المسرح الفني
إذا كانت الفرقُ السورية التي سبق أن تحدثْنا عنها والفرق المصرية المحلية التي عاصرتها قد استطاعت أن تبتدئ الفنَّ المسرحيَّ في مصر أن تجتذبَ إليه جمهورًا من المصريين؛ وذلك بفضل مواهب بعض رواد هذا الفن واستعانتهم بالفنون الأخرى المُحبَّبَة للجمهور والمألوفة لديه كفن الموسيقى وفن الغناء، إلا أننا نستطيع أن نطمئن إلى أحكام ناقدٍ نزيهٍ مثقفٍ مثل محمد تيمور؛ لنقرر أن المسرح بمعناه الفني المستقل بأصوله ووسائله الخاصة لم يظهر في مصر إلا بفضل جورج أبيض الذي وُلِدَ في بيروت سنة ١٨٨٠م، وتلقى دروسه في «مدرسة الحكمة»، وتثقف في اللغة الفرنسية، ثم هاجر إلى مصر في سنة ١٨٨٩م؛ ليعمل ناظرًا لمحطة سيدي جابر، مع الاستمرار في مزاولة فن التمثيل كهواية مع بعض الفِرقِ الأجنبية التي كانت تعمل في الإسكندرية حتى جمع بعض المال وحَظِيَ بتعضيد ومساعدة الخديو عباس الثاني، فسافر إلى باريس في سنة ١٩٠٤م؛ حيث تلقَّى فن التمثيل على كبار أساتذته في العاصمة الفرنسية، وتتلمذ بنوع خاص للممثل الفرنسي الكبير «سيلفيان»، وعاد من باريس إلى مصر في سنة ١٩١١م، ومعه فرقة من الممثلين الفرنسيين الذين أخذوا يمثلون الروايات الفرنسية في القاهرة والإسكندرية، حتى طلب إليه «سعد زغلول» وزير المعارف عندئذٍ بأن يُعْنى بالتمثيل العربي بعد أن كان قد انقطع فترة من الزمن عن التمثيل بالفرنسية، فألَّفَ في سنة ١٩١٢م جوقة تمثل بالعربية، اختار أفرادها من الممثلين الذين كانوا يعملون وقتئذٍ بالفرق المسرحية المختلفة كفرق القرداحي وإسكندر فرح والشيخ سلامة، وكان من بين أفرادها ممثلون بارزون مثل عبد الرحمن رشدي وعزيز عيد وأحمد فهيم ومحمد بهجت، وابتدأَت الفرقة بتمثيل مسرحية من فصل واحد، ألفها الشاعر حافظ إبراهيم، وهي «جريح بيروت»، ثم مثلت على مسرح عباس بالقاهرة، ومسرح الحمراء بالإسكندرية، ثم مسرح الأزبكية، ومسرح الأوبرا عدة روايات كبيرة مترجمة مثل مسرحية «أديب» لسفوكليس التي ترجمها فرح أنطون وشهدها الخديو، ومسرحية «عطيل» لشكسبير وقد ترجمها خليل مطران، ثم مسرحيات موليير الهزلية الشهيرة التي ترجمها عثمان جلال زَجَلًا ولاقت نجاحًا كبيرًا، مثل: «ترتيف»، أو «الشيخ متلوف»، و«مدرسة الأزواج»، و«مدرسة النساء»، و«النساء العالمات»، كما مثلت مسرحية «لويس الحادي عشر» التي اشتهر جورج أبيض بتمثيل دور البطولة فيها، وغيرها من المسرحيات حتى اندمجت فرقة أبيض في فرقة عكاشة سنة ١٩١٣م، وبذلك ابتدأ جورج أبيض مرحلة جديدة في فن التمثيل؛ إذ أخذ يقدِّم مسرحيات تجمع بين التمثيل والغناء. وإذا كانت فرقة أبيض عكاشة لم تدُمْ أكثر من موسم واحد، ثم انحلت في نفس العام، أي سنة ١٩١٣م فإن جورج أبيض قد عاد فاتفق في أكتوبر سنة ١٩١٤م مع الشيخ سلامة حجازي وألفا جوق أبيض وحجازي الذي مثل رواية «صلاح الدين الأيوبي»، و«عايدة» وغيرهما، وذلك بعد أن حاول أن يعود فيستقل بفن التمثيل عن غيره من الفنون، وألف فرقة تمثيل خالصٍ، مثَّلت بعض عيون الأدب الغربي مثل «روي بلاس» لهيجو التي ترجمها نقولا رزق الله، ومسرحية «قيصر وكيلوباترة» لبرنارد شو التي ترجمها إبراهيم رمزي.
وقد ظل جورج أبيض والشيخ سلامة يعملان معًا حتى انفصلا في أغسطس سنة ١٩١٦م.
وبالرغم من أن جورج أبيض قد اتُّهمَ بأنه لا يجيد التمثيل إلا في الأدوار الثلاثة التي تعلمها على أستاذه سيلفيان، وهي أدوار «أوديب» و«عطيل» و«لويس الحادي عشر»، إلا أن الناقد الكبير محمد تيمور في كتابه: «حياتنا التمثيلية» لا يقبل هذا الاتهام؛ إذ نراه يورده، ثم يتابع الحديث؛ قائلًا: «ثم أخرج جورج «قلب المرأة» و«في سبيل الوطن»، ممثلًا فيهما دورين عصريين نبغ فيهما نبوغًا حسده عليه أصدقاؤه قبل أعدائه، أخرج للناس الدورين في شكل جديد لم يعهده الناس فيه، فكان في قلب المرأة عاشقًا ضرم الحب أنفاسه، تارة رافع الرأس وطورًا ذليل النَّفسِ، وكان في مسرحية في سبيل الوطن بطلًا كبيرًا عصريًّا، يهدأ ويثور عند الحاجة، ثم مثل مكبث وكين وبهما عادت إليه ثقة الجمهور، وعرف الناس أنه ممثل كبير، لا يعجز عن خلق الأدوار بما توحيه إليه نفسه الهائجة، لقد بلغ جورج في الدَّورينِ الغاية التي لم يصل إليها ممثلٌ قَبلَه، وبها ملك زمام جمهوره، يتحكم فيه كما يشاء، بل من ذلك العهد أصبح ثقيل الجيب لا يشكو ضيقًا ولا عُسْرًا، ومثل بعدهما دور «شارل السادس» بشكل جديد وبإتقان مدهش، فمن أين أتت لجورج هذه القدرة؟ وعلام يظهر لنا أحيانًا ضعيفًا وطورًا قادرًا؟ هل هذا سببه تلك الهِمَّة التي تضيء حينًا ثم تنطفئ؟ بل هناك سبب آخر لضعف جورج وهو إقدامه على الأدوار التي لا توافق مزاجه، ولا تتحد مع طبيعته، ولكنه فهم ذلك أخيرًا؛ ولهذا نراه يُحْجِمُ عن أدوار كثيرة، فجورج بلا نزاع ممثل قادر على تمثيل التراجيدي والدرام والكوميدي دوراماتيك، ولكنه يعجز عن تمثيل أدوار الكوميدي الأخلاقية الهادئة الساكنة؛ ولذلك رأيناه عظيمًا في قلب المرأة وصغيرًا في مصر الجديدة» (ص١٤١–١٤٣).