعَهما على الاستمرار، وعلى أداء أدوار أكثر أهمية، وأصبحتَا في خلال بضعة شهور نجمتين لامعتين، في ذلك المسرح الناشئ الذي قدمتُ عليه — خلال سنتين — اثنتين وثلاثين مسرحية، من تأليفي المتواضع، هذا إلى جانب مسرحيات أخرى، قام بترجمتها عن الفرنسية بعضُ زملائي.
وبعد مرور أربعة شهور على قيام هذا المسرح القومي، دعاني الخديو إسماعيل وفِرقتي إلى التمثيل على مسرحِه الخاصِّ في قصر النيل، وبعد أن مثلْنا مسرحيتَيْن، قال لي أمام الوزراء وكبار رجال القصر: نحن ندين لك بإنشاء مسرحنا القومي، فإن كوميدياتك وغنائياتك ومآسيك، قد عرَّفت الشعب على الفن المسرحي، فاذهب، فإنك «موليير مصر»، وسيبقى اسمك كذلك أبدًا.
ومع ذلك، فإن هذا المجهود الضخم لم يشفع له عند الخديوي إسماعيل، عندما مثل أبو نضارة على مسرحه روايةَ «الوطن والحرية»، التي رأى فيها الخديوي مساسًا بحكمه وبحاشيته، فأمرَ بإغلاقِ المسرح، ومنذ ذلك الحين انصرفَ أبو نضارة عن المسرح إلى ألوان أخرى من النشاط، أخَصُّها الصحافة، ثم اتصل بجمال الدين الأفغاني، وظل يُزاول نشاطه السياسي إلى أن أمر الخديو بطرده من مصر، فغادرها إلى باريس؛ حيث ظل يواصل نشاطَه الصحفي والسياسي حتى توفي سنة ١٩١٢م.