المسرح الغنائي
وبعد «أبو نظارة» لم يظهر من بين المصريين مدير لفرقة محلية جديدة، حتى استقلَّ الشيخ سلامة حجازي عن الفِرقِ السورية التي عمل معها كمغنٍّ وملحن وممثل فترةً من الزمن، مثل فرقة إسكندر فرح والقرداحي، وألَّفَ سنة ١٩٠٥م فرقةً غنائية خاصة به، ظلَّ يُديرها ويقدِّمُ بواسطتها المسرحيات الغنائية في مصر شتاءً، وفي سوريا ولبنان صيفًا، مع انقطاعه — فترات قصيرة بسبب مرض الفالج الذي أصابه في شقه الأيسر سنة ١٩٠٩م — عن الإدارة الفعلية لفرقته، وتخلِّيه عن تلك الإدارة لأحد أفراد الفرقة، وهو عبد الله عكاشة إلى أن توفِّي في سنة ١٩١٧م.
لم يكن الشيخ سلامة — وإن علا أمرُه — ذا درايةٍ بالفن، تؤهلُه لرفع مناره، والبلوغ به الأمد الذي لم يصل إليه أحد بعدُ؛ ولهذا نراه في أطواره الثلاثة لم يفعل شيئًا فنيًّا ذا قيمة كبيرة، اللَّهمَّ إلَّا في عهده الأخير؛ حيث كان يُجاري الأجواق الفنية، ولكنَّه كان يحب الفن حبًّا جمًّا، وكان يعمل بنصيحة كلِّ مخلصٍ صادق القول والفعل، غير أن أنصاره لم يكن لهم دراية كبرى بالفن؛ ولهذا لم يُخرِج الشيخ لنا في الشطر الثاني من حياته التمثيلية غير رواية «ابن الشعب»، و«تسبا»، و«نتيجة الرسائل»، و«عواطف البنين»، و«اليتيمتين»، و«الحرم الخفي»، وكلها روايات مترجمة لا قيمةَ لها من الوجهة الفنية، غير أن الشيخ لم يقصر مطلقًا في إخراج هذه الروايات على الشكل الذي يتطلبه الفن، فكان يصرف من أجلها ما في جيبه من المال، ولم يكن ذلك بالقليل، بل أرغمه تفانيه في خدمة الفن أن يمثِّلَ دَورًا قصيرًا لا أهمية له في «نتيجة الرسائل»، ولم يمنعْه ذلك أن يُخرِجَ للناس رواية خالية من الألحان، مع أن الألحان في كل وقت رأس ماله الذي لم يفنه غير الموت.
أجل كان الشيخ يحب التمثيل كثيرًا، ألم تجده في مسرح المنصورة يمسك بيده مطرقة عامل المسرح ليدق بها مسمار منظر من المناظر في رواية «العذراء المفتونة»، ولم يكن له فيها دور يمثله؟!
هذا هو مجهود الشيخ الفني وهو قليل فنيًّا، وبالنسبة لشهرته الكبيرة، فكل رواياته كانت تلحينية، اللَّهمَّ إلا بعض روايات لم تكن ذات قيمة فنية كبيرة، ولكن نتيجة هذا المجهود كانت كبيرة جدًّا، وهي التي خطت بالتمثيل والجمهور خطوات عظيمة، بل كانت الصلة بين التمثيل القديم والتمثيل الجديد.
كان الشيخ سلامة جاهلًا بالفن، ولكن الله قيَّض له دواعيَ أخرى وُجِدت في طبيعته واستعاض بها عن العلم، أولها: صوته الشجي الذي كان يملك به عنان جمهوره، وثانيها: إرادته الحديدية التي كانت تنسف العقبات، وتجتاح الصدمات، وثالثها: إسراف المال بلا حساب في سبيل فنِّه، لا ننكر على الشيخ عبقريته في التلحين الشرقي، فقد كان يؤلِّفُ النغمات المسرحية ويغنيها بصوته الجميل، فيجتذب قلب جمهوره، ويمتلك عليه نفسه، ولا ننكر عليه إرادته التي شهدناها في كل موقف من مواقفِه التمثيلية، فقد لبث الشيخُ خمسة وعشرين عامًا يمثِّل دون أن نسمع أنه رجع إلى الوراء لانشقاق ممثِّل عنه، أو لتفوُّقِ ممثلٍ آخر عليه، بل كان يمثِّل وهو مريض، في الوقت الذي تعدَّدت فيه الأجواق الجدية والهزلية، ولا ننكر على الشيخ إسرافه المال في سبيل فنِّه، وكيف ننكر عليه ذلك وتلك طبيعةٌ في نفسه لم تفارقه حتى في ساعات ضنكه وفقره؟! أينسى القارئ الكريم المناظر المُتقنةَ المُدهِشةَ التي كان يقدِّمها لنا الشيخ في روايات «هملت»، و«شهداء الغرام»، و«تليماك»، و«ضحية الغواية»، و«نتيجة الرسائل»، وغيرها من الروايات الشهيرة؟! كل هذه العوامل كانت سببًا في إقبال الناس على دار التمثيل العربي؛ لمشاهدة ما كان يقدِّمه الشيخُ لهم من الروايات، أقبل الجمهور ليرى فنَّ الشيخ فأدهشه الفن، وما كان هذا الفن بالفن الحقيقي، ولكنه كان في المناظر والملابس، رأى الجمهور على المسرح شيئًا لا يكدُّ ذهنه لفهمه، رآه سهلًا جميلًا متقنًا بهجًا، يخطف البصر، ويحيِّرُ الفكر، موافقًا لعقلِه وشعوره ودرجة فهمه، فأقبَلَ عليه ولهج بكلمة «تمثيل»، وابتدأ يُدرك أن التمثيل فنٌّ من الفنون ذو قيمة كبيرة، بعد أن كان يذهب لمسرح عبد العزيز لتمضية جزء من وقته كان يقضيه في قهوة ماتاتيا أو في سبلنددبار، مَكثَ الجمهور يعبد الشيخ سلامة حجازي مدة طويلة؛ لأن الشيخ سلامة حجازي أتى للجمهور بما يوافق أمياله، ولم يخرج به دفعة واحدة عن الدائرة الصغيرة التي رسمها الجمهور لنفسه، فعَهْدُ الشيخ سلامة كان عهد الصلة بين التمثيل القديم والجديد، وهو الذي مشى بالجمهور من الحالة الرَّثَّةِ إلى الحالة النَّضِرةِ، وهيَّأه لاستقبال الفن الصحيح، الذي ما زلنا نتخبط لتحقيقه.
ولو كان الشيخ عالمًا بأسرار الفن، وقدَّمَ للجمهور شيئًا فنيًّا في ذلك العهد، لنَفَرَ منه الجمهور ولذهبت أتعاب الشيخ أدراج الرياح.
وأمَّا عن الشيخ سلامة كممثل، فيقول محمد تيمور: «كثير من الناس يرمي الشيخ سلامة حجازي بأنه كان لا يُحسِنُ التمثيل بالمرة، والشيخ — كما نعلم — لم يتلقَّ التمثيل في مدرسة، أو عن أستاذ قادر، ولكنه تعلَّمَه في مدرسة التجارب، وهو وإن كان لم يصل لتحسين إلقائه، ولكنه وصل أخيرًا لإجادة كثير من الأدوار التي لم يبزه فيها ممثل كدور هملت وجيوفاني والسنان.»
ويقول أخيرًا عن الشيخ سلامة كمنشد: «أمَّا طريقة إنشاده، فكانت تختلف عن طريقة المغنيين، وكانت ألحانه توافق المواقف المسرحية، فإذا لحَّنَ لحنًا للجحيم سمعت منه عزيف الجن، وإذا لحن لحنًا غراميًّا شممت منه أرج الحب، وإذا لحن لحنًا دينيًّا دخلت في نفسك الهيبة والجلال إذا سمعته، وما زالت ألحانه تُغنَّى إلى الآن، حتى إن بعضهم كان ينظم لها كلامًا هزليًّا ويغنيها في الكازينو دي باري، ولقد اجتهد بعضهم في تلحين روايات أخرى حتى الآن، ولكنه لم يُفلح في ذلك لجهلِه الذوقَ المسرحيَّ الذي نبغَ فيه المرحوم.»
«والواقع أن الشيخ سلامة حجازي قد جدَّدَ في الغناء العربيِّ تجديدًا خطيرًا، لم يكن يستطيعُ بدونه أن يدخل المسرح، وأن يصبح جزءًا من الحوار، أو متمِّمًا له، أو على الأقل جزءًا من المسرحية، وذلك بحذفِه للتواشيح والمقدِّماتِ والليالي والتقسيمات الموسيقية، التي كانت تسبق دائمًا الغناء، وتُمهِّدُ له تمهيدًا طويلًا، لا يمكن أن يتفق مع التمثيل المسرحي، وهو بهذا الإصلاح الكبير قد مهَّدَ للموسيقى والغناء المسرحيَّيْنِ، وعبَّدَ الطريق لظهور عِملاقِ الموسيقى المسرحية الشيخ سيد درويش، الذي علا نجْمُه في هذا الفن رغم حداثة سنه، وقصر عمره، وإن يكن المسرح الغنائي لم يُكتبْ له البقاءُ فضلًا عن الازدهار والتقدُّم بعد هذين الرائدين حتى يومنا هذا، فيما عدا بعض الفلتاتِ مثل المسرح الغنائي الذي ثابرتْ فيه بعض الوقت السيدة منيرة المهدية.»